أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - مفارقة الثورة السورية: في التسنين وجذوره













المزيد.....

مفارقة الثورة السورية: في التسنين وجذوره


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 7484 - 2023 / 1 / 6 - 21:51
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


بدأت الثورة السورية أكثر تعددية من حيث القاعدة الاجتماعية والمشاركة فيها، ومن حيث أساليب النضال، ومن حيث الشعارات، لكنها انزاحت بالتدريج وبثبات نحو الارتكاز على البيئات السنية السورية، وعلى حملة السلاح ضمن هذه البيئات، ومع تزود هذه البيئات بوعي سني مضاعف إذا جاز التعبير، وعي طائفي متشنج، يحتكر المظلومية لنفسه ويستبعد غيره.
لا يمتنع هذا التطور على تفسير معقول، لكنه يبقى محملاً بالعواقب. سار تاريخ الحكم الأسدي باتجاه نزع متزايد لوطنية الدولة عبر خصخصتها، والمجتمع عبر تغذية تمايزاته الموروثة وتأليف قلوب بعض المتمايزين بامتيازات متنوعة، وتغريب بعض آخر. البيئات السنية الأفقر في الأرياف والبلدات وضواحي المدن شهدت تراجعاً موصولاً لمقدراتها دون أن تتاح لها قيادات سياسية أو حتى أهلية في صورة أعيان محليين أو وجهاء يقومون بدور الواسطة مع مراكز السلطة. بالمقارنة، أتيحت فرص "واسطة" أكبر بكثير للجماعات الأهلية الأخرى، الأصغر، تماهى بعضها بالنظام كقيادة سياسية لها، ولم يجد بعض آخر مشكلة كبيرة في ذلك.
بعد الثورة تعرضت البيئات السنية السورية لمعاملة تمييزية أشد قسوة بما لا يقاس. هناك بالفعل معتقلون ومغيبون وشهداء على يد النظام من مختلف الجماعات الأهلية، لكن الحكم الأسدي خص بلدات وضواح سنية ثائرة بالمجازر الكيماوية والبراميل المتفجرة وصواريخ سكود وأكبر المذابح المحلية المعروفة دون استثناء واحد معلوم، وكذلك النسبة الأكبر من المعتقلين والمغيبين، ومن النساء المغتصبات (والرجال والأولاد المغتصبين في المقرات الأمنية وسجن صيدنايا). القول إن النظام دكتاتوري قمعي لا يميز بين من يعارضونه كاذب ببساطة، وغالباً بوعي. الواقع أن الصفة التمييزية والقصوى لعنف النظام، والمثابرة عليه طوال ما يقترب من اثني عشر عاماً، تثير التساؤل عما إذا لم نكن حيال جينوسايد (قتل جمعي على الهوية)، يستهدف جماعة أهلية بعينها، بما يتجاوز الكلام الكسول على الدكتاتورية والاستبداد. هناك نقد ممكن، ومطلوب، لمفهوم الجينوسايد، يوازي بالمناسبة نقد مفهوم الطائفية، وبالتحديد اشتقاق الطائفية من طوائف ناجزة مسبقاً (العكس هو الأصح: الطائفية هي صناعة الطوائف). لكن يلتقي في مفهوم الجينوسايد القتل والتدمير الواسع النطاق مع استهداف تمييزي لمن يجري قتلهم وتدمير بيئاتهم، وهو بهذه الدلالة مطابق للحالة السورية. وهذا يخرجنا كلياً من لغة "الاستبداد والفساد" البائتة، كما من لغة "القمع والدكتاتورية"، وهما لغتان تسهمان في تصوري، ربما دون وعي أحياناً، في نسبنة ما جرى في سورية وإغراقه في عموميات لا تقول عنه شيئا مهماً، ولا تقوم عليها سياسة ثورية حقيقية.
على أن استقرار الانفعال الثائر على الحكم الأسدي في أوساط سنية لم يتولد عن تغريب هذه الأوساط وشعورها بالتمييز فقط، أو عن ترسخ مظلومية سنية بالغة القوة فقط، وإنما كذلك عن عرض إيديولوجي نشط وانعزالي، ليس عن السوريين المتنوعين وحدهم، ولكن عن كتل مهمة من السنية السورية ذاتها، وخصوصاً في المدن. هذا العرض الإيديولوجي السلفي سبق الثورة السورية بنحو عقدين، وبقدر أكبر في العشرية اللاحقة لـ11 أيلول 2011، حيث أخذ مشروع بالغ التطرف والعدمية يبدو شيئاً وجيهاً لقطاعات كانت تزداد حرماناً مادياً وسياسياً في الفترة نفسها. نتكلم على ما بعد وراثة بشار لحكم أبيه، وعلى لبرلة الاقتصاد على نحو يخدم مراكز المدن الكبرى أكثر من غيرها، بل دون غيرها. صار العرض السلفي في المتناول في سورية بعد الاحتلال الأميركي للعراق، وتسهيل النظام دخول جهاديين ربما يشغلون الأميركيين هناك، وهذا مثلما ستفعل تركيا بعد أقل من عقد ضد الحكم الأسدي والفرع السوري لحزب العمال الكردستاني. ولا ريب أن انتشار الإعلام الجديد، الفضائيات، وكذلك وسائل التواصل الاجتماعي، لعب دوراً في ولادة ما يمكن تسميتها بالسلفية الشعبية، فقرب شخصياتها ورمزياتها من قطاعات تتسع من السكان، دون أن تكون المراقبة والقمع التقليديان مُجديين أو حتى ممكنين حيالها إلا بحدود ضيقة. وبعد الثورة السورية دخل مال خليجي من شبكات سلفية ليعزز العرض السلفي ويترجمه إلى واقع عسكري، وهذا بينما كان التمييز المولد للاستلاب والمظلومية يُعايَن كل يوم في شروط الحرب على شكل مجازر وتدمير وتعذيب.
نشأت في المحصلة حلقة شريرة من تمييز فعلي، ومن عرض إيديولوجي انعزالي وميال للعنف، ومن مال ريعي يغذي من تطرف وانعزالية مجموعات محلية، أو مجموعات متطرفة وغريبة أصلاً. وتنغلق الحلقة بارتقاء التمييز إلى مستوى المذبحة والجينوسايد. وهو ما يحجبه تطور عالمي في سنوات النمو السريع للغول السلفي الجهادي نفسه: اعتبار الإرهاب (الإسلامي السني، ضمناً) هو الشر السياسي الأساسي، ومحاربته هي الخير السياسي الأساسي، وربما الوحيد.
بالتدريج، صار الموقع السني المضاعف، أي الطائفي والانعزالي والمحافظ اجتماعياً، هو الموقع الذي يوفر التباعد الأقصى عن النظام والانفعال الأشد جذرية حياله، والأكثر توافقاً مع استمرار الصراع ضده. هنا مفارقة الثورة السورية. الموقع الجذري انفعالياً والأصلب في الصراع محافظ اجتماعياً وبصورة نشطة وتدخلية (قضايا الزي والطعام والشراب واختلاط الجنسين)، وهو ما يضع الثورة السورية في تباين واسع مع الثورات الاجتماعية في الأزمنة الحديثة. ثم أن تقاطع الموقع المحافظ مع السلاح ولد نزعة محافظة مسلحة، رجعية بالفعل، مالت في كل الأمثلة إلى فرض نفسها بالقوة. وسرعان ما سيبدو سفور النساء دلالة على موالاة للنظام وعلى منابت أقلوية، وهذا باطل سياسياً وتاريخياً، لكنه عنصر في سياسة هندسة اجتماعية، حمّلت الصراع العسكري مع النظام، وقد انحصر كلياً بيد منحدرين من بيئات سنية بدءاً من صيف 2013، برنامجاً اجتماعياً وسياسياً خاصاً. وقد يكون تنظيم الاتحاد الديمقراطي الكردي أكثر من استثمر في هذه المفارقة، وسوّق تنظيمه الأم، حزب العمال الكردستاني، ذلك في الغرب بنشاط مدهش. طوال سنوات كانت صورة المقاتلة الكردية تقول شيئاً وتلمح إلى شيء آخر: محافظة اجتماعية في البيئات العربية السنية التي ينحدر منها أكثر الدواعش، بحيث تحتاج إلى محررين من خارجها. بل إن النظام نفسه استثمر في ذلك، وسيظهر عبر صورة أسماء الأسد تحديداً أقرب إلى المثال التحرري المألوف من الثائرين عليه. في المحصلة، ظهر الثائرون سياسياً وعسكرياً رجعيين اجتماعياً وثقافياً، وهو ما أعطى النظام ومن لا مشكلة لهم معه الموقع التقدمي.
وحيال هذا الشرط المركب للقاعدة الاجتماعية للثورة السورية نجد تقابلاً استبعادياً يتحكم بمقاربات الكتاب السوريين. فحيث يجري إبراز التحول السني المحافظ، قلما يقال شيء عن الجينوسايد، وبالكاد بعض العموميات عن القمع، بالمقابل من يتكلمون على الإبادة والتمييز قلما يسلطون الضوء على التحول المحافظ المسلح الذي عرض ممثلوه استعدادات جينوسايدية قوية، من أبرز أمثلتها مجازر جيش الإسلام في عدرا العمالية في الشهر الأخير من 2013. ولا أتكلم على داعش وجبهة النصرة لأنهما لم تتولدا عن الصراع السوري بحد ذاته، وأن توفرت لهما بيئة انتشار بأثره.
وهكذا فإن من واجهوا حرب النظام جنحوا نحو محافَظة مُقاتِلة، على نحو نزع أي قيمة عامة عن حربهم التي اختزلت الثورة إليها، أما من كانوا غير محافظين فلم يكن لديهم رد على سؤال الحرب والتهجير والإبادة. هل من مخرج؟ الواقع أنه ليس هناك نظام جينوسايدي واحد سقط بجهود محكوميه الذاتية. والحرب ضد الإرهاب لم تحل دون تجريم النظام فقط، وإنما هي ما عوّمته وحجبت الإبادة الجارية في سورية. وبينما يعني ذلك أن الحلقة الشريرة السورية هي عالمية كذلك، فإنه وضع نقد التحول الرجعي في موقع ضعيف اجتماعياً وسياسياً وأخلاقياً. كيف تنتقد الضحايا، من تعرضت حيواتهم وبيئاتهم للتدمير؟
ولكن كيف لا تنتقدهم، بينما هم يعرضون صراعهم في صورة لا تفيض بحال على إحلال طائفي، طائفة ضد طائفة وطائفة محل طائفة؟



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سورية والسياسة المستحيلة
- ما هي العدالة بخصوص قضية سميرة ورزان ووائل وناظم؟
- في البحث عن الغائبة
- كأنها نهاية عشر سنوات من تطعيم حربين أهليتين!
- العقد الأسدي الأول وحروبه: البنية كتاريخ
- من هتلر إلى بوتين، أين نحن؟
- سجون وسجون وسجون
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
- القسوة والدلال: إسرائيل وتضافر فسادين
- في جذور -تغوّل- الدولة العربية خلال نصف قرن
- أهي نهاية الحرب ضد الإرهاب؟
- لاهوت التعذيب
- اللاجئون السوريون و-القابلية للعنصرية-
- سورية... من بلا تاريخ إلى بلا جغرافيا
- رحل نبيل كمير
- علاء (مقدمة كتاب شبح الربيع)
- في الاختلاف السوري: المجزرة تفادياً للمجزرة
- علاء عبد الفتاح ودولة ما بعد الاستعمار
- معنى التغييب القسري
- أوجه المجزرة السبع


المزيد.....




- فيديو أسلوب استقبال وزير الخارجية الأمريكي في الصين يثير تفا ...
- احتجاجات مستمرة لليوم الثامن.. الحركة المؤيدة للفلسطينيين -ت ...
- -مقابر جماعية-.. مطالب محلية وأممية بتحقيق دولي في جرائم ارت ...
- اقتحامات واشتباكات في الضفة.. مستوطنون يدخلون مقام -قبر يوسف ...
- تركيا .. ثاني أكبر جيش في الناتو ولا يمكن التنبؤ بسلوكها
- اكتشاف إنزيمات تحول فصائل الدم المختلفة إلى الفصيلة الأولى
- غزة.. سرقة أعضاء وتغيير أكفان ودفن طفلة حية في المقابر الجما ...
- -إلبايس-: إسبانيا وافقت على تزويد أوكرانيا بأنظمة -باتريوت- ...
- الجيش الإسرائيلي يقصف بلدتي كفرشوبا وشبعا في جنوب لبنان (صور ...
- القضاء البلغاري يحكم لصالح معارض سعودي مهدد بالترحيل


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - مفارقة الثورة السورية: في التسنين وجذوره