أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - الهولوكوست ك-دين مدني- ومشكلاته















المزيد.....

الهولوكوست ك-دين مدني- ومشكلاته


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 7536 - 2023 / 2 / 28 - 22:53
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


قلما يخفق معلقون من خلفية قومية عربية أو إسلامية في التشكيك بحرية التعبير في بلدان الغرب، أو في التأكيد على استنسابيتها إذا تعلق الأمر بقضايانا. حين يجري حرق نسخ من القرآن، أو تنشر رسوم كاريكاتيرية تجرح معتقدات المسلمين ويسوغ ذلك بالحق في حرية التعبير، المكفول في الدساتير والمرسخ في المجتمع والثقافة، يسارع معلقون من طرفنا للقول إن هذه تسويغات زائفة، تؤكد عداء الغرب للعرب والمسلمين، وعدم استقامته في شأن حرية التعبير ذاتها. والمثال المتواتر الذي يسوقونه برهاناً على ذلك هو أنك لا يمكن أن تعبر عن رأي منكر للهولوكوست أو تحرف السردية المهيمنة عن الإبادة النازية لليهود. والحال أن هذا صحيح بقدر كبير، لكن الأمر يتعلق بمثال له مكانة خاصة جداً في تكوين الغرب المعاصر ووعيه الذاتي. ليس إنكار الهولوكوست محرماً "على سبيل المثال" في الغرب، بل هو المحرم على سبيل الحصر، المحرم الكبير. هذا شيء يستحسن أن يُعرف في مجالنا ويُفهم منطقه كي لا نسفه قضية حرية التعبير، أو نضفي النسبية على انتهاكاتها لدينا بذريعة أنها منتهكة في كل مكان.
الهولوكوست "دين مدني" في الغرب، هذا يقوله كثيرون. وهو واقع مكرس بقوانين وفي ثقافة مهيمنة، وتحرسه مؤسسات وأجهزة لا تقتصر على يهود صهيونيين موالين لإسرائيل. ويعبر الرؤساء ومن في حكمهم عن عدم تهاونهم بأي مساس بمركزية الهولوكوست في سياسة واجتماع وهوية بلدانهم، وبخاصة ألمانيا. هذا لا ينطبق على المسيحية، دين الأكثريات الأوربية تاريخياً، وأحد أكبر أعمدة الهوية في هذه البلدان إلى اليوم، إذ يمكن السخرية من المسيح ومن العذراء ومن الكنيسة والقديسين، إن في رسوم كاريكاتير أو في روايات أو أفلام أو أي من أدوات التعبير، وهو ما يثير حفيظة مؤمنين وانزعاجهم بالفعل. يمكن السخرية من المعتقد الديني اليهودي وروايته عن الخلق والنشوء، ومن أنبياء التوراة كذلك. كما يمكن مساءلة التاريخ القومي وشخصياته والتهكم عليهم ونزع الأساطير عنهم. لكن ليس الهولوكوست الذي هو بالفعل تضحية هائلة نادرة المثال، أثارت شعوراً مهولاً بالذنب، وتحولت إلى دَيْن ودِين، عقيدة ومؤسسات وحراس ومنابر وتذكر مستمر. ليس هذا "ديناً سماوياً"، ليس من تنزيل ألوهة متعالية، إنه دين دنيوي، لكنه دين مشرع ورقيب وذي سلطة. الهولوكوست دين ودولة (أو دول) مثلما يقول الإسلاميون عن الإسلام. وهو مثل الإسلام، ليس ديناً مدنياً.
ومثل كل دين، فإن هذا "الدين (غير) المدني" يمكن أن يطور نزعة حرفية أصولية ومتعصبة، لا تقف عند احترام الضحايا والتعهد بعدم تكرار ما حدث، بل تتعدى إلى تقرير فرادة خاصة متعالية لهذه التضحية، تضعها في موقع لا يقارن بغيرها، بل وتصير كل مقارنة إضفاء للنسبية على تلك الجريمة، المطلقة وحدها بين الجرائم. تقرير الفرادة والتشكك في المقارنة والنسبنة من الثيمات المتكررة في أدبيات الهولوكوست.
ومثلما أن سبب الكفر هو الدين، وسبب الهرطقة هو العقيدة القويمة، فإن الدين المدني المزعوم هو سبب نوازع هرطقة وكفر تضيق بالعلاقة بين المكونين العقدي أو الديني والدولتي للهولوكوست، أو بالسلطة الرقيبة التي يحوزها هذا الدين. الأديان التي لا تحوز سلطة، مثل المسيحية في معظم بلدان الغرب اليوم، لم تعد تثير دوافع الكفر ونوازع الهرطقة. تثيرها بالمقابل ديانة الهولوكوست، ويثيرها بالطبع الإسلام المعاصر كما نعلم.
ثم أن العلاقة بين دين الهولوكست "المدني" وبين السلطات السياسية في بلدان الغرب تثير سؤال العلمنة، الحاجة إلى الفصل بين الدين والدولة، العقيدة والسلطة، بما يضمن استقلال المعرفة والأخلاقيات عن الدين، بل وبما يضمن أن يرى الهولوكوست ذاته في دلالته الأخلاقية كجريمة مذهلة في كمها ونوعها، تدعو إلى إلا يحدث مثلها أو ما يدانيها أو ما ينتمي إلى صنفها لأي كان. ونعلم أن هذا الدرس أهدر ويهدر طوال الوقت، وأن صرخة "لن يتكرر هذا أبداً" صارت هتاف الأقوياء، وليس صيحة استغاثة الضعفاء.
والواقع أن تديين الهولوكوست انزاح به تدريجياً إلى دوائر اليمين الحضاري الغربي والصهيوني، بعد أن كان لبعض الوقت بعد الحرب العالمية الثانية وحتى بعض ستينات القرن العشرين يرى في سياق جرائم الامبريالية والاستعمار. لقد صار أحد أوجه الاستثنائية الحضارية الغربية، وصار ينتظر من الجميع أن يفكروا به مثلما يُفكّر به في الغرب، وينتظر من اللاجئين في ألمانيا، الفلسطينيين والسوريين وغيرهم، أن يتصوروا الهولوكوست مثلما يتصوره الألمان. هنا، أعني في ألمانيا، يتجاوز الأمر تقديس ضحايا الهولوكوست إلى شمل الصهيونية وإسرائيل بالقداسة، على نحو لا يترك لأي كان غير واحدٍ من موقعين: إما أن يشارك في هذا التقديس، وإلا فهو معاد للسامية. ربما يُتَفهم من أمثالنا أن نسكت كلياً، فلا نذكر إسرائيل بسوء، لكن هذا كذلك من بين ما تفعله الأديان غير المدنية: ألا تجاهر بنقد ما يتصل بها من مؤسسات وسياسات وقواعد وقوى، وليس فقط أن تحترم حق المؤمنين في دينهم.
يبلغ الأمر درجة هستيرية من صيد الساحرات، حين يحارب ويندد بمفكرين وأدباء رفيعي الشأن مثل جوديث بتلر وأشيل مبمبه وكاريل تشرشل، أو حين تلاحق جملة هنا وتعبير هناك يُشتَمُّ منه خروج على العقيدة القويمة. هذا حرمان ديني من نوع ما مورس في المسيحية الغربية قبل عصر التنوير، أو هو تكفير يبيح دم المكفر، بحسب ما صرنا نألف في المجتمعات الإسلامية في العقود الأخيرة.
تنتفع إسرائيل من بركات الدين الدنيوي الذي حل محل المسيحية في الغرب، فصار يصعب نقد دولة عنصرية نووية عدوانية. ويبدو في الواقع أن هذا الدين لا يلعب على نحو عارض لمصلحة إسرائيل، بل إن وجوده بالذات ما كان ممكناً لولا قيام دولة يهودية في فلسطين. لولا إسرائيل لكان الهولوكوست على ذكرى مؤلمة، محترمة، يكفر عنها بصور مختلفة، لكن لما كان ديانة دولة.
ولا تساعد مواقف عرب ومسلمين تنكر الهولوكوست أو تشكك فيه في نقد هذه الديانة، وهذا بالضبط لأنها تجنح لأن تتشكل في ديانة مضادة، وليس بحال نقداً يقوم على معرفة وعلى احترام. الأمر يذكر ببعض منكري الإسلام الذين لا يكتفون بنقد المعتقد الإسلامي استناداً إلى مقدمات فكرية وفلسفية متسقة، أو متوسلين مناهج الإنسانيات، بل تجدهم أشبه بخطباء دينيين معكوسين، وما هو الخير كله في عين الدعاة الإسلاميين يصير هو الشر كله في عينهم. هذا أقرب إلى تدين معكوس منه إلى نقد للدين. حال منكري الهولوكوست بيننا مثل حال هؤلاء، يقوضون قضيتهم بتطرفهم.
الهولوكوست حدث رهيب، من الجرائم الكبيرة في تاريخ البشرية، ولعلها أكبرها في القرن العشرين، وتنفرد عن غيرها بصفتها الصناعية المنظمة. الديانة المتكونة حوله ترفعه فوق غيره درجات، وترى المقارنة حطاً من شأنه، وبدل أن تدرجه في التاريخ تراه بالأحرى أصلاً مطلقاً لتاريخ لاحق (الشبه بإسلام الإسلاميين قوي هنا أيضاً)، وتصب عائدات هذا التقديس لمصلحة حركة قومية، الصهيونية، ودولة تعتبر دون وجه حق لا كالدول، بما يجعل الفلسطينيين غير مرئيين ومعاناتهم أقل قيمة. هنا يظهر جانب فاسد للدين المدنى المزعوم يذكر بالجانب الفاسد من الأديان غير المدنية التي نعرفها. منبع الفساد في الحالين هو العلاقة المتينة بين الديانة والسلطة، فنحصل على الأسوأ منهما معاً: سلطة مقدسة لا يعترض عليها، وديانة مُسلطة.
الواقع أن مثال الهولوكوست يثير تساؤلاً عما إذا كان الدين، أي دين، ممكناً دون سلطة، وبالتالي عما إذا لم يكن الحرمان من السلطة إيذاناً بأفول الدين ذاته، أو تحوله إلى اعتقاد حر لأفراد مثلما يبدو أنه يحدث للمسيحية في أوربا الغربية. وبينما يدعو ذلك الدعاة الدينيين إلى طلب السلطة لحماية دينهم، فإنه هو بالذات ما يدفع آخرين إلى رفضهما معاً. هذا موضوع توجب التفكير فيه خِبرتا الهولوكوست والإسلام المعاصر معاً.



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- زلزال في سورية: الطبيعة أم السياسة؟
- الكارتل الأسدي وتحويل سورية إلى كَبتاغونيا
- أوربا والشرق الأوسط: أطر الحساسية وعناصرها
- عواقب تسنين الثورة السورية
- مواطنون ولاجئون، قصص لألمانيا من أفغانستان وسورية
- مفارقة الثورة السورية: في التسنين وجذوره
- سورية والسياسة المستحيلة
- ما هي العدالة بخصوص قضية سميرة ورزان ووائل وناظم؟
- في البحث عن الغائبة
- كأنها نهاية عشر سنوات من تطعيم حربين أهليتين!
- العقد الأسدي الأول وحروبه: البنية كتاريخ
- من هتلر إلى بوتين، أين نحن؟
- سجون وسجون وسجون
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
- القسوة والدلال: إسرائيل وتضافر فسادين
- في جذور -تغوّل- الدولة العربية خلال نصف قرن
- أهي نهاية الحرب ضد الإرهاب؟
- لاهوت التعذيب
- اللاجئون السوريون و-القابلية للعنصرية-
- سورية... من بلا تاريخ إلى بلا جغرافيا


المزيد.....




- ردا على بايدن.. نتنياهو: مستعدون لوقوف بمفردنا.. وغانتس: شرا ...
- بوتين يحذر الغرب ويؤكد أن بلاده في حالة تأهب نووي دائم
- أول جامعة أوروبية تستجيب للحراك الطلابي وتعلق شراكتها مع مؤ ...
- إعلام عبري يكشف: إسرائيل أنهت بناء 4 قواعد عسكرية تتيح إقامة ...
- رئيس مؤتمر حاخامات أوروبا يتسلم جائزة شارلمان لعام 2024
- -أعمارهم تزيد عن 40 عاما-..الجيش الإسرائيلي ينشئ كتيبة احتيا ...
- دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية تكشف عن عدد السكان
- مغنيات عربيات.. لماذا اخترن الراب؟
- خبير عسكري: توغل الاحتلال برفح هدفه الحصول على موطئ قدم للتو ...
- صحيفة روسية: هل حقا تشتبه إيران في تواطؤ الأسد مع الغرب؟


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - الهولوكوست ك-دين مدني- ومشكلاته