أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - رحل نبيل كمير















المزيد.....

رحل نبيل كمير


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 7341 - 2022 / 8 / 15 - 17:11
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


قبل أربعين يوماً رحل نبيل كمير فجأة وهو في السادسة والستين. قبل الرحيل تسنى لنبيل مع زوجته وابنتيه أن يلتقي في كردستان العراق لأول مرة في سبع سنوات الابنة الكبرى سارة المقيمة في كندا. مثل عائلات سورية كثيرة، احتاجت الأسرة إلى بلد وسيط للقاء بعد أن تطاول لم الشمل المأمول سنوات، تُسرق من أعمار الآباء والأمهات. في اللاذقية بعد شهور قليلة مات نبيل بأزمة قلبية. كان آخر ما قاله لإيمان: يا عمري! يا عمري!
كنا طالبين في جامعة حلب في أواخر سبعينات القرن الماضي، وعضوين في الحزب الشيوعي السوري- المكتب السياسي المعارض للنظام، ثم معتقلين في الشهر الأخير من عام 1980، بين 26 من رفاقنا في ذلك الوقت. نبيل الذي كان يدرس الهندسة المدنية وضع على "بساط الريح" فور وصوله إلى فرع الأمن السياسي في حلب، لكنهم فكّوه بعد دقائق لأنه كان ثملاً والضربات لم تكن تؤثر فيه. استأنف الجلادون العمل على جسده صباح اليوم التالي، ولم يظفروا من نبيل بشيء. بعد الاعتقال والتعذيب كنا نحال إلى السجن لآماد غير معلومة. كان نظام حافظ الأسد لا يعتقل أفراداً من التنظيمات المجاهرة بمعارضته، بل يعتقل التنظيم كله، يبيده سياسياً.
نبيل الذي ولد في دير الزور عام 1956 كان من جيل من الشباب السوري المتعلم الذي يناضل من أجل الحرية والعدالة في بلده. كنا شيوعيين وقت كانت الشيوعية تبدو مطابقة للتقدم الذي تمتزج فيه مصالح الطبقات المحرومة بالحريات العامة وبالاتجاه الصحيح للتاريخ. وكنا مستقلين ونقديين، فلا ندين لسلطة تعلو على ما كنا نؤمن أنها مصلحة بلدنا وشعبنا. كان ثمة شيء دونكيشوتي في معارضتنا لنظام يتغول، لكن هل هناك معارضة لأوضاع متوحشة ليس فيها شيء حالم وغير واقعي؟ سورية وقت اعتقالنا كانت تنتقل من بلد متخلف، وراءه حياة سياسية مضطربة، إلى العيش في حاضر مؤبد، محرومة من المستقبل.
جمع نبيل الذي كان له كل النصيب من اسمه بين شيئين ليس اجتماعهما شائعاً، بين الجدية والعدالة الشخصية والكرم وطيب المعشر من جهة، وبين الظرف وخفة دم استثنائية، فكان بذلك بطلاً من أبطال السجن. في سنوات السجن الطويلة، أهم أوجه البطولة هو العمل على جعل حياة شركاء السجن رخية بقدر المستطاع. قد لا أكون ضحكت مرة في حياتي أكثر من تلك الأمسية في المهجع التاسع في "جناح السياسية"، بينما نبيل يعزف على "السلّاتة" التي نشطف بها الماء عند تنظيف المهجع، متمايلاً على طريقة المغنين الغربيين في تلك الأيام، ومخترعاً كلمات تبدو أجنبية لتعطي دلالة بذيئة في العربية. ويختم وصلته بهتاف شيطاني: جيسمي تي بادره منجاتو كاني ماني...، من المحتمل أني نسيت شيئاً من هذه الصيغة السحرية التي سمعتها قبل 41 عاماً، لكن يفترض لتمامها أن يعني بالإيطالية: لقد قتلت أبي، وأكلت لحم إنسان، وإني أرتعش لذة! وأظن أنها جملة وردت في فيلم لبيير باولو بازوليني.
بعد شهور من ذلك الحفل البهيج، تعرضنا لحملة تأديبية، آلت بنصفنا إلى زنازين انفرادية دون أغطية في عز مربعانية الشتاء. كنا موزعين على مهجعين، نتعرض لاستفزازات مهينة من عناصر الأمن العسكري (الذين شاركوا الأمن السياسي الجناح نفسه، وكانوا أقوى وأشد عدوانية)، حتى قررنا ذات يوم الاعتصام في المهاجع، ثم إعلان إضراب عن الطعام. وعلى الفور طلبت مفرزة الأمن السياسي فريقاً قمعياً من الفرع في حلب، وتعرضن مجموعة من رفاقنا العزل في المهجع التاسع للضرب المبرح من قبل مجموعة مسلحة بالهراوات والأكبال، قبل نقلهم إلى الزنازين الانفرادية في قبو السجن. نصفنا الآخر ترك بدون عقاب، لكن مُرتاعين، مكسوري العزيمة، ومستباحين لشهور بعدها. كان نبيل واحداً من المجموعة، ولم أكن منهم. كنت انتقلت إلى المهجع العاشر قبل ذلك أسابيع، فنجوت من هذا التأديب. لكن لعل هذه المحنة التي أتت بعد أكثر بقليل من عام واحد من اعتقالنا عززت روابطنا وأعطتنا تاريخاً.
كان بوراكو أو بوراك هو لقب نبيل في السجن، جاءه من لعبة ورق يبدو أن اسمها الصحيح خارج عالم السجن هو موراكو. كان رفيقنا فاروجان خجادوريان هو من أطلق هذا اللقب على نبيل، ولم يكن يكف عن رواية قصة الاسم بأسلوب مسرحي. نبيل: خلونا نلعب بوراكو! فاروج: يالله، علِّمنا كيف! - لكن بدها ورقين! طيب يا نبيل تعرف إنو ما عندنا غير ورق واحد! وتقول الرواية التي قد لا تخلو من كاريكاتير أن نبيل كرر اقتراح اللعبة التي لا تلعب بورق واحد هو كل ما لدينا وقتها حتى التصق به هذا الاسم. كان هو من سيعلمنا اللعبة التي ستصير لاحقاً أكثر ما كنا نلعب، إلى جانب التريكس.
كنا شريكين في "السخرة"، نتناوب كل يوم اثنين على خدمة رفاقنا الآخرين، فنستقبل "القروانة"، الخبز والشاي الفاتر وعلى وجهه طبقة رقيقة من الدسم، والفطور الذي قد يكون لبنة أو بيضاً مسلوقاً أو جبنة بيضاء في موسمها... ونبسط السفرة مستخدمين صحون البلاستيك وكؤوس الميلامين، يأكل عليها الجميع، ثم نلم كل شيء وننظف، ونفعل الشيء نفسها بخصوص الغداء، أما العشاء فقد تركناه حراً، يتولى كل واحد منا أمر عشائه بنفسه. تظهر عذوبة الطبع في مواقف الخدمة. كان نبيل يقوم بالخدمة بهمة طيبة ومزاج رائق.
نبيل لم يطل به المقام في السجن، خرج بعد أربع سنوات من اعتقال عُرفي. أكمل دراسته الجامعية وتخرج مهندساً مدنياً وعمل في مشاريع خاصة في مدينته دير الزور. تزوج إيمان التي تصغره بسنوات، لكنها صارت زميلته بفعل سنوات غيابه في السجن، وأنجبا ثلاث بنات، سارة وجودي وسام. كان عمل نبيل طيب المردود لسنوات، إلا أنه واجهته مشكلات خاصة أضاعت تعب سنوات، وتركته غاضباً مستاءاً.
لم يعد نبيل إلى العمل العام الذي تضيقت قاعدته بقدر كبير حتى نهاية القرن، وحين اتسعت قليلاً في مطلع القرن أخذت شكلاً مختلفاً جداً: أفراداً معنيين بالشؤون العامة، يتطلعون إلى سورية تعددية ديمقراطية، لكن لا يجمعهم تنظيم أو إيديولوجية بطاقة تعبوية قوية.
نحو مطلع القرن تحولت الأسرة من دير الزور إلى اللاذقية، المدينة التي تنحدر منها إيمان. كنا نلتقي في الصيف على شط المتوسط، كهولاً أربعينيين نقضي بضعة أيام خلية البال مع شريكاتنا والأطفال لمن صاروا بيننا آباء وأمهات. كريماً، مضيافاً، ظل نبيل يعرف جيداً كيف يستمتع بالحياة ويجعل حياة من حوله رخية وطيبة.
نبيل الذي رحل يوم 26 حزيران الماضي أًحَب وأُحِب، وعاش حياة كريمة بقدر المستطاع في بلد تقوم دولته على حرمان المحكومين من الكرامة.
وداعاً يا أبو سارة!



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- علاء (مقدمة كتاب شبح الربيع)
- في الاختلاف السوري: المجزرة تفادياً للمجزرة
- علاء عبد الفتاح ودولة ما بعد الاستعمار
- معنى التغييب القسري
- أوجه المجزرة السبع
- أركان التغييب القسري الثلاث وجوهره
- نحن وإسرائيل والعالم، والتغير الواجب
- منطق تجميع القوى والقضية السورية اليوم
- العالم من منظور سوري
- في سنوية الثورة السورية: مواعيد معلومة ومصير مجهول
- لماذا أوكرانيا قضية سورية؟
- المتلاعب والقاتل، واليسار
- سِيَر سورية في صورة: من الشاهد؟
- جمعية سميرة الخليل ويومياتها
- التفاهة والدموية
- أليس هناك غير سميرة؟
- الأحوال والأهوال: الأسدية الثالثة وتغيير السكان
- في الحاجة إلى طوبى عالمية جديدة
- تسييس: وجها السياسة ومعنياها
- من أين يأتي السلام؟


المزيد.....




- الناطق باسم نتنياهو يرد على تصريحات نائب قطري: لا تصدر عن وس ...
- تقرير: مصر تتعهد بالكف عن الاقتراض المباشر
- القضاء الفرنسي يصدر حكمه على رئيس حكومة سابق لتورطه في فضيحة ...
- بتكليف من بوتين.. مسؤولة روسية في الدوحة بعد حديث عن مفاوضات ...
- هروب خيول عسكرية في جميع أنحاء لندن
- العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز يدخل المستشفى التخص ...
- شاهد: نائب وزير الدفاع الروسي يمثل أمام المحكمة بتهمة الرشوة ...
- مقتل عائلة أوكرانية ونجاة طفل في السادسة من عمره بأعجوبة في ...
- الرئيس الألماني يختتم زيارته لتركيا بلقاء أردوغان
- شويغو: هذا العام لدينا ثلاث عمليات إطلاق جديدة لصاروخ -أنغار ...


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - رحل نبيل كمير