|
لماذا ما زلتُ شيوعيًا؟
وليم العوطة
(William Outa)
الحوار المتمدن-العدد: 7509 - 2023 / 2 / 1 - 01:12
المحور:
سيرة ذاتية
لا شيء، بالظاهر، يغري بأن يكون المرء شيوعيًا! فلنلاحظ أنّ كلّ شيء يسير كما لو أنّ حياتنا محتومٌ عليها البقاء تحت سطوة "انتصارات" الرأسمالية بأنظمتها الاقتصادية والسياسية والثقافية والمجتمعية(هذا مع أنّ البعض يعتبر أنّ الرأسمالية لم تنتصر بعد بما فيه الكفاية...وهذا ما كان ينقصنا!).. وكثيرًا ما أسمع أنّ الشيوعية "موضة عتيقة" ونظرية "عفا عليها الزمان"، بالإضافة إلى كونها أيديولوجيا شمولية قمعية وطوبى مينبة على أوهام كبرى...هذه بعض المقولات السائدة كلّما ذُكرت "الشيوعية" أو "الاشتراكية" ..في بلادنا أو في أي مكان، الردود تقريبًا نفسها، ولا همّ إن كان صاحب الردّ عربيًا أو أعجميًا، مؤمنًا أم ملحدًا، مؤمنًا بالديمقراطية أو غير ذلك.... وهذا الذمّ للشيوعية نلقاه عند كافة أطياف المجتمع وحتّى عند العمّال وصغار الكسبة والمنتمين الى الطبقات الشعبية التي سحقتهم شروط الرأسمالية في عصرنا، أي عند هؤلاء الذين من المفترض أن يناصروا المشروع الشيوعيّ، فهو لا ينطق باسمهم فقط، بل يعدهم قبل غيرهم بحلولٍ اقتصادية واجتماعية وسياسية لتحرّرهم وامتلاك ناصية مصائرهم. طبعًا، لا يمكننا توقّع أنّ الرأسماليين والبرجوازيين الكبار والصغار ومن أطياف من متوسطّي الحال المؤمنين بأنّ هدف الحياة هو تحقيق النجاح الفرديّ والانجاز المهنيّ والسعادة الشخصية، وتحصيل المراتب الاجتماعية الأرقى وتجميع رؤوس أموال(مادية ومالية ورمزية ولغوية..إلخ) ومن لفّ لفهم من أنصار الليبرالية الرأسمالية ومقولة "الطبيعة الأنانية والتملّكية للبشر" وحرية الأسواق وديمقراطية المنافسة والاستحقاق الفرديّ..إلخ سيقتنعون بالشيوعية والمشروع الشيوعيّ. ولماذا سيقتنعون أصلاً بمشروعٍ سيجرّدهم من امتيازاتهم وأحلامهم...لو تحقّق طبعًا. بالرغم من وجود أكاديميين وأكاديميات كثُر، من المنتمين إلى الطبقة الوسطى وإلى أقسام من البرجوازية الكبرى حتّى، يعارضون الرأسمالية ويشيدون بالماركسية والاشتراكية..ولكنّهم، بالطبع، غلبًا ما يكتفون بذلك على أوراقهم وفي أبحاثهم. قد تكون ماهضة الرأسمالية موضة الأكاديميا ..والله أعلم. أمّا لماذا ما زلتُ أنا شيوعيًا؟ فإليكم وإليكنّ الجواب.
1-أولاً من منطلق عدم اقتناعيّ بأنّ الرأسمالية هي نهاية التاريخ والنظام الأفضل للبشر والطبيعة، أو بأنّ الرأسمالية تتوافق مع طبيعة ما مزعومة للبشر. ليست نهاية التاريخ طبعًا طالما لا توجد أي نهاية أو غاية أخيرة أو محطّة نهاية للتاريخ البشريّ. في كلّ العصور ظنّ الناس أنّ نظامهم الاقتصاديّ والاجتماعي والسياسيّ هو خاتمة نشاطهم ونهاية ما يصبون إليه...ومع ذلك، حصل ما حصل وما سيحصل: الأنظمة تتغيّر وتتنهي وتُستبدَل بأخرى مهما بلغت درجة نموّها وقوّتها. ثمّ، القول بأنّ الرأسمالية هي النظام الأفضل والأنجع لأنّه يتوافق مع طبيعة مزعومة للبشر، فهذه حجّة لا تقلّ تهافتًا عن حجّة نهاية التاريخ: ما هي طبيعة البشر؟ وهل يوجد طبيعة واحدة أصلاً للبشر؟ هل البشر بطبيعتهم يسعون للتملّك والاستحواذ لأنّهم أنانيون؟ لا أعتقد ذلك. ليس لأنّ البشر بطبيعتهم غير أنانيين ولا يسعون للتملّك، بل لأنّ البشر يمتلكون، برأيي، استعدادات لمسلكيات مختلفة ذات طابع نرجسيّ وتشاركيّ واعتدائيّ وتعاونيّ وتملّكي ومشاعيّ..إلخ ومن طبائع مركّبة ومعقّدة ومتقاطعة وأحيانًا متناقضة. أمّا لماذا يسلك البشر فرادى وجماعات هذا السلوك على حساب سلوكٍ آخرٍ، فلأنّ ذلك مرتبط أشدّ ارتباط بمجمل الشروط الاجتماعية والثقافية التي وجدوا أنفسهم فيها، وهي شروطٌ لم يصنعوها ولكنّهم قادرين، بحسب منطق رغباتهم ومصالحهم، واعية أو غير واعية، كجماعات، على تغييرها أو تأبيدها. وهنا لا أحيل لمزيد من التوسّع في هذه النقطة إلى التراث الماركسيّ فقط، بل إلى مجمل خلاصات العلوم الاجتماعية والانتروبولوجية والتاريخ الاقتصاديّ وعلوم اللغة وحتّى الجينات. لا طبيعة بشرية ثابتة ونهائية وأخيرة، لا أنانية ولا غير أنانية، البشر تركيبات لتقاطع رغبات ومصالح ومخيالات جماعية ممتدة في التاريخ...ثمّ لو افترضنا أنّ البشر أنانيون بطبيعتهم ويسعون إلى زيادة ما يمتلكون وما يريدون الربح منه، ويجهدون لتحقيق المزيد من الأرباح المادية وغيرها، لو افترضنا أنّ ذلك هو الواقع، فهل الرأسمالية هي النظام الذي يستجيب فعليًا لهذه الطبيعة البشرية؟ هنا ننتقل للردّ على مقولة أنّ الرأسمالية هي النظام الأنجح والأفضل. كيف يُقاس النجاح في هذه الحالة؟ إذا كان النجاح سيُقاس عبر التقدّم التكنولوجيّ الهائل الذي نعيشه، والنموّ المضطّرد في العلوم الطبّية التي خلّصت وتخلّص مئات ملايين البشر من الموت والأمراض، فنقول نعم الرأسمالية نجحت في ذلك.ولكن نستطرد للقول أنّ التكنولوجيا لم تكن يوماً في الرأسمالية نتاج سعي الرأسماليين لخدمة البشر ككلّ أو لخدمة الغالبية العظمى منهم. بالعكس تمامًا، فالتطوّر التكنولوجيّ الكبير والذي يستمرّ بالنموّ ما كان له لأن يحصل لولا المصالح المتنامية لأصحاب المشاريع الرأسمالية في أوروبا، منذ اختراع المحرّك البخاري، لا بل حتّى قبل ذلك، في زمن بدايات التراكم الرأسماليّ الحديث عندما بدأت مصالح رأس المال تتزواج مع التقدم التقنيّ والاختراعات. بالخلاصة، لم تكن للتكنولوجيا أن تنمو لولا الغاية منها، وهي غاية مُعلنة أصلاً، التي تنطوي على تحقيق المزيد من الربح والتقليل من كلفة الانتاج. وعليه، لا حياد في التكنولوجيا، لا في الماضي ولا في الحاضر أو المستقبل. أمّا أنّ البشرية جمعاء تستفيد من التكنولوجيات الرأسمالية الطابع هذه، فهذا أمر لا شكّ فيه، ولكنّها استفادة عرَضية بحتة، وبلا شكّ بمقابل، فلا شيء مجّانيّ في الرأسمالية ..على الجميع شراء هذه التكنولوجيات وإلاّ أصبحوا "خارج التاريخ".
وبعجالة، أقول أنّ الأمر عينه ينطبق على الصحّة والطبابة. لا شيء مجّانيّ. ولكنّني أضيف أنّ الرأسمالية، كنمط انتاج مدمّر للبيئة وللكائنات، فالمزيد من الربح والتراكم الرأسماليين يقتضيان المزيد من السيطرة على الطبيعة والبشر وتسخيرهم، هذه الرأسمالية خلقت أمراضها الخاصّة. من التلوّثات البيئية إلى أمراض السلوك الغذائيّ إلى تفشّي السرطانات والأوبئة ووصولاً إلى الاختلالات النفسية الحديثة(الاكتئاب مثلاً). في هذه اللوحة نعلم من يدفع الثمن وعلى من يُلقى كاهل المزيد من تحقيق الأرباح والمنافع التكنولوجية والطبية. هنذا أستطيع أن أحيلكم إلى تقارير وأرقام مؤسسات لا شكّ بدفاعها المجموم عن الرأسمالية(هيئات الأمم المتحدة ومؤسسات مثل صندوق النقد الدولي وغيرها). ولكن، قد ينبري أحدهم للقول أنّ كلّ الأثمان التي يدفعها البشر والكائنات الأخرى في رحلة نموّ الرأسمالية وازدهار مجتمعاتها هي أثمان لا غنى عنها، وليس في نهاية المطاف إلاّ ظرفية ونسبية وقابلة للتخفيف إذا جرت عمليات إصلاح دورية للرأسمالية، فهذه ما زالت تتقدّم عن طريق التجربة والخطأ وإصلاح الأخطاء والثغرات. وسيحيلنا هذا الأحدهم إلى تجارب ناجحة في الرأسمالية الخضراء ورأسمالية السوق الاجتماعيّ والرأسمالية ذات الوجه الانسانيّ وما شابه من مشاريع استجابت لأزمات الرأسمالية..إلخ.
وأتساءل هنا عن أين توجد هذه الرأسمالية ذات الوجه الانسانيّ؟ في بضعة بلدان اسكندنافية مثلاً؟ وهل يمكن حقًّا تعميم نموذج هذه الرأسمالية ذات الوجه الانساني، مع ما تنطوي عليه من إعادة توزيع الثروة وتقليل أرباح الرأسماليين والتخفيف من الاستثمارات في الطبيعة وقبل كلّ شيء التوقّف عن احتلال بلاد الجنوب العالمي واستغلالها ونهبها وتزكية الحروب فيها، هل يمكن تعميم هذا النموذج على كلّ الأرض حقًّا؟ إذا كان الأمر ممكنًا فهذا يعني إنتهاء الرأسمالية بحدّ ذاتها أو على الأقل الشروع في الخلاص منها طالما أنّها تقوم على الربح واحتكار الثروات(نتيجة المنافسة) وعلى التنافس الضاريّ بين أقطابها وعلى احتلال واستغلال بلادٍ فقيرة للاستفادة من فوائض قيمة كبيرة..إلخ ومن دون ذلك كلّه ما كانت الرأسمالية أصلاً لتكون موجودة..... أؤمن بأنّ الرأسمالية، رغم كلّ ما اُتيح لنا الاستفادة منه عن طريقها، تقود البشرية إلى الهلاك. والمسألة ليست طبعًا مسألة نيّات شريرة عند الرأسماليين الذي يقودون العالم إلى الدمار، وليست قضية خلل طارىء ومؤقّت أو أزمات ظرفية ودورية تمرّ بها الرأسمالية من أجل تصحيح مسارتها والاستمرار بنموّها "التقدّمي" على جميع المستويات. لا اؤمن بمسار تقدمي إرتقائيّ تطوّري للتاريخ والمجتمعات، فهذه المقولة تنطوي كما اعتقد على أسطورة أو على الأقل على اختزال خطير لشؤون البشر والطبيعة إلى قياس مدى تقدمهم وفق معايير تكنولوجية وتقنية واقتصادية: النموّ في الرفاهية والانتاج والسلع مثلاً. هذا بالنسبة لي اختزال ايديولوجيّ بحت. لا تُقاس الرفاهية والعافية والازدهارات البشرية بقدرتهم على الحصول على تقنيات تسهّل حياتهم..تُقاس بمدى تحرّرهم من حاجتهم إلى المبتكرات والسلع والأشياء من أجل عافية حياتهم..وفي هذا الصدد الرأسمالية تبدو كآلة استعباد هائلة، ويكفي مثلاً أن يفقد أيٌّ منّا وظيفته أو مسكنه أو ممتلكاته حتّى يصبح بحكم المعدوم وفاقد للحياة والكرامة. والآن أنتقل للسبب الثاني الذي يجعلني أستمر بكوني شيوعيًا. فإذا كان ما عرضته سابقًا يدخل في خانة الردّ السلبيّ على الرأسمالية، فما سأعرضه لاحقًا هو إلى حدٍّ ما الردّ الإيجابيّ عليها.
2- فثانيًا، أعتقدُ بأنّ عصرنا اليوم، الرأسماليّ الميديائيّ الداتاويّ(من داتّا) السائل(بمنطق باومان وليس دولوز..لمن على اُلفة مع مفاهيم الرجلين)، قد فكّك وأذاب قيمًا تحرّرية ومشاعية تنتمي إلى عصورٍ تسبقه وما زالت تجري اليوم في فضاءاتٍ جماعية وبينفردية ولو على نحوٍ خجولٍ ضيّق المساحات. وهي قيمٌ قد تكون من صنف القيَم "الفروسية" الجماعية المرتكزة على أرضية صلبة من دون أن تكون هذه القيَم نهائية بأيّ حالٍ من الأحوال، أي لا تقبل النقد والنقض. قيَم دون كيشوتية إلى حدّ كبير، ولكنّها لا تصارع طواحين هواء وهمية بل آلات طاحنة حقيقية. تنطوي هذه القيَم على منطلقات وممارسات جماعية وبينفردية ركائزها الفعل التطوّعيّ المجّانيّ والسعي التضامنيّ وضروبٍ من الحبّ للآخر[والذات] والتشاركية الرعائيّة والاحترام المتبادل والحوار المفتوح وقبل كلّ شيء احترامٌ عميق لكرامة الآخر وشخصه وكيانه..أيّا كان هذا الآخر ... وذلك على نحوٍ مجّانيّ صرف، بمعنى أنّ هذه الممارسات إذا سار بها أصحابها لا ينتظرون منها وعودًا بأجور ومكاسب لهم أو لهنّ على حساب غيرهم...أين هي هذه المنطلقات والممارسات اليوم في "ألطف" الرأسماليات وعند "أرقى" الرأسماليين والبرجوازيين؟ وجودها استثناء طبعًا. هذه القيم والممارسات أسمّيها كلاسيكية، وهي تتجذّر في تقاليد بشرية قديمة، لأنّها تناقض تلك التي سأسمّيها حداثية فائقة أو فوقحداثية أو ببساطة عصرية والتي ترتكز ، بالمقابل، على منطلقات مختلفة كلّيًا، وفيها يُقصى الفعل التطوّعي المجّاني الجماعيّ والفرديّ مثلاً لصالح الأعمال القائمة على غاية تحصيل مكاسب مادية ورمزية تُعلي في نهاية المطاف من شأنِ بشرٍ على حساب آخرين، وعادةً من شأن أقلية منهم على حساب الغالبية العظمى.
أنا شيوعي بهذا المعنى للشيوعية بوصفها محطّ هذه القيَم الكلاسيكية التي تنحدر من تراثات جماعاتية بشرية عتيقة(حسنًا، الشيوعية موضة عتيقة بهذا المعنى). هي صلبة لأنّها مبنية على التزامات بالوفاء ووعود طويلة الأمد ترثها الأجيال متعاقبةً. وعودٌ فلنقل عنها إنّها أخلاقية/عملية يمنحها الفرد للآخرين ولنفسه بأنّه يؤمن بالكفاح من أجل عالمٍ غير مستلَب يمكن فيه للجميع المشاركة في صناعته وإصلاحه بما يخدمهم ويحافظ على محيطهم البيئيويّ بأكمله. هي إذًا وعودٍ مبنية على إيمانٍ أرضيّ فعليّ بأنّ الأرض وكلّ من عليها(من بشرٍ وغيرهم) متساوون في الكرامة ويستحقّون الكفاح من أجل تحقيقٍ مستمرّ لهذه الكرامة. وإذا قيل لي أنّك لم تفعل سوى مصادرة مجموعة من القيَم والممارسات التي لا شكّ بمدى أهميتها ونجاعتها، وأطلقت عليها تسمية "شيوعية"، أردّ بالقول فلتسمونها ما تشاؤون، ولكن طالما أنّها في منطقها لا تعارض فقط المنطق الرأسماليّ السائد بل تشكّل عائقًا أمام توسّعه وسيادته، أسمّيها شيوعية وأتبناها. ثمّ بالرغم من أنّني شيوعيتي لا تنحدر من نتاج تيارات الحداثة والاشتراكيات الحديثة فحسب، بل تجد تأصيلاتها في تاريخٍ طويلٍ من الكفاحات البشرية التي قادها وسار بها العبيد والفلاحين والبدو والمهاجرين والمستغَلين والفئات المستضعفة والمهمّشة وبالمجمل كلّ هؤلاء الّذين واللواتي امتهنت كرامتهم البشرية واستُعبدوا واُجبَروا على الكدح والمعاناة لا من أجل خيرهم بل من أجل تقوية سلطان غيرهم وتكثير ثرواتهم. وإذا كانت الطبقة العاملة اليوم هي بمعنى ما طليعة المشروع الشيوعيّ، فلا أعتقد بأنّها قادرة على ذلك إذا قطعت من تراث الكفاحات هذا. أؤمن بأنّ الشيوعية تراثٌ كفاحيّ تاريخيّ هائلٌ من أجل الحرية ومحصّلة مستمرة لخبراتٍ ثورية وانقلابية وتمرّدية تتوارثها الأجيال...ولم تكن الرأسمالية سوى المرحلة الأخيرة الحديثة والمعاصرة من البنى المضادة لهذا التراث التحرّري. ومع ذلك، ففي شيوعيتيّ لا ترتسمُ لوحةٌ من صراعٍ بين خيرٍ وشرّ. وفي نهاية المطاف ليست الرأسمالية جحيمًا شيطانيًا ولا الشيوعية الجنّة الملائكية الموعودة. هذه الصورة المثنوية، وعدا عن تهافتها طالما أنّ الحياة الفردية والجماعية، في داخلنا وخارجنا، متشابكة الأسباب ومعقّدة الشروط ومتعددة الميول ولا يمكن اختزالها إلى ثنائيات متناقضة ومنفصلة، هذه الصورة على هذا النحو لن تكون إلاّ في خدمة إعادة إنتاج شروط الاقصاء والقمع والعنف. المثنوية أو الاثنينية مثلها مثل الواحدية لا تعترف بأي اختلافٍ أو تعدديةٍ أو إمكاناتٍ كثيرة قد يحقّقها أيّ كيانٍ. والشيوعية التي أنتمي إليها تحيا على فكر الاختلاف وعلى الاختلاف المعاش بين البشر، كما على توسيع فضاءات التعددية(التعددية هنا ليست بأي حالٍ من الأحوال عددية، بل فلنقل انطولوجية). وهي تعددية تجد شروطها في تعددية التراثات الكفاحية الشيوعية والمشاعية وكثرة المشارب المناطقية والعرقية والثقافية والقومية واللغوية والفكرية للّذين انخرطوا وانخرطن في صناعة هذه التراثات عبر الاف السنين عبر التاريخ... ومن ثمّ، فإنّ اختزال الشيوعية إلى برنامجٍ سياسيّ حزبيّ أو مشروع دولةٍ ما أو حزبٍ ما، وكذلك حصر الشيوعية في التراث الاشتراكيّ العمّالي الحديث، وبالطبع حصر الشيوعية في النظريات الماركسية الكفاحية حصرًا هو تضييق على النضال الشيوعيّ أينما كان ومحاولة تحجيمه إلى مجرّد موقفٍ سياسيّ حزبيّ وحيد الجانب...وعندما جرى اختزال الشيوعية وتصييرها حزبًا ودولةً انتهت تضحيات ملايين البشر إلى هزيمة قاسية ومآسي جديدة.
شيوعيتي التي أؤمن بها معادية استراتيجيًا للدولة والبنى التراتبية المنبثقة عنها وعن التنظيم الرأسماليّ(وهنا أنا أناركيّ إلى حدّ كبير)، ولكلّ المؤسسات التي تعيد اختزال البشر إلى هوياتٍ مغلقة(وبعضها ملفّق)، وتؤسّس لطرائق في القمع والتمييز. المجالس أو السوفياتات أو التنسيقيات القاعدية أو الكومونيات أو الجامع أو الكونفدراليات اللامركزية الأفقية ..هي التي أراها الأطر الأمثل ليقوم المضطهَدين بتنظيم أنفسهم من أجل تغيير شؤون حياتهم والانتقال إلى عالمٍ يمارسون فيه الحرية. أمّا أن تنتهي الشيوعية والثورات إلى بناء دولة وهياكل سلطة ذات سيادة مطلقة وإلى أنظمة تراقب وتضبط وتتحكّم بحيوات البشر، فهذا ما لا ينسجم برأيي مع الروحية التحرّرية للتراثات الشيوعية عبر التاريخ.
الشيوعية هي إمكانية أن نحيا مع الآخرين ونتواصل معهم في شروطٍ مساواتية تامّة، وهي لا تعني فقط مسألة اجتماعيةً وعدالة اقتصاديةً، بل، وفي المقام الأول، تنطوي على أفعال بشريةٍ تطوعيةٍ تصبّ في الحفاظ على الحياة بكلّ أوجهها...الشيوعية إذًا سياسة جديدة ومبتكرة وسعيٌ قصديّ وواعٍ من أجل ازدهار البشر والحفاظ على كرامتهم البشرية وعلى نحوٍ متساوٍ. وعليه، هذه الشيوعية هي الديمقراطية الأكثر فاعليةً وتجذّرًا طالما تتيح لكلّ البشر التشارك في صناعة مصائرهم من دون تفضيلٍ لأحدٍ على آخر من ناحية مدخوله وموقعه الطبقيّ وجنسيته وعرقه وجنسه..إلخ وهذا على عكس ما يدعى بالديمقراطية الليبرالية التمثيلية، التي أنتجها النسق الرأسماليّ(على الأقل في العالم الأوروبيّ)، والتي إذ تظهر وكأنّها تساوي بين أصوات الناس ولكنّها في حقيقة الأمر لا تفعل سوى أنّها تعيد إنتاج الرأسمالية بمنحها شرعية عابرة للطبقات، بينما هي ترتكز حقًّا على امتيازات البرجوازية وأصحاب المشاريع الرأسمالية الّذين يتحكّمون فعلاً بمآلات الانتخابات والّذين تتفوّق "قيمة" أصواتهم الانتخابية على من دونهم في أسفل السلّم الاجتماعيّ، وذلك بما يملكون من امتيازات ومواقع قوّة.
وتريدنا القوى المؤمنة بنهاية التاريخ في الرأسمالية أن نقبل بواقع أنّ هذا الشكل من التنظيم الطبقيّ والتراتبيّ للمجتمعات هو الشكل "الطبيعيّ". وتريدنا أن نقتنع بأنّ الحرية تكفل الملكية الخاصّة والديمقراطية التمثيلية بتحقيقيها لكلّ فرد. وبأنّ الخلاص هو في نهاية المطاف فرديّ(أو جماعيّ ولكنّه سيكون خلاصًا في الرأسمالية ومن أجل ديمومتها)، طالما أنّ الفرد هو الكيان الحقيقيّ الوحيد الذي تعترف به الرأسمالية. وأقول، إنطلاقًا لا من شيوعيتيّ فقط بل أيضًا ممّا حصّلته من قراءات فلسفية كانت إلى حدّ كبيرٍ مقنعة، أنّ الفرد في الرأسمالية ليس إلاّ مقولة اقتصادوية بحتة، فهو فرد إذا كان قادرًا على أن يكون منتِجًا يمكن استثمار جهده وعمله في استحصال قيمةٍ زائدةٍ تدخل في دفوق رأس المال وتحقّق الأرباح، وهو فردٌ طالما كان قادرًا على الاستهلاك، وعلى دفع الضرائب وعلى ألاّ يعطّل عملية الانتاج الرأسماليّ. وهو فردٌ طالما بقي مقتنعًا بأنّ غايته، وعلّة وجوده، من الحياة هي الوظيفة والعمل المأجور والنجاح في هذا الميدان...وهي مقولة سياسية اقصائية: فالفرد في الرأسمالية هو "المواطن" الحائز على جنسية وله وطنه النهائي و"دولته" التي يجب أن يدافع عنها..إلخ والفرد في الرأسمالية مقولة مجندرة أيضًا: فهو الذكر عادةً(وعلى مقياس عالمي هو الذكر الأبيض، رائد الأعمال التجارية و"الانسانية") وصاحب الامتيازات والقوّة المعترف بها بين الأجناس وهو محطّ الفحولة القومية العسكرية ...إلخ وتأمّلوا معي لو فقد أيًّا منّا قدرته على الاستهلاك ودفع الضرائب وعلى الانتاج وتقديم عملٍ مقابل أجرٍ مقابل من الدولة أو المؤسسة الرأسمالية، ولو شكّك بشرعية الرأسمالية وتفضيلاتها الذكورية وأراد استبدالها، في حياته اليومية، بنظامٍ آخر لا يراه ككيانٍ للاستهلاك والانتاج والاندماج وموضوع إقصاء/دمج قسريّ في الآلة العجائبية للرأسمالية. لو فقدنا هذه "الامتيازات" ما سيحلّ بنا من أصناف امتهان الكرامة ونكران حقّنا بالحياة والفاعلية؟ ولو أردنا الخروج عن النسق المهيمن لرأس المال ماذا سيحلّ بنا كأفراد مفردين؟ ويكفي ملاحظة كيف أنّ المقولة الزائفة للخلاص الفرديّ لا تقود فقط إلى فشل هذا الخلاص بل أيضًا إلى تحطيم مضاعف للفرد الذي سيجد نفسه مفقود الأمان والانتماء...
شيوعيتي ليست ترياقًا سحريًا لمشاكل العالم ولا أرى نفسي كشيوعيّ مخلّصًا للبشرية. لا تنطوي شيوعيتي على الرغبة بالتضحية بالذات من أجل الآخرين أو من أجل وطنٍ أو مشروعٍ ما. شيوعيتي مشروع للفاعلية في الحياة والتمسّك بها، وفي الأرض وللأرض. وما أخوضه مع غيري في المقاومة(السلمية أو العنفية، الثورية أو التدريجية) للسيادة الرأسمالية على حياتنا هو مشروع دفاعيّ ينتصر لحياة الأفراد والجماعات والكائنات الأخرى والطبيعة بأكملها(وأعداؤه كثيرون ولا ينحصرون بالمدافعين عن الرأسمالية والامبريالية طبعًا). وشيوعيتي التي أستمرّ بالإيمان بها ليست مشروع نموٍّ للقوى المنتجة وأدوات الانتاج وفق رؤية غائية للتاريخ تؤمن بضرورة التقدم التقنيّ والانتاجيّ من أجل تقدّم البشر. فبالمقابل، أؤمن بشيوعيةٍ لا تنظر إلى النموّ الاقتصاديّ والانتاج كغاية بل كآلية إلى جانب آلياتٍ أخرى من أجل ازدهار حريّات البشر وحماية الطبيعة وكلّ الكائنات وتحقيق انسجامٍ بين الكائنات كلّها، ولو على حساب التقدّم التقنيّ والتكنولوجيّ.
وأظلّ أؤمن بشيوعيةٍ يمكن تحقيقها في أنماط حياتنا اليومية المعاشة مع الآخرين على شكلٍ أنماط علاقاتٍ محرّرة من السلعية والتشيوء والنفعية التبادلية. وهذه العلاقات لن تنتظر قلب النظام العالميّ الرأسمالية واستبداله بآخرٍ شيوعيّ أو اشتراكيّ. وهي ليست مشروعًا طوباويًا يأتي من فوق، بقيادة حزبٍ أو ما شابه. بل هي سيرورة يومية من التفكير النقديّ بأحوال العالم، ومن السعي الحثيث للتخلّص مما يشوب شخصياتنا ومسالكنا من موروثاتٍ وسمومٍ(نرجسية وذكورية استهلاكية تملّكية..إلخ) تجعلنا نعتقد بأنّنا كأفراد وكبشرٍ مركز العالم وأنّ كلّ من وما يقع خارجنا مسخّرٌ لتحقيق سلطتنا ورغباتنا وقوّتنا الخاصّة. هي سيرورة تحرّرٍ وخلاصٍ بمقدورنا أن نحياها مع غيرنا "هنا والآن" بيشخصيًا وبينجماعيًا وبينعرقيًا وعبرحدوديًا في المنزل والشارع والمدرسة والجامعة وأماكن العمل والمصنع وفي الموائل الطبيعية، وكذلك في ساحات الصراع السياسيّ والتظاهرات والأعمال الثورية، وفي الأحزاب والمنظمات والحركات والجمعيات...إلخ شيوعيتي نفي الرأسمالية وإثبات الحياة.
#وليم_العوطة (هاشتاغ)
William_Outa#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بأي معنى لستُ وطنيًا؟
-
المرض ورأس المال - ألفردو بونانو
-
ما معنى المال؟ ديفيد جريبر
-
فليسقط -المونديال- ولتحيا كرة القدم
-
كورنليوس كاستورياديس- عن البرنامج الاشتراكيّ
-
الدولة والاستيلاء والعنف في فلسفة جيل دولوز وفليكس غواتاري
...
-
ميتافيزيقيا المعاناة جياني فاتيمو
-
للنقاش-ملاحظات عن الحراك الحزبيّ الشيوعي في لبنان
-
سلافوى جيجيك: تسعُ نكاتٍ
-
نظرية التعدديات عند برجسون - جيل دولوز
-
كورنيليوس كاستورياديس - مقتطف من -الردّ على ريتشارد رورتي-
-
اللاسلطوية (الأناركية)
-
العدمية بإعتبارها تحررًا - جياني فاتيمو
-
التحليل النفسي: خمس قضايا – جيل دولوز
-
نيتشه و الفكر الرحّال - جيل دولوز
-
دولوز والموسيقى الشعبيّة - إيان بيوكانن*
المزيد.....
-
معالم ظهرت بفيديو استقبال محمد بن سلمان لوزير خارجية إيران ت
...
-
تتبعت تحركاته.. داخلية الكويت تقبض على فرد بالأسرة الحاكمة و
...
-
إخلاء مستشفيات شمال غزة، وفتح وحماس تناقشان مقترح -لجنة مجتم
...
-
باريس تعلن استضافة مؤتمر دولي لدعم لبنان في 24 أكتوبر
-
إعصار ميلتون -الخطر للغاية- يجتاح سواحل فلوريدا برياح عاتية
...
-
الإعصار ميلتون يجتاح سواحل فلوريدا
-
ترامب يرفض إجراء مناظرة ثانية مع هاريس
-
عاجل| إصابة سفينة بقذيفة مجهولة المصدر وتعرضها لأضرار جنوب غ
...
-
الأعاصير الخطرة.. 5 فئات تحدد سرعة الرياح وقوة التدمير
-
-طفل من بين كل 7- يعاني من أمراض ترتبط بالصحة العقلية
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|