أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - بهار رضا - قحابهم اكثر وجداناً من قحابنا ( تسلسل 3)















المزيد.....


قحابهم اكثر وجداناً من قحابنا ( تسلسل 3)


بهار رضا
(Bahar Reza)


الحوار المتمدن-العدد: 7546 - 2023 / 3 / 10 - 10:01
المحور: الادب والفن
    


قحابهم اكثر وجدانا من قحابنا ( تسلسل 3)
الأنا التي استخدمها في كتابة هذا النص تناسبني، هي لا تعنيني شخصياً بالضرورة، ولكنها وبكل تأكيد تعني كل امرأة تسكنني، كما إن شخصيات هذه الرواية هي من وحي خيالي، وإن وجدت في الواقع فبمحض الصدفة لاغير.
أهدي هذه السطور إلى كل امرئ حر.
...
الحياة ثمة جانب متوحش في السفر، إنه يدفعك للثقة بالغرباء ويلبسك الارتياح الأليف للبيت والندماء.
بافيزي

"الانتظار ممل" هذا هو ما قلته لأفتح بوابة عالمه، أجابني بحذر وهو يتابع ردة فعلي: "أنا أنتظر هنا منذ خمس سنوات"، كنت أقصد بسؤالي هو انتظاره في عيادة طبيب الاسنان، لكن جوابه كان كزانة قفز، قفزت بها أنا إلى أولى صفحات الكتاب من دون مقدمات، واصلت النظر إليه بحيادية وقد تغيرت نظراته الحذرة الباحثة عن شيء ما، إلى نظرة لامبالاة لا أعرف إن كانت مصطنعة أم إنه كان يعنيها فعلاً:
- هناك من يتسأل كيف للإنسان أن يرمي بخمس سنوات من عمره من نافذة غرفة طلب اللجوء وهو بعيد عن الأهل وعن مسؤوليته في رعايتهم.
- لابد وأن يكون هناك ما يدفع المرء لاتخاذ مثل هذا القرار.
- تتصورين بأن هنالك أمور جدية دفعتني لذلك؟
(جدية أي امر يحددها المعني بها ).
بينما كان يبحث من جديد عن شئ وسط ملامح وجهي الساكنة، مد يده إلى جيبه وأخرج علبة صغيرة بيضاء، فتحها بهدوء كمن يفتح محارة يعرف بأنها تحتوي على لؤلؤة فريدة، وبعد أن أطلعني على محتوى العلبة والتي كانت عبارة عن طقم اسنان صناعي أعادها بنفس الخشوع إلى جيبه، وواصل من جديد عملية المسح على وجهي عله يعثر على غايته التي يبغي، وبدا مهتما أكثر بما سيخبرني به:
" لم أزر قط عيادة طبيب أسنان، لا في أفغانستان ولا في أي مكان آخر من العالم الذي قطعته خلال رحلة لجوئي، هنا فقط بعد فقداني لجميع اسناني، أصبحت مراجعاً لهذه العيادة، كانت بدايتي مع طقم الأسنان هذا والذي ركبته لي طبيبة الأسنان اليس قبل خمس سنوات، وقد بدأ يزعجني في الآونة الاخيرة إذ تسبب لي ببعض التقرحات داخل الفم".
عدت أنظر إلى وجه الرجل باحثة في نظراته وتعابير وجهه عما كان يرجوه مني، انشغلت بملامحه، بدأ لي وجهه مألوفا، وكأنني التقيته منذ زمن بعيد ، التقيته في ميدان مولوي وسط العاصمة طهران والذي تغير اسمه بين العامة لميدان كابل لكثرة الرجال الأفغان المتواجدين هناك، أولئك الرجال الذين يبحثون عن مصدر لرغيف الخبز دون جدوى، التقيته في مدينة مشهد الإيرانية وهو موشوم بتهريب المخدرات، التقيته في صحف ونشرات أخبار الحرب الأفغانية، فمه الخالي من الأسنان ممتليئ بالحكايات، تجاعيد وجهه كأنها أمواج محيط تراجعت بفعل الجزر لتترك على شواطيء ذلك البلد العصي شواهد حطام حضارات ابتلعتها الحروب في غفوة من عين الله. أطلس حي، خطوط طريق الحرير، بوذا، إمبراطوريات، الاسكندر المقدوني، ماركو بولو، مناخ قاس، بازارات بنساء ورجال، سلع محلية، منتو، زلابيا، عراك رجال، عراك ديكة، عراك السوفييت، عراك السي آي أي، عراك طالبان، عراك المقاتلين العرب، يأس، فرح، صور متعددة، ووسط كل هذا الكم من المعقول واللامعقول من الصخب والقساوة، تلتمع عينان رطبتان أشبه ماتكونان بعصفورتين راقصتين، تجعلان المرء وهو ينظر إلى ذلك الوجه ذي الطلاسم المرعبة وكأنه ينظر إلى شخصين مختلفين لم يتعرفا على هموم بعضهما قط، أما عن عمره فقد كان من الصعب عده.
عاد الرجل ليسألني بنفس النظرة المتفحصة وكأنه كان يعتذر عن خيانة ما: "ستتسائلين في سرك عن سبب تمسكي بهذا البلد وعدم عودتي إلى أهلي، حتى بعد صدور قرار رفض اللجوء وقرار الترحيل بحقي"
أجبته بلهجة لا تحمل الشك: "افترض بأنه يناسبك".
بدا الرجل راضياً عن جوابي:
"من خلال تجربتي، يمكنني أن أقول لك وبكل يقين بأن المحرك الأساسي لخطوات الإنسان تجاه أي فعل هوعوزه الداخلي وليس اللامبلاة والتهرب من تحمل المسؤولية، أحياناً يكون محرك الهروب الأسرة نفسها، يهرب البعض من الأبوين أو من الإخوة، أو من تركة سمجة، أو قد يهرب من الشريك، من تلك العلاقة المملة التي تصبح مرضية، وقد لا يكون هذا الهروب عن وعي بتلك الأمور بل عن لاوعي)".
أغمض الرجل عينيه وعاد ليتمدد في ذلك الزمان، وفي ذلك المكان الذي يعود إليه أحيانا أو مراراً، مكرهاً أو راغباً مدفوعا بشيء يسكن داخله، شيء تركه هناك ولن يعثر عليه إلا هناك، لم تبد على ملامح وجهه الغائر في مسافات الزمن والجغرافيا الخوف أو الإحساس بالذنب اللذان كان يحملهما صوته قبل قليل، بل كانت خطوط عريضة من النقمة. كان قد وصل إلى هناك، إلى ذلك الوادي وسط تلك الجبال المفتوحة على السماء والمرصعة بصخور عبثية والتي ستكون سحيقة أكثرعند عودته، وكأن الطريق الذي سلكه في مجيئه أصبح أطول عند عودته. في ذلك اليوم لم يكن صوت الديك الذي شق صمت الفجر قد أيقضه من نومه، فلم يذق لا هو ولا أبويه ولا أخواته طعم النوم في الليلة الماضية. سيقبل القرآن الذي ستجلبه له والدته من فوق ذلك الرف، ثم تعيده إلى مكانه بعد أن يقبله هو وأبوه وأخواته الأصغر منه، سترتدي والدته الحجاب وكذلك تفعل كل من زينب ذات السنوات العشر ورقية ذات السنوات السبع ومرضية ذات السنوات الخمس، وبعد صلاة الفجر ستبدأ درجات الحرارة في الارتفاع تدريجياً واعدة بنهار حار ومتوهج، كان صيفاً قائظاً، الهواء کان ساكناً ، والزمن كان ساكناً، حتى الجمع المتجمهر في ذلك الوادي كان ساكناً، يقف هو إلى جانب ابويه وقد دأبوا منذ الفجر على جمع الكثير من الحجر، سيخرج بعد قليل إمام المسجد ليصلي بالناس، سيصلي هو أيضاً، وأثناء صلاته سيكون الحجر في كفه الصغير، وفي جيوب لباسه الأفغاني التقليدي سيكون هنالك الكثير من الحجر، وبعد الصلاة سيأمرهم الإمام برجم الزاني والزانية، وفي خضم السماء البعيدة والأرض القاسية سيصاب بالهلع وسيحاول الركض بعيداً عن ذلك المكان، سيتجاهله جسده وسيصعب عليه تحريك قدميه المشققتين، لكن في لحظة هيستيرية ستعود الحياة لتلك اليدين الصغيرتين لتضع بصماتها وتؤكد فوز الموت على الحياة إذ سيفرغ كل ما في يديه وجيوبه من حصى نحو تلك الحفرة التي يقبع داخلها أخوه الذي سأم دورغلام راقص في محافل الرجال.
كان نذير والذي أجبرته ظروف الحرب على أن يمارس الرقص بلباس الإناث لرجال الحرب البشتون، كان يتسائل بينه وبين نفسه هل ما يفعلوه هؤلاء الرجال يفعلوه بدافع الرغبة أم بدافع إذلاله؟ هل كانوا يتلذذون باستخدام سلطانهم أم إنهم كانوا يستمتعون بمشاهدة الرقص، وفي كل مرة كان ياتيه الجواب بأنهم عديمي العاطفة وجل ما يجبروه على فعله هو بهدف إذلاله لاغير، لذلك اتخذ قراره باتباع إغواء تلك الارملة التي مات زوجها وتركها لأخيه وزوجاته يتلذذون بجسدها لنفس الدوافع، زرعت تلك الأرملة في ذهنه فكرة الهروب إلى مكان بعيد، إلى مكان يحيون فيه بعيداً عن طقوس الغلمان والجواري، ولكن يتم القبض عليهما بجرم الزنا، ويتعرضا للقصاص.
سيعود هذا المراهق وعائلته وأهل القرية بعد ممارسة ذلك طقس الرجم الذي أيقضته أصوات طبول الحرب من سباته، سيعودون إلى منازلهم ويغسلون أياديهم، سيتوضؤون، ثم سيستخدمون تلك الأيادي للأكل والشرب وملامسة بعضهم البعض، فلابد للحياة أن تستمر.
بطلبها إعادة مليء استمارة المعلومات الخاصة به، انتشلته مساعدة طبيب الاسنان من رحلته التي من الواضح إنها لم تكن ممتعة ليجيبها:
- لم يطرأ أي أمر جديد في حياتي سوى الألم داخل تجويف فمي الذي تسبب به طقم الاسنان.
- ستدخل بعد ساعة من الآن، في الموعد الذي حدد لك.. قالتها بنبرة لطيفة وتركتنا.
بدا سعيداً بهذا الوقت الممنوح لنا: "أستقليت القطار لأول مرة جالساً على أحد المقاعد المتقابلة، كانت دهشتي كبيرة من حركة فتاة شابة جلست مقابلي بعد أن ثبتت سماعات الهاتف النقال في أذنيها، إذ فعلت برنامج التصوير في هاتفها لتستخدمه كمرآة، وأخرجت علبة زينتها من حقيبتها اليدوية وشرعت بتنظيف بشرتها بمنديل، أخذت تزين وجهها بكل عفوية، هكذا وبكل بساطة أتمت تزينها، كان الأمر برمته ممتعا أكثر مما كان غريباً، أن تتزين في مكان عام من دون أن تشعر بوجود الآخرين، إنه لأمر مدهش حقاً".
سكت لبرهة وبدا عليه كأن شيئاً يضايقه وهو يبتلع ريقه بصعوبة وكأنه يبتلع شوكاً، لقد كان ثقيل المضغ وبطيئه، أعرف تلك الأعراض من خلال دراستي وعملي في عيادة لطب الأسنان لسنوات، فعدم وجود الأسنان في الفم يعرض الغدد اللعابية للكسل مما يقلل من إنتاج اللعاب فيسبب جفاف الفم ويؤدي إلى صعوبة في بلع الريق والتحدث، أحسست بأن هذا ما كان يعانيه هو بالضبظ، نهضت وجلبت له كوباً من الماء البارد، شكرني، وبعد أن رطب فمه عاد ليكمل حديثه بنبرة اللامبالاة ذاتها: "مرت ثلاث سنوات بعد آخر محاولة لي في الحصول على حق الحماية، تم رفض طلب لجوئي من قبل وزارة الهجرة وصادقت على الرفض محكمة تظلم اللاجئين والتي تعتبر آخر فرصة للنظر في معاملات طلب اللجوء، كان هذا بعد سنتين من تقديمي لطلب اللجوء، واليوم وبسبب الأوضاع غير الآمنة في أفغانستان لا تستطيع الحكومة ترحيلي قسراُ، لقد استقر بي الحال في مركز ارنستغوب للاجئين، لم تكن تلك السنوات الخمس طويلة كليالي شتاء أفغانستان، بل كان طولها أشبه بطول سيقان امرأة شقراء، لكن ما كان هذا كله ليكون لو أن موظفي الهجرة قد صدقوا كلماتي، لقد نقلت لهم ماعايشت بتفاصيلها، تحدثت لساعات ثمان في التحقيق الأول وأربع في التحقيق الثاني، لكنهم لم يقتنعوا بما جئت به، وفي المحكمة حاول المحامي أن يسلط الضوء على أهم نقاط قضيتي ولم يفلح (المشكلة التي قدمت من خلالها حق الحماية مشكلة قديمة ولم تعد تشكل اليوم أي خطر على حياتك).. هكذا قالت هيئة المحلفين."
قال هذا وكأنه يتحدث عن شخص كان يعرفه ومكان لم يعد موجوداً، أو ربما لم يكن موجوداً سوى في كابوس شخص كان يعرفه.
في البداية كانت الكلمة، الكلمة قدر، تخرج من حبالنا الصوتية لتتركنا لحبال المشانق، أو تتركنا لحبال أراجيح في حقل مزهر، أو تتركنا معلقين على حبال الصبر حتى تجف جميع أحلامنا، نادراً ما يسعنا أن نغير مسار الكلمة التي انطلقت.
كنت أعرف الكثير عن هذا المكان، مركز اورنستغوب للاجئين، فهو مركز لطالبي اللجوء الذين عبروا الحدود الجغرافية بصورة غير شرعية، البعض منهم هرب من الحرب وآخرون من الفقر، وغيرهم هرب من الدائنين، وهناك من هرب من أحكام جنائية صدرت بحقه، ونشطاء سياسين، جميعهم وصلوا ليكتشفوا عند وصولهم لبلد اللجوء بأن الفصل للكلمة، قد تكون الكلمة عبارة عن تاريخ حدث هدد حياتهم وأصبح من ماضي بعيد لم يعد يشكل اليوم أي خطرعلى حياتهم، كي يكون سبباً كافياً لمنحهم حق الحماية، أو تكون الكلمة جواب على سؤال يكرر عدة مرات على مر شهور متباعدة فتخونهم الذاكرة، (في أي ساعة من ساعات اليوم وقع هذا الامر؟) (تطرح الاسئلة دون الأخذ بعين الاعتبار بأن ملكة الذاكرة لا تعمل بشكل مستقل وانما تعتمد على الظروف المحيطة بها، فيجيب طالب اللجوء على هذا السؤال في المقابلة الاولى بكلمة (مساء) ويجيب في المقابلة الثانية على السؤال بكلمة (صباحاً)، فتكون الكلمة هنا كآلة حادة تقطع حبال الأمل لينتهي حظهم في الحصول على حق اللجوء ويصدر قرار الترحيل إلى البلد الأم، أما عن تطبيق قرار الترحيل فهو منوط بأوضاع بلده، فلاتتم عملية الترحيل قسراً ولاحتى طوعاً إلى البلدان التي تشتعل فيها نيران الحرب، وبهذه الحالة يبقى الانسان معلقاً على حبال اللامعنى.
ـ تذكرني الغابة التي تحيط بهذا المركز بغابات إيران، أتذكرها رائعة في جميع فصول السنة.
- شيد هذا المبنى ليكون مشفى في وسط الغابة سنة 1945، ليوفر المناخ المناسب لتعافي مرضى السل من جائحتهم، وقد أخلي المشفى بانتهاء الجائحة سنة 1963.
عند سماعه لهذه المعلومة مني، أي معلومة أن المبنى كان مشفى لمرضى السل، ظهرت على طرقات شفتيه غيرالمعبدة ابتسامة متكسرة:
- حتى المباني ليس لها قانون ثابت، في زمن الجائحة يدخلها المرضى، وربما يخرجون منها وهم أصحاء، وفي زمن الحروب يدخلها الاصحاء، وربما يخرجون منها مرضى.
- الحرب أقبح من الجائحة، في الجائحة عدالة كبيرة، حيث لا فرق بين غني ولا فقير ولا فرق بين ملك ولا رعية، لا فرق بين رجل دين ولا رجل الحانة، العالم كله يحشر في صندوق واحد، وحشر مع الناس عيد، بينما الحرب جائحة شعب دون ملوكه ودون الشعوب الأخرى، جائحة حتى الذين ينجون منها في الظاهر يبقى جسدهم ينتفض مع أول رائحة أو صوت من شأنه أن يعيده إلى ذلك الزمن والمكان، لن نشفى منها أبداُ. - وتبقى للمباني ككل المخلوقات، وجوه عديدة، وجوه مختلفة، وجه الغابة منعش يمدني بالإحساس بالحرية التي تسلبني إياها الغرفة التي أتقاسمها مع شاب إيراني، هو ليس سيئاً، ولكن لديه صديقة حميمة تكلفني زيارتها له المبيت خارج الغرفة، أترك له ولصديقته الغرفة مقابل بعض المال، فهو يعمل بالباطن في إحدى مطاعم البيتزا مما يجعله متمكناً مادياً.
بدأ حجمه يتمدد وكانه طاووس ينشر ريشه، وبشكل مدهش بدا وكأن مياه الحياة تسربت إلى عروقه المتصحرة لتعيد له نضارة الشباب، حتى خيل إلي بأن أسنانه المفقودة قد نبتت من جديد وعادت تلك الكناري تزقزق في عينيه بعد أن هجرته لوقت قصير، اعتدل في جلسته وأسند ظهره إلى إحدى الوسادات المصفوفة، بدا كولد مشاغب يخفي بين يديه شيء ما، أصبحت نظراتي الفضولية تتنقل بين يديه وعينيه في محاولة لاكتشاف ما يخفي، لطالما اعتبرت اليد أكثر شفافية من العين، فهي تترجم ما نفكر به، قد نخطأ في قراءة العين لكن فعل اليد يكون واضحاً، كان من الواضح بأنه يخفي بين يديه شيئاً ليس للصغار. نظر في عيني مباشرة وسألني كمن يبوح بسر: "هل تعرفين الشارع الذي يقع خلف محطة كوبنهاجن الرئيسية ؟"
قالها وهو يبتسم ابتسامة غير بريئة، أيقنت في تلك اللحظة بأن الذي يخفيه بين راحتيه ليس شيئاً للصغار، بل شيء كتلك الأقلام التي كان بعض التلاميذ الجسورين من زملائنا في المدرسة الابتدائية يخفونها في حقائبهم ليتفاخروا بها خفية أثناء فرصة الغداء، تلك الأقلام التي تحمل صوراً لنسوة بملابس كاملة وعند قلب القلم رأساً على عقب تنزل الملابس إلى الأسفل لتصبح النسوة عرايا. تساءلت في سري: "هل يبقى ذلك الولد الصغير في داخل جميع الرجال؟". أجبته بشأن الشارع:
- أعرفه.
- هل تعرفيه حقاً ؟
- يعتمد!.. يبدوا لي بأنني أعرفه.
- هل تعرفين المرقص الليلي في ذلك الشارع؟
- كلا، فأنا لست من مرتادي المراقص الليلية، ولاأطيق الصخب فيها.
- هنالك أيضاً محل للبيتزا.. تعرفينه؟
- كلا، لست من عشاق البيتزا والأكلات سريعة التحضير، ولكني أعرف البازار الذي يمتلكه أحد الأفغان هناك، تسوقت منه يوماً ما، وأعرف كذلك مسجد طيبة في اول الشارع.
- طيبة! إنه مسجد للعرب!.
- مسجد للعرب ام مسجد لله؟.
- أقصد بأن اللغة المستخدمة في الوعظ هي اللغة العربية،كما إن جميع المصلين هناك يصلون وهم يضعون يداً فوق الأخرى وأنا أصلي سابل اليدين، النوادي الليلية كثيرة في ذلك الشارع وقد زرت بعضها، لا يشعر المرء بالاختلاف هناك.
ايستاغيدة، شارع يتوسط قلب العاصمة الدنماركية كوبنهاجن، شيدت أول بناياته بالقرب من شارع غازفاي سنة 1858 وسجل رسمياً تحت هذا الاسم، ليتمدد بسرعة بمحاذاة السكة الحديدية حتى يصل سنة1900 إلى ساحة انغاهيوة، ومنذ نشأته اشتهر بكونه أحد أماكن اللهو والمتعة، شارع ايستاغيدا هذا يشبه بقية شوارع كوبنهاجن ولا يشببها في نفس الوقت، لهذا الشارع نكهته وأصواته الخاصة، وكما لا توجد مدن تخلو من الموت، لا توجد مدن تخلو من مثل شارع ايستاغيدة، مثل هذا الشارع وبيوتاته لها من الأهمية التي تجعلها تشيد قبل بيوت العبادة، وإذا ما عدنا للتاريخ سنعرف بأن معابد بابل "منازل السماء" ما كانت تشيد من دون ملهمات المعبد، ومعبد عشتار لم يكن ليؤسس دون تضحية تلك النسوة، وحتى بشأن هذه التضحية يتقاطع تاريخ هذا الشارع ودكاكينه بدكاكين بابل، في أحد دكاكين هذا الشارع وبالتحديد في الدكان رقم 31 في سبتمبر1942 تم افتتاح راديو النجمة، راديو مقاومة الاحتلال الألماني والذي بدأ بثه بدعم من لندن وبالتحديد من إذاعة البي بي سي، وليومنا هذا يحتفل اليسار الدنماركي بذكرى تحرير الدنمارك بمسيرة تبدأ من الدكان رقم 31.
تذكرت زياراتي لهذا الشارع والتي كانت تقتصر على صباحات الجمعة الأولى من كل شهر، كنت أحصل على إجازة من العمل لكي أتمكن من أن أقل والدتي من محل سكننا والذي يقع على بعد حوالي سبعين كيلومتراً شرق العاصمة، كنت أقلها لمحل قصابة إسلامية يقع وسط ذلك الشارع لكي تبتاع اللحم الحلال، كان صاحب المجزرة والذي هو على مذهب والدتي، يذبح المواشي على الطريقة الإسلامية وعلى وجه الخصوص على طريقة مذهب والدتي، يتم ذبح المواشي أيام الخميس بعد أن يتم فحصها وختمها من قبل دائرة الصحة الدنماركية بعد التأكد من خلوها من الأمراض، وتعرض في محل بيع اللحوم بعد أربع وعشرين ساعة من الذبح، أي في يوم الجمعة، وكي يصلي الرجل صلاة الجمعة في المسجد كان يترك العمل للعمال الذين هم أقل خبرة منه في تقطيع الخرفان، لذلك كان يتوجب علينا أنا ووالدتي الوصول قبل صلاة الجمعة بساعتين على الأقل، ليتسنى لوالدتي تقطيع خروفها على يده المتوضئة، وفقط على يده. كأي كائن حي يمارس عدة أنشطة مختلفة حسب ساعات اليوم كان شارع ايسترغيدة كذلك. فنشاطاته الليلية تختلف عن نشاطاته في ساعات النهار، وإن كانت بعض شواهد تلك النشاطات الليلية تتربع وسط الشارع في وضح النهار لتصفح وبصراحة عن الهوية الليلية لهذا الكائن الحي، فواجهات متاجر بيع أدوات الألعاب الجنسية المختلفة والتي لم تكن محجوبة عن أنظار المارة كانت تعرض كل ما يتعلق بتحفيز الغريزة الجنسية من ملابس وزيوت ومراهم وأسواط وأصفاد وأعضاء ذكرية صناعية ودمى، وحتى في بعض الأحيان كان من الممكن أن يصادف المارة بائعات الهوى وهن بثياب قصيرة وجوارب شبكة الصياد وجزم حمراء طويلة العنق في ساعات النهار. كنت أركن السيارة أمام باب المجزرة كي لا تصطدم والدتي بمشاهد محال بيع الألعاب الجنسية او ببعض بائعات الهوى وهن في زيهن المعهود.
بعد أن قادني حديثه إلى وسط ذلك الشارع جاء صوتي مرحاً بعض الشيء:
- كنت أزورهذا الشارع في الجمعة الأولى من كل شهر، في ساعات الصباح وقبل أذان الظهر بالتحديد، كي يتسنى لوالدتي ابتياع اللحم الحلال من تلك المجزرة، مجزرة "طيبة".
- وهل ما زلت تترددين في الجمعة الأولى من كل شهرعلى هذا الشارع؟
- تكرر طلب والدتي للكبدة ولحم الرأس والأحشاء لأكثر من مرة، وفي كل مرة كانت المجزرة تفتقر إلى ما كانت تطلب، فأصبحت غير مرتاحة وبدأت تشك بالأمر، وفي احدى الجمع انتبهت والدتي بأن الختم الذي تحمله الذبيحة أحمر اللون وليس بأزرق كالختم الذي تحمله اللحوم الدنماركية، وطلبت مني قراءة الختم فكانت المفاجأة العظيمة في تلك الجمعة العظيمة، فالخراف كانت تحمل ختم نيوزيلاندا، خراف مجمدة يذوبها ويبيعها على أساس إنها لحوم حلال طازجة.
ضحك بصوت مخنوق ضحكة طويلة، ضحكة أطول من ضحك جميع كتب التاريخ مجتمعة على عقولنا، وبعد أن أكمل ضحكته الطويلة مسح دموعه بكف يديه وقال بلهجة ساخرة: "اذن فلم يكن اللحم حلالاً ولا اللحام ابن حلال.
فتحت كفي باشارة تعني "هذا كان مكسبي لذك اليوم".
ليرد هو بصوت يحمل اليقين: "ولكنني أعرف هناك، في تلك الشارع، الكثير من بنات الحلال."
نطق مفردة "بنات الحلال" بصوت حنون محاولاً تجسيدها كملحمة إنسانية ينتصر بها النبل على الابتذال، أحببت نبرة صوته وهززت رأسي طرباً بما جاء.
بنات الحلال وبنات الخطيئة، الحلال هو الوجدان والخطيئة هي نحر الوجدان، لا نولد بوجدان بل نحن من يلد الوجدان من صلبنا ونرعاه فيكون بعدها ولداً باراً أوعاقاً، وبنات ذلك الشارع بالذات ذوات وجدان كبير، فهن أفضل رفيقات في ساعات الضيق.



#بهار_رضا (هاشتاغ)       Bahar_Reza#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- البوتكس والطراز...ة وحبيبة رونالدو Don’t Worry Darling
- رواية ( تسلسل 2)
- قحابهم أكثر وجداناً من قحابنا . رواية ( تسلسل 1)
- الرجل لا يملك ماء في محجريه
- ميدوسا ....مسقط رأسي
- ثلاثاء تشيلي وثلاثاء الولايات الامريكية
- -صديقتي غوديفا-
- إلى المغيبين من شباب الكورد الفيلية
- الى صوفيا السعودية
- السور واختلاف الثقافات
- العمر واختلاف الثقافات
- بغداد والموت والصور
- الى نوال السعداوي
- الثامن من اذار بين مطرقة النصوص الدينية وسندان الافكار الذكو ...
- اسوةً برخصة قيادة السيارة أطالب برخصة لقيادة الأسرة .
- هل سيقف الكلداني والاشوري لينشد لكردستان (اي رقيب)؟
- (حنة يا بوية رفاگه..ولو فر گتنة الليالي لازماً يا بوية نتلاگ ...
- الى رغد صدام
- الداعشي هل حقاً هو جاني؟ أم مجني عليه؟ أم الاثنين معاً؟
- ولابد ما تجي الغبشة.


المزيد.....




- -نظرة إلى المستقبل-.. مشاركة روسية لافتة في مهرجان -بكين- ال ...
- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - بهار رضا - قحابهم اكثر وجداناً من قحابنا ( تسلسل 3)