أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - غازي الصوراني - حول مفهوم الهوية ربطًا بمسألتي الوطنية والقومية















المزيد.....



حول مفهوم الهوية ربطًا بمسألتي الوطنية والقومية


غازي الصوراني
مفكر وباحث فلسطيني


الحوار المتمدن-العدد: 7439 - 2022 / 11 / 21 - 00:53
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    



أعتقد أن مفهوم الهوية قد دخل أو تسرب إلى الفكر العربي[1] في نهاية القرن 19 أو بداية القرن 20، حيث أننا لا نجده ضمن المصطلحات المترجمة في تلك الفترة مثل: الحرية والثورة/ الأمة / القومية / المساواة / الوطن.
فقد حدد العربي هويته في العصر الحديث متأثرا بعلاقات الهيمنة التي فرضها عليه الغرب وبدافع التحرر من هذه الهيمنة من ناحية، ومن كل مظاهر الاستغلال الطبقي والاستبداد والاضطهاد الداخلي من ناحية ثانية.
من هذا المنظور التحليلي الجدلي، نُعَرِّف الهوية على أنها "حقيقة الشيء أو الشخص المطلقة المشتملة على صفاته الجوهرية[2]، والهوية أيضاً هي وعي للذات والمصير التاريخي الواحد، من موقع الحيز المادي والروحي الذي نشغله في البنية الاجتماعية، وبفعل السمات والمصالح المشتركة التي تحدد توجهات الناس وأهدافهم لأنفسهم ولغيرهم، وتدفعهم للعمل معا في تثبيت وجودهم والمحافظة على منجزاتهم وتحسين وضعهم وموقعهم في التاريخ. كما تُعَرّف الهوية أيضاً بأنها "السمات المشتركة التي تتميز بها جماعة معينة من الناس وتعتز بها، أو هي مجموع المفاهيم العقائدية والتراثية لجماعة ارتبطت بتاريخ وأصول إنسانية ومفاهيم فكرية أدت إلى إفراز سلوك فكري وقيمي مترجم بأدب وفن وفلكلور جعل من تلك الجماعة ذو شخصية مميزة عن غيرها.
فالهوية إذن "هي مجموع السمات الروحية والفكرية والعاطفية الخاصة التي تميز مجتمعاً بعينه وطرائق الحياة ونظم القيم والتقاليد والمعتقدات وطرائق الإنتاج الاقتصادي والحقوق".
إلى جانب ذلك، فإن الهوية من حيث كونها أمراً موضوعياً وذاتياً معاً، هي وعي الإنسان واحساسه بانتمائه إلى مجتمع أو أمة أو جماعة أو طبقة في إطار الانتماء الإنساني العام، إنها معرفتنا بما، وأين نحن، ومن أين أتينا، وإلى أين نمضي، و بما نريد لأنفسنا وللآخرين، وبموقعنا في خريطة العلاقات والتناقضات والصراعات القائمة، كما عُرّفت الهوية أيضاً باعتبارها شعوراً جمعيًّا لأمةٍ أو لشعبٍ ما، يرتبط ببعضهِ ارتباطاً مصيريًّا ووجوديًّا.
وهنا أشير إلى أن تميز جماعة بهوية لا يعني تطابق أفراد الجماعة، إذ أن التماس الوحدة والتجانس والتماثل المطلق هو التماس لخاصية التحجر والجمود، ما يعني تناقصاً مع حركة التطور والتغيير الدائمة من جهة، وتناقصاً مع جوهر الديمقراطية والتعددية من جهة ثانية، فالهوية الحقة هي التي تتطابق مع الاختلاف الهادف إلى الارتقاء بالجماعة والمجتمع.
أما تعريف الهوية من منظور ماركسي، فإن الطبقة هي أحد المحددات أو التعبيرات الهامة للهوية، انطلاقاً من أن صراع الطبقات هو المحدد الأساسي في التاريخ، لكن هذه المحددات الطبقية على أهميتها، لا يمكن أن تتجاوز السمات المكونة لهوية الشعب أو هوية الأمة بالمعنى الجمعي، الوطني أو القومي.
وفي كل الأحوال، فإن عناصر الهوية الإنسانية فردية كانت أو جماعية لا تنحصر في العناصر المادية وحدها بل تتعدها إلى مجموعة أخرى من العناصر[3]:
1-   العناصر المادية والفيزيائية: وتشتمل على الحيازات (مثل الاسم والسكن والملابس) والقدرات (الاقتصادية والعقلية) والتنظيمات المادية والانتماءات الفيزيائية والسمات المورفولوجية[4].
2-   العناصر التاريخية: وتشتمل على الأصول التاريخية، والأحداث، والآثار التاريخية.
3-   العناصر الثقافية والنفسية: وتتضمن النظام الثقافي مثل (العقائد والأديان والرموز
الثقافية ونظام القيم وصور التعبير الأدبي والفني) والعناصر العقلية مثل (النظرة إلى العالم، والاتجاهات والمعايير الجمعية) والنظام المعرفي مثل (السمات النفسية الخاصة، واتجاهات نسق القيم).
4-   العناصر النفسية الاجتماعية: وتشتمل على الأسس الاجتماعية مثل (السكن والجنس والمهنة والسلطة والدور الاجتماعي والانتماءات، والقدرات الخاصة بالمستقبل مثل (القدرة والإمكانية والتكيف ونمط السلوك).
في ضوء ما تقدم، فإن بلورة الهوية القومية الحداثية التقدمية يعتمد على الوعي العميق، بأن هناك اندماجاً أو  هناك علاقات عضوية وثيقة بين التحرر القومي من الهيمنة الخارجية والتحرر من هيمنة  أدوات التخلف والتبعية السائدة داخل المجتمع، وذلك انطلاقاً من إدراكنا لمفهوم القومية بأنها "شعور ووعي الأمة بوجودها المتميز سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وحضارياً، وسعيها لإبراز هذا الوجود"، وفي هذا السياق نؤكد على منظورنا الفكري والسياسي بالنسبة لشعور ووعي شعوبنا، وهو منظور يستند إلى الرؤية الماركسية التي ترى في جموع الكادحين والفقراء من أبناء شعوبنا، عرباً أو امازيغ أو أكراد... إلخ، المادة الأساسية للروح القومية وتجسيداتها الديمقراطية العملية، على النقيض من الرؤية البرجوازية الشوفينية، أو تلك التي تربط حاضر ومستقبل القومية والوحدة العربية بالطبقات البرجوازية.
حول إشكالية الهوية:
إن مفهوم الهوية، هو مفهوم إشكالي، لأن للهوية أبعاد شائكة ومتداخلة فيما بينها تتصل بالحقل الفلسفي والمعرفي والسياسي والتاريخي، علاوةً على عوامل أخرى تتفاعل مع الهوية كاللغة، والأيدلوجيا، والتراث، والدين، وهذه الإشكالية تحتمل الحل وعدمهِ، بحيث نكون أمام معادلة متحركة، تنتج نفسها بنفسها، وتعيد ترتيب أولوياتها، والسبب يعود إلى طبيعة الهوية المتغيرة في مرحلة العولمة المعاصرة التي فرضت على هذا العالم (الكوكب) ألواناً متنوعة من التحولات والمتغيرات الكمية والنوعية المتسارعة.
في هذا الجانب أشير الى أن اشكالية الهوية الوطنية، في فلسطين كما في البلدان العربية، كانت وما تزال، إحدى القضايا الجوهرية القائمة أمام الوعي السياسي، كما أنها إحدى القضايا التي تتمركز فيها الوسيلة والغاية بقدر واحد فيما يتعلق بآفاق المستقبل، وذلك لما لها من دور حاسم في توحيد أو تشتيت القوى في المرحلة الحالية من صيرورة المجتمعات العربية، وهي مرحلة عاصفة، تعتمل فيها الصراعات الطبقية والاثنية والدينية الطائفية، جنباً إلى جنب مع تفاقم مظاهر التخلف والفقر المدقع في العديد من الدول العربية، خاصة في السودان والصومال وموريتانيا ومصر وفلسطين والمغرب والعراق، وأخيراً اليمن والذي ما زال النظام العبودي سارياً فيه –في العديد من المحافظات- حتى هذه اللحظة من القرن الحادي والعشرين بعد حوالي سبعين عاماً على إعلان "الجمهورية"!
وفي هذا السياق، أؤكد على وجود هذا النمط العبودي بدرجات متفاوتة في شبه الجزيرة العربية "السعودية" وسلطنة عُمان وبعض المشيخات "الامارات" الخليجية، الأمر الذي يشير إلى أن الوعي بالهوية الوطنية - كشرط لنضوج  الوعي بالهوية القومية - هو وعي مشوه، ناقص، أو مُغَيّب، بسبب استمرار اختلاط الانماط القديمة العبودية والاقطاعية، القبلية والعشائرية، مع الأنماط الرأسمالية التابعة والمشوهة، والأمر لا يختلف بالنسبة لبقية البلدان في مغرب ومشرق الوطن العربي، حيث أن استمرار تفاقم مظاهر التبعية والتخلف إلى جانب الاستغلال الرأسمالي الكومبرادوري في هذه البلدان، أدى إلى توسيع الفجوات بين الأغلبية الساحقة من الجماهير الشعبية المضطهدة والمْستَغَلة من ناحية، وبين القلة الطبقية البيروقراطية الحاكمة وحليفها الكمبرادوري من ناحية ثانية، حيث جرى تكريس التخلف والإفقار والجهل لا فرق بين نظام ملكي أو جمهوري، من حيث تخلفهما وتبعيتهما وحرصهما على تبهيت أو تغييب الهوية الوطنية لحساب مصالحهما الطبقية، من هنا تتبدى ضرورة معالجة مسألة الهوية – كما يقول محمد عبد الجابري- "ككثير غيرها من المسائل، لكن هذه المعالجة تتوقف على الطريقة التي نتعامل بها معها، فإذا نحن نظرنا إلى الهوية من حيث الثبات، من حيث الهو – هو، ( وهذا هو معنى الهوية في اصطلاح المنطق الصوري: أ=أ ) فإننا سنجد أنفسنا "نتحرك" على نقطة ميتة، ولذلك كان من الضروري التعامل مع مسألة الهوية من زاوية تسمح بممارسة الفعالية العقلية فيها، وذلك بالنظر إليها أولاً من الزاوية التاريخية، الزاوية التي تفرض النظر إلى الاشياء، لا من خلال الثبات والجمود، بل من خلال التطور، من خلال تموجات التاريخ ... في هذه الحالة تصبح مسألة الهوية موضوعاً للفكر، يمارس العقل فعاليته عليها، وليس حالة وجدانية تجعل عقل صاحبها – وجسمه كذلك – يهتز على نقطة ميتة، لا يتقدم خطوة حتى يتراجع أخرى. علينا إذن أن ننظر إلى مسألة الهوية المطروحة علينا حالياً من منظور تاريخي، منظور موضوعه لا الهوية في صفتها الثابتة، بل الهوية من حيث أنها وعي بالذات منطور متجدد"[5].
بناء على ما تقدم، فإن مسألة الترابط والتفاعل بين مفهومي الوطني والقومي في سيرورة الانتماء المستقبلي، ولاسيما الانتماء القومي التقدمي الديمقراطي بوصفه الانتماء الأحدث في مسار التطور التاريخي على الصعيد العالمي، وبوصفه ضرورة تاريخية وراهنة لشعوبنا العربية، إلا أن هذه الضرورة يستحيل تحققها عبر مسار التخلف السائد في النظام العربي اليوم، بل على العكس لا بد من الممارسة الثورية -بالمعنى السياسي الاجتماعي والاقتصادي والثقافي – للوصول إلى حالة من القطيعة مع هذه الانظمة وشرائحها الطبقية وتجاوزها، وهي مهمة صعبة ومعقدة وطويلة، تحتاج بشكل رئيسي إلى المثقف الطليعي، العضوي، بالمعنى الماركسي، عبر أحزاب يسارية تمارس دورها الفكري والسياسي والنضالي الجماهيري الديمقراطي في إطار الصراع الطبقي الداخلي، وتؤسس لكتلة تاريخية تمهد للسيطرة الثقافية والاجتماعية وصولاً إلى السيطرة السياسية، دون ذلك سيظل مفهوم الهوية الوطنية والقومية باهتاً وغامضاً ورومانسياً حالماً. فالهوية –بالنسبة إلى أي ماركسي- هي أولاً وأخيراً، ظاهرة اجتماعية تاريخية، يكمن جوهرها في الوجود الاجتماعي والصراعات الطبقية الاجتماعية التي تحدد سماتها، إذ أن هذه الصراعات وحدها القادرة على تفكيك وإزاحة اشكالية الهويتين الوطنية والقومية، بمثل ما هي قادرة ايضاً على تفاعلها معاً على طريق وحدتهما في اطار قومي عربي نهضوي تقدمي ديمقراطي، انطلاقاً من ان الصراع الطبقي وحده اليوم، الذي يمكن أن يبعث الحياة في الهوية العربية بوصفها مشروعاً نهضوياً مستقلاً، في مجابهة الهويات الطائفية، كما يقول بحق د.هشام غصيب [6] الذي يرى أن "الهوية العربية مشروع نهضة ومستقبل في حين أن الهوية الطائفية والاثنية مجرد عوائق أمام تحقيق ذلك"[7].
وفي ضوء ما تقدم، يمكن التأكيد بثقة على أن الهوية* ليست اقنوما ثابتاً جاهزاً نهائياً، وإنما هي مشروع مفتوح متطور على المستقبل أي متشابك مع الواقع والتاريخ، وفضلاً عن هذا فهي ليست أحادية البنية أي لا تتشكل من عنصر واحد لها، هو العنصر الديني وحده أو الطبقي وحده، أو الاثنى القومي وحده، أو اللغوي وحده، أو الثقافي الوجداني والأخلاقي وحده، أو المصلحي وحده، أو الخبرة التراثية أو العملية وحدها. وغالباً هي حصيلة تفاعل هذه العناصر جميعاً، دون إغفال بروز أو هيمنة أحد هذه العناصر في مراحل معينة من التطور أو الهبوط والتراجع في هذا البلد أو ذاك في إطار عملية الصراع الطبقي.
علينا إذن أن ننظر إلى مسألة الهوية المطروحة علينا حاليا من منظور تاريخي، منظور موضوعه لا الهوية في صفتها الثابتة، بل الهوية من حيث إنها وعي بالذات، متطور متجدد.
والسؤال الذي يفرض نفسه في هذا الإطار هو التالي: كيف تطور "الوعي بالذات" أو بالهوية القومية، عبر التاريخ، لدينا نحن العرب؟
 في محاولة الإجابة على هذا السؤال، أقول لقد تشكلت الهوية القومية في العالم العربي وليدة ظروف راكمت سلسلة من الأزمات في اطار الصراع مع الدولة العثمانية بداية القرن العشرين، "والواقع أن الحضارة العربية الإسلامية لم تشهد التغاير أو التمايز أو الانشطار داخل "الهوية العربية الإسلامية" إلا عندما تأثرت النخبة العصرية في تركيا، خلال القرن التاسع عشر، بالحركات القومية في أوروبا، وقام فيها تيار بسيادة بتسويد القومية التركية الطورانية على مختلف القوميات المنضوية تحت الخلافة العثمانية، فكان رد فعل النخبة العصرية العربية في سوريا ولبنان (وخاصة المسيحية منها)، أن طرحت شعار المطالبة بالاستقلال عن الترك، الشيء الذي يعني الخروج عن الخلافة العثمانية التي كانت تمثل الإسلام السياسي الموروث. ومن هنا ظهرت فكرة العروبة والقومية العربية (في بلاد الشام خاصة) لا كطرف ينازع الإسلام أو ينافسه بل كتعبير سياسي عن الرغبة في التحرر من هيمنة القومية التركية الطورانية التي كانت تطمح إلى الاستئثار بالسلطة"[8]، وقد "تزامن انتصار دول أوربية في الحرب العالمية الأولى (1914-1918) مع هزيمة الإمبراطورية العثمانية، وبذلك تحول مجرى الأحداث، وأصبح "الآخر" بالنسبة لـ"العرب"، ابتداء من الثلاثينيات من القرن العشرين هو الاستعمار الأوروبي، الذي أدى التنافس بين أقطابه إلى تكريس نوع جديد من التقسيم والتجزئة داخل العالم العربي.
من هنا "أخذت الهوية العربية تتحدَّد، ليس فقط برفض الاستعمار الأوربي فحسب، بل أيضا بالتنديد بالتجزئة التي فرضها أو كرسها، وكذلك رفض الاعتراف بـ "إسرائيل" التي غرسها في فلسطين، ثم بالابتعاد عن الأحلاف العسكرية التي أنشأتها القوى الاستعمارية الإمبريالية وفي مقدمتها حلف بغداد CENTO الذي أنشأته بريطانيا عام 1955، ومن ورائها الولايات المتحدة الأمريكية[9]. وكان ذلك الحلف يضم ثلاث دول إسلامية كبرى هي باكستان وإيران وتركيا، ودولة عربية واحدة هي النظام الملكي في العراق، مع تأييد كل من النظام الأردني والسعودي وذلك في إطار إستراتيجية الحزام العسكري الذي كانت تقيمه الولايات المتحدة والدول الغربية ضد الاتحاد السوفييتي.
هكذا وقع الفصل بين القومية العربية و"الإسلام السياسي" عبر الأنظمة الرجعية التابعة المشار إليها آنفاً، والتي فضلت مهادنة الدول الاستعمارية والسير في صف الإمبريالية ضد شعوبها وضد القومية العربية والاتحاد السوفييتي من جهة، وكرست جل جهودها ضد حركات التحرير في العالم الثالث عموماً، وضد النظام القومي الناصري والحركات الثورية التقدمية اليسارية العالمية والعربية خصوصاً من جهة ثانية.
 وهكذا وقفت تلك الحكومات موقفا سلبياً من القضية العربية: قضية فلسطين، وقضية التحرر العربي عامة. وفي خضم هذا الصراع، ظهر منظرون وإيديولوجيون حاولوا، تحت ضغط هذه الملابسات، وبدوافع التحرر والتقدم والوحدة والاشتراكية، التنظير للقومية العربية مع استبعاد الإسلام السياسي نظراً لارتباطه الصريح بالأنظمة الرجعية، وبالاستعمار والإمبريالية.
وفي هذه المرحلة، تجلت مظاهر التناقضات والاختلافات العميقة بين كل من أصحاب الفكر القومي الحداثي العقلاني التنويري وبين التيارات الدينية السياسية الأصولية، خاصة الإخوان المسلمون، فالإخوان المسلمين دعاة أسلمة المجتمع والعودة إلى الخلافة، وكانت نشأتهم عام 1928 هي بداية التراجع عن قيم النهضة والحداثة التي انتشرت في بداية القرن العشرين، وكانت أيضاً، بداية تجريف – كما يقول نصر أبو زيد – لمفاهيم الوطن والمواطن باسم الأصالة التي تم تجريفها باختصارها في التراث الفقهي وباسم الهوية التي تم ابتسارها في "الدين" .
كان مشروع الإخوان المسلمين – وما يزال – مشروعاً دينياً ينظر لمفهوم المواطن والمواطنة والديمقراطية ومفاهيم العقل والعقلانية والعلمانية والحرية والمساواة، نظرة تشكك وريبة ونظرة رفض وتكفير، كما يصفها المفكر الراحل نصر حامد أبو زيد.
هكذا تم تجريف الوطن باختصاره في دين الأغلبية، وتم تجريف الدين باختصاره في الرؤية الفقهية للعالم! وصولاً إلى المرحلة الراهنة، حيث صارت "الصدقات" وموائد الرحمن مجال للمنافسة بين الأثرياء، وصارت عشرات الفضائيات تعرض الفتاوى الدينية الشكلية في زواج المتعة والمسيار وإرضاع الكبير وتفسير الأحلام، إلى آخر هذه الفتاوى، ضمن اقتصاد السمسرة الكومبرادوي، بحيث نلاحظ – في ظل استشراء خضوع الأنظمة وتخلف المجتمعات العربية في  هذه المرحلة – ولادة ظاهرة طارئة، فحواها أن التراث والفكر الديني السلفي المتعصب بات اليوم يسحب المجتمعات العربية إلى الوراء، ونعتقد أن السبب في انتشار هذه الظاهرة يعود إلى "طبيعة" هذه المجتمعات التي تغلغلت في أوساطها مظاهر القلق والإحباط واليأس الناجم عن تزايد المعاناة والفقر والبطالة والفساد، دونما أي أفق أو ضوء يؤشر على الخلاص، وبالتالي لم يكن مستغرباً عودة هذه المجتمعات إلى الخلف بالمعنى التراثي، أو إلى الفكر الديني السلفي ثم تستسلم له، ليقودها – كما يقول الراحل نصر أبو زيد – بحيث أن مظاهر وأوضاع البطالة والفقر والهبوط السياسي والفساد وكل مشكلات المجتمع العربي "تُحَوّل إلى قضايا تحلها العودة إلى قيم الدين، وعلى رأسها عودة المرأة إلى البيت والحجاب والنقاب"[10].
إن استمرار وتأجج الصراع الوطني، والقومي بدرجات أقل، ضد الاستعمار البريطاني والفرنسي، وصولاً إلى مرحلة ما بعد عام 1958، حيث بدأت السيطرة الإمبريالية الأمريكية على العديد من مناطق الوطن العربي، واشتعال الصراع ضد المصالح والمخططات الإمبريالية الأمريكية، خاصة عبر النظام الوطني، القومي، الذي قاده جمال عبد الناصر منذ العام 1952 حتى 1970، حيث بدأت بعد رحيل القائد عبد الناصر وبداية عصر الانفتاح الساداتي مرحلة جديدة عنوانها: تكريس الهزيمة عبر تكريس التبعية والخضوع للنظام الأمريكي وحليفة الصهيوني، وهي مرحلة ممتدة في الزمان العربي حتى اللحظة، لكن بالرغم من كل هذه الحالة التراجعية العربية الرسمية، وتزايد تكريس الحالة القطرية في دول النفط خصوصاً، إلا أن الإحساس  الشعبي –العفوي- الفلسطيني والعربي، بقي وما زال مخلصاً للهوية القومية، ويتطلع إلى تحقيقها وتجسيدها في نظام عربي وحدودي تسوده العدالة الاجتماعية والديمقراطية، وإذا صح هذا الاستنتاج، فإن "الأزمة القائمة ليست، على هذا الأساس، أزمة هوية، وإنما هي أزمة مجتمعية أساسها إخفاق القوى القائدة للمجتمع العربي من التصدي لمواجهة التحديات التي يواجهها"[11]، الأمر الذي يتطلب من قوى اليسار الماركسي العربي أن تبادر إلى بلورة دورها الطليعي، من حيث التفاعل والتوسع والانتشار في صفوف الجماهير الشعبية، بما يحقق انتقال وتطوير الإحساس الشعبي العفوي، لكي يتفاعل بدوره ويستجيب لمفاهيم وأهداف وشعارات هذه القوى التي يتوجب عليها الإدراك الواعي للأبعاد والأسباب التاريخية (الحديثة والمعاصرة) التي تستدعي النضال من أجل تفعيل الهوية الوطنية تمهيداً لبلورة الهوية القومية، وذلك عبر الاحاطة بعاملين هامين[12]، العامل الأول: يتعلق بمراحل تطور الهوية العربية في سياق الخلاص من السيطرة العثمانية.والعامل الثاني : بداية تبلور الافكار القومية التحررية ومشروعها القومي.
فمنذ مطلع القرن التاسع عشر كان المشروع المصري للنهضة بقيادة "محمد علي"، يسعى إلى الاقتراب والتفاعل مع المشروع العربي الذي كان في تلك المرحلة جزءاً من المسألة الشرقية _ كما يقول د. فؤاد مرسي_ "وعندما اتخذ لنفسه بعض القوام في النصف الثاني من القرن 19، كان سعياً للخلاص من السيطرة العثمانية الغاشمة، لكن المشروع العربي _في تلك المرحلة_ ظل دعوة غامضة للنهضة العربية في وجه كل من الاستبداد الشرقي والاستعمار الغربي"[13].
ومع الحرب العالمية الأولى، تم تقسيم الوطن العربي بين القوى الإمبريالية في الوقت الذي بدأ فيه طرح المشروع القومي، سواء من خلال تبلور الأقطار العربية وسعيها لنيل الاستقلال السياسي، أو من خلال مواجهة الخطر الاستيطاني الصهيوني لفلسطين، وظل الأمر كذلك حتى قامت الحرب العالمية الثانية، وتزايد نشاط الحركات التحررية العربية الذي مهد لإعادة طرح المشروع القومي العربي من ناحية، وفي المواجهة مع الغزوة الصهيونية والاستعمار من ناحية ثانية، حيث بدأت تتخلق معالم البعد القومي في العديد من حركات التحرر العربية. وطوال أكثر من 80 عامًا مضت، ظل المشروع القومي العربي مطروحاً على الشعوب العربية بقوة، سواء كان ذلك في فترات المد السابقة أو في فترات الجزر والانحطاط الحالية.
ولذلك قلنا أن الحرب العالمية الثانية، قد أسفرت عن إعادة طرح المشروع القومي العربي بقوة، وبخاصة بعد الفشل في صد الغزوة الصهيونية، ومن ثم اغتصاب فلسطين وتشريد شعبها وقيام "دولة إسرائيل"، وفي هذه المرة أعيد طرح المشروع القومي العربي على مستويين، _كما يضيف د. فؤاد مرسي_ مستوى النظم ومستوى الشعوب، أما على مستوى النظم، فقد تبلورت قضية الاستقلال السياسي للأقطار العربية بالتفاهم مع الاستعمار في صورة قيام جامعة الدول العربية. وأما على مستوى الشعوب فقد انطلقت حركة التحرر الوطني العربية في مواجهة العدو الواحد أو المشترك، وتجسدت نواة التوحيد القومي في مواجهة العدو الصهيوني الإمبريالي المشترك على أرض فلسطين، وأصبح المشروع القومي العربي مشروعا للتوحيد القومي وليس مجرد مشروع للنهوض العربي، واستند هذه المرة إلى الثورة المصرية وقائدها "جمال عبد الناصر" وتحددت في النهاية معالمه المعاصرة بوصفه حركة للتحرر الوطني والتقدم الاجتماعي والتوحيد القومي. وهكذا بينما شهدت الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين ازدهار المشروع القومي العربي، فإنه قد انتكس منذ وفاة القائد جمال عبد الناصر، وانهيار النظام الناصري في السبعينيات وفي ضوء سياسة الانفتاح وصولاً إلى كامب ديفيد في نظام الرئيس السادات، ثم حسني مبارك، وصولاً إلى الرئيس السيسي ومرحلة الانحطاط العربي الراهنة.
وفي هذا السياق، أشير إلى أن المشروع القومي العربي، أصيب بهزيمتين فادحتين، أما الأولى فهي هزيمة عسكرية أمام إسرائيل في عام 1967، أما الثانية فهي هزيمة سياسية تمثلت في إقرار مشروعية الوجود الصهيوني في فلسطين ووضع مبدأ الصلح المنفرد مع إسرائيل، بما يعني تصفية القضية الفلسطينية، ولقد تم ذلك في اتفاقيات كامب ديفيد عام 1978 وبعدها وصولاً إلى أوسلو ووادي عربه وما يسمى بـ"المبادرة العربية" 2002 وصولاً إلى التطبيع والاعتراف بدولة العدو الصهيوني منذ عام 2020 إلى اليوم.
ففي ضوء التطورات الاقتصادية والاجتماعية التي أصابت المجتمعات والأقطار العربية، غدت هذه الأقطار مجتمعات رأسمالية تابعة، حيث سيطرت عليها الفئات المالية والتجارية الكومبرادورية، ذات الروابط الوثيقة برأس المال والتجارة العالميين، واتسعت هوة الفروق الاجتماعية الفاحشة، واتخذت الأغلبية الساحقة من النظم العربية مكانها في صفوف الثورة المضادة، التي جثمت بثقلها الأمني الاستبدادي الرهيب على أنفاس شعوبها عموماً وعلى الأقليات الأثنية خصوصاً (الامازيغ والأكراد والنوبة وغيرهم)، مع تراكم المزيد من عوامل التبعية والتخلف والإفقار والقهر.
إن هذا الواقع العربي، المهزوم والمأزوم، أثار _وما زال_ كثيراً من المرارة والرفض لدى الجماهير الشعبية الفقيرة عموماً، ولدى الأجيال الشابة خصوصاً التي فقدت - إلى درجة عالية- الثقة في قدرة ومصداقية القيادات القومية واليسارية وأحزابها على تحقيق الأهداف التحررية والمطلبية الديمقراطية، ليس على الصعيد الوطني فحسب، بل أيضاً على تحقيق المشروع القومي العربي، بعد أن فقدت كلياً ثقتها في الأنظمة القائمة، إلى درجة أن هذه الأجيال تتساءل اليوم عن هويتها، من نحن؟
لكن يبدو أن استتباع وهزيمة النظام العربي، والانتهازية المنتشرة –بهذه الدرجة أو تلك – في صفوف القوى اليسارية والقومية، التي هبط وارتد بعضها عبر التصالح مع السلطة والأنظمة، الأمر الذي دفع قسماً كبيراً من الأجيال الشابة إلى أن تتوجه بنظراتها إلى ملكوت السماوات، من خلال التحاقها بالحركات الدينية الأصولية –بدوافع واسباب اجتماعية واقتصادية بالدرجة الأولى- دون ادراك منها أن الالتحاق بالحركات اليمينية تعني المزيد من الاستسلام – بوعي أو بدون وعي-  لهزيمة المشروع الوطني والمشروع القومي العربي معاً لأن عملية الالتحاق بالتيارات الدينية اليمينية - تُشكل نكوصاً إلى مواقع خلفية للاحتماء بها والدفاع انطلاقاً منها، خاصة في ظل تزايد مظاهر التخلف والانحطاط والافقار في المجتمعات العربية، وخضوع النظام العربي للشروط الأمريكية/ الإسرائيلية، الى جانب استمرار عجز وضعف وتراجع القوى الديمقراطية الوطنية واليسارية القومية عن التأثير في هذه الأجيال أو استقطابهم عبر ممارسات سياسية وجماهيرية نضالية تقوم بتعرية وفضح المصالح الطبقية باعتبارها السبب الرئيسي لما وصلت إليه أحوال مجتمعاتنا وشعوبنا، وكذلك عبر الاهتمام بقضايا الشباب ومستقبلهم، وتوعيتهم بطبيعة تطور العلاقة التاريخية في العصر الحديث، بين الإسلام السياسي والتنوير والحداثة كما طرحها في منتصف القرن التاسع عشر رفاعه الطهطاوي، ثم محمد عبده وعلي عبد الرازق وأحمد أمين ولطفي السيد وطه حسين، في ثلاثينيات القرن العشرين، في سياق المناخ الليبرالي العقلاني السائد آنذاك، ثم استعراض وتناول أسباب وأهداف نشوء حركة الاخوان المسلمين وظاهرة المد الأصولي الراهنة، بما يوضح الفارق الخطير في العلاقة التاريخية بين الدين والمدنية الحديثة أو مفاهيم عصر النهضة كما تجلت في العقود الأولى من القرن العشرين، فبينما طرحت في الماضي بوصفها علاقة جدلية بين العقلانية والتنوير من ناحية، وبين النزعات والتيارات الدينية من ناحية ثانية، فإنها طرحت من قبل حركة الإخوان المسلمين، وما زالت إلى الآن – في القرن الحادي والعشرين - كعلاقة ميتافيزيقية من جانب واحد، وبينما طرحت في الماضي بوصفها تناقضاً غير عدائي يقوم على الحوار العقلاني والاستنارة الدينية، تطرح الآن بوصفها تناقضاً عدائياً لا يحل إلا بإلغاء أحد طرفيه، حيث تبدو العودة إلى السلفية أو الاصولية أو التراث اليوم -في أحد أوجهها- بمثابة صرخة احتجاج في وجه الغرب الأقوى منا حالياً، وفي هذه الحدود تصبح تلك الدعوة مجرد رد فعل أكثر منها فعلاً أصلياً، وتبدو كاحتجاج سلبي ضد الغرب يركز على بعث ما مضى وليس على خلق جديد يواجه تحديات الحاضر، واحتياجات المستقبل، على قاعدة رفض ومقاومة الرأسمالية ونظامها الإمبريالي، والانحياز الصريح للفقراء والكادحين من جهة، والتحام النضال الوطني التحرري والديمقراطي في كل قطر عربي في إطار المشروع الاستنهاضي القومي الوحدوي التقدمي الكفيل وحده باجتثاث الوجود الصهيوني في بلادنا واستعادة فلسطين كلها كدولة ديمقراطية، إلى جانب حل المسألة اليهودية في إطار المجتمع العربي الاشتراكي الموحد من جهة ثانية.
على أي حال، ولكي أُغلق الباب في وجه أي تفسير تشكيكي أو تكفيري أو انتهازي مغرض أو منافق، ضد الموقف الموضوعي من مسألة التراث، فإنني أقول بصراحة ووضوح، إن موقفي ينطلق من النظر والتعامل مع التراث باعتباره جزءاً من الثقافة العربية، وباعتبار الثقافة تطوراً من خلال تطور البشر أنفسهم، ما يعني "أننا نستطيع التمييز بين نوعين من التراث، النوع الأول هو التراث المحفوظ أو المخزون وذلك هو التراث المتحفي، أما النوع الثاني فهو التراث الحي الذي يتواجد بشكل أو بآخر في الممارسات الحية للشعوب، وذلك هو التراث فعلاً"[14].
وفي هذه الحدود فلا مشكلة هناك، لكن المشكلة تبدأ حينما تبدأ المحاولة للتسوية أو الدمج الأحادي بين الهوية والتراث، بحيث يصبح هو المكون الوحيد لها، وعندئذ فإن التراث يعمل وكأنه "كان في خزانة حديدية محكمة الإغلاق"، وتصبح هذه القراءة السلفية للتراث قراءة لا تاريخية، لا تفيد سوى التكرار، تكرار التراث نفسه، بل تتم عندئذ "قراءة المستقبل بواسطة الماضي وتصبح العملية هي رفض للواقع وهجرة إلى الماضي المتخيل وتخل عن المستقبل، وبالتالي افتقاد الاستقلال التاريخي أو العجز عن تحقيق هذا الاستقلال"[15]، ما سيؤدي إلى تكريس أهداف ومصالح الشرائح الاجتماعية الطبقية في كل من النظام العربي الحاكم والمجتمعات العربية، ومن ثم تكريس التبعية للإمبريالية، وتجديد التخلف، وتزايد مظاهر الفقر والمعاناة والاضطهاد للطبقات والشرائح الفقيرة في ظل انقسام طبقي حاد غير مسبوق في بشاعته بين أغنياء أو أثرياء مستغلين (بكسر الغين) وطفيليين لصوص وسفهاء، وبين فقراء كادحين معدمين لا يجدون -في معظمهم- قوت يومهم وأولادهم، كما لا يجد بعضهم مأوى له وعائلته في بعض البلدان العربية سوى في المقابر! وهذا يقودنا إلى:
البحث عن الهوية العربية في سياق نشأة الدولة القومية في أوروبا:
لقد بدأ الاتجاه نحو الدولة القومية في أوروبا في القرن السادس عشر، وسادت الظاهرة القومية فيها ابتداءً من القرن التاسع عشر، وكان عهد انتصار الرأسمالية الحاسم على الإقطاع مقترناً بانتصار الحركات القومية، "وأساس هذه الحركات من الناحية الاقتصادية موجود في الإنتاج لا في التبادل، فعندما يتفوق الإنتاج السلعي أي الإنتاج من أجل السوق على غيره من أشكال الإنتاج، وعندما تصبح له الغلبة بالنسبة إلى هذه الأشكال الأخرى، فإنه يستدعي قيام البرجوازية بالاستيلاء أو بالسيطرة على السوق الداخلية، ومن ثم العمل على توحيد الأراضي التي يتكلم سكانها لغة واحدة في دولة واحدة وإزالة كل حاجز من شأنه أن يحد من تحقيق ذلك الهدف القومي أو الوحدة في دولة سياسية قومية واحدة"[16].
والسؤال هنا؟ لماذا إذن لم تتطور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية العربية في القرون الماضية إلى نظام رأسمالي على الرغم، مما عرفته تلك الأوضاع من اقتصاد سلعي؟
من الواضح ان أحد الأسباب الرئيسية، إن لم يكن أهمها على الإطلاق، يعود إلى "عدم تفوق الإنتاج السلعي في البلدان العربية، بحيث يقوم بتصفية الأسواق المفتتة الضيقة لحساب سوق موحدة واسعة تكون بدورها أساساً لتطوير أكبر لفنون الإنتاج وتنظيماته، فإنه بتكوين هذه السوق الداخلية الموحدة الواسعة تتهيأ الظروف لقيام السوق القومية" [17].
على أن هذه الاجابة، تستدعي سؤالاً آخر: لماذا لم يتفوق الإنتاج السلعي حتى الآن في العالم العربي؟ الواقع أن العالم العربي قد سقط في غيبوبة حضارية كاملة في ظل الفتح العثماني الذي أحكم قبضته على العرب، منذ بداية القرن السادس عشر حتى أوائل القرن العشرين، حيث أدت الحرب العالمية الأولى إلى هزيمة وتصفية الامبراطورية العثمانية، ومع نهاية الحكم العثماني كانت الدعوة العربية هي دعوة للاستقلال الذاتي الثقافي لم تلبث أن تحددت في بداية القرن العشرين بالوقوف في وجه كل من الاستبداد الشرقي والاستعمار الغربي، وعندئذ اختلطت الدعوة العربية بالدعوة لاستقلال كل قطر عربي على حدة، حيث تحقق هذا الاستقلال بصورة شكلية في ظل الهيمنة الاستعمارية المباشرة وغير المباشرة، حتى أن نشأة جامعة الدول العربية كانت انعكاساً في تأسيسها لتلك الهيمنة إن لم يكن بقرار منها.
وإذا كانت الأقطار العربية الآن قد حافظت على استقلالها السياسي الشكلي في معظمه، وإذا كانت قد طورت اقتصادها وفق أسس رأسمالية واضحة، فإنها ما زالت مجتمعات رأسمالية مشوهة، بل إن تطورها الرأسمالي لم يَصُبْ في مجرى تطوير أسواقها الداخلية المفتتة بقدر ما ربطها أكثر من ذي قبل بالسوق الرأسمالية العالمية، ولذلك تخلفت عملية تكوين السوق القومية العربية حتى الآن، وتخلفت القضية القومية العربية بأسرها، ولم تعد قضية الهوية العربية (الوطنية والقومية) مطروحة بقوة على جدول هموم وتطلعات الشعوب العربية أو في مشاعرها العفوية وأحاسيسها، بل أصبحت مطروحة وموزعة بين قيم الاستسلام واليأس واللامبالاة، وبين الهوية الدينية العفوية التي تأثرت بظاهرة "الإسلام السياسي". وهنا لا بد أن نشير إلى أن بقاء الأوضاع العربية (السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية) على هذه الحالة من التبعية والخضوع للشروط الإمبريالية الصهيونية، فلا مناص من احتمال تزايد انتشار هوية "الإسلام السياسي" في أوساط الجماهير الشعبية بما يؤدي إلى مزيد من تراكم عوامل التخلف والاستتباع، فهل تبادر قوى اليسار الماركسي القومي إلى حالة من اليقظة والاستنهاض – السياسي والمعرفي والمجتمعي والتنظيمي – لكي تتحمل مسئولياتها وصنع مستقبل شعوبها قبل فوات الأوان؟
أما المسألة الأخرى في هذا الجانب، فهي تتعلق بالبحث عن الهوية في الظاهرة القومية، بما يفتح السبيل إلى الكشف عن العلاقة المباشرة وغير المباشرة، فيما بين الهوية ومعها التراث من جانب وبين التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية العربية من جانب آخر، وأقصد هنا بالتشكيلة الاجتماعية الاقتصادية، النظام الاجتماعي الاقتصادي للمجتمع المعين، الذي يتشكل من بنيانين أو هيكلين، أحدهما تحتي هو أسلوب الإنتاج بما ينطوي عليه من قوى منتجة وعلاقات إنتاج، والبنيان الآخر فوقي أو علوي وهو مجموعة العلاقات الاجتماعية الأخرى، غير علاقات الإنتاج بالإضافة إلى الوعي الاجتماعي.
وفي هذا السياق، أشير إلى أن "أسلوب الإنتاج هو الذي يُكَوِّنْ الأساس المادي للتشكيلة الاجتماعية الاقتصادية وهو أيضاً البنيان التحتي الذي يشكل الهيكل العظمي لها. أما البنيان الفوقي، فإنه يرسم للتشكيلة الاجتماعية الاقتصادية، صورتها الخارجية القانونية والسياسية والفكرية"[18].
وبالإضافة إلى هيكلي التشكيلة الأساسيين (البنيان الفوقي والتحتي) فإنها تحوي كثيراً من الظواهر الاجتماعية الأخرى مثل صلات الناس التراثية والجماعية التاريخية، كالعشيرة والقبيلة والأسرة والشعب وحتى الأمة، ومثل العلوم الاجتماعية وبعض التنظيمات الاجتماعية والعلمية والرياضية واللغة.
فالتشكيلة الاجتماعية الاقتصادية إذن، "هي تعبير عن فترة كبيرة في تاريخ المجتمع تتميز بمجموعة محددة نوعياً من العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والفكرية، وكذلك من الحياة الروحية، أي أنها المجتمع ككل في مرحلة معينة من التطور التاريخي، وهي مجموع العلاقات الإنتاجية المطابقة للقوى المنتجة، ومجموع الأبنية الفوقية التي تطابق تلك العلاقات الإنتاجية وتكسو الهيكل العظمي باللحم والدم والأعصاب"[19].
وهنا، أشير أيضاً إلى أن التفاعل بين علاقات الإنتاج والقوى المنتجة "يتخذ في البداية صورة التطابق، إلى أن تصبح علاقات الإنتاج قيوداً على نمو القوى المنتجة، إذ أنهما ينموان بشكل غير متساوٍ، ومع ذلك ففي أسلوب الإنتاج توجد الوحدة الجدلية بين العلاقات الفنية والتنظيمية للإنتاج كما تنعكس في صورة القوى المنتجة وبين العلاقات الاقتصادية بين أفراد المجتمع كما تنعكس في صورة علاقات الإنتاج"[20].
وإذا كانت القوى المنتجة هي الجانب الأكثر ثورية في أسلوب الإنتاج، فإن الثورة تكمن في قوى الإنتاج، نعني في وسائل الإنتاج، كما هو الانقلاب الصناعي الذي قد يكون بطيئاً وقد يكون متسارع الخطى، وكذلك الاكتشافات العلمية والاختراعات التكنولوجية كلها تبعث إلى الوجود بقوى اجتماعية جديدة تأخذ على عاتقها مهمة إعادة تشكيل الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فالثورة إذ تحرر المجتمع من الأبنية والهياكل القديمة التي كانت تكبله، فإنها تخلق في نفس الوقت الأشكال الاجتماعية الجديدة التي تناسبها.
حول الأهمية الخاصة للبنيان الفوقي، يرى د. فؤاد مرسي أن البنيان الفوقي "لا يقوم بشكل تحكمي، بل يتمشى مع الأساس الاقتصادي للمجتمع، نعني أسلوب الإنتاج، مع القوى المنتجة ومع علاقات الإنتاج، ويتشكل البنيان الفوقي من مجموع العلاقات الاجتماعية غير علاقات الإنتاج، بالإضافة إلى الوعي الاجتماعي ولذلك يتشكل البنيان الفوقي من مجموعة النظم والمؤسسات والمبادئ التي تعمل في كل من مجالات القانون والسياسة والفكر" [21].
ومع أن البنيان الفوقي –كما يضيف د. فؤاد مرسي- يظل محكوماً بالأساس الاقتصادي للمجتمع، إلا أن دور البشر في هذا المجال هو الدور الأكبر والرئيسي، إذ يتوقف الأمر هنا على النشاط الواعي للناس، لا سيما أولئك الذين يتصدون لقيادة الطبقات والفئات الاجتماعية. وهكذا نتبين العلاقة الجدلية بين كل من العامل الذاتي والعامل الموضوعي، فالعامل الموضوعي هو قبل كل شيء إنتاج مادي وعلاقات إنتاجية يحددها مستوى تطور القوى المنتجة الذي تم التوصل إليه من قبل، أما العامل الذاتي فهو الناس أنفسهم وإرادتهم في التقدم وتنظيم هذه الإرادة في صورة النشاط التحويلي العملي للجماهير في الطبيعة وداخل المجتمع"[22]. وبينما يتخذ دور البشر في تغيير البنيان الفوقي القديم أهمية كبرى، فإن هذا البنيان الفوقي يتميز بطابع محافظ ينطلق من مهمة حماية علاقات ملكية وسائل الإنتاج، أي المحافظة على النظام الاجتماعي الاقتصادي.
وهنا ينبغي التمييز داخل كل تشكيلة جديدة بين العناصر التي انتقلت إلى البنيان الفوقي من التشكيلة القديمة وبين العناصر التي أوجدتها التشكيلة الجديدة أو المجتمع الجديد. فهذه الأخيرة وحدها هي نتيجة تطور أوضاعه الاقتصادية، أما العناصر الأولى فهي الجذور التاريخية التي يتشكل البنيان العلوي على أساسها.
وفي هذا السياق، أشير إلى أن مجتمعاتنا العربية، بسبب تطورها المشوه، التابع والمتخلف، ما زالت محكومة _بدرجات متفاوتة للبنيان الفوقي الموروث علاوة على القيم الاستهلاكية الهابطة التي تشكل اليوم جزءاً أساسياً من البنيان الفوقي المعاصر المحكوم بعناصر وأدوات التخلف رغم أشكال الحداثة الرثة السائدة في ذلك البنيان، حيث نلاحظ أن البنيان الفوقي في فلسطين والبلدان  العربية، اتخذ من الماضي علاقات وأفكار اجتماعية لم تعد صالحة منذ بداية القرن العشرين، لكنها تسترد صلاحيتها اليوم _كما هو الحال في معظم المجتمعات العربية في ظل التكوين الاجتماعي "الجديد"، فهناك عناصر كثيرة موروثة من أبنية علوية لمفاهيم وشعارات دينية وثقافية لا تنتمي للاستنارة الدينية أو التفسير العقلاني للظواهر الطبيعية والعلمية والسياسية، وتلك هي الإشكالية الكبرى مع التيارات السلفية الرجعية، وبالتالي فإن رفضنا لهذه السلفية، لا يعني أبداً إنكارنا لدور الدين واستمراريته في مجتمعاتنا، بصورة موضوعية، لكننا بالمقابل نؤكد على أهمية التعاطي مع القضايا الدينية في إطار مفاهيم التنوير والعقل والديمقراطية، وفي هذا الجانب نقول بوضوح، إن نضالنا من أجل الخلاص من النظام الرأسمالي وكل أشكال الاستغلال ومن أجل النهوض القومي التقدمي الاشتراكي، لا يعني بأي حال تجاوز واقع أن الدين الإسلامي سيظل موضوعياً جزءاً هاماً من البنيان الفوقي حتى في ظل النظام الاشتراكي الديمقراطي، ولكن مع أهمية الأخذ بعين الاعتبار التطورات والتحولات المجتمعية الحديثة التي تستهدف الارتقاء بالجماهير الشعبية، دون أي تأثير مباشر في انتماءها الديني وتراثها الموروث.
ومن هنا استطاع مؤسسو الماركسية أن يقولوا أن الماركسية قد استوعبت وأعادت صياغة كل ما له قيمة في تطور الفكر البشري من فلسفة وعلم وسياسة، كما أكدوا لنا أن الاشتراكية لن تبنى من غير العديد من العناصر التراثية الإيجابية، وما أكثرها في تاريخنا.
ومع أن للسياسة في نهاية الأمر منطقها الموضوعي المستقل عن مخططات الأفراد، فإن من الضروري تحويل الناس، خاصة في الحقل السياسي والاجتماعي الطبقي، من أناس سذج يخدعهم الآخرون ويستغلونهم إلى أناس فاعلين ساعين لتحديد آفاق تطور المجتمع في إطار مفاهيم العدالة والمساواة، بما يضمن تحويل النشاط الواعي للناس الذين يصنعون التاريخ إلى نشاط يصب في تحقيق تلك المفاهيم.
من هنا تتعدد أشكال الوعي الاجتماعي، تتعدد أشكال الإنتاج غير المادي للمجتمع، كما تتعدد أشكال المعرفة ومنها الثقافة التنويرية العقلانية الديمقراطية كشرط للتحرر الوطني والقومي النهضوي الديمقراطي.
وكما أوضح "ماركس" و "إنجلز" في كتابهما (الأيديولوجية الألمانية)، فإن أفكار الطبقة الحاكمة في كل عصر هي الأفكار السائدة، والطبقة التي تشكل القوة المادية في المجتمع هي في الوقت نفسه القوى الفكرية السائدة في هذا المجتمع، والطبقة التي تتحكم في وسائل الإنتاج المادي تسيطر في الوقت ذاته على وسائل الإنتاج الفكري، بحيث أن أفكار الذين يفتقرون إلى وسائل الإنتاج الفكري تكون خاضعة لها، وهنا تصبح الثقافة في المجتمع محكومة لازدواجية متناقضة،  فإلى جانب ثقافة الحكام توجد أيضاً ثقافة المحكومين، وفي كل مجتمع فإن الصراع بين الطبقة السائدة وبين الطبقة المرشحة للسيادة يتحول إلى صراع في مجال الثقافة، وعندئذ فإن الطبقة المرشحة للسيادة مستقبلاً _نقصد بذلك العمال و الفلاحين وكل الفقراء والكادحين_ تُدْخل في المجتمع أفكارها ووجهات نظرها و تقييمها للنظام السياسي الذي تزمع أن تدمره، كما تقوم – في نفس الوقت- بتطوير الثقافة الروحية السائدة في المجتمع، انطلاقاً من أن الثقافة لا تُخلَق بواسطة الناس فقط، وإنما هي تُخلَق من أجلهم أيضاً وهذه الثقافة هي عندئذ معيار إنسانية المجتمع.
فالثقافة توجد وتعمل وتتطور إذن في ظل ظروف اقتصادية واجتماعية معينة، وفي مناخ سياسي وفكري نوعي معين، بحيث أن العلاقة بين الثقافة من جانب والظروف الاقتصادية والاجتماعية والمناخ السياسي والفكري من جانب آخر ليست بالعلاقة البسيطة وبين الجانبين تناقضات حافلة، فتطور الثقافة يتحدد بالظروف المادية للحياة الاجتماعية.
وكان لينين وهو يطرح ضرورة الثورة الثقافية قد عالج القديم والحديث في مجال الثقافة، وذلك بأن طرح مهمة الجمع بين الثورة الاشتراكية من جانب وبين الثقافة البرجوازية والعلم البرجوازي والتكنولوجيا البرجوازية من جانب آخر.
لكن المشكلة تطرح في بلادنا العربية مثلما تطرح في البلدان النامية على نحو آخر، فهذه البلدان تناضل من أجل تحرير أنفسها من الثقافة الغربية ذات الطابع الاستهلاكي الرث، المفروضة عليها بحكم التبعية الخارجية، وفي نفس الوقت، فإن تحديث تلك البلدان ينطوي على استيعاب أفكار الحداثة الغربية، ومن هنا فإنها تسعى لدخول القرن الواحد والعشرين بزاد أساسي اجتماعي ثقافي من صنعها هي نفسها، بوصفها قوى مستقلة مشاركة في صنع التاريخ وليس بوصفها موضوعاً للنفوذ الأجنبي.
ومن هنا يأتي البحث في التراث الثقافي العربي، في محاولة لإبراز هذا التراث ذي النزعة الإنسانية، والتأكيد على هذه النزعة في مواجهة لا إنسانية الغرب الاستعماري، لكن هذه الدعوة المشروعة تماماً تتحول عادة في التطبيق ونتيجة لعموميتها وعدم تحديدها إلى دعوة ينقصها التمييز – التمييز بين ثقافة وثقافة.
إن انجاز الثورة العربية "لا يمكن بحال أن يتناقض مع الحفاظ على التراث، بل إن الثورة الاشتراكية، وهي مهمة من مهام الأجيال المقبلة لا يمكن أن تقوم في فراغ، بل هي لا تنفي أبداً التمسك بالتراث والقيم الروحية، فالثورة إنما ترمي فقط إلى تحطيم علاقات الإنتاج وعناصر البنيان الفوقي القائمة التي تكبح التطور الاجتماعي وتعيقه مع الحفاظ على كل ما يلاءم العملية الثورية وكل ما هو ايجابي مما ورثناه عن السلف للأجيال القائمة"[23].
المبدأ إذن هو الحفاظ على التراث وعدم رفض الانجازات القيمة للعصور السالفة، بل تمثلها وإعادة صياغة كل ما له قيمة، مما أنجبته الثقافة طوال آلاف السنين، فثقافة اليوم هي محصلة للخلق الجديد وللتراث المتجدد، ومن ثم فإن التراث يعتبر استمراراً للتطور الحضاري وبهذه الصفة فهو ضروري.
إن التراث بهذا المعنى هو ظاهرة استمرار التطور الحضاري، بعبارة أخرى فإن علينا أن نميز بين نوعين من التراث: الأول هو النوع الذي يعبر عن سلطان العجز والركود والروتين عن سطوة القديم على عقول وسلوك الناس وعن قوة العادات والتقاليد، وهو إن لم يتفق مع مسيرة تطور المجتمع نفسه فلا حاجة إليه.
والنوع الثاني ويمثل استمرار التطور الحضاري للمجتمع، أي صلاحية المعرفة المتراكمة لخدمة الحاضر والمستقبل، فهذا هو التراث حقاً الذي يقوم ليس فقط على قوة العادات والتقاليد، بل يستند إلى استمرار الحاجة إليه، ويجوس في المجتمع مثلما تجوس المياه الباطنية، فتغذي جذور النبات فيزداد نماء، هو بالدقة تراث متصل أو ثقافة ممتدة أو حضارة مستمرة – ومن ثم يتكفل مثل هذا التراث بنقل خبرة الماضي إلى المستقبل وتتمثل مهمتنا بالدقة في هضم وتمثل النتائج الايجابية المتراكمة بفضل استمرار الحضارة الروحية للبشرية.
المراحل التاريخية لتكون الهوية الوطنية:
مرت الهوية الوطنية – في بلادنا بأربع محطات هي
·   الأولى: هي الكولونيالية، حين أسست الإدارة الاستعمارية شكلاً من أشكال الكيانات السياسية، التي أخضعت وعي شعوبها لمتطلبات تلك الكيانات القطرية التي ساهم الاستعمار في تأسيس منظميها.
·   الثانية: هي مقاومة الاستعمار التي تستمر حتى تحقيق الاستقلال السياسي.
·   الثالثة: فهي محطة توسع وانكماش الأمة/الشعب. فعن طريق ضم أراض جديدة أو مجموعات سكانية إضافية، أو عن طريق انفصال أجزاء من الأمة -أرضاً وسكاناً- عن الوطن الأم، فإن هذه العملية من التوسع والانكماش أثرت سلباً في صميم تشكل وتبدل الهوية.
·   الرابعة: تكمن في الصراعات والتناقضات الداخلية التي قد تأخذ شكل الحرب الأهلية، أو الثورة أو النزاعات الطائفية أو العرقية التي تريد أن تعيد تعريف الهوية الوطنية، حسب منظور كل طرف من أطرافها.
تحولات الهوية الوطنية الفلسطينية ومتغيراتها:
فيما يتعلق بالهوية الفلسطينية، فإن النماذج السابقة، لا تتطابق – بعموم ما ورد فيها – مع الحالة الفلسطينية، لأسباب كثيرة؛ ففي النموذج الأول، يسعى الآخر (العدو الصهيوني) إلى تفتيت هوية الفلسطينيين إلى أقليات عرقية وطائفية، من مسلمين ومسيحيين ودروز وبدو وشركس، إلا أن هذا المخطط تفتت أمام الوعي الوطني لأبناء شعبنا في الأرض المحتلة 48، الذين تمكنوا من الحفاظ على هويتهِم العربية الفلسطينية.
لكن الهوية الوطنية الفلسطينية، تتقاطع فيما يتعلق بالمحطة الأولى [الكولونيالية]، والمحطة الثانية [المقاومة]، دون الوصول إلى [الاستقلال].
أما المحطة الرابعة [الانفجار الداخلي = الحرب الأهلية] فهي لم تتحقق بشكلها اللبناني أو العراقي والسوداني واليمني والصومالي فحسب، وإنما أيضاً بين هويتين (الهوية الوطنية، وهوية الإسلام السياسي) تمثلت في صدامات واحتراب بين أكبر فريقيين في فلسطين (فتح وحماس) سياسياً وعسكرياً في قطاع غزة تحديداً.
  فالمشروع الوطني الفلسطيني كان حائراً بين فلسطينيتهِ وعروبتهِ، خاصة بعد تعديل الميثاق القومي الفلسطيني عام 1969، ليصبح ميثاقاً وطنياً –بعد أن تولت حركة فتح / ياسر عرفات قيادة م.ت.ف - وبالتالي لم يستطع تحقيق التوازن المطلوب في مسيرته الوطنية نظراً لانفصامه عن البعد القومي، ومن ثم كان من الطبيعي أن تتعرض تلك المسيرة لكثير من مظاهر الخلل والهبوط والتراجعات الحادة التي أوصلتها إلى أوسلو وسلطة الحكم الذاتي، ثم المزيد من الهبوط والتراجع والفساد الداخلي، وصولاً إلى احتدام الصراع مع حركة حماس وما نتج عن ذلك من انقسام، ليس في النظام السياسي الفلسطيني الهش فحسب، بل أيضاً انقساماً في الهوية، بين هوية وطنية رثة وبين هوية "الإسلام السياسي". ذلك إن الوعي بهذه الهوية أو الخصوصية الفلسطينية، تنامى في ظل مواجهة شاملة ومعقدة، وعلى جانب ملحوظ من المفارقات مع العدو الإسرائيلي الذي يسعى إلى محو معالمها وتبديد خصائصها من ناحية، ومع الوضع الداخلي المنقسم، القسم الأول منه، ونقصد بذلك القوى اليسارية والديمقراطية، يسعى الى إبراز هذه الهوية وتعميق ملامحها الوطنية والقومية، وهو الأضعف حالياً، وقسم آخر يسعى إلى تعميم الهوية الإسلامية، في حين يسعى فريق أوسلو إلى تكريس هوية باهتة لا مستقبل لها باسم الواقعية الرثة أو القبول بالشروط الأمريكية-الإسرائيلية تحت شعار "دولة قابلة للحياة" أو حكم ذاتي موسع أو روابط قرى أو مدن، أو أي شعار آخر لن يرتقي أبداً إلى تحقيق الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس ذات سيادة كاملة، حيث بات هذا الهدف – في ظل موازين القوى المختلة مع العدو الصهيوني والنظام العربي – نوعاً من الوهم لا بد من مراجعته انطلاقاً من استعادة عملية التحرر الوطني في إطار الصراع العربي – الصهيوني وصولاً إلى دولة فلسطين الديمقراطية لكل سكانها.
إن هذه الحالة التي وصل إليها المشروع الوطني الفلسطيني كانت في أحد أهم أسبابها نتاجاً لفقدان التوازن والعلاقة العضوية بين الوطني والقومي فيما يتعلق بالصراع مع العدو الصهيوني، ولذلك فإن استعادة التوازن وتحقيقه مشروط باستعادة النضال الوطني لعلاقته التاريخية والمستقبلية بالنضال القومي،  ضمن هذه الرؤية، يمكن ترتيب الأولويات، على أن لا يكون في ذلك انغلاق على الخاص، بل على العكس، اعتبار هذه المقدمة طريق نحو تشابك أكبر، والتحام، وتفاعل مع العام القومي، فالهوية الوطنية الفلسطينية لا وجود لها – من حيث الفعالية والتأثير راهناً ومستقبلاً- بدون التحاقها في مكونات الهوية القومية العربية التي تتجلى – كما يقول حليم بركات – في [24]:
1.     الانتماء العربي     2. الثقافة المشتركة     3. التكامل الاقتصادي    4. التواصل والاتصال بين البلدان العربية في زمن المعلوماتية   5. التوحد السياسي  6. التحديات الخارجية المعادية.
الصراع كمحفز لتبلور الهوية الوطنية: 
إن تبلور الهوية الوطنية إنما تم عبر خوض الشعب الفلسطيني فوق وطنه لصراع دامي مع المشروع الصهيوني والإمبريالية البريطانية، التي قامت بإنشاء المجلس الإسلامي 1922 –برئاسة أمين الحسيني- لتفسيخ وتفكيك الهوية الوطنية، وقد نجحت في ذلك إلى حد كبير في العشر سنوات الأولى على الانتداب، لكن تفجر الصراع مع الحركة الصهيونية والاستعمار أدى إلى بروز الهوية الوطنية الفلسطينية في الذهنية الشعبية الفلسطينية، بالرغم من غياب المؤسسات الوطنية أو الدولانية.
ففي رحم الصراع مع المشروع الصهيوني الاستيطاني، وعلى الضد منه، تبلورت الهوية الوطنية الفلسطينية كشعور جمعي في أوساط الجماهير الشعبية في مقابل نكوص النخبة القيادية وفشلها في إنشاء مؤسسات كيانية على غرار المؤسسات الصهيونية، فقد انحصر نشاط هذه النخبة من خلال تعبيرات سياسية كيانية تمثيلية كان أبرزها اللجنة القومية العليا، ناهيك عن الأحزاب السياسية للطبقة المهيمنة إلى جانب بعض الاتحادات النقابية والمؤسسات الشعبية والاجتماعية والتعبيرات الثقافية كالمجلات والمطبوعات والصحف، لكن القيادة شبه الاقطاعية، استمرت في سياساتها التوفيقية أو المهادنة للاستعمار البريطاني والأنظمة العربية العميلة، من ناحية ورفضت الارتقاء بالثورة عموماً والنضال المسلح المنظم، خصوصاً إلى المدى الذي رسمته القيادات الثورية من أبناء الفلاحين والعمال بقيادة الشهيد عز الدين القسام، حفاظاً على مصالحها الطبقية الأنانية الضيقة، الأمر الذي أدى – إلى جانب عوامل رئيسية أخرى، عربية واستعمارية- إلى وقوع وتحقق الهزيمة أو النكبة التي كانت بمثابة الكارثة على تعبيرات الهوية الوطنية باعتبارها بددت وفككت تلك التعبيرات أو حتى دثرتها خلال السنوات العشر الاولى بعد النكبة.
ولذلك نلاحظ – توجه الفلسطينيين، بعد النكبة ولأسباب تعود إلى النظام العربي الرجعي، نحو العمل ضمن الأطر السياسية الشيوعية، أو الإسلامية أو القومية، في إطار البنية التنظيمية القومية العربية مثل حركة القوميين العرب والبعث، لكن ذلك لم يكن تأكيداً فلسطينياً على شطب الهوية الفلسطينية (على النقيض مع الإخوان المسلمين الذين رفعوا الهوية الاسلامية). ثم بعد حوالي خمسة عشر عاماً من النكبة، تشكلت حركة التحرير الوطني الفلسطيني كتنظيم فلسطيني، إلى جانب أبطال العودة وشباب الثأر الذين شكلتهما حركة القوميين العرب في تلك المرحلة. وجاء تأسيس منظمة التحرير عام 1964، لتصبح بمثابة إعلان عن تأسيس التعبير الكياني رغماً عن النظام العربي الذي قام بتأسيسها، ومن ثم استعادة شعبنا الفلسطيني لشعوره العارم بهويته الوطنية من جديد.
وبالتالي ، ربما كان النتاج الأهم في تاريخ النضال الوطني الفلسطيني المعاصر، هو بناء مقومات الهوية الوطنية: التعبير السياسي الكياني وسلسلة من المؤسسات الشعبية والرسمية والاجتماعية والنقابية، والبرنامج الوطني الشامل، الميثاق الوطني ووثيقة الاستقلال، ثم الانتفاضة الشعبية الأولى 1987 / 1988، ثم استخدام هذه الانتفاضة لمصلحة القيادة المتنفذة في م.ت.ف وصولاً إلى مؤتمر مدريد 1990 ثم مفاوضات واشنطن ثم أوسلو 1993 واعتراف م.ت.ف بإسرائيل، وقيام السلطة الفلسطينية 1994، وتفاقم الفساد الاقتصادي والهبوط السياسي والصراعات الداخلية والفلتان الأمني  حتى الانقسام بين فتح وحماس أو قطاع غزة والضفة في حزيران 2007،، مع استمرار المفاوضات العبثية لدى فريق السلطة، والحديث عن السلام الاقتصادي كمدخل للدولة الفلسطينية، ما يعني وصول العملية السياسية الفلسطينية بما في ذلك الدولة المستقلة كاملة السيادة إلى طريق مسدود، ليس فقط بسبب العوامل الداخلية الفلسطينية، بل والأهم بسبب موقف الحركة الصهيونية ضد إقامة دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة، وقد نجحت في ذلك ارتباطاً بارتهان قيادة م.ت.ف بعد اعترافها بدولة إسرائيل وارتهان النظام العربي وخضوعه للتحالف الإمبريالي الصهيوني.
 وفي مثل هذه الظروف أصبحت السلطة في رام الله عنواناً للتطبيع السياسي مع الدولة الصهيونية، ساعد في ذلك بروز العديد من المنظمات غير الحكومية NGO S التي تجددت وظيفتها في الحديث عن السلام الموهوم وعبر خطابات تبريرية انتهازية مدفوعة الأجر من بلدان النظام الرأسمالي التي شجعت هذه المنظمات ومولتها، لكي تستخدمها وسيلة لتخفيف بشاعة ممارسات التحالف الإمبريالي الصهيوني ضد شعبنا الفلسطيني وكل شعوبنا العربية، وأخيراً جاء الانقسام بحركة حماس والإخوان المسلمين، لإضفاء الطابع الديني على الصراع مع الصهاينة، عبر هوية دينية تفتيتية لن تستطيع الإسهام في استعادة وحدة الشعب الفلسطيني، إذ أن هذه الوحدة مرهونة باستعادة الهوية الوطنية في ارتباطها بالهوية القومية، أي أن يتم إعادة بناء م.ت.ف وفق أسس ميثاقها القومي الأول 1964، خاصة وأن هذه المنظمة باتت اليوم عاجزة عن إحياء الهوية الوطنية، بعد أن أصبحت العنوان الأبرز لتفكيكها وفصمها عن بعدها القومي، إلى جانب تفكيك أواصر العلاقة بين الداخل والخارج بعد أن كانت هي العنوان الجامع.
إن إعادة التمسك بالأهداف الوطنية التاريخية بديلاً لتنازلات أوسلو، والنضال من أجل إعادة بناء م.ت.ف وفق رؤية استراتيجية للتحرر الوطني والقومي، هي مهمة عاجلة ورئيسية تقع على عاتق كافة القوى الوطنية الديمقراطية عموماً واليسارية خصوصاً، انطلاقاَ من اعتبارنا للوحدة العربية ضرورة تاريخية، لكننا ندرك أن من المستحيل إنجازها دون تغيير أنظمة التبعية ومن ثم الخروج الشامل من الرأسمالية، أي بمعنى الخروج من المنظومة الرأسمالية المعولمة من جانب، واستبدال العلاقات الاجتماعية الرأسمالية المشوهة السائدة في بلادنا بعلاقات ذات طابع اشتراكي في إدارة المجتمع برؤية قومية وحدوية تحررية ديمقراطية، تستند إلى التناقض والصراع التناحري مع دولة العدو الصهيوني واقتلاعه من بلادنا، وذلك لأن البورجوازيات العربية ذات الطابع الكومبرادوري بالضرورة لن تفلح في تطوير رأسمالية كاملة، وبالتالي لن تنجز مهام المرحلة القومية. ولذلك على الطبقات الشعبية إنجاز هذه الأهداف التي لا يمكن الفصل بينها، وهي الخروج من الرأسمالية وتحقيق الوحدة العربية، عبر الحركة الشعبية المعادية للرأسمالية وربيبتها الحركة الصهيونية، انطلاقا من أن هذا النضال – الشعبي والكفاحي -يراكم كافة العوامل التي تضمن سيرورة الهوية الوطني الفلسطينية في بعدها العربي من ناحية، بمثل ما يجسد أيضا تحديا حقيقيا للوجود الاستعماري الاستيطاني الصهيوني.
في هذا الجانب أشير بوضوح إلى المحاولات الدؤوبة للعدو الصهيوني التي تتبنى منطق إبادة الوجود الديمغرافي لشعبنا الفلسطيني بكل أبعاده الاجتماعية  والاقتصادية  والثقافية، وذلك انطلاقا من أن الوجود الصهيوني في بلادنا هو في جوهره وحقيقته تجسيد لمفهوم ومنظور الاستعمار الاستيطاني الذي يتبنى منطق الإبادة،  ما يعني أن دوله العدو الصهيوني تتماهى تماماً مع ممارسات الاستعمار الاستيطاني الأمريكي والأسترالي في إبادتهم للسكان الأصليين.  
وهنا لا بد لي من إعادة توثيق التعريف الموضوعي لنموذج الاستعمار الاستيطاني الذي يستند إلى مصادره الأرض تحت شعار "الأرض أولاً والأرض أخيراً" دون اي تفكير بالمغادرة أو الرحيل، فالمستعمر المستوطن يعلن بوقاحة عنصرية أنه جاء ليبقى.
 وبالتالي، فان هذا الاستعمار الاستيطاني لا ينتهي في الزمان أو المكان، فهو استعمار لا رجعة عنه،  لا يمكنه ولا يريد التراجع ولا تغيير طبيعته التوسعية، لأنه استعمار قائم على منطق الإبادة لأهل البلاد الاصليين (بالمعنى المادي والمعنوي والسياسي والثقافي)، وبعد أن تتم الإبادة يتم السطو على هويه أهل البلاد الأصليين في محاولة لطمس هويتهم وتبهيتها، والحرص بقوة الاستبداد والإرهاب والقوانين العنصرية على عدم استخدام أهل البلاد الأصليين لهويتهم في معاملاتهم الرسمية، كما هو الحال مع أبناء شعبنا في الارض المحتلة 1948 واستخدام صفة "العرب" وتفكيك هويتهم إلى هويات درزية وبدوية وطائفية، في محاولة يائسة لا مستقبل لها، تسعى إلى "تثبيت" ما يسمى بهوية "الشعب اليهودي" التي تفتقر بصورة مطلقة لكافة العوامل أو العناصر التاريخية والمجتمعية المكونة لأي أمة من الأمم أو لأي شعب من الشعوب، حيث أن "هوية دولة إسرائيل" المرتبطة بمفهوم "الشعب" أو "الأمة اليهودية" ستظل هوية مزيفة، مضطربة غير قادرة على إثبات وجودها بصورة علمية أو موضوعية أو تاريخية كجزء من نسيج المنطقة العربية، وبالتالي لا يمكن تكريس هذه الهوية إلا بدواعي القوة الإكراهية الغاشمة المستندة إلى دعم القوى الإمبريالية، فإسرائيل ستظل "كياناً غريباً مرفوضاً في المنطقة العربية من ناحية وستظل الحركة الصهيونية عاجزة عن الحديث عن "أمة" يهودية بالمعنى الموضوعي أو العلمي، كما هو الحال بالنسبة للحديث عن "أمة إسلامية أو مسيحية أو بوذية" من ناحية ثانية، ما يعني أن هذه "الدولة" لا تعدو كونها مجتمع عسكري يضم أجناساً متباينة روسية وبولندية وأوكرانية وأوروبية وآسيوية وعربية وأفريقية، كل منها له ثقافته وتراثه المختلف عن الآخر، وجدوا في الفرصة التي أتاحتها الرأسمالية العالمية لهم بالذهاب إلى فلسطين واستيطانها بذريعة "العودة إلى أرض الميعاد" مخرجاً لهم من أزماتهم أو مدخلاً لتحقيق مصالحهم، إذ انه بدون تشجيع ودعم رأس المال الأوروبي عموماً والبريطاني خصوصاً لما كان من الممكن أن تتقدم الحركة الصهيونية خطوة واحدة إلى الأمام، ما يؤكد على أن التقدم الاقتصادي والعسكري الذي أحرزته دولة العدو الإسرائيلي لم يكن ممكناً دون الدعم المتواصل حتى اللحظة من القوى الإمبريالية والبرجوازية في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.
هنا بالضبط، أؤكد بكل ثقة، على أن نجاح الاستعمار الاستيطاني في أمريكا وأستراليا في إبادة أهل البلاد الأصليين، يستحيل تكراره في فلسطين مهما تبدى من استفحال ضخامة قوة العدو الصهيوني بكل أبعادها (العسكرية والتكنولوجية والاقتصادية)، ذلك أن فلسطين ليست معزولة عن محيطها العربي القومي – مهما تبدى من مظاهر الهزيمة والتطبيع والانحطاط الرسمي الراهن -، في مقابل أن دولة الكيان الصهيوني معزولة موضوعيا عن محيطها، إلى جانب كونها قاعدة استعمارية/إمبريالية في بلادنا لا مستقبل لها إلا ضمن استمرار حالة الانحطاط العربي الرسمي الراهنة.
  وبالتالي، فإن الصراع مع العدو الصهيوني الإمبريالي صراع مفتوح لن تختزله لحظات انكفاء عابرة تتجسد راهنا في خضوع واستسلام أنظمة الكمبرادور العربية  للإمبريالية الأمريكية وحليفها الصهيوني من ناحيه، إلى جانب أوضاع الضعف والتفكك التي سادت على الصعيد الفلسطيني سواء على صعيد ممثلنا الشرعي والوحيد م.ت.ف إلى جانب الانقسام الكارثي الذي أدى إلى تفكيك الهوية وتفكيك المجتمع وتفكيك الوطنية الفلسطينية وتفكيك النظام السياسي، وكل هذه المظاهر أدت إلى ذلك التراجع الفلسطيني من خلال تراجع القوى الوطنية الفلسطينية عموما والفصائل اليسارية خصوصا من ناحية ثانية.
ما يعني أن استنهاض قوى حركة التحرر العربية وخروجها من أزماتها صوب استعادة دورها في النضال السياسي والكفاحي والديمقراطي من أجل توفير كل أسس الصمود والمقاومة في فلسطين ومن أجل تجاوز أنظمة الاستبداد والتبعية والتخلف وتصفية التحالف البورجوازي الكومبرادوري – البيروقراطي، لتحقيق انتقال مقاليد القيادة إلى "الطبقات" والشرائح الاجتماعية الكادحة الأكثر جذرية القادرة وحدها على توفير عناصر ومقومات القوة الاقتصادية والعسكرية القادرة على هزيمة إسرائيل وإقامة فلسطين الديمقراطية لكل سكانها.
وهذا يعني بوضوح، أن المهمة العاجلة أمام الحركات الوطنية عموما وحركات اليسار الماركسي خصوصا، في فلسطين وكافة بلدان الوطن العربي، أن تعيد النظر في الرؤية الإستراتيجية التحررية الديمقراطية، الوطنية والقومية ببعديها السياسي والمجتمعي، انطلاقاً من إعادة احياء وتجدد الوعي بطبيعة الدولة الصهيونية، ودورها ووظيفتها كمشروع إمبريالي لا يستهدف فلسطين فحسب، بل يستهدف –بنفس الدرجة- ضمان السيطرة الإمبريالية على مقدرات الوطن العربي واحتجاز تطوره، وتكريس تبعية وتخلف وإفقار بلدانه وشعوبه، وهذا يعني أن الصراع مع المشروع الصهيوني هو صراع مع النظام الرأسمالي الإمبريالي من أجل تغيير وتجاوز النظام العربي الكومبرادوري الراهن كمهمة إستراتيجية على طريق النضال من أجل تحقيق أهداف الثورة الوطنية الديمقراطية وتواصله ضد الوجود الأمريكي، وضد الدولة الصهيونية وإزالتها وإقامة فلسطين الديمقراطية لكل سكانها.
 ولذلك لا بد أن نكرس في أوساط كافة القوى الوطنية التقدمية في مغرب ومشرق الوطن العربي، كل الجهود النظرية ومجمل أشكال النضال الكفاحي والسياسي والديمقراطي، من أجل تحقيق هذا الهدف الذي بدون تحقيقه لا يمكن أن تحقق شعوب أمتنا العربية أي تطور سياسي أو اقتصادي أو تنموي أو تكنولوجي أو عسكري من ناحية، ولا يمكن لها أيضاً أن تحقق أي مكانة أو دور في مواجهة تحديات الرأسمالية المعولمة وحليفها الصهيوني.
الهوية القومية العربية والديمقراطية كشرط لها، وكضرورة لتفاعل الهويتين الوطنية والقومية:
نستطيع أن نقول بأن الهوية العربية – كما نفهمها –مجموعة القيم والعناصر والسمات التي تجمعت عبر العيش في مكان وزمان واحد، ورسخت، إلى حد ما، بعد أن تفاعلت فيما بينها، وتفتق عنها شكل أخير وليس نهائي، وهو ما يميز الشعوب العربية التي ما زالت – رغم كل الأزمات والهزائم الراهنة- تشعر بهذا الانتماء القومي، وإن بدرجات متفاوتة، وتنتظر لحظة تبلوره من جديد.
نقول هذا لأننا نعتبر أن الوعي ومن ثم الالتزام بالهوية القومية، هو أولاً وعي والتزام بهويتنا الوطنية، وهو أيضاً موقف معاصر يرتبط بوجودنا وخياراتنا، ومصالحنا الآنية والمستقبلية، يرتبط برغبتنا في تجاوز التخلف صوب التحرر والاستقلال وبلوغ النهضة والتقدم في مجتمع ديمقراطي، ذلك إن الهوية القومية – في اللحظة الراهنة والمستقبل -  لا تتأكد ولا تتعمق إلا في مناخ ديمقراطي، فالديمقراطية هي الأساس لتفتح الهوية، رغم إدراكنا بموقف الجماهير الشعبية الفقيرة التي ظلت قادرة دوماً وفي كل ظروف القهر على التمسك العفوي، بعناصر ثابتة لهويتها، دون التأثر بالأزمة أو الأزمات التي تعرضت لها طوال التاريخ الحديث والمعاصر، ذلك هو صمام الأمان لهويتنا الوطنية الراسخة والمتحركة في خزان الوعي العفوي لشعوبنا، لكن ذلك لا يعني على الإطلاق تجاوز الديمقراطية كضرورة لضمان صيرورة وتوحد الهويتين الوطنية والقومية، كما لا يعني تجاوز دور الوعي الطليعي الذي تجسده الثقافة الوطنية كرافد أساس في تغذية الوعي الشعبي من ناحية، وكرافد رئيسي في تعميق الهوية واثبات مقدرتها على صد التحدي الخارجي من ناحية ثانية، ففي هذه العملية يكون الصراع التحرري هو المهد النموذجي الذي تتكون فيه الثقافة الوطنية أو ثقافة الوحدة والهوية الوطنيتين –كما يقول فيصل دراج- عبر القصة والراوية والشعر والفنون والأجناس الكتابية الأخرى، إلى جانب جملة الوقائع العملية والنظرية التي تغذي الصراع التحرري وتؤمن عوامل النصر والتقدم والانتشار والتمدد في عمقه العربي المحيط، فبالنسبة للهوية الثقافية الفلسطينية، لا يمكن الحديث عنها –كما يضيف فيصل دراج- إلا كوجه متميز من وجوه الهوية الثقافية العربية، كما لا يمكن الحديث عن الهوية الثقافية العربية إلا كجملة وجوه مختلفة ومتكاملة تحتضن في داخلها الهوية الثقافية الفلسطينية، أو أي هوية ثقافية وطنية أخرى.
الانتماء القومي وإشكالية الهوية: إعادة التوازن
طرح سؤال الهوية، في التاريخ العربي الحديث والمعاصر، ولا يزال يطرح بصيغتين متباينتين، إحدى هاتين الصيغتين كانت محور الخطاب النهضوي العقلاني المتجه إلى المستقبل، والثانية كانت وما تزال محور الأيديولوجيا المهزومة ومنطقها التقليدي، وهي أيديولوجيا التسويغ والتبرير واللوذ بالماضي والدفاع الوهمي عن الذات. فالوظيفة الحضارية للهوية، هي التوحيد المعنوي والروحي والعقلي، ودورنا هو العمل على تقوية وتنمية هذه الوظيفة الحضارية، حتى تتحول هذه الثروة إلى قدرات فعلية ومؤسسية في سبيل التطوير والتقدم. إن الهوية ليست واقعاً مجتمعياً ناجزاً، وإنما هي قيم الأمة الجوهرية التي يتجدد فهمها بفعل الإنسان وفهمه وإدراكه وديناميته، وقدرته على تحدي مشكلات عصره. والإنسان هو الذي يحدد دور الهوية في واقعه المعاصر، فتقاعسه وترهله وكسله لا يحوّل الهوية إلى بديل عنه، وإنما تجعله يفسر قيم الهوية تفسيراً تبريرياً. من جهة أخرى فإن الهوية لا تتأكد ولا تتعمق إلا في مناخ ديمقراطي، فالديمقراطية هي الأساس لتفتح الهوية، وبناء المؤسسات والمواطن الحر والمدرك لمسؤولياته.
ومن الواضح أننا لا نتحدث عن القومية بمعناها العرقي بل بوصفها حقيقة اجتماعية - سياسية تاريخية، ولا بد هنا من الإشارة بوضوح إلى أن الانتماء الديني والمذهبي ليسا من باب الانتماء السياسي، بل من باب الانتماء الفكري والثقافي، الانتماء الروحي ولا يقلل ذلك من شأن الدين أو المذهب الديني.
ومن المسائل الهامة المتعلقة بإشكالية الهوية أيضاً المسألة الاجتماعية مسألة الملكية أو توزع عوامل الإنتاج بين الفئات والطبقات الاجتماعية وبين الأفراد، وحصة كل منها من الناتج المحلي والدخل القومي وطابع العلاقات الاجتماعية وعلاقة الإنتاج ومستوى تطور القوى المنتجة وصراع الطبقات... ومسـألة السلطة السياسية ومفهوم المعارضة، ذلك لأن وعي الذات هو الذي يحدد موقف الجماعة أمة أو طبقة أو حزباً.. من المجتمع ومن السلطة ويحدد موقفها من الآخر ورؤيتها للمعارضة.
وإذا كان سؤال الهوية ما يزال مطروحاَ بهذه القوة ومحملاَ بمرارة الهزائم المتلاحقة، فلأن   الإنسان لم يمتلك ذاته بطريقة عملية ملموسة تتجسد سياسياَ في نظام أخلاقي مُعاش على أرض الواقع وفي نظام اقتصادي يتوفر على العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص، فالقهر والاستلاب ينموان طرداَ مع تركز الثروة والسلطة، ولا سيما في البلدان التابعة والمتأخرة، حيث لا تعاني فحسب من الاستغلال الرأسمالي، بل من الإمبريالية واستطالاتها العنصرية والصهيونية والرجعية بصورة أساسية، وهنا تتجلى أهمية الوعي والالتزام في الممارسة بقضايا ومفاهيم الحرية والديمقراطية وتكافؤ الفرص وسيادة القانون العادل.
إن الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية بآفاقها الاشتراكية إلى جانب دولة الحق والقانون العادل، وقهر التأخر وكسر حلقة التبعية وتحقيق الاندماج القومي والاجتماعي ووحدة الأمة، من أهم مفردات الإشكالية النهضوية الحديثة التي ينبغي أن تتموضع فيها مسألة الهوية بوجه عام والهوية القومية بوجه خاص.
إن مفهوم الحرية يكشف بجلاء عن جدلية التماثل والاختلاف والوحدة والتعدد، فنحن مثلاً متماثلون في الكون البشري والماهية الإنسانية، ومتماثلون في انتمائنا إلى الأمة العربية وإلى وطننا الصغير: فلسطين، لكن الانتماء القومي هو الانتماء السياسي الأعلى والأرقى والأحدث والأقرب إلى مفهوم السياسة والدولة الحديثتين.
وإذا كانت الأمة تتجسد واقعياً وعيانياً في المجتمع المدني، -وهو مفهوم غير متبلور في بلادنا العربية - فإن القومية تتجسد واقعياً وعيانياً في المجال السياسي الذي ينشئه هذا المجتمع المدني (ومعلوم أنه ليس ثمة مجتمع مدني بدون مقولة الأمة، ومقولة الشعب، وحرية الفرد وحقوق الإنسان والمواطن ومقولة الوطن وصراع الطبقات واستقلال النقابات والاتحادات والجمعيات والمؤسسات الأيديولوجية، من خلال ممارسة حق المعارضة المساوي لحق السلطة). لذلك كانت المسألة القومية، مسألة الهوية ووعي الذات، واحدة من أهم مسائل هذه المرحلة، ففي هذه البؤرة تحديداً تتولد إشكالية الهوية وعقدة الهوية في آن واحد.
فعندما تنغلق الأمة على ذاتها وتفتقر إلى رؤية ووعي تاريخي لحاضرها ومستقبلها، وتضمر في ثقافتها وممارستها العناصر الإنسانية والعقلانية، فإنها لا تنتج إلا مزيداً من الخضوع والاستبداد في مجتمع متأخر، تابع ومستباح توقف تاريخه الداخلي وتعطلت فيه آليات الانتظام تنتعش فيه البنى والعلاقات ما قبل القومية بما يؤدي الى ذبول المجتمع وضمور روح الأمة، ويكون الاستبداد لحمة الحياة السياسية.
وعندما تتكيف الأمة مع الانتهاك الاستعماري وشروط الهيمنة الإمبريالية ومع الصهيونية والعنصرية والرجعية ومع واقع التأخر والاستبداد، ونتغنى مع ذلك بالخصوصية والأصالة، تكون الهوية ارتكاساً قبيحاً وتعويضاً لا معنى لـه عن الذل والامتهان والفرقة والتشتت والضعف، ونكون إزاء عقدة الهوية فهويتنا ليست ما كنا عليه ذات يوم فقط، بل ما نحن عليه اليوم وما نريد أن نكونه في المستقبل.
الأزمة الراهنة للمشروع النهضوي القومي العربي: الانطلاق صوب المستقبل
بين الخطاب القومي والخطاب النهضوي صلة قرابة مؤكدة: ينتمي الأول إلى الثاني؛ إنه منه "الجوهر" الذي يمنح النهضة قابلية الصيرورة مشروعا ممكنا، ذلك إن كل تفكير في مشروع نهضوي بمنأى عن مطلب التوحيد القومي هو – كما يقول عبد الإله بلقزيز - ضرب من الطوبى[25]، إذ الدولة القطرية الصغرى (= دولة التجزئة) أعجز من أن تحمل في جوفها -الجغرافي والبشري- الصغير إمكانية حقيقية للتطور الديمقراطي، وللتنمية، والأمن "القومي"، والتحول الاشتراكي، وسواها من الأهداف النهضوية. إن النهضة ممتنعة -عربيا- في بلد (= قطر) واحد.
إن المشهد العربي المهزوم والمأزوم الراهن، يوحي بأن المطلوب قد تحقق، وأن الإمبريالية الأمريكية وصنيعتها وحليفتها الحركة الصهيونية و”إسرائيل”، قد نجحتا في نزع إرادة الأمة العربية.
لكننا ندرك بأن المشهد الراهن - على سوداويته- لا يعبر عن الحقائق الموضوعية لهذه الأمة، في مسارها وتطور حركة جماهيرها الشعبية وتطلعها نحو التحرر والديمقراطية والتقدم والعدالة الاجتماعية، لأن هذه الحقائق في تكاملها وترابطها تمثل المشهد الآخر - النقيض- الذي يقول أن المطلوب أمريكياً و”إسرائيلياً” لم ولن يمتلك صفة الديمومة والاستمرار، لأنه لن يستطيع - مهما تبدت مظاهر الخلل في موازين القوة الراهنة- ترويض وإخضاع شعوب هذه الأمة التي صنعت ماضي وحاضر هذه المنطقة، وليست جسماً غريباً طارئاً فيها.
وبالتالي فإن الخطوات الأولى المطلوبة على صعيد مواجهة مظاهر الخلل وتجاوزها تكمن في بلورة الرؤية الواضحة الحاملة للبرنامج السياسي الاقتصادي الاجتماعي النقيض للرؤية الأمريكية/الصهيونية من جهة وللتجزئة والتخلف والتبعية والخضوع وأدواتها وشرائحها الداخلية المهيمنة من جهة ثانية، وفي ضوء ذلك، فإن شرط الحديث عن الوحدة العربية أو إعادة تفعيل وتجديد المشروع النهضوي القومي للخروج من هذا المشهد أو المأزق الخانق، هو الانطلاق بداية من رؤية ثورية واقعية جديدة لحركة التحرر القومي باعتبارها ضرورة تاريخية تقتضيها تناقضات المجتمع العربي الحديث وضرورات تطوره المستقبلي من جهة، وبوصفها نقيض الواقع القائم من جهة أخرى
أما المسألة الثانية، التي لا تنفصم عن الأولى، بل ترتبط بها ارتباطاً جدلياً فهي تتلخص في إعادة تفعيل مشروع النهضة القومية الوحدوية العربية بأفقها التقدمي الديمقراطي، كفكرة مركزية توحيدية في الواقع الشعبي العربي، ونقلها من حالة السكون أو الجمود الراهنة الى حالة الحركة والحياة والتجدد.
إن إشكالية الأزمة الراهنة تتجلى في أن الأوضاع والضغوط الداخلية العربية تشكل العامل الرئيسي الأول في نجاح أو فشل الضغوط الخارجية، فمن غير الممكن تحليل الأوضاع السياسية العربية، ومسارها، بمعزل عن مسار التطور الاقتصادي الاجتماعي الداخلي باعتباره الركيزة الأولى والمدخل الفسيح لخضوع النظام العربي وتبعيته للمراكز الرأسمالية وضغوطاتها الخارجية، إذ أن التراكمات البطيئة والمتسارعة في الواقع الاقتصادي الاجتماعي السياسي العربي، وتحولاتها خلال العقود الأخيرة عبر سيطرة القوى الرأسمالية، الطفيلية والتجارية، والعقارية، على مجمل البنية الاجتماعية والسياسية العربية، أدت إلى تراكم واتساع التناقضات الداخلية مع الجماهير الشعبية من جهة، وإلى تطابق مصالح البنية الطبقية العليا الداخلية الحاكمة، مع مصالح وشروط المراكز الرأسمالية الخارجية أو العولمة من جهة أخرى.
هذا هو جوهر الإشكالية أو الأزمة السياسية في النظام العربي الراهن، ببعديهما التحرري على الصعيد الوطني والقومي، والديمقراطي الاجتماعي الاقتصادي المطلبي على الصعيد الداخلي، اللذين لا يمكن تحققهما بدون توفر النظام السياسي المعبر عن ارادات وتطلعات ومصالح الجماهير الشعبية ويقوم على خدمتها.
وبالتالي لن يكون في وسع أية قراءة لأسباب نكسة الفكرة القومية، والمشروع القومي، أن تستقيم وتستكمل نصاب الموضوعية فيها إلا إذا هي أخذت بفرضية الدور المؤثر للعامل الخارجي (الاستعماري، والإمبريالي، والصهيوني) في وأد اندفاعاتهما وإلحاق الهزيمة بهما. ولا ينتمي مثل هذا التفسير إلى فكرة المؤامرة وما يفرضه التوسل بها -عادة- من تعليق إخفاقاتنا على شماعة العدو الخارجي، بل هو يستند إلى سوابق من التاريخ قام عليها دليل القول بدور العامل الخارجي ذاك في إلحاق التدمير بعملية النهضة. يكفي المرء أن يتذكر أن مشروع محمد علي وإبراهيم باشا لم يسقط من الداخل، وأن المشروع النهضوي الناصري انتكس بضربة حزيران 67 الموجعة لا بتناقضاته الداخلية، وأن العراق الذي حاول السير على خطى مصر الناصرية انفجر بعدوان خارجي مدمر، وكذلك الأمر بالنسبة للحروب الأهلية، والصراعات الدموية في لبنان وفلسطين والسودان واليمن والصومال والعراق، لم تكن -دائما وفقط- بتأثير تناقضات البنى الداخلية، بل ساهم في اشتعالها المقرر الخارجي الأمريكي والصهيوني.
ومع ذلك، وبالرغم من إقرارنا بما لهذا العامل الخارجي من عظيم الأثر في إدامة مشروع النهضة معلقا ومعاقا، تهمنا مطالعة الأسباب والعوامل الذاتية الداخلية في المقام الأول، لاعتقادنا النظري بأن فاعلية ما للعوامل الخارجية لن تظفر ببلوغ مقاصدها، مهما عظمت واشتدت وطأتها، إلا متى تهيأت لها الأسباب والمقدمات في الداخل نفسه.
وإننا إذ نختار التركيز على دور العامل الذاتي في إعاقة المشروع القومي النهضوي، نختار تناوله سريعا من مدخلين اثنين: نظري وسياسي كما آوردهما عبد الإله بلقزيز [26]:
1 - في الخصاص النظري:
من اللمع اللينينية المأثورة القول بأن "لا ممارسة أو الحركة ثورية بدون نظرية ثورية". يصدق ذلك تماماً على الحركة القومية ومشروعها النهضوي: لا سبيل إلى تحقيق مشروع قومي دون نظرية قومية، أو -للدقة- دون نظرية في القومية، والمثقفون القوميون -للأمانة- أنجزوا الكثير من المكتسبات النظرية التي تغذت بها الممارسة واسترشدت على امتداد ثلاثة أجيال. لكنهم لم يتقدموا كثيرا في صوغ إجابات نظرية متماسكة عن أسئلة فرضها السير في مشروع سياسي هو المشروع القومي، وفي مقدم تلك الأسئلة سؤال الكيان القومي ذاته!
غير أن معظم ما أنتجه هؤلاء -وغيرهم- نظريا انصرف إلى مجال النظرية الاجتماعية-الثقافية، وإلى التاريخ والتاريخ المقارن، ولم يحتفل كثيرا بميدان النظرية السياسية على الرغم من أنها هي مدماك أي مشروع قومي! لقد أنتج القوميون العرب نظرية الأمة، لكنهم لم ينتجوا نظرية في الدولة القومية.
نملك من الأمثلة ما يفيض عن حاجتنا من الاستدلال: يريد القوميون دولة قومية (بقطع النظر عن طبيعتها: اندماجية، اتحادية،…الخ)، ولكن، ما موقفهم من طبيعة النظام السياسي فيها، من الديمقراطية والعلمانية والاشتراكية وفصل الدين عن الدولة، من المجتمع المدني، من الأقليات الأقوامية؟ ما القوى التي يرشحها مركزها الاجتماعي لحمل مشروع التوحيد القومي؟ ما العلاقة بين الدولة والمؤسسة الدينية في دولة الوحدة؟ ما الموقف من الثروة القومية؟ وكيف -وعلى أي نحو- يجري توزيعها؟ وسوى ذلك من الأسئلة التي لا نعثر على إجابات شافية عنها في الخطاب القومي.
2 - في مزالق السياسة:
كان لا بد للفكرة القومية من أن تتحول إلى حركة سياسية حتى يكون في وسع المشروع القومي النهضوي أن يجد ترجمة مادية. بيد أن المفارقة كانت في أن تسييس تلك الفكرة، على نحو مبكر وقبل أن يستوي عودها النظري، عاد عليها بنتائج عكسية، إذ أنتج عوائق جديدة أمام تنمية وعي نظري بالمسألة القومية، بل دفع الخطاب القومي دفعا إلى مغادرة موقعه الفكري الإبداعي والصيرورة خطاباً إيديولوجياً تبريرياً، ومنصرفاً إلى التماس الشرعية لها أيا تكون طبيعتها! وهذا في أساس تعطل حاسة الإبداع فيه.
والحق أن المنزع التسييسي، الذي نقل الفكرة القومية من محيط الشعب والمجتمع المدني إلى صفة الحزب القومي، هو نفسه الذي سينقلها لاحقاً من الحزب ذاته إلى المؤسسة العسكرية التي ستصبح "ناطقاً رسمياً" باسمها بعد حيازتها السلطة.
لم تكن الحصيلة كلها هكذا بهذه الدرجة من السوداوية، كانت ثمة مكتسبات كبيرة في الفكر كما في الممارسة (تجربة عبد الناصر)، مثلما قدمت الحركة القومية مساهمة خلاقة في المعركة الوطنية والاجتماعية، غير أنها لم تكن في سائر أوضاعها بحجم المهمات المطلوبة، ولا هي أشبعت حاجات ملحة ضاغطة.
واليوم، لم يعد ثمة من محيد عن إعادة النظر الشاملة في مجمل المعمار الفكري والسياسي القومي لتأهيله مجدداً لحمل مشروع نهضوي لا يمكن إلا أن يكون قومياً -ديمقراطياً- اشتراكياً أو لا يكون، وفي هذا السياق، فإننا نعيب على التيارات والقوى القومية –في المرحلة السابقة- إغفالها للعلاقة التي تربط النضال من أجل إنجاز الوحدة العربية بالصراع الطبقي، فإننا نؤكد على أن انجاز الوحدة العربية –في هذه المرحلة- أمر مستحيل بدون الخروج من الرأسمالية بمعناها الشامل، واستبدال علاقات اجتماعية رأسمالية الطابع بعلاقات ذات طابع اشتراكي في إدارة المجتمع المحلي من الجانب الآخر.
والسؤال هنا: كيف يمكن للعرب أن يبحروا في خضم المجتمع العالمي الزاخر بالتغيرات؟
 المجتمعات العربية شأنها شأن المجتمعات الأخرى التي تسير في ركاب العولمة الرأسمالية ذات الطابع الاستعماري لا بد لها أن تطرح بديلها التنموي الاشتراكي في مواجهة الكومبرادورية المحلي رأسمالية العولمة، لتحديات ومشاكل الإنماء والتطور الاجتماعي، وتلك هي مهمة القوى اليسارية الماركسية منطلقاتها القومية الوحدوية.
 هذا هو التحدي الحقيقي الذي يواجه الحركات اليسارية القومية العربية من أجل تحقيق سيطرة شعوبنا على الثروات والموارد الطبيعية التي تمتلكها، وإعطاء الأولوية لها في تحقيق مبادئ وآليات التفسير الذاتي والاعتماد الجماعي العربي على الذات لكي تصب في خدمة الوحدة العربية، كهدف استراتيجي لابد له ان يندرج ضمن الأولويات الأساسية الكبرى.
في أجندة العمل السياسي لجميع القوى السياسية اليسارية العربية، لكن تحقيق هذا الهدف يتطلب تغيرات اجتماعية كبرى داخل كل المجتمعات العربية القطرية، وإحلاله محل التحالف الاجتماعي البرجوازي الكمبرادوري والبيروقراطي الرث السائد، ولن يتحقق إنجاز الوحدة العربية بدون هذا التغيير.
في ضوء ما تقدم، فإن شرط الحديث عن الوحدة العربية أو إعادة تفعيل وتجديد المشروع النهضوي القومي للخروج من هذا المشهد أو المأزق الخانق، هو الانطلاق بداية من رؤية ثورية واقعية جديدة لحركة التحرر القومي باعتبارها ضرورة تاريخية تقتضيها تناقضات المجتمع العربي الحديث من جهة، وبوصفها نقيض الواقع القائم من جهة أخرى، على أن هذه الرؤية لكي تستطيع ممارسة دورها الحركي النقيض، والقيام بوظيفتها ومهماتها التاريخية فلا بد لها من امتلاك الوعي بالمحددات أو المفاهيم الجوهرية الأساسية التالية:
1. أن تكون رؤية وحدوية تسعى إلى إلغاء نظام التجزئة الذي فرضته الإمبريالية، وتعمل على توحيد الجماهير العربية بما يخلق منها قوة قادرة على الفعل التاريخي على الصعيد العربي والإنساني العام.
2. أن تسعى إلى استيعاب السمات الأساسية لثقافة التنوير والحداثة، وما تضمنته من عقلانية علمية وروح نقدية إبداعية واستكشافية متواصلة في فضاء واسع من الحرية والديمقراطية، وما يعنيه ذلك من إدراك الدور التاريخي للذات العربية وسعيها إلى الحركة والتغيير والتقدم.
3. أن تعتمد الأيديولوجية الاشتراكية بمضمونها ومنهجها العلمي ووعيها وإدراكها، كركيزة أساسية وقاعدة ومنطلقاً للرؤية القومية العربية الجديدة، بشرط تطوير هذا الوعي وتطبيقه على واقعنا بصورة معاصرة ومتجددة، بما يؤدي إلى وضوح العلاقة الجدلية بين خصائص ومكونات واقعنا العربي بكل تفاصيله من جهة، وقوانين ومنهجية الاشتراكية العلمية، كمرشد ودليل في عملية تغيير هذا الواقع وتجاوزه من جهة أخرى. إذ أن هذه العلاقة تمثل الشرط الوحيد لإعادة استنهاض حركة التحرر القومي العربي في زمن الصراع المعولم الذي نعيشه الآن، ذلك أن عملية التحرر القومي كضرورة تاريخية لمجابهة تناقضات المجتمع العربي الحديث، لا يمكن تحققها أو ممارسة دورها كنقيض للواقع القائم، بدون الاشتراكية و برنامجها السياسي الاجتماعي و الاقتصادي، كضرورة تاريخية أيضاً لعملية التحرر القومي ذاتها، إذ أن جوهر تناقضاتنا الرئيسة مع الحركة الصهيونية و قوى العولمة الإمبريالية وتوابعها المحلية يقوم على الصراع على استرداد الأرض والموارد والثروات المادية والبشرية العربية لإلغاء حالة النهب و الاستلاب والارتهان والاستغلال التي تعيشها شعوبنا العربية اليوم، وبالتالي فإننا نؤكد أن حل هذا الصراع لتحرير الأرض والثروات والموارد العربية لا يمكن تحقيقه بدون إنضاج الوعي الاشتراكي وبرامجه التطبيقية الكفيلة بتغيير بنية العلاقات الإنتاجية والاجتماعية التابعة والمتخلفة والمشوهة الحالية، إلى بنية إنتاجية تنموية حضارية شاملة تضمن توليد علاقات اجتماعية ذات طابع جماعي تعاوني، يؤكد في جوهره على حق جماهيرنا الشعبية في ملكية هذه الثروات والموارد عبر مؤسساتها الديمقراطية التي ترى في الحوافز الفردية والدافعية الذاتية شرطاً للإبداع والبناء وضمانة للتطور المتجدد والاستمرار.   
إن هذه العلاقة الثنائية الجدلية بين الرؤية القومية والماركسية ومنهجها، وتطابقهما معاً في النظرية والممارسة بأدوات أو آليات تنسجم مع روح هذا العصر ومتطلباته، هي الصيغة أو المنظومة الفكرية التي نعتقد أنها تشكل المدخل النظري الذي ندعو إلى الحوار العميق فيه من أجل بلورة أسسه وآلياته الفكرية أو المعرفية تمهيداً للوصول إلى آلياته الحركية، أو مقوماته وأدواته التغييرية الديمقراطية المنظمة، بصورة عصرية تتوافق مع طبيعة التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، التي نتطلع إليها، في سياق نضالنا من أجل التحرر القومي والتقدم الاجتماعي ومواجهة تحديات العولمة والمشروع الصهيوني واشتراطاتهما المذلة. إذ لا يعقل أن نستمر في التعامل مع الفكرة القومية من منطلق أزليتها أو خلودها، وهي ليست كذلك، أو الركون إلى مكوناتها الأساسية، اللغة، والجغرافيا أو الأرض، والتاريخ والثقافة والتراث. فبالرغم من أهمية هذه العوامل كمنطلقات أولية وأساسية للفكر القومي العربي، إلا أنها تظل عاجزة وحدها عن التفاعل أو التكيف الإيجابي مع المتغيرات الإقليمية والعالمية المعاصرة نظراً لتعدد خصوصياتها القطرية وألوانها رغم تشابكها في لوحة تاريخية وجغرافية متصلة، مما يجعلها –وفي الظروف الراهنة بالذات- فاقدة بآلياتها الذاتية المجردة، القدرة على إنتاج الوعي القومي الاستنهاضي، أو الفكرة التوحيدية الناظمة للجماهير الشعبية والمعبرة عن مصالحها، ومن هنا تتجلى الأهمية و الضرورة معاً للمحتوى الاقتصادي الاجتماعي التقدمي القادر على إنتاج الآليات النقيضة التي يمكن أن تتجاوز هذا الواقع المجزأ، التابع، المتخلف، المشوه من جهة، وادواته المتعددة القبلية، الكومبرادورية، والطفيلية، والبيروقراطية الأحادية المستبدة، من جهة أخرى.
إن هذه الحالة من السكون الظاهري أو الكمون العربي، في مناخ تترعرع فيه كل عوامل الإحباط، تجعل من الحديث عن المبادرة لإنتاج وبناء منظومة معرفية قومية تقدمية تتناسب مع روح هذا العصر ومقتضياته، ضرورة تاريخية استثنائية ملحة تعمل على نقل الواقع الشعبي العربي من حالة السكون أو الركود الراهنة إلى حالة الحركة والتجدد، يقع عبئ صياغتها وتبنيها وتحمل مسؤولية فعلها وحركتها على عاتق المثقف العربي الديمقراطي  التقدمي الملتزم كخطوة أولية، لإعادة تكريس الوعي القومي بمضامينه وآلياته الحديثة والمعاصرة في التحرر والديمقراطية والعدالة الاجتماعية كأفكار توحيدية للجماهير، تشكل المحتوى الحقيقي للواجهة العربية الخارجية المتمثلة في اللغة والأرض والتاريخ والثقافة، بمثل ما تشكل أيضاً، الأساس المادي للمشروع القومي الديمقراطي في الحاضر والمستقبل، الذي يضمن كسر حلقات التخلف والتبعية والإلحاق والتجزئة، ويختصر الطريق إلى المعرفة العلمية والحداثة من جهة، وصياغة المشروع التنموي الاقتصادي المستند إلى مبدأ الاعتماد الجماعي العربي على الذات الذي يضمن تحقيق مبدأ العدالة الاجتماعية بآفاقها الاشتراكية من جهة أخرى.
إننا ندرك حجم العقبات أو العوامل الموضوعية والذاتية التي تشكل تحدياً حقيقياً في وجه تجدد المشروع القومي العربي، والتي تفاقمت طوال العقود الثلاثة الماضية، التي حملت صوراً من التراجع تخطت كثيراً من الثوابت والحدود والموانع، وما زال رسمها البياني متجهاً في حركته نحو مزيد من التراجع والهبوط حتى اللحظة، لم يصب بالضرر الجوانب السياسية الاجتماعية فحسب، وإنما أصاب أيضاً الأسس الفكرية أو المفاهيم العامة التي ارتبطت تاريخياً بحقيقة الوعي بمفهوم الأمة العربية، ومفهوم الوطن العربي، مما دفع بقسطنطين زريق –أحد أهم رواد الفكر القومي العربي الحديث- إلى الإقرار بهذا التراجع في كتابه "ما العمل" –الصادر عام 1998- بقوله "عليَّ شخصياً أن أعترف أنني كنت في الماضي أتكلم وأكتب عن الأمة العربية، فإذا أنا الآن أتجنب هذه التسمية لبعدها عن الواقع المعيش" و لجأ –حتى وفاته في صيف عام 2000- إلى استخدام تعبير "المجتمع العربي" بدلاً من "الوطن العربي" الذي لم يتطور بعد ليصبح وطناً عربياً لأمة عربية، ولم يكن ذلك موقفاً يائساً من مفكرنا الراحل، بقدر ما كان تعبيراً عن قلقه على مستقبل هذه الأمة، وعن ضرورات خلق عوامل التحدي الدائم لمواجهة كل أشكال حياتها وظروفها المعقدة الراهنة، لتطوير مفهوم القومية العربية وإخراجه من سياقه الرومانسي المألوف أو المتحجر إلى رحاب الواقعية العقلانية الحديثة، فالقومية الحقة –كما يراها قسطنطين زريق- ليست دعوة سياسية فحسب، إنما هي حركة علمانية شاملة لحياة الشعب، تعمل على مواجهة العوامل الرئيسية في أزمة المجتمع العربي حاليا، والتي لخصها فيما يلي:
- غياب الشعوب عن المسرح العربي.
- غياب القضايا الكبرى في المجتمع العربي، وهي الديمقراطية والتنمية والعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص.
- غياب العقلانية والنهج العلمي في فهم المشكلات وحلها.
- غياب القيم الاجتماعية الإيجابية، وانتفاء اعتمادها في السلوك العام والخاص.
- هذه العوامل نتج عنها غياب القدرة –في المجتمع العربي- على التحصن في وجه الانحرافات والمفاسد الداخلية أو في وجه العدوان الخارجي.
لذلك، فإن حديثنا عن الضرورة التاريخية لصياغة منظومة معرفية قومية تقدمية معاصرة، عبر رؤية وممارسة جديدتين، يقع بالدرجة الأولى وفي المراحل الأولى على عاتق المثقف الديمقراطي الثوري العربي، لاعتبارين هامين، أولهما: أن هذا المثقف هو الوحيد القادر من الناحية الموضوعية على وضع الأسس المعرفية النظرية لهذه المنظومة وآفاقها المستقبلية. وثانيهما: أن طبيعة التركيب الاجتماعي/الطبقي المشوه لمجتمعنا العربي، التي تتسم بتعدد الأنماط الاجتماعية القديمة والمستحدثة وتداخلها، كما تتسم بالسيولة وعدم التبلور الطبقي بصورة محددة، والتسارع غير العادي، الطفيلي أو الشاذ أحيانا في عملية الحراك الاجتماعي، إلى جانب وضوح وتعمق تبعية "البورجوازية" العربية للمركز الرأسمالي المعولم، بحيث أصبحت –اليوم- واحدة من أهم أدواته وآلياته في بلادنا، كل ذلك يجعل من المثقف العربي، -بالمعنى الجمعي المنظم- بديلاً مؤقتاً ورافعة في آن واحد للحامل الاجتماعي أو الطبقي، وما يعنيه ذلك من أعباء ومسئوليات، بل وتضحيات في مجرى الصراع لتوليد معالم حركة التحرر العربي ومشروعها النهضوي القومي ونشره في أوساط الجماهير الشعبية العربية كفكرة مركزية أو توحيدية.
ولكن يجدر هنا أن نشير إلى أن التحرر من هيمنة الآخر الثقافية لا يمكن أن يتم إلا بالتحرر من التبعية للماضي ماضينا نحن، والتعامل مع الآخر نقدياً، بالدخول مع ثقافته التي تزداد عالمية في حوار نقدي، وذلك بقراءتها في تاريخيتها وفهم مقولاتها ومفاهيمها في نسبيتها والتعرف على أسس تقدمها والعمل على استنباتها في تربتنا الثقافية، وهي بصفة خاصة مفاهيم الحداثة والعقلانية والتنوير والروح النقدية من منطلق الوعي المسبق بالماركسية ومنهجها الجدلي في تطبيقاتها على واقعنا العربي من أجل التغيير صوب المجتمع الاشتراكي الديمقراطي.
وبالتالي، فإن سؤال الهوية بالصيغة التي تحددت بعض ملامحها في هذا العرض عبر التعريفات التي أوردناها، ليس له من جواب منطقي وتاريخي –فيما يتعلق تحديداً بتبلور الهوية القومية التقدمية - إلا في المجتمع الاشتراكي الديمقراطي العربي الموحد.
لكن هذا الهدف الاستراتيجي (المجتمع العربي الاشتراكي) يفرض على القوى اليسارية العربية، الوعي العميق بالسمات الرئيسة للماركسية التي تميزها عن غيرها من الأنساق النظرية والفلسفية السابقة بأمور ثلاثة:
الأول:- أنها تستمد عناصرها ومعطياتها وبالتالي قوانينها من الدراسة العلمية العينية الملموسة للواقع الاقتصادي والاجتماعي الفكري والصراعي (الطبقي) في فلسطين والوطن العربي والعالم.
الثاني:- هو أنها ليست مجرد نظرية معرفية علمية تستمد هدفها من الدراسة العلمية الموضوعية، وإنما تتضمن كذلك موقفاً موضوعياً كنظرية لتغيير الواقع تغييراً جذرياً، لإقامة واقع مغاير يتخلص فيه الإنسان من الاضطهاد الوطني والطبقي ومن الفقر والقهر والاستغلال، وتتفجر فيه إنسانيته الإبداعية وتتوفر له الحرية الحقيقية.
الثالث:- الممارسة العملية تتم وفق هذه المعرفة، وهي شرط لها، وهي مصدر أساسي في الوقت نفسه لهذه المعرفة.
إلى جانب ذلك فإن الماركسية معنية بثلاث لحظات في ديالكتيك إنتاج الهوية الاجتماعية الطبقية[27]:
v       اللحظة الأولى: هي التعليم والتربية في استخدام المنهج الديالكتيكي المادي في التفسير التاريخي والاجتماعي، وهي تشمل قراءة التراث الماركسي الكلاسيكي قراءة متبصرة ونافذة.
v       اللحظة الثانية: هي إنتاج العلم التاريخي والاجتماعي بالخصوصية القومية، أي إعادة إنتاج النظرية الاجتماعية والتاريخية هنا عندنا نحن العرب في سياق العصر الراهن.
v       اللحظة الثالثة: هي إعادة إنتاج الفكر الماركسي لهويته الطبقية وأشكاله وأدواته، وفي هذه اللحظة تنشغل النظرية بمسألة قضايا التنظيم وبناء الحزب السياسي وفق أشكال مناسبة وفعالة بما تضمنته من بناء تصورات وأيدلوجيا للتغير الاجتماعي التاريخي.
وبالإضافة إلى ما تقدم، لا بد إلى أن نشير هنا إلا أن الوعي بمكونات واقعنا الفلسطيني والعربي الراهن- وتأسيس الفاعلية الإنسانية لأحزاب وفصائل اليسار الماركسي العربي، هو الذي ينتج تحقيق ثورة جذرية عبر دور رئيس للطبقة العاملة وجموع الكادحين والفقراء المضطهدين، وهي ثورة ضرورية وممكنة في وقت واحد، بل لعل إمكانيتها مرتبطة بأساسها الضروري في بلادنا،  المتمثل في ذلك الدور البشع الذي تمارسه الإمبريالية وحليفها الصهيوني الذي يقوم على اغتصاب أرضنا واحتجاز تطورنا واستغلال فائض القيمة لشعوب بلدان وطننا العربي من ناحية، وعلى الملكية الفردية لوسائل الإنتاج في إطار التحالف البيروقراطي الكومبرادوري الطفيلي التابع في بلادنا من ناحية ثانية، وبالتالي فإن مجابهة هذا الواقع والنضال من اجل تغييره مهمة أولى ورئيسية لكل القوى الماركسية في وطننا العربي من أجل تحقيق انتقال جماهيرنا الشعبية من فضاء الضرورة والاستغلال إلى فضاء الحرية والعدالة الاجتماعية والاشتراكية، والانتقال بالتاريخ من ملكوت الضرورة إلى ملكوت الحرية.
إن الاشتراكية والماركسية تبرز اليوم  كضرورة ما تزال تتطلع إليها هذه الأوضاع التي تزداد تردياً في حياة شعوب العالم و شعوب بلادنا العربية عموماً وشعبنا العربي الفلسطيني خصوصاً، الذي يتعرض مشروعه الوطني الديمقراطي في هذه المرحلة لأبشع أشكال العدوان والغطرسة الصهيونية من ناحية، ولأبشع صراع داخلي بين قطبي اللحظة الراهنة، التيار الأصولي أو مشروع نظام الإسلام السياسي وهويته والتيار اليميني المتنفذ في حركة فتح، بحيث بات هذا الصراع وما تلاه من انقسام خطير بين الضفة وقطاع غزة  مدخلاً لمزيد من تراكمات الإحباط واليأس في أوساط واسعة من جماهير شعبنا، ما يفرض على اليسار الماركسي الفلسطيني أن يتحمل مسئولياته والخروج من أزمته الفكرية والتنظيمية صوب ترسيخ وحماية وتعميق هويته الفكرية الماركسية، بما يمكنه من استعادة دوره الطليعي في أوساط الجماهير وقيادتها صوب تحقيق أهدافنا التحررية الوطنية والديمقراطية في فلسطين الديمقراطية كجزء لا يتجزأ من المجتمع العربي الاشتراكي الموحد.
السؤال المركزي الراهن: هل من أفق لمشروع عربي؟
 إن إيماننا بآفاق المستقبل الواعد لشعبنا أو الشعوب العربية كلها –في حسم الصراع العربي الصهيوني بما يحقق أماني ومصالح هذه الأمة، لا يعني أننا نؤمن بحتمية تاريخية يكون للزمان والمكان دوراً رئيسياً وأحادياً فيها، بل يعني تفعيل وإنضاج عوامل وأدوات التغيير الديمقراطية الحديثة والمعاصرة، والبحث عن مبرراتها وأسانيدها الموضوعية الملحة من قلب واقعنا الراهن، الذي لم يعد مجدياً لتغييره، كافة الأدوات والرؤى والسياسات الرسمية الفلسطينية والعربية الهابطة، عبر أنظمة رسمية عربية فقدت وعيها الوطني والقومي، ستقودنا إلى مزيد من التفاوض ومزيد من المصالح والصداقات، وضياع الهدف بعد تغييب الثوابت الوطنية والقومية، التي يكاد أن يصبح أمراً طبيعياً بعدها، أن تتغير الأهداف وجداول الأعمال والمطالب.
في مثل هذا الواقع، تنضح معطيات ومقدمات عملية التغيير، بصورة تراكمية، بطيئة أو متسارعة، وموضوعية أيضاً، ليس بالمعنى الذاتي –على أهميته- لهذا الحزب أو ذاك، وإنما بالمعنى الوطني والقومي العام كآليات أو إرهاصات فكرية تتمحور حول فكرة أو مجموعة أفكار توحيدية تعبر عن تطلعات كل الجماهير الشعبية العربية في التحرر والانعتاق والخلاص من كل أشكال المعاناة والحرمان والظلم الوطني والطبقي.
إننا، حينما نتحدث عن نضوج العوامل الموضوعية، فإننا نعني بذلك، وبصورة مباشرة، هذا المشهد السوداوي الذي تعيشه أمتنا بصورة إكراهية ومؤقتة من جهة، والذي أعاق حركة تطور شعوبنا العربية كلها، وأبقاها أسيرة لأحكام القرن الخامس عشر من جهة أخرى، بعيداً عن المرحلة الجديدة بمتغيراتها الهائلة في القرن الحادي والعشرين الذي نتعاطى معه بمفهوم الوجود في المكان فحسب، وبعيداً عن أي دور أو تفاعل إيجابي ومؤثر لنا في زمانه ومستجداته، رغم أن الإمبريالية المعولمة وأداتها الحركة الصهيونية وإسرائيل في بلادنا تضعنا أمام حالة صراع من نوع جديد يستهدف عبر الخصخصة واقتصاد السوق والليبرالية الجديدة، أو أيديولوجية العولمة، شطب إمكانية تجدد مشروعنا القومي وإبقاءه مفككاً مشتتاً فاقداً لمقومات التحدي والنهوض.
وفي مقابل هذا التراجع الرسمي العربي الذي يقف سداً مانعاً في وجه تطور وتجدد وصعود المشروع الوطني والقومي في بلدان الوطن العربي كله، تتجلى هيمنة العدو الصهيوني بصورة غير مسبوقة، لم يستطع تحقيقها في كل حروبه السابقة مع العرب، إلى جانب عمليات الترويض الأمريكي (الأمر تجاوز الترويض إلى التبعية شبه الكاملة) للنظام الرسمي العربي، في السياسة والاقتصاد والفكر والثقافة التي لم تنجح في تغيير الموازين والمعايير العسكرية والسياسية في الصراع العربي –الصهيوني لصالح إسرائيل فحسب، بل نجحت في تغيير أسس ما يسمى بعملية التفاوض، في الساحة الفلسطينية، إلى الدرجة التي يجري التعامل معها الآن على قاعدة أن يعترف العدو الإسرائيلي بحقوقنا وليس العكس، بمثل ما هو الأمر في عملية التفاوض مع العراق الذي وافق على كافة الاشتراطات الأمريكية لدرجة وصل معها إلى حالة تقترب من الاستسلام أو الهزيمة الفعلية دون طائل، ذلك أن المطلوب أمريكيا، المزيد من الخضوع الذي يجعل أمتنا العربية فاقدة لكل مقومات نهوضها ومستقبلها، خاصة مع التراكمات الراهنة في بنية المجتمع العربي التي ستدفع بالمشهد السياسي الرجعي الكومبرادوري لكي يصبح عنوانا رئيسيا في معظم مساحة الوطن العربي خلال السنوات القليلة المقبلة ، وما يعنيه ذلك من تزايد انحسار الهوية القومية أو المشروع القومي والمشاريع الوطنية عموما، وخاصة في الساحة الفلسطينية، لحساب "الهوية الإسلامية" التي لا يبدو أنها تملك اية مقومات للحياة في الحالة المعاصرة، ما يجعل من امكانية تزايد التبعية والتخلف مظهراً رئيسيا في بلادنا، رغم إقرارنا بالدور النضالي للتيار الديني في فلسطين،  بحيث تصبح سياسات هذه الحركة (حماس) جزءاً مكملاً لسياسات الاعتدال في إطار حركة الإخوان المسلمين عموماً وبالتوافق مع فروع الإخوان في تركيا والعراق والمغرب والأردن ومصر... الخ.
على أي حال، و مع إدراكنا لطبيعة هذه التراجعات في الوضع العربي التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه، لم تكن معزولة أبداً عما جرى و يجري في العلاقات الدولية المعولمة الراهنة، إلا أننا ندرك أيضاً أنه لولا هذه التراجعات العربية التي شكلت قاعدة ومناخاً عاماً عبر أدواتها السياسية وشرائحها الاجتماعية وطبقاتها القديمة الجديدة، لما نجحت العولمة الأمريكية في فرض شروط الاستسلام على بلداننا، ذلك لأن ظاهرة العولمة إلى جانب ما تحمله من مخاطر شديدة وتحديات كبرى، خاصة على بلدان العالم الثالث عموماً والوطن العربي خصوصاً، إلا أن هذه الظاهرة تحمل أيضاً كثيراً من الفرص وحوافز الصحوة والنهوض لمن يمتلكون الإرادة، إذ لا يمكن اختزال العولمة في المخاطر وحدها بعيداً عن فرص النهوض، كما لا يمكن اختزالها في أنها عولمة التحديات، أو عولمة الاستسلام، فكل منهما تمتلك مقوماتها وأدواتها وآلياتها الداخلية. و ذا كان صحيحاً أن العولمة –مهما اشتدت هيمنتها- لا تستطيع بأي حال من الأحوال، شطب هذا التنوع الحضاري والتاريخي والثقافي والسياسي بين الأمم والقوميات، فإن ذلك لا يعني الصمت أو الركون والاطمئنان، لأن الصراع المستمر والحركة الصاعدة في إطاره، يشكلان القاعدة الأساسية التي تحكم العلاقات الدولية اليوم أكبر بما لا يقاس مما كانت عليه في السابق، لذلك فإن عدم دخولنا –كعرب- إلى حلبة الصراع متسلحين بالرؤية أو الهدف القومي الوحدوي، وبالخطط اللازمة لتحقيقه وتوفير مقوماتها وآليات تنفيذها، سيعني مزيداً من التبعية والقهر لشعوبنا، ومزيداً من التراجع لبلداننا على هامش التاريخ أو خارجه لا فرق.
إن هذه الاستنتاجات –على مرارتها- ترتبط باللحظة الراهنة من المشهد العربي الزاخر بالتحديات السياسية والمجتمعية على عاتق القوى التحررية والديمقراطية التقدمية العربية في نضالها من أجل كسر التبعية وفك العلاقة مع التحالف الإمبريالي الصهيوني، وتحقيق النهوض والتقدم والعدالة الاجتماعية والديمقراطية، انطلاقاً من التزام هذه القوى برسالتها ودورها التغييري، بما يؤكد على رفض وتجاوز المشهد المهزوم الراهن الذي يوحي للبعض، أو القلة المهزومة، من أصحاب المصالح الأنانية الضيقة، أن اللحظة الراهنة توحي بأن المطلوب قد تحقق، وأن الإمبريالية الأمريكية وصنيعتها وحليفتها الحركة الصهيونية وإسرائيل، قد نجحتا في نزع إرادة الأمة العربية، ذلك إن وعينا بأن المشهد الراهن –على سوداويته- لا يعبر عن الحقائق الموضوعية التي تؤكد على الضرورة التاريخية لاستنهاض هذه الأمة، في مسارها وتطور حركة جماهيرها الشعبية وتطلعها نحو التحرر والديمقراطية والتقدم والعدالة الاجتماعية، لأن هذه الحقائق في تكاملها وترابطها تمثل المشهد الآخر –النقيض- الذي يقول أن المطلوب أمريكياً وإسرائيلياً لم ولن يمتلك صفة الديمومة والاستمرار، لأنه لن يستطيع –مهما تبدت مظاهر الخلل في موازين القوة الراهنة- ترويض وإخضاع الشعوب العربية، التي صنعت ماضي وحاضر هذه المنطقة، وليست جسماً غريباً طارئاً فيها، ولذلك فإن سكونها الراهن المؤقت هو شكل من أشكال الحركة في داخلها، يقاوم كل محاولات تطويع إرادتها، تمهيداً للمشهد القادم، بعيداً عن السكون، مشهد الجماهير المنظمة، أو مشهد ما بعد الأزمة الراهنة الذي سيعيد لهذه الأمة دورها الأصيل في صياغة مستقبل هذه المنطقة.
في ضوء ما تقدم، فإن شرط الحديث عن الوحدة العربية أو إعادة تفعيل وتجديد المشروع النهضوي القومي للخروج من هذا المشهد أو المأزق الخانق، هو الانطلاق بداية من رؤية ثورية واقعية جديدة لحركة التحرر القومي باعتبارها ضرورة تاريخية تقتضيها تناقضات المجتمع العربي الحديث من جهة، وبوصفها نقيض الواقع القائم من جهة أخرى.
بمعنى آخر نقول، لقد آن الأوان لنقل حركة التحرر الوطني العربية من حالة التراجع إلى حالة الهجوم المضاد، ويستدعي ذلك البدء بتصحيح التعامل مع التناقضات في بلدان الوطن العربي. لقد نجح أعداء القومية العربية بقيادة التحالف الإمبريالي الصهيوني بالاستناد إلى أنظمة التبعية والتخلف في طمس التناقض الرئيسي وتغليب التناقضات الثانوية. وآن الأوان لتغليب التناقض الرئيسي وتجنيب التناقضات الثانوية. آن الأوان للتعامل مع التناقضات على حقيقتها: أن يعود العدو عدواً والصديق صديقاً والشقيق شقيقاً. إن ذلك يعني إعادة طرح كل قضايانا الرئيسية من جديد: قضية فلسطين والصراع مع العدو الصهيوني وإزالة دولته وإقامة فلسطين الديمقراطية، قضية تحرير الاقتصاد العربي، قضية التنمية العربية الشاملة، قضية التحولات الاجتماعية والصراع الطبقي، قضية الحريات الديمقراطية، قضية حقوق الإنسان والمواطن، قضية الشباب والمرأة في الوطن العربي، قضية الثقافة واستعادة الهوية العربية وقضية التكامل الاقتصادي. وكلها قضايا لا تطرح على حقيقتها إلا في إطار التناقض الرئيسي الذي لا بد من ممارسته – بصورة ديمقراطية- بما يؤدي إلى تغيير الأوضاع الراهنة وانهاء كل أشكال التبعية مع النظام الإمبريالي صوب النهوض والتطور الاقتصادي والاجتماعي والتكنولوجي والعسكري على طريق بناء الدولة العربية الديمقراطية الاشتراكية الواحدة. 
على أي حال، إن المسألة لا تكمن في مجرد طرح الغاية والرؤية فحسب، بل في كيفية تحقيق هذه الرؤية، الأمر الذي يستدعي –عبر الحوار المقترح بين القوى الماركسية العربية - تغيير الكثير من الشعارات، والتأسيس لأنماط عمل واستراتيجيات جديدة، وهي على صعوبتها تحتاج إلى وضوح الرؤى المعرفية والسياسية بمنطلقاتها التقدمية، بمثل ما تحتاج إلى أدوات نضالية جديدة، طليعية وجماهيرية،  يؤسسها ويقودها الحزب اليساري الماركسي في كل قطر عربي بما يمكنه من توفير وخلق الظروف المناسبة لتأسيس "كتلة تاريخية" ذات مضمون وطني وقومي ماركسي كنقطة انطلاق صوب التغيير المنشود، تبدأ أنويتها في كل بلد عربي على حدة برؤية تقوم على الالتزام السياسي والتنظيمي والمعرفي والأخلاقي بمصالح وأهداف العمال والفلاحين وكل الفقراء والمضطهدين، لكي تمتد وتتواصل في الإطار القومي العربي كخطوة لاحقة، بحيث تضم هذه الكتلة، كافة المثقفين والمناضلين والديمقراطيين في كافة النقابات والمؤسسات والأطر المجتمعية، يتوحدون جميعاً في نضالهم من أجل التغيير الديمقراطي والسياسي في بلادهم، بما يخدم الهدف الاستراتيجي الكبير المتمثل في استعادة بناء المشروع القومي النهضوي الديمقراطي العربي، بما في ذلك هدف تفكيك وإزالة الدولة الصهيونية وإقامة فلسطين الديمقراطية، عبر المقاومة الشاملة للمشروع الصهيوني بكل الوسائل المتاحة، تشق طريق الثورة الوطنية والقومية التحررية الديمقراطية كطريق ثالث، وبديل حقيقي ينطلق من ثوابت وأهداف الجماهير الشعبية الفقيرة، على المستويين الوطني والقومي، باعتبارها المحدد الرئيسي للقيادة والتنظيم، تمهيداً لتحقيق مبدأ الهيمنة السياسية والثقافية والمجتمعية، ذلك إن نجاح القوى اليسارية الماركسية العربية، بالمعنيين الطبقي والسياسي في أن تصبح قوة مهيمنة، سيمكنها من التجاوز أو الإزاحة السياسية الديمقراطية للتحالف البيروقراطي الكمبرادوري، وأن تصبح أيضا الإطار الذي يمثل ويجسد مصالح العمال والفلاحين والبرجوازية الصغيرة وكل الكادحيـن، في مجتمع عربي ديمقراطي موحد تسوده الحرية والمساواة وتكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية بآفاقها الاشتراكية.
 


[1]   المتأني في مفهوم الهوية يكتشف أنه مفهوم غربي لم تعرفه لغتنا العربية إلا حديثاً. وهذا لا يقلل من شأن ثقافتنا العربية. فالبحث في معاجمنا-كما يؤكد مجدي عبد الحافظ- يشير بما لا يدع مجالاً لأي شك إلى هذه الحقيقة فالمصباح المنير، والقاموس المحيط ولسان العرب تخلو من هذا المصطلح الحديث، إذ لا يعدو الشرح عن أن تكون "الهوية" مستقاة من الفعل "هوى" أي سقط من علِ أو أن يكون معناها البئر البعيدة القعر. ولعل مفهوم الهوية قد تسرب إلى الفكر العربي على الأخص في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع العشرين، لأننا في الحقيقة لا نجده صراحة ضمن المصطلحات المترجمة في هذه الفترة وهي: الحرية، والأمة، والقومية، والمساواة، والوطن، والوطنية، والثورة...الخ. ولعل أول من استخدم مصطلح الهوية هو سلامة موسى نقلاً عن إبراهيم اليازجي.
 [2]  المصدر: المنجد في اللغة والاعلام – دار الشرق – بيروت – 2002 - ط 39 – ص875 .
[3]  رفيف رشيد – الهوية – الحوار المتمدن – الانترنت – 4/5/2006.
[4]  المصطلح مورفولوجيا يشير إلى علم دراسة الشكل والبنية، وعادة دون اعتبار الوظيفة. وخاصة في ما يلي: 1- في البيولوجيا: التشكل (أحياء) دراسة شكل وهيكل والحيوان والنبات.. 2- في الجيولوجيا: التشكل (الارض) دراسة بنية الصخور والإصلاح الزراعى. 3- في اللغويات، التشكل (لغويات) ويسمى أيضا علم الصرف وهو دراسة البنية الداخلية للمورفيما (الكلمات ودلالية التركيب).
[5]  محمد عبد الجابري – سؤال الهوية في العالم العربي – موقع الجابري – الانترنت.
[6]  كلمة د.هشام غصيب أمام المؤتمر السابع للجمعية الفلسطينية الأردنية 23/8/2008.
[7]  المصدر السابق
 
[8]   محمد عابد الجابري – الهوية " الاقوامية" ... ومسألة " العروبة " – جريدة الاتحاد - http://www.alittihad.ae  -  الانترنت
[9]  مصدر سبق ذكره - محمد عابد الجابري – الهوية " الاقوامية" .
[10]  د. نصر حامد أبو زيد – من الحجاب إلى النقاب – الحوار المتمدن – الانترنت – 6/7/2007.
[11]  د.حامد خليل – مشكلة الهوية في الفكر العربي المعاصر – الانترنت – موقع فلاسفة العرب https://www.arabphilosophers.com .
[12]  د.فؤاد مرسي – نظرة ثانية إلى القومية العربية  - كتاب الأهالي رقم 20 – القاهرة – 1989 – ص 65 – 89 .
[13]  المصدر السابق – ص67.
[14]  د.فؤاد مرسي – نظرة ثانية إلى القومية – مصدر سبق ذكره – ص68 .
[15]  المصدر السابق – ص70
[16]  المصدر السابق – ص72.
[17]  المصدر السابق – ص73.
[18]  المصدر السابق – ص77.
[19]  المصدر السابق – ص78.
[20]  المصدر السابق – ص79.
[21]  المصدر السابق – ص80.
[22]  المصدر السابق – ص80.
[23]  المصدر السابق – ص81 .
[24]  د.حليم بركات – المجتمع العربي في القرن العشرين – مركز  دراسات الوحدة العربية – بيروت – يوليو 2000 – ص65 .
[25]  عبد الاله بلقزيز – " عوامل إخفاق المشروع النهضوي القومي العربي" – 6/9/2007 – موقع الفكر القومي العربي – الانترنت.
[26]  عبد الاله بلقزيز – مصدر سبق ذكره.
[27]  نايف سلوم - ديالكتيك إنتاج الهوية الاجتماعية في الفكر الماركسي – الحوار المتمدن – الانترنت – 28/1/2004.



#غازي_الصوراني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المادية التاريخية وأهم مقولاتها :التشكيل الاجتماعي – الاقتصا ...
- 105 أعوام على وعد بلفور ......
- تعليقا وتقييماً لدراسة الرفيق د.وسام الفقعاوي -المقاومة: لما ...
- انعكاسا لادراكنا لطبيعة مرحلة الانحطاط العربي الراهن ، يبرز ...
- شرح تحليلي مختصر لمفهومي الليبرالية والليبرالية الجديدة .... ...
- حول أهمية الفلسفة ودورها في تطور واستنهاض شعوب بلدان مغرب وم ...
- أوهام ومخاطر الحديث عن تبلور مفهوم المجتمع المدني في بلداننا
- تحليل طبقي مكثف للأوضاع الاجتماعية في بلدان الوطن العربي عمو ...
- كلمة للتاريخ عن تراث المفكر العبقري الخالد كارل ماركس وتفاعل ...
- الثورة الوطنية الديمقراطية من منظور ماركسي
- اليسار في بلدان الوطن العربي والموقف من حركات الإسلام السياس ...
- المنظور الماركسي لمفهوم التحرر الوطني وسبل خروج الحركات التق ...
- البعد الثوري المعرفي للمسألة التنظيمية
- لينين والحزب الماركسي
- الفلسفة الماركسية من أجل التنوير والتغيير والثورة على كل أشك ...
- حوار معرفي حول قضايا العولمة والثقافة
- قراءة في الخطاب العربي عن الأزمة والقطب اليساري العربي الثال ...
- حول الحزب الماركسي وأهمية الوعي بالماركسية وقضايا الواقع الم ...
- اجابتي على أسئلة الرفيقات و الرفاق في قناة الحوار المتمدن حو ...
- الثورة الوطنية الديمقراطية وسؤال العلمانية في مشهد الانحطاط ...


المزيد.....




- تهنئة تنسيقيات التيار الديمقراطي العراقي في الخارج بالذكرى 9 ...
- الحرب على الاونروا لا تقل عدوانية عن حرب الابادة التي يتعرض ...
- محكمة تونسية تقضي بإعدام أشخاص أدينوا باغتيال شكري بلعيد
- القذافي يحول -العدم- إلى-جمال عبد الناصر-!
- شاهد: غرافيتي جريء يصوّر زعيم المعارضة الروسي أليكسي نافالني ...
- هل تلاحق لعنة كليجدار أوغلو حزب الشعب الجمهوري؟
- مقترح برلماني لإحياء فرنسا ذكرى مجزرة المتظاهرين الجزائريين ...
- بوتين: الصراع الحالي بين روسيا وأوكرانيا سببه تجاهل مصالح رو ...
- بلجيكا تدعو المتظاهرين الأتراك والأكراد إلى الهدوء
- المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي: مع الجماهير ضد قرارا ...


المزيد.....

- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي
- بصدد الفهم الماركسي للدين / مالك ابوعليا
- دفاعا عن بوب أفاكيان و الشيوعيّين الثوريّين / شادي الشماوي
- الولايات المتّحدة تستخدم الفيتو ضد قرار الأمم المتّحدة المطا ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - غازي الصوراني - حول مفهوم الهوية ربطًا بمسألتي الوطنية والقومية