فجر يعقوب
الحوار المتمدن-العدد: 1704 - 2006 / 10 / 15 - 10:45
المحور:
الادب والفن
هكذا اقترب جان جينيه بالنطِّ فوق "الجثث الذهبية" في مخيم شاتيلا من الأسطورة. أربع ساعات كانت كافية للنطِّ أيضاً في الزمن. وفيما كبرت المتاهة وتوسعت شرايينها في كل اتجاه، نجحت زواريبها بابتلاع شعراء وسياسيين وحكماء وفوضويين ومعتوهين ومخرجين ومصورين نهلوا من النبع، بعد أن كانت هي ذاتها ملاذاً للحلم في آن، وكابحة لجماحه في آن، على أن هذا التوقيع الملغز في أسفل الأحلام، أصبح مكلفاً وزائداً مهما تعددت الشعارات وكبرت، وبعضها صغر بحكم المرحلة والتكتيك والمناورة في تجلياتها الكبرى.
نطّةٌ أخرى في الزمن، وإن لم تشبه مثيلتها في نسختها الأصلية، تكشف أن النبع الملهم في مخيمي صبرا وشاتيلا لم يعد هو هو. بل إنه لم يعد هناك نبع إلا في الحلم، وإن نطّات أخرى فوق الذكريات التي اعتاد الضحايا على ترديدها أمام كل هؤلاء المشرعين في اللغة والخطابة والصورة أصبحت تخلق لديهم نوعاً من البارانويا المستحكمة والمتحكمة بهم. فالكاميرا المحمولة على عجل لم تخفف من كل هذا البؤس المرئي الذي يحيط بهم وبحياتهم، وظهر لهم مع الكثير من الخبرة أن هؤلاء ليسوا أكثر من نفوس شهوانية، تدفعهم الرغبة بإحالة كل ما تحذر منه النفوس في يومياتهم إلى فضاء شعري مسلوب، فما من فيلم أو ريبورتاج مقدس غيرّ من مسار الحياة المنحاز إلى عري أقل تكلفاً،بل على العكس من ذلك، فقد حظيت سقوف التنك المفترسة والأبنية الفوضوية بشرعية الانتظار حتى الموت مادام كل هؤلاء المحكومين بعبثيتها يرفضون جلالة التوطين، ولا يرفضون في الوقت ذاته الانحياز إلى هذا العري المكلف (الذي يصبح في حالتهم ماضوياً )، كي يثبتوا للمحيط الدارج من حولهم، إنهم وقد حفظوا الدرس غيباً، فبالانتظار الذي يقصف الأعمار يعيدون ترديد أسماء فلسطين الحسنى على مسامع الجيران، ليؤكدوا لهم حسن نواياهم بخصوص بقائهم أو عدم بقائهم. ومن يتعقب هذه الواجبات المدرسية (الملهمة) التي تفترضها السياسة اليوم، ويقوم بتنقيحها على أمل التملص منها أو دفعها إلى الوراء على أقل تقدير، يعود إلى الخطى الواثقة، في أولمبياد الدم الذي افتتحه جان جينيه لأربع ساعات فقط، وهو الأقصر في التاريخ. وهي ذات الخطى التي تعقبت القاتل إلى مسقط رأسه المتخيل وأرعبته، بعد أن كتب رائعة الدم المفلترة، والتقى خلسة هناك في الزواريب المتصالبة والمتضادة بأم الطيب.
نطّةٌ أخرى في الزمن، أو نطَّةٌ فوق الجثث المتعفنة الآخذة في التفسخ، تعيد لهذه المرأة من تقاسمه الذكريات الآخذة بدورها في التحلل والتذوب على الحيطان، وهي بذكائها الفطري الجيّاش وقدرتها المذهلة على التخلص من أن تظل (أسيرة لمفاتن المخيمات) صنعت لنفسها منفذاً على البحر واللغة والخيال. فهذه المرأة الفلسطينية اقترنت بمغربي، ما لبث أن اختفى بعد خروج الفلسطينيين من بيروت عام 1982، وترك في عهدتها فتاتين وولداً. ولم تترك أم الطيب باباً في هذا الكون لم تدقه، حتى وصلت إلى المغرب سباحة كما يقال، وكان جان جينيه هناك يعيد ترتيب أوراق كتابه (أسير عاشق)، فخيل إليها في سباحتها الطويلة (كما روت للطاقم) أنها التقته وصافحته وسألته عن أبي الطيب. وهي في ذكرياتها الخصبة تتذكر فرنسياً من هذا النوع كان هناك، في بلاد زوجها، وترفض أن تصدق أن السرطان تمكن من هذا الرجل وفتك به، وهي المرأة المعطوبة في أبسط أحلامها لم تعد تمشي على قلق، بعد أن ابتسم لها، فالفرنسي الملعون الذي ينّط في الزمن بيسر، لم يكن هو من يموت بالسرطان. لا..مستحيل أن يموت هذا الفرنسي بالسرطان: (واحد مثله يهزم عشرين سرطاناً بإصبع واحدة). هل كان رائياً إلى هذا الحد حتى لا يحكمه المرض الفتاك أو يقوى عليه؟! سؤال لا تجيب عليه أم الطيب، فهي لا تعرف معناه أو لا تتوقف عنده البتة.
ولا أحد منا يعرف بالضبط ما إذا كانت أم الطيب تقصد فرنسياً ما بكلامها، ولكن في تنهيداتها ما يؤكد وقوع (الرائعة ) على هذا النحو، أي وقوعها في باب المحظورات الأدبية العليا، فليس في النص ما يوحي بالارتياب، إذ كيف يمكن لمخلوق محصن ضد السرطان أن يقف على بحار الألم البشري، الألم الذي لا يكون من طائفته من دون أي مسوغات أخلاقية، فهو لطالما انتهب أفكاره كلها من باب الخروج على هذه المسوغات والطعن بها من دون أن يقلل في روائعه من سكر الكتابة عن جماليات الموت عند الفلسطينيين، وهم يغادرون أحلامهم البسيطة باتجاه فلسطين، ولا يعودون من هناك أبداً.
أم الطيب التي تجمّل الجزع بكلامها تقع في شرك الغواية، فهي لا تنسى الزوج المغربي المفقود، ولكنها تقرنه بجان جينيه، كنوع من تعويض الفقد بنطّة شبيهة في الزمن، فمن لايهزمه السرطان يكشف سر الموت، وهذا سر من أسرار فتنتها المباركة يقفز فوق الذكريات ويفككها، فهي قد ربطت بنوع من التصالح الفذ بين جينيه الأمل الذي لاح لها عند شواطئ الأطلسي (التي ستضم قبره فيما بعد) وبين زوجها المغربي الذي اختفى بدوره في متاهة الأحقاد، والرقى التي لم تعد سحرية، ولم يعد من الخيال، الخيال الذي صنعته أم الطيب ببساطة، فهي تزم شفتيها وتبتسم وتقسم أنها قد رأته مثلها ينط فوق الجثث ويعبر في الزمن منتصراً.. تماماً مثل الأجنبي المجنون الذي يكتب بمهارة ويهزم السرطان. والذين لا يرون وهم في موتهم السريري، أو فقدانهم عابراً، أو حيادياً، يكونون هم أنفسهم من الضحايا المفترضين، وفيما تؤكد أم الطيب لطاقم الفيلم (المخمور) أن هذا الأجنبي لا يمكن له أن يكون عابراً، لأن زوجها سيظل مفقوداً ما لم تقفز هي فوق جثته. هكذا تؤّمن هذه المرأة لنفسها مزيداً من إقامة الفروقات في الأحلام، فالفرنسي الذي زار شاتيلا وسبح في خيالها كأنثى وصولاً إلى شواطئ الأطلسي خفف من الألم المزدوج عندها، فالموت بالنسبة له يظل مثل حبة أسبرين تفعل فعلها بالتسكين وهي تنط في الزمن، فتهدأ الأرملة الطروب، وتتوب يوماً عن الانحناء لرائعته، ولكن أن يكون مفقوداً في خيالها أيضاً، فإن الألم يظل بمثابة ( جحفل الظلمات ) ولا يمكن الانتصار عليه بمهدئ من أي نوع. لكن وجود رجل يموت ويحيا ويقفز بين الأزمنة المتعطلة بسهولة ويسر، ويستطيع أن يقهر السرطان بإشارة من يده، يخفف من أوجاع أم الطيب، التي تعلمت هي أيضاً السباحة في بحور من الذكريات المتلاطمة، وقد ملّت القفز فوق الجثث، فالفرنسي يؤكد في رائعته: إن (للصورة الشمسية بُعدان وكذلك لشاشة التلفزيون إلا أنهما كلاهما لا يمكن أن يعبرهما الإنسان أو يطوف داخلهما).
أم الطيب الآن في هدأتها توسع منافذها على البحر واللغة والخيال وتقفز بين الأزمنة من حين لأخر من دون أن تظهر في الفيلم أبداً..!!
Send instant
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟