أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - غازي الصوراني - الفلسفة في الوطن العربي في مائة عام















المزيد.....



الفلسفة في الوطن العربي في مائة عام


غازي الصوراني
مفكر وباحث فلسطيني


الحوار المتمدن-العدد: 7576 - 2023 / 4 / 9 - 01:04
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


إن الهدف من رصد الفلسفة في الوطن العربي هو بلورة الوعي التاريخي الفلسفي العربي، وسبر أغوار الحاضر بين الماضي والمستقبل حتى لا يظل الغرب وحده صاحب الوعي التاريخي.
السؤال لماذا انقطعت النهضة ؟ أو لماذا تعثرت مسيرتها ؟ أو لماذا حدث النكوص على المستويين الواقعي والفكري.
إن جهود الباحثين لم تصل إلى استنتاجات مقنعة مرضية في مسألة تعثر النهضة وتوقف مسيرتها. وهذا ما يستوجب استمرار البحث في هذا الميدان وتعميقه ونحن نبحث عن سبل استئناف مسيرة النهضة العربية، أو الانطلاق في نهضة جديدة أو ثالثة على حد قول المفكر محمود أمين العالم .
وإذا كانت الرجعية -كما يقول عطيه مسوح- قد أفادت من بعض الموروث الفكري ، وضعف الوعي النهضوي لدى الجماهير ، في تعويق النهضة، فإن البرجوازية الناشئة لم تحظ بدعم القوى ذات النزوع الاشتراكي، بل خلافاً لذلك، فقد رات هذه القوى ضعف البرجوازية ذريعة لطرح فكرة مقاومة التطور الرأسمالي لأن البرجوازية المحلية تابعة وعاجزة عن تحقيق التطور المستقل، ودعت إلى السير في طريق الاشتراكية .
غير أن هذه المحاولة النهضوية ذات النزوع الاشتراكي ، وبرغم بعض نجاحات ، انهارت دون تحقيق نهضة حقيقية .
يقول فيصل دراج : صادرت أنظمة الاستقلال ، التي تذيب الأجهزة جميعاً في الجهاز الأمني، إمكانية توليد المجتمع المدني ، بعد أن أنتجت مجتمعاً على صورتها، ينكر الحوار ويعيد توزيع الرقابة السلطوية.
لذا كان طبيعياً أن تقوّض هذه الأنظمة فكرة القومية، التي هي علاقة حداثية في جملة علاقات حداثية، مثل الديمقراطية ودولة القانون واستقلال المجتمع المدني النسبي عن المجتمع السياسي.
توسّلت الأنظمة المتسلّطة ، وبوتائر متسارعة، الأقنعة الدينية المختلفة، تعبيراً عن شرعية مفقودة وبحثاً عن شرعية لن تظفر بها . هكذا يتحوّل الدين ، في شكله الاستعمالي أو البرجماتي، إلى أيديولوجيا دينية، تُدرج في مقولات الأيديولوجيا السلطوية، التي تسوّغ ممارسات الأنظمة الحاكمة.
السؤال المطروح من فيصل دراج : ما هي القضايا النهضوية التي لا تزال تحتفظ براهنيّتها حتى اليوم؟
قضايا أربع: المجتمع المدني، الذي يقول ببشر متساويين في الحقوق والواجبات، بمعزل عن المعتقد الديني والانتماء الفكري والأصول الإثنية.
الإصلاح الديني، الذي يعترف بحقوق الاجتهاد وتاريخية النصوص وتطوّر الحاجات الإنسانية، وبتراكم المعارف الإنسانية، الذي يقرأ القديم على ضوء الجديد.
والفصل بين العلم والدين، وهو موضوع مشتق من سابقه، يقرّر العلم الديني فرعاً من فروع المعرفة الإنسانية، بعيداً عن دعوى «علم العلوم» أو «فلسفة الفلسفات»، التي تحوّل المعارف إلى مراتب والمراتب إلى معارف.
أمّا الأمر الأخير فهو تحرّر المرأة، الذي هو إشارة إلى تحرّر الرجل والمجتمع ككل .
أما الأمر الثاني فيعود إلى الأفكار الأساسية التي تركها للأجيال الثقافية التي جاءت بعده.
يفصل هذا «الدْين الثقافي النهضوي» بين معنى «الجديد» ، ومعنى «التقدّم»، فلم يؤسّس النهضويون «جديدهم» على «تقدّم موروث» سبقهم، باستثناء الشعر ، على خلاف الأزمنة اللاحقة، التي أتيح لها الحديث عن «التقدّم» استناداً على « الجديد» النهضوي.
فالمتاح اليوم -يستطرد فيصل دراج- الانطلاق من قضايا الواقع المعيش، التي تعلن عن أزمة اجتماعية، ذلك أنّ صحة الأفكار، تراثية أو غير تراثية، تتكشّف في نتائجها العملية.
فرق أساسي بين الزمن النهضوي الأول والآن: ففي مقابل مجتمع ضعيف اقترن بسلطة سياسية ضعيفة، يوجد اليوم مجتمع ضعيف وسلطة قمعية قوية. ولذلك فإنّ الحديث عن أيّة نهضة محتملة، يفرض نقد السلطة كمقدّمة ضرورية لمقاربة أي موضوع آخر ، ويأمر بإدراج المقولات النهضوية السابقة في خطاب جديد، أكثر وضوحاً واتساعاً وتعقيداً.
على أي حال لن يتحقق التجديد بخطاب لغوي انتصاري، يجيّش العاطفة ويقمع غيرها، بل ببرنامج سياسي في مناخ عقلاني ديمقراطي مستنير، يقبل البشر في اختلافاتهم ويعترف بحاجاتهم المختلفة، بعيداً عن تجريد لا تمكن البرهنة عنه.
في اجابته على سؤال ما هي أهم إشكاليات الفكر الفلسفي العربي في الأعوام المائة الأخيرة؟ يقول المفكر الراحل حسن حنفي هناك خمس إشكاليات رئيسية:
الأولى التقليد والحداثة بصياغاتها المتعددة مثل القديم والجديد، التراث والتجديد، الأصالة والمعاصرة، التي تعبر عن وجود العرب في التاريخ بين زمنين، زمن القدماء وزمن المحدثين.
والإشكالية الثانية العقل والعقلانية استئنافاً للإشكالية القديمة الصلة بين العقل والنقل عند المتكلمين أو الفلسفة والدين عند الفلاسفة.
والإشكالية الثالثة هي الحرية في الفكر الفلسفي العربي المعاصر، والحرية والعقل كلاهما مظهر لأصل العدل في التفكير الاعتزالي القديم.
والإشكالية الرابعة الأخلاق، وهي ما يعادل الحكمة العلمية عند القدماء .
والإشكالية الخامسة هي الإشكال السياسي، فالأخلاق والسياسة هما المكونان الرئيسيان للحكمة العلمية عند القدماء، سواء كان الفكر السياسي من الموروث أو من الوافد مثل سبينوزا أو فولتير أو هيجل أو سان سيمون أو ماركس ولينين وماو ، في الفكر العربي المعاصر.
سؤال عصرنا -كما يطرحه المفكر الراحل حسن حنفي- في أية مرحلة من التاريخ نحن نعيش؟ وإلى أي جيل نحن ننتسب؟
هل نحن جيل النهضة العربية الأولى منذ القرن الماضي، ورثناها في مدارسنا وجامعاتنا وثوراتنا الوطنية ضد الاستعمار أولاً والقصر ثانياً؟
هل نحن جيل التحرر الوطني الذي استأنف فجر النهضة العربية الأولى وأراد استكمال مشروع النهضة وتحويله من الفكر إلى الواقع ومن العقل إلى الثورة؟
هل نحن جيل الثورة العربية التي قامت منذ أوائل الخمسينيات واندلعت في معظم أرجاء الوطن العربي، وازدهرت في القومية العربية والاشتراكية العربية؟
هل نحن جيل بناء الدولة الوطنية المستقلة، جيل التحديث والتصنيع؟ أم اننا جيل تعثر هذه الدولة وتحولها إلى نظم تابعة لأعداء الأمس الاستعمار والصهيونية، وانقلاب حركات التحرر الوطني إلى نقيضها في التعاون مع الاستعمار والاعتراف بالكيان الصهيوني؟
ام أننا جيل تفكك الأوطان وتجزئة الوطن العربي وتشرذمه في عصر العولمة، جيل حصار العراق وليبيا وإيران والسودان، والتهديد بتفتيت المغرب إلى عرب وبربر، والعراق إلى سنة وشيعة وأكراد ، والخليج إلى سنة وشيعة، وسوريا إلى عرب ودروز وعلويين، واليمن إلى زيدية وشوافع، والسعودية إلى وهابيين قدامى ووهابيين جدد، ولبنان إلى طوائف وملل ونحل وعشائر، وتهميش مصر وإخراجها من قلب الوطن لتحل إسرائيل محلها، أداة التحديث، وجسراً مع الغرب؟
وقد يشعر هذا الجيل في المرحلة الراهنة ، أنه جيل مخاض جديد. القديم لم ينته بعد، والجديد لم يبدأ بعد، جيل مخضرم بين عصرين، جيل انتقال بين فترتين، جيل تحول بين عهدين. المخاض عسير ولكن الولادة قادمة في أوانها وربما قبل الأوان، طبيعة أو قسرية، ذكراً او أنثى، ثورية أو محافظة، سليماً معافى أو بتشويه خلقي.. ذلك محكوم بالقدرة على تحليل الوعي التاريخي ولحظته الراهنة في مساره الطويل الحديث أو القديم.
الاتجاهات والتيارات:
فالفكر الفلسفي العربي المعاصر -كما يؤكد د.حسن حنفي- لم يصل بعد إلى مرحلة بناء الأنساق الفلسفية الكبرى كما حدث في الغرب الحديث مثل مذهب سبينوزا في القرن السابع عشر. وكانط في القرن الثامن عشر، وهيغل في القرن التاسع عشر .
ونحن ما زلنا في مرحلة انتقال من الإصلاح الديني إلى عصر النهضة (الذي لم نصل اليه معرفياً بعد) .
وما زالت الأغطية النظرية القديمة باقية على الرغم من محاولات نقدها منذ فجر النهضة العربية حتى الآن.
هناك اجتهادات لإحياء القديم كما فعل محمد بن عبد الوهاب مع ابن تيمية .
وهناك محاولات ثانية في مصر والمغرب لإحياء الرشدية الجيديدة أو الاعتزال الجديد.
وهناك محاولات ثالثة في مصر والمغرب أيضاً لإحياء المالكية (الطوفي) ومقاصد الشريعة (الشاطبي) عند علال الفاسي وحسن حنفي.
وهناك محاولات رابعة -كما يضيف د.حسن حنفي- لإعادة النظر في علوم القرآن في مصر (نصر حامد أبو زيد)، والحديث (حنفي)، والفقه (القرضاوي)، والسيرة (طه حسين، هيكل، الشرقاوي)، والتفسير (سيد قطب)، ولإعادة قراءة تاريخ العلوم الرياضية والطبيعية عند العرب (رشدي راشد، عبد الحميد صبرة، سويدان، حمارنة) .
وقد تنشأ تيارات واتجاهات إحياء لفرق من الموروث القديم -كما يضيف د.حسن حنفي- مثل الرشدية والاعتزال أو السلفية أو الأشعرية او الخوارج أو الشيعة أو الحنبلية الجديدة (الوهابية).
على أي حال يؤكد د.حسن حنفي بقوله : تظل "الفلسفة العربية في مائة عام" تتعامل مع معطيات تراثية، الوافد أو الموروث وإن كان همها في بعض جوانبها هو الواقع المعاش، والرغبة في الإصلاح والتغيير، والمساهمة في المشروع القومي العربي في التحرر والتحديث.
ومن ثم يبرز سؤال: أين مواطن الإبداع في الفلسفة العربية أوحتى في الفكر العربي .
إن آخر ما وصل إليه الإبداع الفلسفي العربي هو المشاريع العربية المعاصرة في مصر والشام والمغرب.
والإشكال مازال مطروحاً على عدة أجيال قادمة. فالقديم لم ينته بعد، والجديد لم يبدأ بعد.
وقد يكون السبب في تأخر مواطن الإبداع هو أن المجتمعات العربية ما زالت غير مستقرة.
وقد يكون السبب هو عصر الاستقطاب الذي تعيش فيه المجتمعات العربية حالياً بين التيارين الرئيسيين المتنازعين، أنصار الوافد وأنصار الموروث الذين تحولوا إلى قوتين سياسيتين متصارعتين، العلمانية والسلفية.
كل فريق يدعي امتلاك الحقيقة المطلقة. ومن ثم غاب الحوار والتزاوج والتفاعل ، وهي الشروط الضرورية للإبداع.
لقد مر الفكر العربي في الأعوام المائة الأخيرة بتجربتين :
الأولى التجربة الليبرالية التي كانت نمطاً للتحديث للتيارات الفكرية الرئيسية الثلاثة منذ فجر النهضة العربية.
الإصلاح الديني الذي أسسه الأفغاني ، ونقطة بدايته: لا يتغير شيء في الواقع إن لم يتغير فهمنا للدين أولاً.
والتيار العلمي العلماني الذي أسسه شبلي شميل، ونقطة بدايته: لا يتغير شيء في الواقع إن لم يتغير فهمنا للطبيعة والمجتمع أولاً.
والتيار الليبرالي الذي أسسه الطهطاوي وخير الدين وبدايته: لا يتغير شيء في الواقع إن لم نبن الدولة الحديثة أولاً.
والثانية التجربة القومية الاشتراكية العربية التي أكملت حركات الاستقلال الوطني، وأعادت بناء الهياكل الاجتماعية بالإصلاح الزراعي والتصنيع ، والقطاع العام ومجانية التعليم، وتذويب الفروق بين الطبقات، ومعاداة الاستعمار والصهيونية، وعدم الانحياز، وانتهت بهزيمة 1967.
والآن يمر العرب بتجربة ثالثة لا يدرون ما كنهها إلا أنها رد فعل على التجربة الثانية، ومنجرفة نحو الخصخصة والرأسمالية والعولمة واقتصاد السوق والتحالف مع أعداء الأمس.
والوطن العربي مهدد اليوم بالتشرذم والتفكك والضياع ليصبح محيطاً لمركز آخر سواه، الغرب وإسرائيل وليس القومية العربية ومصر.
وكما بدأ فجر النهضة العربية على غير ما انتهى إليه، وانتهى إلى غير ما بدأ منه، كذلك كانت بداية القرن غير نهايته، ونهايته غير بدايته .
إن التحديات ما زالت قائمة، والمشروع النهضوي العربي ما زال مستمراً.
ازداد العرب تشرذماً وتجزئة ، فكيف تستطيع أن تضمن للأمة وحدتها بفلسفة في الوحدة تنبع من التوحيد كثقافة للأمة وعلى اتساعها الجغرافي ومواردها المادية والبشرية في عصر التكتلات الكبرى ، والعدالة الاجتماعية ما زالت مطروحة منذ عصر الإقطاع بعد تراكم الثروة العربية من عوائد النفط.
فكيف تستطيع الفلسفة -يسأل د.حسن حنفي- أن تعطي أيديولوجية لإعادة توزيع الثروة ، وتحقق أكبر قدر ممكن من المساواة كأمن للوطن من الثورات الاجتماعية، من لا يملكون ضد من يملكون؟ والتنمية القومية ما زالت في تعثر، والوطن العربي يستورد 75 بالمئة من غذائه من الخارج، و 90 بالمئة من سلاحه من الخارج، و 95 بالمئة من علومه الحديثة وتقنياتها من الخارج.
وكيف تستطيع الفلسفة أن تصوغ أيديولوجية للتنمية المستدامة تعتمد على الذات وتنمية الموارد وإعطاء الأولوية للعوامل الداخلية على العوامل الخارجية؟
ومازالت قضية الهوية مطروحة في عصر يشتد فيه الاستقطاب بين التغريب والأصولية ، بين الانبهار بالآخر الأعداء.
وأخيراً، ما زالت قضية لامبالاة الجماهير مطروحة حتى ولو غزا الكيان الصهيوني عاصمة عربية وضرب أهدافاً عربية واحتل أراضي عرببية فلا تتحرك الجماهير إلا في هبات شعبية وقتية تخبو بمجرد اندلاعها.
كيف تستطيع الفلسفة أن تصوغ رسالة في الأمانة وغاية الإنسان والمسؤولية والالتزام بقضايا العصر؟ كيف تستطيع أن تحول الكم العربي إلى كيف، والجماهير إلى طاقة، والأعداد المتراصة إلى كتلة بشرية؟
السؤال : أي مستقبل للديموقراطية؟
يسود الاعتقاد بين البعض -كما يقول د.علي الدين هلال- بان الديموقراطية علاج لكل الأمراض والعلل الاجتماعية، غير ان الحقيقة خلاف ذلك، فالديموقراطية مجموعة قيم ومؤسسات تتأثر بسياق المجتمع الذي تنشأ فيه، فشتان بين أداء المؤسسات الديموقراطية (أحزاب – انتخابات – برلمان – حكومة..) في دول الديموقراطيات الراسخة ونظائر هذه المؤسسات في كثير من الدول الأفريقية والآسيوية وفي أمريكا اللاتينية .
ففي هذه الدول حملت المؤسسات الديموقراطية سمات مجتمعاتها كالفقر المدقع، وشيوع الأمية، وغلبة الانتماءات الإثنية وممارسات الزبانية السياسية على قيم المواطنة والانتماء الوطني.
ومن ثم يتعين على الباحث في موضوع الانتقال إلى الديموقراطية إدراك أنها عملية طويلة الأجل، ومعقدة، وديناميكية، ومفتوحة النهايات.
فالنظام الديموقراطي -كما يضيف د.علي الدين هلال- ليس مجرد فاعلين وانتخابات وتشكيل حكومات، وليس مجرد من يحصل على النسبة الأكبر من أصوات الناخبين، بل أيضا ماذا يستطيع هؤلاء الفاعلون من قوى ومؤسسات فعله، ومدى تمثيلهم للمصالح الاجتماعية وقدرتهم على تحسين ظروف الحياة لأكبر عدد من الناس.
فالديموقراطية تنهض بجناحين: جناح إجرائي يتعلق بالترتيبات والمؤسسات الانتخابية والتمثيلية ونزاهتها، وجناح موضوعي يتصل بنوعية الحكم وجودته ومضمون السياسات العامة وتمكين المجتمع .
إن الديموقراطية بإيجاز هي أسلوب ومضمون، شكل ومحتوى، وهناك أنماط ونماذج متنوعة لها تدور بين أنصارها جدالات فكرية ممتدة.
وعند مقارنة الأهداف بما تحقق فعلا يتضح أن الانتقال إلى الديموقراطية في كثير من البلاد لم يحقق كل النتائج أو الآمال التي دارت بخلد المدافعين عن هذا الانتقال، فأحيانا توقفت النظم الديموقراطية الجديدة عن الشكل دون المضمون، وفي احيان أخرى ارتدت إلى أشكال من السلطوية، (الحالة الفلسطينية والانقسام) ومن ثم جاء أداء هذه النظم مخيباً لآمال المستفيدين المحتملين منها.
لقد أصبح من الواضح الآن أن ازدهار الديموقراطية لا يتحقق بمجرد الاعتقاد في مبادئها، أو الالتزام بنتائجها في صناديق الاقتراع مرة كل أربع سنوات، وذلك لأن هذه الممارسات قادت إلى نوع من "الركود الديموقراطي" وعزوف الشباب عن مؤسساتها، بل يتطلب ازدهار الديموقراطية ممارسة العملية الديموقراطية على نحو دوري ومستمر –من خلال صندوق الرأس- بما يعطي المواطن الشعور بأن له دورا في التأثير في اختيار السياسات، وفي القضايا التي تؤثر في حياته وبما يؤكد معنى المواطنة الإيجابية.
لذلك يحق القول، إن الحالة الراهنة للفكر الفلسفي في الوطن العربي، تتميز ليس بالتراجع المعرفي الحداثي الإنساني فحسب، بل أيضاً بسيطرة مفاهيم ومظاهر التبعية والأفكار الغيبية المتخلفة بصورة غير مسبوقة في التاريخ العربي الحديث والمعاصر، حيث تبدو الأبواب موصدة في وجه التطور الاقتصادي وكافة الفلسفة عموماً، وفي وجه مفاهيم الحرية والتنوير والعقلانية والليبرالية والديمقراطية والمواطنة ، لحساب مفاهيم الاستبداد والتخلف المعرفي والاقتصادي والاجتماعي، التي يعاد انتاجها وتجديدها في هذه المرحلة التي تتعرض فيها بلدان الوطن العربي ومجتمعاتها لمزيد من الانقسامات والتجزئة والتفكك والتشرذم وضياع الهوية، انعكاساً لتفاقم وتزايد مساحة التبعية والخضوع والارتهان للمركز الامبريالي من ناحية وتزايد مظاهر الفقر والجهل والاستغلال والاستبداد من ناحية ثانية.
ففي مقابل حالة التخلف، والانقطاع المعرفي وانتشار الأفكار والفلسفات الغيبيه الرجعية في بلادنا، نلاحظ استمرار التطور المعرفي عموماً، والفلسفي خصوصاً في أوروبا بعد أن تخلصت من سيطرة الكنيسة على عقول الناس، وتحرر الإنسان الأوروبي –بصورة تدرجية- من مظاهر وأداوت التخلف الديني والاجتماعي في سياق التطور الاقتصادي، للبورجوازية الصاعدة، ونجاح ثوراتها السياسية التي انجزت وراكمت العديد من المهمات والمتغيرات التنويرية العقلانية، الديمقراطية التي مهدت لقيام الثورات السياسية البورجوازية في أوروبا خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، وكان نجاح تلك الثورات –خاصة الثورة الفرنسية عام 1789- بمثابة الإعلان الحقيقي لميلاد عصر النهضة والتنوير، وتدشين عصر النهضة والحداثة، ومن ثم إنتقال الفلسفة في أوروبا من العلاقة بين الله والعالم، إلى العلاقة بين الإنسان والعالم، وبين العقل والواقع، إن الميزة الأساسية التي ميزت فلاسفة عصر النهضة، هي انهم أفلحوا في زعزعة الأسس والقيم التي كانت تقوم عليها فكرة الإنسان في العصر الوسيط، وذلك من خلال أفكار ومفاهيم الحداثة، وأبرزها: العقلانية، والإنسانية، والفردية، وهي مفاهيم لم تعرفها وتطبقها مجتمعاتنا العربية منذ القرن الثالث عشر إلى يومنا هذا.
هنا أشير إلى حقبة الصحوة الوطنية والقومية في بلادنا، التي أخذت في الظهور عبر الأفكار النهضوية العقلانية، المستنيرة، على مدى عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين ، في مواجهة الفلسفات السلفية الرجعية السائدة، المساندة للأنظمة المستبدَّة، التي نجحت في إسدال الستار على تلك الصحوة، بدعم استعماري مباشر (مرحلة النهضة بداية القرن العشرين الكواكبي ومحمد عبده وسلامه موسى وشبلي شميل واحمد لطفي السيد وقاسم امين واحمد امين وعلي عبد الرازق وطلعت حرب وطه حسين وصولا الى عام 1928 وتأسيس جماعة الاخوان المسلمين محمد رشيد رضا) .
لذلك كله، فإن فهم عالمنا المعاصر، بما في ذلك وضعنا المريع في الوطن العربي، -كما يقول بحق د.هشام غصيب- "يستلزم ولوج عالم الفلسفة الغربية المسيطرة من أجل الكشف عن سرها السياسي في المقام الأول، إذ، إن للفلسفة الغربية دوراً سياسيا أساسيا، بالإضافة إلى دورها المعرفي المرتبط بتطور العلم، آخذين بعين الاعتبار، أن الفلسفة هي أساسا سياسية، فهي "الجسر الواصل بين العلم والوعي الاجتماعي، إنها الأساس النظري الدفين للممارسة الطبقية، أي للسياسة، ومن ذلك تنبع أهمية الاشتباك مع الفكر الفلسفي الغربي ومجابهته جديا. إن مثل هذا الاشتباك ليس ترفاً فكريا، وليس شأنا أكاديميا محضاً، وإنما هو شأن عملي ملح نحتاج إلى إجرائه من أجل معرفة كيف نتصدى للخصم الغربي وإفشال مشروعاته العدوانية الإبادية".
يقودنا هذا التحليل مرة أخرى إلى ضرورة الاشتباك مع الفكر الفلسفي الغربي الحديث والمعاصر، حتى يتسنى لنا أن نفهم العقلية الغربية المتأزمة، عقلية البرجوازية الغربية، التي تحكم عالم اليوم وتؤجج نيرانه.
فالفلسفة، كما أسلفنا، سياسية في جوهرها. إنها روح السياسة، ومن ذلك ينبع ذلك الاهتمام الغربي المحموم بها، وينبع إصرار القوى الرجعية في الأطراف على منعها أو إضعافها أو تصفيتها.
أما نحن، الذين لا نعتبر هيمنة الإمبريالية الغربية قدراً محتوماً، وندعو إلى مجابهتها بجدية، على طريقة لينين وماو وهوتشي منه وتشي جيفارا "فندرك جيداً أن لا مفرّ من هذا الاشتباك الفكري الذي يعرّض كل ثوابت الوعي السائد للاهتزاز، وربما الانهيار، والذي يغوص في عمق أعماق التجريد والتنظير من أجل الغوص في عمق أعماق العياني في سياق تغييره، فما هو البديل لماركس ولينين، الذي تطرحه البرجوازية الغربية أمامنا اليوم ؟ ماذا تبقى لديها لتقدمه لنا غير نيتشه وهيدغر وصولاً إلى كرزاي"( ) ونتنياهو وشيوخ وأمراء دويلات الخليج والسعودية.
غني عن القول بأن "شعوبنا لم تعش، بعد، المرحلتين التنويرية، للدين، ولم تنهض الثورات العلمية، والفلسفية، والسياسية"، آخذين بالاعتبار أن الديمقراطية لن تهبط علينا بالمظلَّة، ولن تَنْبُت شيطانيًا من الأرض، بل هي تحتاج إلى حراك نهضوي طليعي يمكِّننا من تجاوز كل مظاهر التخلف وامتداداته، العقلية، والثقافية، والقانونية السائدة
هنا نلمح العلاقة المباشرة بين الفلسفة، المعاصرة ومفاهيم الديمقراطية والتقدم والثورة، فهي علاقة وثيقة متبادلة، وتأسيسية، ذلك إن الخطاب الفلسفي السديد يتعامل مع المستقبل، والمجتمعات الناهضة، لن تحملها سوى قوى ديمقراطية، تقدميه ثوريه، تمتلك جرأة التغيير الجذرية، تلتزم بالفلسفة الماركسية، في سياقها التطوري المتجدد، والبعيد عن الجمود، لإقامة صروح جديدة على أنقاض القديم.
وعلى هذا الطريق فاننا مطالبون بتحقيق المهمات الحضارية التي حققتها الثورة العلمية في أوروبا، وتتلخص هذه المهمات في الاتي:
1- تحرير الإنتاج المعرفي، وبخاصةً الإنتاج العلمي، من هيمنة مراكز السلطة الأيديولوجية على اختلاف أنواعها. وبعبارة اخرى، فالمطلوب هو السعي نحو منح مؤسساتنا العلمية والمعرفية استقلالاً ذاتياً يقيها من تزمت الفئات التقليدية ومن التقلبات السياسية والاجتماعية.
2- وضع العلم في مركز الصدارة على صعيد الفكر والمعرفة، بمعنى اكسابه بصفة المرجع النهائي والحكم الفيصل في المسائل الأساسية في نظر جميع الفئات والهيئات، سواءاً أكانت رسميةً أم شعبية.
3- خلق جماعات علمية قومية ضمن اطار الجماعة العلمية العالمية، تنتج المعرفة العلمية عبر مؤسسات ولغة وطرائق وطرق نظرية ومعتقدات وقيم ومناظرات وأساليب ومقاييس مشتركة.
إن تحقيق هذه المهمات، يستلزم مشاركة جماهير الشعب، في جميع قطاعاته، مشاركةً فعالة، فالتقدم المنشود لا يمكن أن تحرزه الصفوة وحدها بمعزل عن جماهير الشعب، كما أنه ليس في مقدور الجماهير وحدها، المشاركة في هذه العملية الحضارية الضرورية ما لم تُهَيأ لذلك مادياً ومعنوياً"، وخاصة امتلاك عوامل التطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي بالمعنى التنويري النهضوي، كمقدمة لابد منها لعملية النهوض الديمقراطي التقدمي.
في محاولة للإجابة عن ملامح الفكر الفلسفي في مطلع القرن 21 نذكر مثلا الفيلسوف الألماني لودفيج فويرباخ (1804 ـ 1872) الذي كتب سنة 1843 "مبادئ فلسفة المستقبل"، والفكرة الناظمة للكتاب -كما يقول عبد الرزاق الدواي- هي أن الفلسفة الجديدة ستجدد المذهب المادي وتغنيه؛ وستجعل من الإنسان والطبيعة الموضوع الوحيد والكلي والأسمى للفلسفة؛ وإنـها ستنظر إلى الإنسان لا باعتباره كائنا عاقلا ومفكرا فحسب بل باعتباره أيضا كائنا طبيعيا وحسيا ؛ كما أنـها ستعلي من قيمة المحبة والمشاعر والعواطف الإنسانية وستكون نزعة إنسانية جديدة .. لكن هذه الرؤية الطوباوية لفيورباخ لن تجد مكانا لها في فلسفة القرن الحادي والعشرين ، خاصة وأن هناك استنتاجات صعبة ومعقدة من أهمها :
1 ـ الواقع الراهن للفلسفة في القرن 21 وأشكال الخطاب الفلسفي الجديد
عند إمعان النظر في متطلبات عصرنا الحالي وأمام هذه الأوضاع والمعطيات الجديدة سنقف على حقيقة أن الفلسفة أضحت تبدو لنا عتيقة ومتجاوزة وكأنـها تنتمي حقا إلى مرحلة قد ولت -كما يقول عبد الرزاق الداوي- فهي ذات طبيعة نظرية تغرق في التجريد والعمومية ؛ وتعليمها غير متلائم مع مشاكل العالم اليوم؛ وليست لـها أية مردودية ملموسة ومباشرة، وتكاد تكون منقطعة الصلة بمشاكل الحياة اليومية على مستوى الافراد والشعوب .
وهناك بكل تأكيد أسباب وجيهة لتفسير هذا الانطباع ولعل من أكثرها وضوحا أن الشعوب والمجتمعات في المرحلة الراهنة من تاريخ البشرية، وحيثما وجدت في أنحاء المعمورة، بدأت تشعر وتعي بأن وضعيتهـا الحاضرة بل و مستقبلها كذلك أصبحا مرتبطين ارتباطا وثيقا بمدى مقدرتـها على استيعاب التقنية والتمكن من الاستفادة منها.
ومن بإمكانه اليوم أن يجادل أو يتجاهل أن حال الفلسفة لم يتغير كثيرا وانه لا يزال في أيامنا هاته كما كان عليه حتى منتصف العقد السابع من القرن العشرين على الأقل ؟ لقد كانت المذاهب والمدارس والتيارات الفلسفية في ذروة حيويتها وعطائها تتناظر وتتساجل وتتصارع : الفنمولوجيا والوجودية و الشخصانية في مواجهة الماركسية، والماركسية في مواجهة الوضعية المنطقية والوجودية والبنيوية، والوضعية المنطقية في مواجهة المذاهب "الميتافزيقية" قاطبة، والفلسفة البنيوية في مواجهة الوجودية والماركسية معـا .
ولا ننسى أن الساحة الثقافية شاهدت كذلك في القرن العشرين بروز ظاهرة هيمنة أعمدة الفكر والفلسفة المعاصرة الكبار مثل ليفي ستروس، وميشيل وفوكو ودريدا وألتوسير ودلوز إلخ… وكان أغلب هؤلاء أساتذة مرموقين ينتمـون إلى الجامعات.
أما اليوم نحن في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، فقد صرنا نلاحـظ الفلسفة وهي تنكمش على نفسها وتغدو ميالة إلى التروي والحذر؛ والفلاسفة الكبار يختفون واحدا تلو الآخر بدون أن يعوضوا -كما يقول عبد الرازق الداوي- والفلسفة الجامعية وهي تنحسر وتتراجع حتى ليبدو أن همها الأساسي في أوربا وغيرها بات هو الاقتصار على تدريس تاريخ الفلسفة القديمة والوسيطية والحديثة منها بصفة خاصة، أما بلدان الوطن العربي فهي لم تعمد مهمة بتدريس الفلسفة في مدارسها وجامعاتها، وهكذا بدأت الصلات التي تربطها بالحياة الثقافية تنفصم عراها تدريجيا، وأصبح الفيلسوف يتشكك بالفعل في أن تكون الجامعة هي مكانه الطبيعي.
وعلاوة على ذلك ثمة سمة أخرى لافتة للإنتباه -كما يستطرد عبد الرازق الداوي- إن مطلب العقلانية الذي كان من قبل من أولويات الفلسفة أصبح اليوم مهددا بسـبب تكاثر وانتشار النـزعات الشكية والظلامية المتطرفة. فقد تضـاءل الحرص الذي كانت تبديه جل الفلسفات السابقة على تبني النـزعة العقلانية وعلى متابعة ما يستجد في ميادين العلوم، وعلى الاستلهام منها ومن مناهجها، وصرنا اليوم نلاحظ تراجعه حتى ليبدو للعيان أن العقـل والعقلانية قد أصبحا بالفعل مهددين بفعل تجدد وانتشار الاتجاهـات اللاعقلانية ذات الأصول الدينية أو الصوفية أو الفوضوية أو الفلسفية التفكيكية.
2 ـ تزايد الفجوة واتساعها بين الفلسفة والعلم في القرن 21 ، وبالتالي علاقة "أزمات" الفلسفة بالتحولات السريعة وبالتقدم العلمي والتكنولوجي ، والسؤال هنا : هل هذه الازمة تعبير عن
عجز الفكر الفلسفي عن ملاحقة التطور السريع للواقع وعن فهم واستيعاب ما يستجد من اكتشافات في ميادين العلم.
إن الإجابة بنعم على سؤال الازمة ، ستطرح على الفكر الإنساني الراهن ضرورة إعادة النظر في كثير من قيمه السياسية والأخلاقيـة والإبستمولوجية السائدة في خدمة النظام الامبريالي المعولم، وبالتالي العودة مجدداً إلى المزيد من الاهتمام بضرورة النضال لتغيير الوضع الراهن صوب نظام اشتراكي وديمقراطي في إطار أممية خامسة – لمجابهة بربرية رأس المال المعولم.
لقد أفادنا تاريخ الفكر الفلسفي على الدوام بالحقيقة التالية: إن انتشار النـزعات الشكية واللاعقلانية يقوى عندما تكون المثل الاجتماعـية القديمة آخذة في الاهتزاز في حين أن المثل الجديدة لم تنجح بعد في فرض نفسها، ولاشك أن إمارات هذه الحقيقة بادية على الواقع الراهن لعصرنا.
فهل يجوز لنا أن نستشرف من وراء ذلك أن مهمة الفلسفـة في المستقبل القريب ستكون شبيهة بمهمتها في عصر الأنوار ؟ وبعبارة أخرى -كما يسال عبد الرزاق الداوي- هل ستستعيد الفلسفة في القرن الحادي والعشرين دورها التنويري ويغدو الصراع الفكري كما كان عليه في عصر الأنوار: العقل ضد النـزعات الظلامية واللاعقلانية.
فالتفكير الفلسفي -كما يقول أحمد شحميط- يمدنا بالإطار النظري والعملي، ويمد السياسة بأفكار ومواقف مهمة في تجديد آليات الخطاب السياسي، وشرعنة قواعد حتى تتلاءم والمجتمع الجديد، في رؤى الفلاسفة بناء المجتمع المدني على الحقوق والحريات، تقديم مواصفات للمجتمع المفتوح لانتشال الفكر من السلطوية، ما يعني أن مستقبل الفلسفة في أسئلتها الهامة، وقراءة الممكن في الحاضر، وما سيكون في المستقبل البعيد وفق شروط الإمكان الحضاري، وبناء على رؤية تروم الاختلاف والتسامح، فنجد الفلسفة حاضرة بسؤالها في كل الميادين من السياسية والمجتمع والفن والأخلاق، مستقبلها مقرون بعوامل سياسية وتربوية وتاريخية، في ضرورة الانفتاح وإنتاج القواعد المرنة في السياسة والفعل السياسي بعيدا عن الفكر الشمولي والأنظمة الكليانية.
بالطبع، إننا في حاجة للعقل التواصلي والتماهي مع الديمقراطية وحقوق الإنسان، وسعي الفلسفة لتجسيد أخلاقية التواصل والمناقشة في خلق فضاء عمومي دون إقصاء الآخر ونبذه على أساس العرق واللغة والدين، مشروع الحداثة مستمر والاهم تطعيمها والكشف عن مساوئها ومحاسنها، ونقد بعض أسسها خصوصا ما يتعلق بالعقلانية، والربط بين ماضيها وحاضرها دون القفز مباشرة على نتائجها واختزالها في أشياء معينة، هنا نلمس العمق الفلسفي في نظرية الفعل التواصلي عند هابرماس وأفكاره بشكل عام في تحليل إرهاصات العصر بالنقد والتحليل، واجتراح الحلول المناسبة.
فلا بديل عن التفكير السليم وحكمة الإنسان في عصر تقني بامتياز حتى لا يزداد الشرخ بين الإنسان وذاته، ويتحول الإنسان إلى آلة وأداة في الإنتاج خدمة للطبقة السائدة، ويصير كائنا منغمسا في عالم الاستهلاك، هذا التيه والاستلاب من التقنية والميديا ينتجان الكائن دو البعد الواحد، والفلسفة هنا تأتي متأخرة كما قال هيجل لكنها تصيب الحقيقة في تنبيه الإنسان للواقع المزيف ولأشكال السلطة التي تدار بشكل مرئي ولا مرئي، وتعمل في توجيه الإنسان وفق مرامي الهيمنة والسيطرة عليه، وشل قواه العقلية بالتنميط والقولبة، ويكاد يجتمع الفلاسفة اليوم على القول بالطابع المركب والمعقد لعالمنا، والتهديد الذي يزداد بازدياد جشع الإنسان ورغبته في السيطرة على الجنس البشري.
بالطبع هناك مؤشرات حالية توحي بأننا سنشهد انبعاثا جديدا لعلاقة الفلسفة بالسياسة في هذا القرن، على الأقل على مستوى برامج التعليم، ولعل أكثرها تجليا هذا الانتعاش الكبير للخطاب عن حقوق الإنسان ، في ظل استشراء الاستغلال الرأسمالي المعولم الراهن .
وبالتالي فانني اعتقد ان فإن كثيرا من المهتمين بالفكر الفلسفي في عصرنا خاصة في بلدان العالم الثالث قد يصبحون أكثر طموحا صوب الاقتناع بأن من الممكن أن يكون لتعليم الفلسفة أيضا، فضـلا عن مزاياه السابقة علاقة وثيقة بمفاهيم الحداثة الديمقراطية والعدالة الاجتماعية عموما وبالثورة الديمقراطية بآفاقها الاشتراكية خصوصاً .
خاصة وان الفكر الفلسفي في القرن الحادي والعشرين -كما يضيف عبد الرزاق الداوي- سيكون أميل إلى الارتباط بالسياسة وأكثر استعدادا للاهتمام بقيم ومبادئ الديموقراطية؛ ذلك لأنه سيكون مؤهلا لتعليمها ونقلها والمساهمة بواسطتها في تكوين وتربية المواطن. نظرا لما بتنا نشاهده اليوم في أنحاء عديدة من العالم من نمو لظواهر الكراهية والتطرف، ومن انتشار لأشكال المس بالحريات العامـة وانتهاك لحقوق الإنسان، بل واللجوء حتى إلى الاغتيالات. لقد أضحت هذه الظواهر تحتل حيزا هاما في فضائنا اليومي من خلال الصحف ونشرات الأخبار.
وبالتالي لا يستبعد المهتمون بحقل الفلسفة السياسية في المستقبل أن تطرأ على مبدأ الديموقراطية نفسه تغييرات يمكن أن تمس جوهره ومسلسل تطبيقه، وبصفة خاصة في الدول ذات التقاليد الديموقراطية العريقة.
أما في مناطق العالم التي لا تزال تـهيمن فيها الثقافة المقدسة للسلطة، أو التي لم تعرف الإرهاصات الأولى للديموقراطية إلا في فترة متأخرة فمن المرجح أن انتشار قيم الديموقراطية فيها سيتحقق ببطء ولكن الدلائل الحالية تجيز القول بأن معطيات القرن الحادي والعشرين لن تسمح لـها أبدا بالتقوقع أو بالتراجع إلى الوراء.
وفي كل الأحوال ،ه إن غياب إيديولوجيا كبرى كانت حتى الأمس القريب تحفز العزائم وتشحذها، وتعتبر "مستقبل البشرية"، من شأنه أن يقوي الميل إلى الامتثال ويضعف بالتالي من إمكانيات الفلسفة للدعوة إلى الثورة أو التمـرد ، الا انه في منظورنا لا يمكـن أن يعتبر غياب تلك الإيديولوجيات دليلا كافيا على مصداقية فكرة "نـهاية الإيديولوجيا" رغم ما تتسم به من جاذبية وإغراء. فما دام الإنسان يحن ويفكر ويحلم ويأمل ويطمح فسيظل أبدا "حيوانا إيديولوجيا".
والإيديولوجيا في العمق وكما وصفها عن حق الفيلسوف الفرنسي الراحل لوي ألتوسير "خالدة" ولن تتوقف أو تنتهي في عصـر معين، وكل ما في الأمر أنها تنحو إلى التجدد باستمرار، وذاك ما لا نفتأ نشهده بالفعل وحتى الآونة الأخيرة: فعلى أنقاض تلك التي قيل أنـها توارت سرعان ما ظهرت في السنوات القريبة الماضية إيديولوجيات جديـدة في صيـغ نظريات جذابة ذاع صيتها بسرعة فائقة.
لا نظن أن مهنة الفيلسوف في المستقبل ستبقى هي مواصلة للتقليد السقراطي أي الاستمرار في البحث عن الحقيقة عن طريق التامل والحوار وطرح الأسئلة، ونعتقد -كما يقول الداوي- أنـها ستكون بالأحرى محاولات دؤوبة لفهم واستيعاب التحولات الكبرى ودلالات إنجازات البحث العلمي على الصعيد العالمي وآثارها على أحوال الوضعية البشرية، وذلك لغاية إعادة سبك وصياغة وإنشاء مفاهيم حديثة للمساهمة في التنوير والتوعية بقيم الحكمة الإنسانية الجديدة ، والمراهنة على فرضية أن التعددية والنسبية هي التي ستكون السمة الأساسية لثقافة القرن الحادي والعشرين.
على أي حال، بالرغم من موضوعية الرؤية المادية للعالم، إلا أننا لا ندعو إلى الوقوف أمام هذه المسألة التي قد تثير كثيراً من الجدل والتساؤلات والخلافات دون أي طائل، لكننا في نفس الوقت مع المنهج العلمي الجدلي، ومع الموقف الموضوعي في تفسير الظواهر والمتغيرات الكونيه عموماً، وكل ما تتعرض له مجتمعات بلداننا في مغرب ومشرق الوطن من أجل الوصول عبر هذا المنهج إلى المفاهيم والمواقف والتطبيقات التي تؤدي للوصول إلى النهضة الحداثية التي نتطلع اليها، من أجل التحرر السياسي والاقتصادي والعدالة الاجتماعية والديمقراطية، بإعتبار هذه القضايا إطارنا العملي المباشر في مواجهة الواقع من حولنا وفي تطبيق وعينا الفلسفي ومنهجه العلمي على هذا الواقع، من خلال الاستخدام الأمثل للعقل المرتبط بالتجربة الحسيه أو الممارسة، فالمعرفة تبدأ بالممارسة العملية، وبالممارسة العملية نكتسب معرفة نظرية، يجب بعدئذ أن ترجع من جديد إلى الممارسة العملية باعتبارها أساس المعرفة بجميع درجاتها، ذلك إن اكتشاف الحقيقة عبر الممارسة العملية، والتثبت من الحقيقة وتنميتها عبر الممارسة العملية، يتم عبر الانتقال من الاحساسات انتقالاً فاعلا إلى المعرفة العقلية، ومن المعرفة العقلية إلى التوجيه الفاعل للممارسة العملية الثورية، إلى تحويل العالم الموضوعي والذاتي".
في هذا الجانب، أؤكد على أن العقل هو اداة المعرفة، والمعرفة هي الأداة الفكرية المحاكمة، وكما يقال " من لايملك القدرة على استخدام المعارف لن يكون طرفاً في إنتاجها، والذي لايستطيع استنباط الأفكار والحصول على المعلومات لن يكون مشاركاً في إبداعها، وما أحوجنا اليوم إلى صحوة عاجلة لمواجهة هذه الإشكالية وتخطيها، فالمعرفة هي انعكاس ذاتي للواقع الموضوعي، وهي أيضاً أسلوب وجود الوعي، الذي يتشكل من خمسة جوانب: 1- الوعي معرفة. 2- الوعي وعي للذات. 3-الوعي انفعالات. 4- الوعي تخيل. 5- الوعي إرادة.
إن كافة جوانب الوعي، مرتبطة بصور مباشرة بالعقل، الذي هو الأداة الفكرية المحاكمة .
من هنا، فإن من واجبنا ترسيخ الوعي بمقولة الاختلاف، باعتبار إنها تمثل الجزء الأولي والبسيط في التصور الديمقراطي للعملية السياسية والاجتماعية والاقتصادية في بلادنا بإعتبار هذه المقولة هي الميدان الواسع الحقيقي الذي سيحدد وجهتنا في الحاضر والمستقبل، لكي نسهم في تراجع حالة السكون.
لذلك لابد من الديمقراطية التي تنطلق من فلسفة الحداثة التقدميه، التي تقوم على وعي جدلية الواقع والاحترام للمجتمع، للناس، لفهم الناس وعقلهم، هذا الاحترام شرط المعرفة، والمعرفة شرط النقد والتغيير باتجاه النفي الايجابي. (البداية قد تكون في الأسرة .. في المدرسه .. والشارع ..أو في تداخلهم معاً، المهم أن نتوجه إلى الخاص أولاً ثم العام).
أما من ناحية العام، فالتاريخ كتغير وتحول وتقدم لا تحمله فكرة التناقض أو التعارض فحسب، بل على وجه التحديد فكرة النفي "ونفي النفي" التي تحمل فكرة "الجديد"، وهي فكرة تحمل معنى التحولية كنتاج للتراكمات الكميه (تاريخ التطور البشري عملية تركيبية.. كذلك تاريخ العلم)، إن التركيب هو نتاج نفي النفي .. وهو نتاج وعي الخاص في علاقته الجدلية والمستقبلية بالعام .
من جهة ثانية، إن تاريخ التطور البشري هو تاريخ انتاج الوعي البشري أو هو جزء من معركة العقل –من خلال الفلسفه- ضد كل الثوابت، في محاولة مستمرة منذ الاغريق إلى يومنا هذا، وهي عملية أجابت على سؤال ماهي الفلسفة؟ باعتباره السؤال الممتد في التاريخ البشري القديم والحديث والمعاصر، وهنا بالضبط تتجلى مقولة الوعي البشري إنعكاس للوجود البشري، لكن الوعي البشري بالنسبة لنا مدخل رئيسي صوب امتلاك الوعي الفلسفي الحديث عموماً ووعي الفلسفة العقلانية العلمية الحديثة عموماً، والفلسفة المادية الجدلية خصوصاً، واعتمادها بصورة موضوعية مدخلاً رئيساً صوب نهوض شعوبنا السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والتكنولوجي المنشود.



#غازي_الصوراني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ماركس والاستغلال الرأسمالي ومستقبل الطبقة العاملة.
- في الذكرى السابعة والاربعين ليوم الأرض
- علم الاجتماع ومساهمة المادية التاريخية فيه
- حول الماركسية والمستقبل ..رؤية مفترضة من منظور أحزاب وفصائل ...
- كارل ماركس في ذكرى رحيله - 14 مارس 1883...
- حول أهمية الحزب وضرورة الوعي المعمق بالماركسية
- عن مخاطر التبعية الاقتصادية والاجتماعية – عبر التحليل السياس ...
- بمناسبة مرور 175 عاماً على البيان الشيوعي دروس وعبر البيان ل ...
- لمزيد من التوضيح والفائدة.... حديث مختصر عن تخلف تكوين الأمة ...
- بوضوح معرفي....عن تخلف السوق القومية العربية وتخلف القضية ال ...
- كتاب - مقالات ودراسات ومحاضرات - المجلد الثاني عشر - 2020
- كتاب - مقالات ودراسات ومحاضرات - المجلد الرابع عشر - 2022 -
- كتاب - مقالات ودراسات ومحاضرات - المجلد الثالث عشر - 2021 -
- التحالف الصهيوني: اليميني العلماني واليميني الديني المتطرف ف ...
- رسالة دافئة الى رفاقي في الوطن العربي .... عن الأزمة الفكرية ...
- مجابهة الوجود الاستعماري الاستيطاني الصهيوني
- كلمة في مناسبة يوم التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني ودور ا ...
- الاختصار في أزمة أحزاب وفصائل اليسار الماركسي في بلدان الوطن ...
- حول مفهومي الانتماء والالتزام في الحزب او الفصيل الماركسي ال ...
- حول مفهوم الهوية ربطًا بمسألتي الوطنية والقومية


المزيد.....




- تمساح ضخم يقتحم قاعدة قوات جوية وينام تحت طائرة.. شاهد ما حد ...
- وزير خارجية إيران -قلق- من تعامل الشرطة الأمريكية مع المحتجي ...
- -رخصة ذهبية وميناء ومنطقة حرة-.. قرارات حكومية لتسهيل مشروع ...
- هل تحمي الملاجئ في إسرائيل من إصابات الصواريخ؟
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- البرلمان اللبناني يؤجل الانتخابات البلدية على وقع التصعيد جن ...
- بوتين: الناتج الإجمالي الروسي يسجّل معدلات جيدة
- صحة غزة تحذر من توقف مولدات الكهرباء بالمستشفيات
- عبد اللهيان يوجه رسالة إلى البيت الأبيض ويرفقها بفيديو للشرط ...
- 8 عادات سيئة عليك التخلص منها لإبطاء الشيخوخة


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - غازي الصوراني - الفلسفة في الوطن العربي في مائة عام