أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - سورية والسياسة المستحيلة















المزيد.....

سورية والسياسة المستحيلة


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 7463 - 2022 / 12 / 15 - 17:12
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


خلال ما يقترب من 12 عاماً من الصراع، تدفقت السياسة من كل حدب وصوب في سورية، وفاضت على أي أطر سياسية متاحة، بما فيها حدود البلد وحدود الدولة وأجهزتها، وحدود الجماعات الأهلية والمحلية، بل وحدود مداركنا، وحدود مفهوم السياسة ذاته. السياسة كفعل تمتنع حين ينبع ما هو سياسي من كل مكان، ويتورط فيه الإقليمي والدولي، فضلاً عن المحلي، والدول وما دونها وما فوقها، والأديان، والأزمنة، وكل ما يمكن تخيله من عنف (عدا النووي). وفي هذا ما يضفي على الصراع السوري تعقيداً نادراً يحتمل لإمعان النظر فيه أن يسهم في تجديد التفكير السياسي في مجالنا.
لدينا بداية الدولة بجيشها ومواردها الطرف الأساسي في الصراع الذي عرف الاحتجاج السلمي، بما في ذلك مظاهرات بعشرات الألوف ومئات الألوف. عرف بعد ذلك مقاومات مسلحة متنوعة، منها وليدة الصراع، ومنها أمهات صراع إن جاز التعبير، تولدت في سياق حروب أهلية في البلدان المجاورة (لبنان، العراق، تركيا)، أو في إطار الجهادية السنية المعولمة. هي أمهات صراع لأن لها وجوداً سابقاً للصراع السوري، ولأن منظوراتها من وجه آخر فوق دولتية، أي فوق سورية كذلك، وإن تكن هي ذاتها منظمات ما دون دولة. سورية إطار عارض كثيراً أو قليلاً لدور حزب الله اللبناني وحزب العمال الكردستاني وتفرعات القاعدة بعد أفغانستان والعراق. ليس الأمر كذلك بخصوص المجموعات السورية التي قاتلت النظام. هذه بنات صراع بالأحرى.
غير الدولة ومنظمات ما دونها، الدين منخرط في الصراع ويوفر له لغته الصريحة ورمزياته ووعوده وعقيدته المعبئة. يتعلق الأمر بالإسلام السني بطبيعة الحال، وقد آل به الأمر لأن يكون القاعدة العقدية التي توفر نقطة التباعد الأقصى عن النظام والانفعال الجذري حياله. وهذا منبع مفارقة حادة في الثورة السورية تستحق تناولاً مستقلاً. ثم أن الإسلام الشيعي طرف مسلح في الصراع بقدر لا يتناسب مع الوزن السكاني للشيعة السوريين، أقل من 1% قبل الثورة. ولعل في ذلك ما يشرح الحاجة إلى رفد الرمزيات الشيعية بخطاب مقاومة جامع في مواجهة إسرائيل والغرب. ولأول مرة، ربما منذ الفتح الإسلامي قبل أربعة عشر قرناً، لدينا في سورية ميليشيات مسيحية مسلحة تقاتل إلى جانب النظام (اشتهر من قادتها نابل العبدالله من السقيلبية وسيمون الوكيل من محردة)، ومن المرجح أنه شارك مقاتلون من اليمين المسيحي اليوناني والفرنسي في سورية إلى جانبهم كذلك.
الطوائف ليست فاعلين مفاجئين في "سورية الأسد". لدينا طائفية مُطيِّفة هي طائفية الدولة، وطائفية مُطيَّفة، هي طائفيات فاعلة اجتماعياً، والاتجاه العام قبل الثورة هو نزوع الجماعات الأهلية المختلفة إلى التطيُّف، أي التشكل كوحدات سياسية. الطوائف تشكيلات اجتماعية ناقمة ومنتقمة، وسورية تميزت بإنتاج واسع للنقمة والانتقام في السنوات الماضية. وما فعّل الطوائف فعّل العشائر كذلك، وقد تنافس عليها في أوقات مختلفة النظام والمعارضة الرسمية وداعش وقسد والأميركيون.
ومن المكرور الإشارة إلى وجود الإيرانيين والأميركيين والروس والأتراك والإسرائيليين على الأراضي السورية، لكن هنا أيضاً ثمة مفارقة في تواجد خمس قوى نافذة في بلد واحد صغير: القوتين الامبراطوريتين الكبريين في عالم اليوم، أميركا وروسيا، وأكبر القوى الإقليمية التوسعية إسرائيل وإيران وتركيا، وكلها مسكونة بمخيلات امبراطورية، وبذاكرة امبراطورية قريبة أو بعيدة. وجه المفارقة أن الامبريالية التقليدية تتميز بتوسع مركز متروبولي واحد أو عدد قليل من المراكز نحو مناطق شاسعة تفوق المتروبولات مساحة وسكاناً. ما لدينا هنا بالمقابل هو انتشار امبرياليات مركزية أو فرعية في بلد صغير. ولعل من المناسب تسمية هذا الشرط النادر الامبريالية في بلد واحد، تيمناً بالاشتراكية في بلد واحد، مثلما نظّر لها بوخارين وستالين ومارسها الأخير. لكن اشتراكية ستالين كانت تتصالح مع واقع اضطراري بعد خيبة التوقعات بثورات اشتراكية أوربية، وعلى خلفية تصور نظري بأن الاشتراكية لا تكون إلا عالمية. أما الامبريالية في بلد واحد فهي متصلة بخصائص الزمن الدولي والإقليمي الحالي من الحرب ضد الإرهاب والنزعة الدولانية وصعود الجينوقراطية (السياسات المتمركز حول الجينوس، العرق أو الإثنية أو الأهل، وليس حول الديموس، الشعب والمواطنين).
وإلى جانب الامبرياليات المتجسدة في دول، خبرنا في سورية صعود "الامبرياليين المقهورين" ثم انحدارهم، أعني الإسلام السلفي الجهادي، المسكون بمنطق ومخيلة الفتح والتوسع والسيطرة، والذي لا ينازع الامبريالية من أجل المساواة أو الحرية، بل من أجل أن يحل محلها. وهذا ما يجرد مقاومته الحربية المقدامة من أي مضمون تحرري، بل وما ينحط بها إلى عدمية وإرهاب.
عرفنا خلال نحو دزينة من السنين كذلك كل مستويات العنف: الحرب والتعذيب والاغتصاب والمجزرة والإرهاب والتغييب. وشهدنا استخدام الطيران ضد المدن، ورمي البراميل المتفجرة فوق المناطق المدنية، والصواريخ البعيدة الأمد، والأسلحة الكيماوية.
وتكشف في سورية أكثر من غيرها تغير تعريف الشر السياسي الأساسي أو "جريمة الجرائم"، لتصير هي الإرهاب، وليس الجينوسايد على ما هو مقرر في اتفاقية خاصة للأمم المتحدة عام 1948. هذا التحول غير المصرح به تكرس بعد أيلول 2001، وأسس لنظام دولي ضمني، دولاني، وملائم للأقوياء في كل مكان، مع منزع إسلاموفوبي أكيد. أسوأ من ذلك: قاد تشخيص الإرهاب بوصفه الشر السياسي الأساسي إلى التغطية على الجينوسايد في سورية وعلى مجازر جينوسايدية في العراق. أجندة الأقوياء هذه هي أقوى الأجندات، وهي ما يتذرع به المحتلون الخمس في سورية.
ويحظى النظام بإقرار الحكومات الغربية بوصفه الشر الأدنى، بعد أن شخصت الإرهاب بوصفه شر الشرور، وبدعم اليمين الغربي الإسلاموفوبي الواعي جداً لتكوين النظام الطائفي، ومساندة اليسار التقليدي، الماضوي مثل اليمين. التروتسكيون والأناركيون خارج هذا الإجماع.
وفي سورية كذلك خبرنا بصور مباشرة تجاور أزمنة لا يتوقع تجاروها. ثمة أولاً الزمن المهدوي الألفي للإسلام الشيعي، وبصورة ما نظيره السني الذي فكرت نسخته الداعشية بمعركة فاصلة تخاض في دابق، وفكر جيش سلام في أن الغوطة هي "فسطاط المسلمين" في المواجهة الفاصلة. ثم لدينا زمن الأبد الأسدي، وزمن القوى الامبراطورية التي تفكر بنفسها بمنطق القرون، أو الأبد كذلك في حال "روسيا الأبدية". وهذا وصولاً إلى الزمن اليومي للاجئين في الخيام، الذي لا يكادون يضمنون لقمة يومهم، ولا يسعهم التخطيط لغدهم. بنحو 90% من السوريين تحت خط الفقر، تمثل سورية تجاوراً رهيبا بين زمني الأبد والزمن اليومي، ربما لا نظير آخر له في عالم اليوم. الغائب هو الزمن التاريخي كزمن للتوقع والتخطيط في سنوات قادمة.
كل هذه السيولة التي بلا مفاصل ولا بنية سياسية. لا نرى مثلها في بلدان كثيرة، بل لا نراها في معظم البلدان، نراها في سورية بفعل تدفق قوى هائلة في بلد صغير، واندلاق أحشاء البلد بأثر ما شهد من عنف مهول.
وبقدر ما يبدو هذ مثيراً للنظر السياسي ومختبراً لا مثيل له للمعرفة السياسية في شأن عالم اليوم، فإنه يجعل السياسة كتوجه استراتيجي عقلاني لذات سياسية تعرف نفسها بدولة وشعب وأرض مستحيلاً. ليس هناك إطار وطني يمكنه استيعاب كل ذلك، وهذا من بين ما قوض الحزب السياسي الذي لا يستطيع في مثل هذه الشروط الفوضوية أن يطور تحليلاً عقلانياً يحيط بمنابع التدفق السياسي، أو يضع برنامجاً للتطبيق وتوجيه الممارسة، أو يعبئ ويكسب الأنصار والمحازبين.
والخلاصة أن السياسة التي تنبثق بغزارة من كل مكان طوال نحو اثنتي عشر عاماً هي ما تحكم باستحالة المستوى الذي كان يمكن أن يوحدها تحليلياً، ويستقطب جمهوراً وينظمه، ويسعى من أجل تغيير الواقع: الحزب السياسي.



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ما هي العدالة بخصوص قضية سميرة ورزان ووائل وناظم؟
- في البحث عن الغائبة
- كأنها نهاية عشر سنوات من تطعيم حربين أهليتين!
- العقد الأسدي الأول وحروبه: البنية كتاريخ
- من هتلر إلى بوتين، أين نحن؟
- سجون وسجون وسجون
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
- القسوة والدلال: إسرائيل وتضافر فسادين
- في جذور -تغوّل- الدولة العربية خلال نصف قرن
- أهي نهاية الحرب ضد الإرهاب؟
- لاهوت التعذيب
- اللاجئون السوريون و-القابلية للعنصرية-
- سورية... من بلا تاريخ إلى بلا جغرافيا
- رحل نبيل كمير
- علاء (مقدمة كتاب شبح الربيع)
- في الاختلاف السوري: المجزرة تفادياً للمجزرة
- علاء عبد الفتاح ودولة ما بعد الاستعمار
- معنى التغييب القسري
- أوجه المجزرة السبع
- أركان التغييب القسري الثلاث وجوهره


المزيد.....




- ما هي صفقة الصواريخ التي أرسلتها أمريكا لأوكرانيا سرا بعد أش ...
- الرئيس الموريتاني يترشح لولاية رئاسية ثانية وأخيرة -تلبية لن ...
- واشنطن تستأنف مساعداتها العسكرية لأوكرانيا بعد شهور من التوق ...
- شهداء بقصف إسرائيلي 3 منازل في رفح واحتدام المعارك وسط غزة
- إعلام إسرائيلي: مجلسا الحرب والكابينت يناقشان اليوم بنود صفق ...
- روسيا تعلن عن اتفاق مع أوكرانيا لتبادل أطفال
- قائد الجيش الأمريكي في أوروبا: مناورات -الناتو- موجهة عمليا ...
- أوكرانيا منطقة منزوعة السلاح.. مستشار سابق في البنتاغون يتوق ...
- الولايات المتحدة تنفي إصابة أي سفن جراء هجوم الحوثيين في خلي ...
- موقع عبري: سجن عسكري إسرائيلي أرسل صورا للقبة الحديدية ومواق ...


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - سورية والسياسة المستحيلة