أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - عزالدين بوغانمي - المتعاونون الجُدُد مع نظام الإرهاب والفساد.















المزيد.....


المتعاونون الجُدُد مع نظام الإرهاب والفساد.


عزالدين بوغانمي
(Boughanmi Ezdine)


الحوار المتمدن-العدد: 7537 - 2023 / 3 / 1 - 04:47
المحور: الثورات والانتفاضات الجماهيرية
    


لن نقبل بنظام مستبدّ، قائم على تجريد التّوانسة من حقوقهم السياسية والمدنية، وتحويلهم إلى رقيق يعملون عند نظام الحكم بالسخرة.
لن نقبل بنظام لا يحترم لا حريات ولا حقوق ولا قوانين ولا دستور. ولن نقبل بدولة قائمة على إرادة الحاكم الفرد، بحيث تكون إرادته هي القانون وهي الدستور. ومن يخالف حضرة جنابه تتكفل به أجهزة الأمن لتشلّه أو تخفيه من الوجود.

قضية التمسك بالمبادئ الديمقراطية، هذه قضية محسومة، ولعله من باب قلّة الحياء أن يتّهمنا بالعداء للديمقراطية أُناس يعرفون مواقفنا منذ كُنّا طُلّاب مدارس.

أنا في شخصي، وعائلتي، ورفاقي، لا تربطني أيّة رابطة برئيس الدولة ولا بمحيطه ولا بنظامه. وإنّي مُضطرّ لإعلان التحدّي على أيّ وغْد في هذا الكون يتجرّأ على اتّهامي بحصولي على أيّة منفعة من أيّة جهة كانت، حتى ولو كانت قيمتها ثمن خبزة واحدة. أرفع هذا التحدّي في وجه أبناء الصُّدف العاجزين عن الردّ على أفكاري بالأفكار، فيلتجؤون إلى أساليب القدح والذمّ.

بداية، نعرف أن قطاعا واسعا من معارضي قيس سعيد، يخشون عودة الاستبداد. ولا أشك في أن تخوّفهم مشروع وحقيقي. وليس المطلوب السّكوت على انتهاك الحريات. أو الصمت عن سياسات الحكومة المستمرة بنفس الوتيرة والمنهجية المدمرة للحكومات السابقة.

ليست هذه هي المسألة. وليست كما يسعى حُماة الفاسدين والإرهابيين تفسيرها وتقديمها على نحو يجعل المجرم ضحية الاستبداد. وملاحقة الإرهابي تعدّي على الحرّيات. ومحاكمة المهرّب غيابا للعدالة.

بهذا الخصوص لابدّ من الردّ على هؤلاء المتعاونين الجُدُد (les nouveaux collaborateurs) مع نظام الإرهاب الإخواني المقبور. أولائك الذين يتعمّدون خلط المسائل واستثمار خوف الناس من انفراد قيس سعيّد بالرّأي، واستغلال فشل الحكومة في إيجاد حلول جذرية للأزمة المتفاقمة، لإعادة راشد الغنّوشي للسلطة ووقف تتبّعه بصفته إرهابيا ضالعا في كلّ الجنايات التي آرتُكبت ضد تونس خلال العقد الماضي.

وللردّ على هؤلاء، وعلى المتعاونين الذين سبقوهم يجدُر وضع الأمور في نِصابها ودحض ادّعاءاتهم وفضح أساليبهم الملتوية، واحترافهم تضليل شعبهم واستخدام فقره وحسّاسيته ضدّ الظلم والتسلّط.

المطلعون على تاريخ تشكّل المافيا، وعلى وجه الخصوص في مرحلتها الحديثة، أي منذ آواخر التاسع عشر بداية العشرين، يعرفون كيف أثارت الرُّعب في قلوب النّاس، بسبب جنوحها لأعمال العنف الدموية، في سبيل الحصول على المزيد من القوة والنفوذ. ومصطلحٍ "المافيا" يُستخدم، على وجه الحصر لوصف "عصابات الجريمة المنظمة" المتحالفة فيما بينها، وفق بنيةٍ تنظيميةٍ خاصة وقواعد سلوكية موحدة، وبهدف جمع المال والرّبح، بطرق غير قانونية، والتّلاعب بالنشاط الاقتصادي. بحيث تعتمد هذه الجماعات في عملها الإجرامي على الابتزاز، أي جمع الأموال من أشخاص أو من مؤسسات معيَّنة، والاتّجار بالبشر والمخدرات والسلاح، وتزوير الوثائق... ولقد عملت المافيا دائما على تشكيل جيشها السرّي الخاص بها مما يجعلها قادرة على ممارسة الابتزاز والمساومة مع أصحاب النفوذ والأملاك. وبالفعل أصبحت المافيا الإيطالية في وقت من الأوقات على درجة من القوّة مكّنتها من الانقلاب على الدّولة نفسها، إذ جنّدت أجزاء من الأمن والعسكر والقضاء ورجال الأعمال ومُلّاك الأراضي. وهكذا، بهذا الأسلوب نجحت في الاستمرار والحفاظ على قوتها، متّبعة سياسة التأقلم مع كل وضع جديد، والتعاون مع أي جهة وفق مبدأ "المنافع المتبادلة".
ولتوسيع أنشطتها الإجرامية باستمرار، استخدمت كل الوسائل والحيل حتى أصبح لها نفوذها السياسي والاقتصادي حتى داخل الحكومة. وذلك من خلال إغراء السياسيين بالمال واستخدامهم في أعمالٍ غير قانونية، لِتوريطهم، ثم ابتزازهم. فضلاً عن طريقة التّرهيب والتهديد بالقتل. ولقد أدرك زعماء المافيا، مُبكّرًا، أهمية السّيطرة على منابت القوة في المجتمع مثل النّقابات لإجهاض إمكانيات تمرد الطبقة العاملة، وعلى رجال الدّين، حتى لا تستطيع الكنيسة تكفيرهم والتحريض ضدهم. ولذلك يتحدث بعض المُؤرّخين عن تورّط الكنيسة الكاثوليكية في التحالف مع المافيا لمراقبة ممتلكاتها الضخمة وحماية المزارعين المستأجرين في صفها.

اتّسعت نشاطات المافيا وتحوّلت، مع الوقت، إلى مجتمعٍ قائم على الجريمة، لا يحترم أي شكل من أشكال القانون. وتغوّلت بتنويع أنشطتها، فشملت أحزابا وجمعات أهلية وحقوقية ومنظمات وبلديات وإدارة مصانع ومطاعم ومتاجر وشركات تأمين ومصارف وفنادق ومقاهٍ. وحوّلتها جميعها إلى دروع حماية، بل إلى واجهات لأنشطة مُربحة غير مشروعة مثل القُمار والدعارة والإقراض الرّبوي والابتزاز والاحتيال والسرقة فضلاً عن الخطف والقتل وتجارة الأعضاء... الخ

أُنهي مع موضوع المافيا. وأدعو القارئ لمقارنة جرائمها بجرائم حركة النهضة، هذه الحركة التي تقف اليوم في قلب معسكر المافيا مستفيدة من القوى الديموقراطية المدافعة عن الحريات وحقوق الإنسان.

في الحقيقة لست بحاجة لتعديد الأعمال الإجرامية التي ارتكبتها قيادة حركة النهضة، ولا الوُقوف عن تطابق هذه الجرائم وهذه الخطط والأساليب مع جرائم المافيا، لأن التوانسة جميعا تعرّفوا على هذه الجماعة الإجرامية على نحو لم يعُد لديهم أيّة شكوك حول الخطر الذي تمثله على مستقبل البلاد. وهم اليوم مقتنعون تماما أن سلسلة جرائمها وآثارها المدمّرة ليست مجرّد أخطاء، ولا هي مجرد أساليب للحفاظ على السلطة، وإنما هي طبيعة تكوينية أصيلة تقف على فكرة الغنيمة، لو زالت، لزالت حركة النهضة من الوُجود.

اعتراضًا عن تضليل المواطنين، والزجّ بهم في معركة حماية القتلة والمجرمين، نُذكّر بأنه يوم 15 جانفي 2011، كان على تونس لكي تستقرّ وتُثبِّتُ قدميها وتتحرك إلى الأمام، أن تتغيّر وتحافظ على نفسها في الوقت ذاته. وذلك بتعاون القوى المنحازة للثورة على ثلاثة مسائل:
١/ إصلاح الإدارة.
٢/ تغيير حياة الناس نحو الأفضل.
٣/ تشييد نظام سياسي ديمقراطي.

ولقد كان تحقيق هذه الغايات ممكنا جدا بقدر ما تكون الأطراف الفاعلة نزيهة، وبقدر ما تكون آليات التعاون والشراكة واضحة، وبقدر تفاهم النخبة الوطنية وتصميمي على إحداث التغيير والحفاظ على الدولة، وضمان الاستقرار.
هذا ما كان مطلوبا إنجازه. وهذا ما يجعل للسياسة معنى ومضمونا أخلاقيين. وبحكم عدة عوامل ثقافية وتاريخية (لا يتسع المجال للذكير بها هنا)، تونس مؤهلة لتفاهم أبنائها وتعاونهم على بناء نظام ديمقراطي حقيقي. وعلى رسم المستقبل بكل ثقة وثبات، وعلى القضاء على الفقر، وعلى الارتقاء بحياة الناس، بناء على المشترك الوطني الكبير الذي جمع التوانسة لعهود طويلة.
كل الأحزاب السياسية في تونس، كل المنظمات الوطنية، كل النخبة الأكاديمية، وكل فئات الشعب التونسي، بإستثناء حركة النهضة ومحيطها المافيوزي، الكلّ مجمعون على الدولة. مجمعون على عروبة تونس وإسلام شعبها، مجمعون على أولويات التنمية، مجمعون على المدرسة العصرية وعلى القضاء الموحّد، مجمعون على مبادئ حقوق الإنسان وكونيتها. الجميع يؤمن بأن النظام الديمقراطي هو أرقى أنظمة إدارة الاختلاف، إلا حركة النهضة تعتيرها آلية تمكين من الحكم فقط. الجميع يؤمن بإصلاح الدولة، إلا حركة النهضة تؤمن بافتكاكها أو تدميرها. وهذا عاشه الشعب ورآه يُمارس في وضح النهار على امتداد عشر سنوات. الجميع يؤمن بأن مصلحة تونس أولا. إلا حركة النهضة تؤمن أن المحور الإخواني في المنطقة أولا. الجميع يؤمن بأن المدرسة تحتاج إصلاحا وتطويرا. إلا حركة النهضة تعمل على هدم المدرسة لحساب التعليم الديني العشوائي.

وصلت حركة النهضة للحكم يوم 23 أكتوبر 2011، بمشروع آخر يتناقض جذريًّا مع ما كانت تحتاجه تونس. إذ كانت غايتها الأولى والأخيرة هي البقاء في الحكم مهما كان الثمن. ولكي يتحقق لها ذلك شرعت في التمكّن من جميع مفاصل الدولة منذ اليوم الأول. فهاجمت كل الإدارات وجميع الفضاءات وجميع المنظمات، وأطردت كل المدراء تقريبا، وثبّتت مكانهم أعضاءً حزبيين، لا كفاءة لهم ولا مقدرة على التسيير، إنما هم مجرّد عسس ووُشاة. وعن طريق هؤلاء أغرقت مؤسسات الدولة بالتسميات، حتى صار لهذه الحركة ميليشيا في كل مفصل. ولأن الإدارة التونسية قديمة ولها أعرافها ومواريثها من جهة. ومن جهة أخرى كانت لا تزال خاضعة في جزء منها إلى لوبيات الفساد التقليدية، فقد قاومت الغزوة الإخوانية التخريبية. ولتحطيم تلك المقاومة، اعتمدت حركة النهضة على جهاز موازي في كل الوزارات. جهاز مُهيكل مرتبط براشد الغنوشي رأسًا، وعلى الميدان تقوده عناصر إرهابية بكل ما في العبارة من معنى. وبدأ الهدم المُمنهج بشتى الوسائل، بذريعة "اقتلاع الدولة العميقة".
بعد فشل حملات التخريب التي قامت بها ميليشيات النهضة تحت عنوان "حملة اكبس"، تبيّن لقيادتها أن أسهل المسالك للاستحواذ على الدولة بالكامل هو التّطبيع مع تلك اللوبيات القديمة الراسخة، والتي، كانت بدورها تسعى لايجات مخارج آمنة بعد أن حاصرتها الثورة. وسُرعان ما حصُل الميثاق والمصالحة بينها وبين حركة النهضة بسبب الطبيعة المافيوزية المشتركة.
هكذا التقت المصالح واندمجت. وصار الجميع في مركب واحد. ولذلك نرى اليوم النهضة والمافيا في خندق واحد، حتى أن هيئة الدفاع التي تتولّى الدفاع عن الموقوفين، سواء الأبرياء منهم، أو الفاسدين، او الإرهابيين. إنها هيئة واحدة تُدافع عن جسم واحد.

إذن داخليا تزوجت حركة النهضة بالفساد زواجا ماديا وبَنَت به، فأنجبت توافقات وكتل برلمانية، تعاونت على تمرير قوانين تؤبّد أركان النظام القديم. وأنجبت حكومات استمرت في حماية الفساد. وحوّلته إلى أداة من أدواتها وذراعا من أذرعتها.

أما خارجيا، فلقد اعتمدت حركة النهضة على الحماية الأجنبيّة، فاستفادت بالمال وبالمعلومات الاستخباراتية، وبتدريب متطرفين أدمجتهم في مؤسسات الأمن بعد إعادتهم. واستفادت بالديملوماسية والوساطات مع الدول المؤثرة في الإقليم وعلى الساحة الدولية، لكي تخلق بنية تحتية صلبة لإرهاب مُسلّح تستقوي به على الدولة والمجتمع. كل هذا لإنجاح برنامج التّمكين، مقابل غياب تام لجميع الإصلاحات التي تحتاجها البلاد على الصعيد الاقتصادي وعلى الصعيد السياسي وعلى الصعيد الأمني، وحتما وحتما على الصعيد المعيشي.


باختصار، سياسة التحالف مع المافيا، أدت بعد عشرة سنوات إلى تفاقم المديونية، وإفلاس الخزينة، وتوسّع رقعة الجوع، وانهيار المرفق العمومي.
وبالتوازي مع هذا كله، وبسببه، حدثت قطيعة مخيفة بين الشعب والسياسة. فبمقدار ما غابت السيادة الوطنية، وأولويات معالجة قضية الفقر في عقيدة الحزب الحاكم، وفي عقيدة التضامنات المافيوزية المرتبطة به، بقدر ما أصبحت السيطرة على الدولة بأي ثمن غاية السياسة وموضوعها في تونس. فلم يعد لها وظيفة توحيد المواطنين وحل مشاكلهم، وتعزيز تفاهمهم وتعاونهم، بل باتت الآداة الأكثر فعّالية لفرض الإذعان عليهم وعلى بقية مكونات الساحة السياسية المؤمنة بالتغيير، وذلك بإضعافها وتخريبها. وبنفس الوقت صارت وظيفة الدولة الرئيسية هي منصّة الوثوب لوضع اليد على الموارد.

استمر التدهور على جميع المستويات، واستفحل الفقر فطال الجميع. وتعمقت القطيعة بين الشعب والنخب السياسية على نحو غير مسبوق بسبب يأس التوانسة من تحسّن أوضاعهم، وفقدانهم الأمل وإحساسهم العميق بالخديعة. وفي إطار عقاب من حكموا، عُوقِب الجميع بما في ذلك ضحايا النهضة. وجيء بقيس سعيّد من خارج المشهد، ومن خارج السياسة والإعلام والمخزن. جيء برجل من حيّ شعبي هو الأكثر فقرا وتهميشا. وكأنّ انتخابه صفعة شعبية قاسية لنخبة ظالمة ومنافقة. وإذا بساكن قرطاج مواطن تونسيّ لا يُجيدُ فنون المؤامرة والتحالفات والتنافق والتلاعب وإدارة المصالح وتوزيع المنافع ..

تسلم الرجل مقاليد الرئاسة، وعلى الفور بدأ رئيس حركة النهضة يسلبه صلاحياته، بعد أن كان استولى على مؤسسة القضاء منذ سنوات. ثم استولى على صلاحيات الحكومة، إما بالتعطيل والتّأزيم في حالة حكومة الفخفاخ، أو بالوصاية والتحكم في حالة حكومة المشيشي.
بالتوازي مع ذلك كانت الأزمة تتفاقم، ورقعة الفقر تتّسع، والمرفق العمومي يتهاوى، إلى أن بلغت الأوضاع حدًّا لا يُطاق في محنة الموت في الشوارع تحت حوافر الوباء. فانفجر الشارع ليضع الدولة أمام مسؤولية وقف النزيف. فأقدمت الدولة على الإطاحة بالمجلس النيابي، ذلك الخندق الذي تنبع منه كلّ المصائب، وأعادت للأجهزة صلاحياتها من وراء إعادتها صلاحيات الرئيس المُنتهكة.

هنا، ربما يجدر بمن يتحدّثون عن "الانقلاب على الديمقراطية"، أن يُنشِّطوا ذاكرتهم، ويعيدوا حلقات مسلسل فضائح البرلمان وجرائم رئيسه منذ بداية العُهدة. فمن واجبهم الأخلاقي تُجاه أنفسهم، على الأقل، أن يتذكّروا، لأن شعبهم لم ينس شيئًا ممّا حدث. بل أنه مازال يعتبر خطوة التخلص من ذلك المجلس / الفضيحة، جاءت في وقت مُتأخّر جدًّا. وأن الإطاحة بمجلس نيابي يرأسه شخص، يُدير في نفس الوقت، جهازًا إرهابيا سرّيًا، مثلت خطوة ثانية كبرى، بعد خطوة 14 جانفي، في طريق الانتقال الديمقراطي والانتصار للثورة وقواها.

على الأصوات المُولوِلة بشتّى أنواع الحِيل الرامية لإعادة راشد الغنّوشي للحكم، أن تتذكّر بأن 25 جويلية، في الأصل، كان انفجارا شعبيا ضد منظومة الفساد والإرهاب. ضد السياسة الوحشية التي تعرض لها الشعب على يد العصابة. ضدّ اغتصاب مؤسسة القضاء وتحويلها إلى بؤرة لحماية القَتَلة والفاسدين. ضد الموت الذي غرز مخالبه في الشعب، فيما رئيس الحكومة وقتذاك يتنقّه في المسبح، ومسلل السمسرة والملاكمة والفضائح متواصل في البرلمان. ضد التيار المافيوزي التكفيري. ضد التطرف والتسفير والجهاز السري والاستثراء الفاحش وتخريب الفلاحة والتجارة والصناعة والمرافق العمومية والأمن والمعيشة والأعراف والأخلاق.
25 جويلية، كان لحظة شعبية عارمة ضد هذا التيار الذي لا يمكن لأيّة دولة على وجه الأرض أن تتعايش معه. ضد السرطان الذي تهاوى على امتداد الساحة العربية، والذي لا يجوز تصنيفه ثقافيًّا، فضلًا عن اعتباره جزء من الحالة الديمقراطية. ضد هذا القيْح الحضاري الذي تستخدمه الدّوائر الاستعمارية لِفرض النكوص على هذه الأمة، وإجبارها على التراجع إلى الخلف، حتى تظل هذه المنطقة الغنية منقسة ومُحتربة على الدوام

صحيح رئيس الجمهورية قاد مسار 25 جويلية بالكثير من الانعزالية إلى درجة فقدانه للتّأييد العارم الذي رافقه في البداية. وصحيح أنه لم يُدرك إلى حدّ اليوم أنه لن يستطيع إدارة شؤون مؤسسات الدولة والبلاد بمفرده. وصحيح أنه لم يشتغل على أهمّ قضية، وهي إعادة بناء الإجماع الداخلي حول مشروع وطني مفهوم وواضح.
نعم هذا كله صحيح، ويجِبُ أن يُقال بوُضوح. ولكن قبل ذلك وبنفس الوضوح، يجب أن نُشخص الأزمة ونضع أصابعنا على جذورها وأصولها، لا أن نُخفي الأسباب ونختبئ وراء النتائج.

خطاب الجماعات (التي وضعت نفسها في خدمة راشد الغنوشي) نوعان:
الأوّل، خطاب وقح وسافر يفتقد إلى الحدّ الأدنى من الحياء الآدمي، يتحدث صراحة عن ضرورة إسقاط مسار 25 جويلية بكل الطرق، بما في ذلك تجويع المواطنين وتقديم رقبة البلد للمخابرات الأجنبية بالتحريض على الجيش والأمن. وهو خطاب يوحي بأن منظومة ما قبل 25 جويلية 2021 كانت ديمقراطية كاملة الأوصاف.

النوع الثاني، خليط من قوى ديمقراطية حقيقية تخشى عودة الاستبداد، ولكنها تعتقد -خطأ- في إمكانية إسقاط قيس سعيد دون عودة حركة النهضة للتحكّم في الدولة. وهذا الوهم يعكس سطحية فهم أصحابه لميزان القوى الحقيقي، إذ بكل المقاييس والحسابات، لا مفرّ من العودة لإطار دستور 2014 فيما لو سقط قيس سعيّد. ولا مفرّ من وقف التتبّعات التي طالت المجرمين ودفن ملفاتهم إلى الأبد.

المؤسف أن وسط هذه القوى الديموقراطية المذعورة من عودة الاستبداد (وهي على حقّ)، هنالك عناصر مُخادعة تُدرك جيّدا المآلات، وتشتغل بطريقة غير مباشرة لصالح حركة النهضة، ولكن من خارج جبهة الخلاص. نعم نتأسّف. ومن حقّنا أن نتأسّف ونشعر بالمرارة لأن هؤلاء المتعاونين الجُدد تاريخهم ناصع، ويحوزون على ثقة شريحة واسعة نسبيا في المجتمع. وقد اتخذوا قرار خداع شعبهم، (لِغايات لم يحِن بعد وقت كشفها) متناسين أن تجربة العقد الماضي، بيّنت من خلال الممارسة، أن حركة النهضة تقف خارج المشترك الوطني، وأنها عبارة عن منظمة إجرامية، وأنها خرّبت مؤسسات الدولة سواء بسياسات الإهمال والتدمير، أو بسياسات خلق أجهزة موازية تشتغل خارج القانون، وأنها قسّمت الشعب بدل توحيده، وأنها أفسدت السياسة بالأموال الأجنبيّة، وأنها وضعت البلد في مهبّ نزاع المحاور. وأن أولوياتها فئوية، تنظر في البدء والمنتهى، لمصلحتها الضيقة في علاقة بمصالح دول أجنبية، أما مصلحة تونس وحياة التوانسة فهي خارج معادلة الحكم.

أخيرا، رسالتي للعُقلاء، علينا أن ننتبه ونُميّز بِحذرٍ شديد بين الكفاح من أجل الديمقراطية والكفاح من أجل إعادة القَتَلة والإرهابيين لِسُدّة الحكم.
ولا يجوز خِداعكم بأن التضامن مع المجرمين والوقوف ضد ملاحقتهم، هو دفاع عن الديمقراطية.
ولا يمكن لِعاقل نبيه أن يُصدّق بأن القوى الديموقراطية -على حالتها الراهنة- قادرة على الإطاحة بقيس سعيد وحركة النهضة معًا. فهذا الرأي أقرب للانتهازية، منه لصدقيّة وصرامة الانحياز للديمقراطية. بل هو خطاب يأس وقنوط وانكسار، لسياسيين خفيفي الوزن حالهم يدعو للسّخرية. إذ انحازوا للثورة ظناً منهم أن الثورة شأن سريع، سيحقق لهم مكاسب الانتصار والحكم بسهولة. ولمّا جرت الرياح عكس توقّعاتهم البسيطة، وأوصِدت أمامهم الأبواب، وطال الأجل بالثورة، واتسع نطاق أزمتها، وتعددت عثراتها، وبدا أنها أخفقت في تحقيق أهدافها، انبروا يبحثون عن تموقع مُتخيّل في مشهد ما بعد سقوط قيس سعيد عن طريق السفارات وأجهزة الاستخبارات الأجنبية.

من واجب السياسي الحقيقي أن يبني رؤية وطنية للتغيير، ورؤية للإخفاق أيضا. وكما في قراءته للثورة، عليه أن يُبيّن لشعبه أسباب انكسار المسار الديمقراطي بِرُمته، سيما في ظل حضور تيّار مُتطرّف لا يؤمن بالديمقراطية. وعليه أن يُثابر لِبِناء جبهة ديمقراطية مع كل الواقفين على المشترك الوطني، المُجمِعِين على الدولة الحديثة، وعلى أسس النظام الجمهوري، وعلى قيم السيادة الوطنية، وقيم المساواة والعدالة والتقدّم. هذا هو دور السياسي الكبير الذي يُدمجُ طموحه بطموح شعبه ونهضة بلاده. وليس ذاك السياسي الخفيف الباحث عن أي مسرب للتّموقع وسط منظومة تدفع بالبلاد ضدّ أمنها، وضدّ استقرارها.

وختاما، احذروا قادَةٍ الهزائم، المجتهدين في إخفاء الخيانات، وتحويل الجُناة إلى ضحايا.



#عزالدين_بوغانمي (هاشتاغ)       Boughanmi_Ezdine#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العَلمَنَة مسار تاريخي، وليست قرارًا إداريًّا.
- أحزاب القبيلة وحُكم الأقلّيات
- الإسلام السياسي والاستعمار، مشروع واحد.
- أُفول اليسار التّونسي على يد قيادات اليمينيّة.
- في غياب تحالف شعبي ديمقراطي، لا خيار إلا الرئيس
- حركة النهضة سقطت بسبب جرائمها
- هذا ما حدث في تونس
- برقية إلى شباب اليسار التونسي
- أزمة الأحزاب السياسية في تونس
- التدخل الروسي في أوكرانيا: هل هو غزو للأخت الصغرى؟ أم مواجهة ...
- هل يمكن الحديث عن أزمة في الإسلام؟
- حضور حركة النهضة، يساوي غياب المشترك الوطني.
- حركة النهضة أصبحت -مافيا- ولم تعُد حزبًا سياسيًا.
- ثورة، بلا ثوريين.
- نَكبتُها، في نُخْبَتِهَا، بما في ذلك الرّئيس.
- إلى رئيس الجمهورية قيس سعيّد.
- الاتحاد العام التونسي للشغل جزء من النظام العام ومحور توازن ...
- ما دخل اتّحاد الشغل بالسياسة؟
- الخيار الوطني في مواجهة جماعات الاحتياط الكولونيالي
- -الأمّة الإسلامية- فكرة مُتخيّلة، ومفهوم فضفاض.


المزيد.....




- الهجمة الإسرائيلية المؤجلة على إيران
- بلاغ صحفي حول اجتماع المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية ...
- أصولها عربية.. من هي رئيسة جامعة كولومبيا بنيويورك التي وشت ...
- مصدر التهديد بحرب شاملة: سياسة إسرائيل الإجرامية وإفلاتها من ...
- الشرطة الفرنسية تستدعي نائبة يسارية على خلفية تحقيق بشأن -تم ...
- السيناتور ساندرز يحاول حجب مليارات عن إسرائيل بعد لقائه بايد ...
- إعادة افتتاح متحف كانط في الذكرى الـ300 لميلاد الفيلسوف في ك ...
- محكمة بجاية (الجزائر): النيابة العامة تطالب بخمسة عشر شهرا ح ...
- تركيا تعلن تحييد 19 عنصرا من حزب العمال الكردستاني ووحدات حم ...
- طقوس العالم بالاحتفال بيوم الأرض.. رقص وحملات شعبية وعروض أز ...


المزيد.....

- ورقة سياسية حول تطورات الوضع السياسي / الحزب الشيوعي السوداني
- كتاب تجربة ثورة ديسمبر ودروسها / تاج السر عثمان
- غاندي عرّاب الثورة السلمية وملهمها: (اللاعنف) ضد العنف منهجا ... / علي أسعد وطفة
- يناير المصري.. والأفق ما بعد الحداثي / محمد دوير
- احتجاجات تشرين 2019 في العراق من منظور المشاركين فيها / فارس كمال نظمي و مازن حاتم
- أكتوبر 1917: مفارقة انتصار -البلشفية القديمة- / دلير زنكنة
- ماهية الوضع الثورى وسماته السياسية - مقالات نظرية -لينين ، ت ... / سعيد العليمى
- عفرين تقاوم عفرين تنتصر - ملفّ طريق الثورة / حزب الكادحين
- الأنماط الخمسة من الثوريين - دراسة سيكولوجية ا. شتينبرج / سعيد العليمى
- جريدة طريق الثورة، العدد 46، أفريل-ماي 2018 / حزب الكادحين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - عزالدين بوغانمي - المتعاونون الجُدُد مع نظام الإرهاب والفساد.