|
عتبة الهيكل الفكري في ديوان (الغيم والدخان) للشاعر محمد حلمي حامد
صبري فوزي أبوحسين
الحوار المتمدن-العدد: 7507 - 2023 / 1 / 30 - 02:34
المحور:
الادب والفن
في مقالة سابقة تناولت العتبات الخارجية في ديوان (الغيم والدخان) للشاعر الأكاديمي محمد حلمي حامد، وهي عتبات: (الغلاف، والعنوان الرئيس، والنَّثيرة الافتتاحية)، ورأيت أنها مثيرة ودافعة إلى مطالعة داخلية في هذا الديوان؛ لتبين ما فيه من غموض لذيذ، وتجريد جاذب! وها أنا ذا الآن أعيش مع ما أسميه(عتبة الهيكل الفكري) في ديوان (الغيم والدخان) للشاعر محمد حلمي حامد؛ فالشاعر في عمله الشعري قصد قصدًا إلى أن يكون ذا هيكل فكري خاص؛ حيث مجموعة من التجارب المتنوعة والممتدة عبر زمان الشاعر الشعري والحياتي؛ ليكوِّن سبيكة ثمينة من القصائد الذاتية العذبة، المشحونة بطاقة هائلة من الشجن الشفيف. إنها ستون تجربة تتنوع مذهبيًّا إلى الرومانسيّ والواقعيّ، وتتنوع موضوعيًّا إلى العاطفي، والاجتماعي والسياسي، والمصريّ والعروبيّ! ويمكننا تصنيفها حسب المجاميع الآتية: سباعية وجدانية أُولى: ــــــــــــــــــــــــــــــــ في القصائد السبع الأولى(كنت هنا/وصايا الأيام الحجرية/على طرف غمام/ما كان الطفل عليه/حكاية أبلة فضيلة/حكاية صاحبي الخرافية/رجع الصدى) نجد النزعة الوجدانية طاغية، حيث الذات الشاعرة ساردةً البدْء، وساردة الطفولة، وساردة الحال مع الأهل والمجتمع زمن البدايات! وإن سياحة في هذه السبع لَدالة على ذلك؛ ففي القصيدة الأولى، القصيدة المفتاح والمعنونة بـالتعبير(كنت هنا)، الذي ورد بالنص ثمانيَ مرات! مما يدل على أنه بِنْية مقصودة، وفيه نجد النزعة الطللية، وتقنية الزمكانية- حيث ثنائية الزمان(كنت) والمكان(هنا)- تهيمن على الشاعر، وتتكرر في أعطاف القصيدة. إنها قصيدة مكونة من عشرة مقاطع، في تسعين سطرًا على نسق تفعيلة الرمل(فاعلاتن)، فيها مقطع افتتاحي عن حاضر المبدع زمن إبداعه النص، ثم استدعاء للماضي في المقطع الثاني، ثم في مقطع ثالث نجد التصوير لحال الذات مع الليل فيما يمكن أن نسميه الطللية العصرية، ثم تتوالى المقاطع حزينةً شاكيةً بطريقة إنسانية خاصة، ولعل الاستئناس بمفردات القصيدة وجُمَلها وأسطرِها وصورها ما يساعد على معرفة قيمتها ومكانتها في التأسيس لهيكل الديوان... تبدأ القصيدة بالزمن الحاضر حيث الظرف(عندما) والذي يتكرر ست مرات، في مناطق متنوعة من القصيدة، وكأنه رابطة بين أجزائها، وحيث المضارعات:(تعبر، ترى، يعلو، تغني، تطعم، ترجو، تأكل) في مكان عام هو(الميدان)، الذي يوظف كثيرًا من قبل الشاعر في أعطاف تجارب الديوان! ثم ينتقل بنا شاعرنا إلى الزمن الماضي الأوَّلي، حيث الماضيات(كنت(خمس مرات)/كانت/عاشت/نامت/أدركت/كنت)، ويتخلل ذلك شجن واقعي دام، حيث يكون(ظلا دون جسم)، و(راعش الطرف وحيدًا)، و(تأكل الخبز بملح أو بشاي/بقصيد.. دامع العينين.. مُرّ)، و(حسرة نامت بأجفاني)، و(ليس في كفيك خبز للعشاء/ليس إلا نفثة الدخان تذوي/ عبر أحجار الجدار)، و(جداري مائل في الريح يهوي/تحت أنقاض المنونْ)، بل إن هذا الشجن يصيب العواطف ومتطلبات الروح والجسد، يقول شاعرنا شاكيًا وباكيًا: (أتمنى/لدغة الحب على العشب/وقطرًا صارة نوةْ/أغرق الزهر حنانًا وفتوة/وعناقًا من لهيب يتلوى/ أتمنى /ضحكة في الليل صمتًا فيه معنى/ وابتسامات شريد أحمق/صبٍّ مُعنَّى)! وما أقساه من شجن! وما آلمه من فقر! وما أشدها حسرة من تمنيات! إلى أن يختم شكواه العاطفية قائلا:(أتمنى/ لمس كفيك ولو في العمر مرة/ألمس النشوة حتى يهرب الليل طريدًا/ خلف ثيران النهار)! إنها أمنيات إنسان طبيعي، لكنها في مكان وزمان غير طبيعي! حيث(بريق الضوء يعوي فوق قطعان الذئاب/ نافرات الناب يحميها الضباب)، إنها قصيدة تكثف حياة الشاعر كلها، وأعتقد أنه سبب إيحائه إبداع هذا الديوان الذاتي والسِّيَري والسردي، حيث قدم لنا ذكريات، ولقطات متنوعة من عمره طفلاً، وشابًّا وكهلاً، فردًا وزوجًا، ابنًا وأبًا! ومن ثم كان هذا الختام لهذه القصيدة: (كم لعبت وكم تعبت/ما الذي أبقته الذكريات مني؟/غير أني/ذات يوم كان فيه الطفل صبحًا/ثم مات/كان فيه القلب طفلا ماجنًا/عندما كنت هنا)! وهنا يتحول السرد إلى اعتراف صريح جريء! ومن ثم كانت تجربة(كنت هنا) المفتاح لهذا الديوان واستحقت أن تكون الأولى في صناعة هذا الديوان، وأن تكون مرجعيتي في تدبر هيكل الديوان الفكري! وفي التجربة الثانية (وصايا الأيام الحجرية) نجد الإيقاع الرملي (الفاعلاتي إن جاز التعبير) حاضرًا في أربعة مقاطع كل مقطع يبدأ بـ(أَيْ بُنَي)، في تسعة وثلاثين سطرًا، في المقطع الأول تصوير صادق عميق بالعلاقة بين الأب والابن، وفيها صدق آسر، أبلغة حين يقول: (أي بني أنت حي.. فأنا الآن حي)، وسيظهر هذا التصوير بجلاء وعمق في القصيدة التالية الثالثة! وفي المقطع الثاني خلاصة تجربة الأب/الموصي في التعامل مع الأوقات، يقول:(ادفع الأوقات بالصدق/ ولا ينبيك كرب/ ليس في الأيام إلا أن تحب/ ساذجًا مثلي ومخدوعًا ..وأب)! وفي المقطع الثالث بيان مفهوم الخير، وهو مفهوم إيجابي فاعل، يقول حكيمنا الشاعر: (ليس معنى الخير أن تجني المنافع /إن قلب الخير أن تطعم جائع /كن سديد القول واجتنب النميمة /لا تكن ذئبًا / ولا تكن الوليمة)؛ فهذا هو الخير الصادر من قوي ذكي نقي، فالخير ليس ضعفًا أو غباءً أو خَرْفنة أو ذَأْبنة! والمنطقي أن يكون بعد الخير في هذا المقطع حديث عن مفهوم الشر في المقطع الأخير، يقول: (ليس معنى الشر أن يكويك ضر/ربما يحتال كالثعلب شر/في رداء فيه خير/أو يجيء الخير معجونًا بشر)، ويتناص شاعرنا مع القرآن الكريم تناصًّا طيبًا مقبولاً، في قوله: (إن مع العسر يسرًا/ إن مع العسر يسرْ)، ويذيل تجربته الإيصائية الحِكْمية هذه بحكمة كأنها من جنان ابن عطاء الله السكندري، يقول :(واجه الدنيا بإيمان وصبر/كل مر سيمر) وما أوجزها من عبارة وما أعمقها من حكمة: (كلُّ مُرٍّ سَيَمُرّ)! ويمارس شاعرنا تصويره المكثف المعمق في ختام رائعته قائلاً: (إنما نحن فراشات/تحلق نحو قبر/ بينما السيرة عطر بعد عمر)! ففي هذه الصورة رؤية شاعرية للحياة الدنيا، وبيان أن ما يبقى من عمر الإنسان هو العطر في السيرة، ومن ثم يقال: سيرة عطرة! والذكر للإنسان عمر ثانٍ! وفي التجربة الثالثة(على طرف غمام) المبنية على نسق (فاعلن) الخَبَبِية، في سبعة وعشرين سطرًا، موزعة إلى ثلاثة مقاطع: المقطع الأول يمارس فيه الشاعر مهارته في وصف العلاقة الوجودية بين الابن والأب، يقول مكنيًا عنه بروح الأيام، وما أبلغها من كناية عن الابن! يقول: (يا روح الأيام/لاشيء يساوي/أن تجلس في حضني وتنام/أن نصبح طفلين ينامان/على طرف غمام/أن نجري في البرد/ كما يسقط في الثلج حمام/يا رطبا يسقط من نخل الأحلام). إنه أب عظيم يقدر الولد كل تقدير، ويحرص عليه كل حرص/ يحضنه، ويجري معه ويجاريه، ويراه شيئًا ثمينًا لذيذًا عاليًا راقيًا، وفي المقطع الثاني يكني عن ابنه بـ(يا لحنًا أتنسم فيه الأضواء) ويطلب منه أن يقترب منه،(قرب مني فطريا كالأنداء/قرب مني) ويتفرس فيه، ويبحث عنه، ويبهرنا ويفجؤنا بألا أصداء!! وفي المقطع الثالث نجد الوصية للولد بما ينبغي أن يكون في نظره كأب، يقول مخطبًا إياه بـ(ولدي): (كن بحارًا لا يخشى الأنواء/واعزف أناتك من ذاتك/كي لا تأكلك الأشياء/كن إعصارًا في وجه الظلم) ثم كانت خلاصة رؤيته للكون في سطره العجيب: (العالم تفاحة خير في شجرة بؤس!) ويظهر السرد الأسلوب الأبرز في التجارب الأربع التالية(ما كان الطفل عليه/حكاية أبلة فضيلة/حكاية صاحبي الخرافية/رجع الصدى) من ذات طرية حيية إلى ذات عاشقة للحكي الطفولي البريء، إلى مأساة يتيم فقد الأم وابتلي بزوجة الأب وقاسى معها الأمرار!بل المرور!
سباعية الانكسار الستيني ــــــــــــــــــــــــ بعد سباعية النشأة الطفولية الأولى يقصد شاعرنا (المصمم) إلى الانتقال إلى وصف حالة الانتكاس والانكسار التي مر بها وطننا في سنوات من الستينات، وذلك في تجارب سبع، هي: ( لعنة الأبواب المفتوحة، مشاهد من الهزيمة، ناصر، خطوة المنسحب الأخيرة، ميدان التحرير سنة ١٩٦٨م، جلابيب وطين وعمائم، ومشينا خلفهم). في التجربة الأولى من هذه السباعية(لعنة الأبواب المفتوحة) حيث ذُكِر سبب رئيس من أسباب الهزيمة وهو الانفتاح الثوري والسياسي المنفلت وغير المنضبط، وغير الواقعي، يقول شاعرنا: (بابنا المفتوح ما رد الدخيل/ طوحته الريح ما بين النخيل/من عراق لشآم لبمن/ تدعم الثوا في كل الثغور، وتدير الحقل والمصنع تسعى في البكور، ومضى بنا مخمورة كل النسور...لكي يسقط ناصر). وفي التجربة الثانية من هذه السباعية المؤلمة(مشاهد من الهزيمة)نجد الترميز بالجراد الذي غزا البلاد وتوحشت أسرابه فبدا على وجه العباد، ثم كان إعلان الهزيمة حيث الوجه الحزين ينعى جيشه للشعب مهزومًا مهينًا! وهذا صاحب الدار يطالب الجندي بالإيجار كنوع من العقاب الشعبي لمن كانوا طرفًا في الهزيمة ولو كانوا جنودًا! فروا من وجه القمامة، وفي التجربة الثالثة( ناصر) من هذه السباعية يستدعي شاعرنا من ذاكرته موقفين عن هذا البطل: موقف ناصر الأمل حيث عبارة الشعب الانتفاضية المقاومة: ( سنقاتل سنقاتل) ثم موقف الرحيل حيث قال شاعرنا:(حين مات الأرض ماتت وريقات النبات جف جذر الزرع غطى اليأس وجه الكائنات...وقضت بلاد)، وفي التجربة الرابعة (خطوة المنسحب الأخيرة) ذكر لسبب آخر من أسباب هذه الهزيمة المشينة، وتتمثل في التبعية المقيتة والخرفنة السلبية يقول شاعرنا: (نحن آمنَّا بهم حتى النهاية/ ومشينا خلفهم في كل غاية/ وقرعنا من طبول الحرب ما فيه الكفاية/ وشربنا من كؤوس النصر وهمًا وغواية) كما تعبر هذه التجربة عن حال الأسير العائد منكسرًا مخذولاً... حيث يقول: (فلماذا لم نحلق فوق عكا/ ولماذا لم نحلق فوق يافا/ وكما شاءت نشاء/ ولماذا لم نبادلهم رصاصًا برصاص/ ودماء بدماء/إنني أرجو خلاصًا من عذاب الأسر/ في درب الهزيمة/أشرب البول/ وألقى كل ضفدع غنيمة ...( وفي التجربة الخامسة (ميدان التحرير سنة ١٩٦٨م) يحكي لنا شاعرنا عن ثورة طلابية بريئة يشهدها ذلكم الميدان الفارس في مقتبل عمره، حيث تطلب الطلاب الحرب وثأرًا من هزيمة/ كلهم نور وجد وعزيمة...ويشير إلى الانقسام الشعبي حينئذ بثنائية العصافير والغِرْبان، ويختم تجربته بالإشارة إلى أنه (قد ضَجَّت الطرُقات/ هولاً بالمهازل/ وبنينا في المنازل/ معبدًا لليأس/ تنمو فيه أهرام المزابل... وفي التجربة السادسة(جلابيب وطين وعمائم) واقعية نقدية جالدة، قراءتها السطحية تشير إلى أنها نظرة عنصرية من إنسان مدني قاهري متحضر إلى عالم الريف والقرية المتخلف بشريًّا وعمرانيًّا! والقراءة العميقة لهذه التجربة تراها عرضًا لصورة مأساوية من آثار النكبة والنكسة الناصرية الستينية، وهي الحالة المتردية للريف وأهله حيث يقول شاعرنا: (وإذا بي في قرية /بين جبال من تراب وروث/ وبعوض سنه المسمار مدهون خبث/ وعيون مذكرات تتسلى بالتلصص والعوز/ وبيوت وزعت بين الخرائب والزرائب/ يعتليها الطين والحطب المشاغب...إلى أن يقول: ليس هذا الدرب دربي يا أبي/ ليس هذا البيت بيتي/ كل شيء عند اطرافي/ بليد وغبي/ من جلابيب وطين وعمائم/ ونساء تجمع الأرواث/ من خلف البهائم). ولعل هذا العنوان( جلابيب وطين وعمائم ) يشير إلى ثلاثية التخلف الممثلة في الإنسان (الجلابيب) والمكان(طين) والعقل( عمائم)! وفي التجربة السابعة( ومشينا خلفهم) من هذه السباعية الأليمة نجد السبب الرئيس في الهزيمة والنكبة، و الذي يشير إليه شاعرنا كثيرًا، والمتمثل في التبعية والسير وراء الناعقين والزاعقين من سحرة النظام وكهنته حيث: (أخبرونا/ أن تلك الأرض ماس وذهب/ أننا شعب عريق منتخب /ولدينا أجمل الأشياء في كل مكان/ من يدنا يخرج النور وبمتد الزمان ...إلى أن يقول كاشفًا وفاضحًا: (بينما نحن على الرمل جموع تتمزق/ كغثاء السيل في أرض الشتات...)، وهكذا عشنا فعاليات وخلفيات في المشهد السياسي الناصري الستيني، عبر هذه التجارب!
سباعية الانكسار الستيني الاجتماعي ـــــــــــــــــــــــــــــ ويتوازى مع هذا الانكسار العسكري والسياسي الجاثم في التجارب السبع السابقة انكسار اجتماعي في سباعية تالية تتمثل في قصائد:( في صحبة الجمال/ زواج معلق/ نتف من الضوء البريء /الأسر في الحفر البعيدة/ ورقاء في كف أسير/ضائع في ركبتيها/ إنه يشبه زوجي/ أهذا أبي؟). في التجربة الأولى رومانسية شبابية حالمة هائمة في المرأة المثال حيث( كانت جميلة/ أرق خلق الله /في الصفاء والجمال /وشعرها السرحان/ فوق ظهرها الرماح/ عالم يموج بالرؤى والخيال... ثم تكون الخاتمة صدمة: أمشي إلى جوارها/ مصطربا بما أرى وأسمع/ لكنها صماء خرساء/...يا أشجع الرجال/ لا تلتفت فليس ثم ما يقال) ...وكأن شاعرنا يرمز بهذه الجميلة المثال إلى مصرنا وبالعاشق إلى هذا المواطن الهائم المُتيَّم الوَلْهان والحائر المعذَّب مما حولها ومن سكونها البارد المريب! وفي التجربة الثانية(زواج معلق) نجد أنفسنا أمام مأساة مباشرة من مآسي الحرب بل الحروب المتتابعة حيث:( مرت الأعوام في النكسة/ والخطبة شوق ونواح/ وهي كالعصفور /تأوي صدره كل براح/ لم يكن لصَّا ولا صاحب بيت/ وأبوها ..كان فلاحا/ غليظ القلب/ ما فارق غيط/ كان لا يعرف للحب مكانًا/ اترع الإثنين ذلاَّ وهوانًا). إننا أمام جريمة رومانسية في جيل النكسة حيث القهر والكبت والحرمان والذل والهوان بين الشباب آنذاك ذكورًا وإناثًا! وكأنه زواج معلق بين الإنسان ووطنه بفعل هذه النكسة النكبة التي نالت من هذه النفوس الشابة المقدامة! وفي التجربة الثالثة(نتف من الضوء البريء) تصوير للعنصر الجميل النقي في هذه المأساة الوطنية وهو أنموذج الشهيد حيث قال شاعرنا فيه:(حي وتنظر نحو عيناه/ ويداه غافيتان فوق جبينها شفتاه/ قدر الشهيد هو الحياة/ صدقت يا رباه/ ما غيبوه ولم تر مقلتيه/ وكيف أين تراه/ أخذ الرصاص بصدره/ فتناثرت أعضاؤه/ نتفاهم من الضوء البريء /تلف كل سماه ...)...ويكثف شاعرنا العلاقة بين مصرنا والشهيد بقوله هو جالس بجوارها تحيا به تحياه... وفي التجربة الرابعة(الأسر في الحفر البعيدة) نجد تصويرا لحالة الأسير النفسية حيث طلبه التدفئة ( زمليني من عذاب الأسر/ في الحفر البعيدة/ دثريني في أمان الله ...) ثم يعلن عن صموده وفأله قائلاً: (على أرض الكرامة/ يرجع النور إلى سيناء /تنقشع الغمامة/ يا يمامة /سوف تبقى مصر حية/ يومها يوم القيامة)... وفي التجربة الخامسة(ورقاء في كف أسير) ما زال شاعرنا يسلط الضوء وينير الجمهور بحال الأسير بعد النكبة لكن بطريقة عاطفية حيث بيان طريقة تعامله مع النساء حيث بيضاء تلعب دون بحر أو شبك بدر كما يهوى الرجال بغير شك وعلى المحك...ويأخذ في وصف مفاتنها الجسدية ثم يقول: (أو كل هذا في المساء بلا أثر /فكأنما فقد المشاعر والبصر/ وكأنما كيس من الرمل الثقيل /على السرير على سفر /ما عاد قلبك أيها المهزوم/ من بين الكمائن والحفر /ما غادرت كفاك لمس البندقية) ومع هذا الانكسار العاطفي ما زال شاعرنا محمد حلمي هائمًا في كل جميلة على حد مبالغته في التجربة السادسة(ضائع في ركبتيها)، ثم كانت التجربة السابعة (إنه يشبه زوجي) التي تصور الحالة الغريبة التي عليها الذكر المصري سواء كان محاربًا أو كان راجعًا من أسر أو كان غير ذلك ...حالة غائمة هائمة، حالة ضعيف ساكن جامد لا شعور لديه ولا عاطفة تجاه الأنثى التي هي زوجه! يقول شاعرنا: (إنه يشبه زوجي/ يرتدي نفس الملابس في السرير/ عيناه كالفج الكبير/ كأنها عينا ضرير/ لا يراني ...إلى أن يقول: (لم يعد من حربه بعد/ وإن كان معي لا يراني /لا يرى شوقي/ ولهفة أضلعي/ لا يكفكف أدمعي/ إنه زوجي ولكن/ ليس في هذا السرير! ) ومن الزوج إلى الأب نجد الانكسار والبرود والجمود في تجربة( أهذا أبي) التي فيها توظيف خاص لتقنية الاستفهام الاندهاشي منذ عنوانها وفي أعطافها، يقول: (ما له لا يحس ابتسامي/ وكيف يمر ولا يلتفت لكلامي/ وكيف ألاعب أمي/ وليس يلاحقني بالطعام/ تراه تغير في الحرب أم غيرته الحياة ...) إلى أن يقول: (أهذا ابي/ الذي كان يضحك طول النهار/ على كتفيه تراب الطريق /وفي راحتيه بقايا الغبار/ ودمع تحجر فوق يديه /وفي مقلتيه عناقيد حزن(... ومن ثم قدم محمد حلمي حامد هنا جملة مشاهد اجتماعية حميمية مفقودة بفعل النكسة والنكبة... سداسية المقاومة والعبور: ـــــــــــــــــــــــــــــ في تجارب ست فريدة عبر شاعرنا عن تحول الشعب المصري وإفاقته من النكسة والنكبة والانكسار إلى حالة من المقاومة تطورت إلى حالة العبور الرمضاني( الأكتوبري التشريني) العظيم وهي تجارب:(من أحوال المنتكس/ إنما العائد غيري /أغنية الصحى/ الميتون يدخلون غرفتي/ من العار إلى الانتصار /عن ماسح الأحذية): في تجربة( من أحوال المنتكس)نجد المقاومة في قول شاعرنا: (أين الطريق إلى الرمال الحارقة؟/ هي طلقة في الظهر أسرع من حبال المشنقة/ أين الطريق وتلك ساقي لم تزل/ في الجثة الشوهاء تغرس عالقة)، وفي تجربة (إنما العائد غيري )تصوير لحال المحارب بعد عودته من النكسة وأن روحه ما زالت متأثرة بهذه الحرب الغادرة، يقول شاعرنا: (لم تزل كالخنجر/ في اللحم دبابة ثقيلة/ سلمتني الصف بين الجند/ أحثو الرمل حثوًا في الظهيرة/ لم تزل كالدمع/ بالدم شطوط مستحيلة)، ويظل الشاعر مصورًا الحالة المنكسرة بفعل مفردات تلك الحرب إلى أن يقول في النهاية باثا روح المقاومة: (في ضمير الأرض والناس/ وذكر الأنبياء/ ميت من كان مأسورًا/ ويحيا الشهداء) وفي تجربة(أغنية الضحى) رفض لحالة الفن الرخيص الذي لا يناسب مرحلة المقاومة والصمود، وهذا بَيِّن في السطرين الختاميين: (كيف صار الفرح فينا مهرجانا/ تنعق الغربان في أرجائه تحت سمانا؟! ) وفي تجربة (الميتون يدخلون غرفتي) بيان لقيمة الشهادة وقيمة الشهداء و نجد نقدًا شعريًّا لهذا الفن السلبي الذي عبَّر عنه شاعرنا بقوله: (يا نور يا ضياء/ يا أيها الشهداء من أين جاء/ ليل السهو والغباء/ والمطرب الكذاب/ أين ذاب/ والناصر الذي ابتلينا/ نصره متى يزول ؟/هل للشريد من قفول وتلك أمة خلت وبعثها يطول! )فالشرود والكذب والذوبان والسهو والغباء أمراض مجتمعية لا تليق بالمقاومة والمقاومين! ومن ثم كان بعث الأمة أمرا طويلا زمنيا وسلوكيا ... رومانسيات وواقعيات مراهقة تأتي ثلاث عشرة تجربة تدور حول العلاقة الوجدانية بين الذكر والأنثى في بعديها العذري المثالي والحسي المادي، وهي تجارب(تلاميذ وأقلام وضفائر/ بيروت/خلاء/ توشوش للنور أسرارها/ وما نعمت بوصلها/ينسك في الظلمة عابد/ عام يعيد/ طبع الجميلة/ بريق/ وكشفت عن ساقيها/ النهر/ محاولتي الأولى لرسم نائلة/ لم تعد تجدي الأماني) فهذه تجارب في مجملها ومعظمها عاطفية وجدانية تمثل (محمد حلمي حامد) المراهق، إضافة إلى تجربة( بيروت) التي تصور واقعًا عربيًّا مأساويًّا والتي وُضعت بين سباعيتين باعتبار زمن وقوعها وكون الشاعر عاشها وهو مراهق شاب ! كما أن فيها تعبيرات رومانسية كقوله: (دم ينزف في الضواحي والمدن /ومجازر حبلى بأوجاع الوطن). ونقف مع نموذج من شعر محمد حلمي المراهق في تجربة(تلاميذ وأقلام وضفائر)، يقول منها: (بعض أصحابي كانوا أشقياء/ كزهور الشر تنمو في العراء/ عيشهم نار يؤججها لهيب/ كلها لحن يغنيه قضيب/ هذه البنت لها أخت/ كما التفاح حلوة/ كيف تبدو شفتاها/ عندما أحظى بقبلة)...إلى أن يقول: (وشهدنا في الفصول /عاريات الرأس في كل الفصول/ ونساء علمتنا أن نحب الحسن/ في كل جميل/ كن سلطانات علم قاتلات /دونما أي قتيل). وفي تجربة (خلاء) نجد نقدا للمجتمع حيث يقول: ( نخوض في الخلاء الوهم/ زادنا وعيشنا هباء/ ننام فوق الرصيف/ وما وجدنا الرغيف ) ثم ينتقل إلى استدعاء صورة دالة على ذلك النقد، وهي أنموذج الإرهابي المتشدد المتنطع، يقول: (من ميت لميت يطل كل جائر/ من فاتر وفائر يقلب الدفاتر/ في سطوة الكهان في المنابر/ سلالة يقودها هامان بالخطب)...ثم يتناص شاعرنا مع سورة المسد القرآنية بقوله:( كالنار تأكل الحطب/ يا صحبتي الأشرار كم أرى أبا لهب/ يطل من عينيه نار المكر والكذب/ يعيدنا إلى الرمال ألف ألف عام /من غير ما معابد ولا أهرام (... وينقد التدين الشكلي بقوله:( فكأن الله لا يسمع إلا صوتك/ وكأن الله لا يرضى صلاة /لا يرى فيها نقابا أو خمار/ وسواكا قد تخفى في جلابيب الأمير) وغضب الشاعر من هذا التدين الشكلي، المخلوط بتشدد وتنطع، جعله يبالغ في ذكره النقاب والخمار ! فالله يفرض الستر على العبد ذكرًا كان أو أنثى بخمار أو نقاب أو أي ملبس يؤدي إلى حجاب المرأة وسترها... وفي لفظة (الأمير) تورية بين معنى قائد الجماعة عند المتشددين، ومعنى المنتسب إلى أسرة مالكة حاكمة! وما أجمل أن يبين شاعرنا رؤيته المثالية في العبادة بقوله:(كلنا لله عبد... إنه نعم الحماية/ إنه الرزاق دومًا /دونما أدنى شكاية/ دون صك للربا أو للهداية /دون مكر يمزج الضالين في عمق الغواية/ بجناح الرحمة الملقاة في كف الرعاية)...ثم يرد على كل متشدد بقوله: (رد أبوابك خلفك/ هاربًا من أي ظلم/ واترك الشرع بريئًا /فيه آيات وحلم /فيه جنات من الإيمان/ من فرض وصوم/ علمك المُلقَى على الطرقات/ قد ينقصه فهم /ربنا للروح رب /وهو رب للقلوب/ بابه المفتوح فردوس رحيب /وهو غفار الذنوب)، ولعل شاعرنا وضع هذه التجربة الفكرية الخاصة بنقد التيار الديني المتشدد ضمن تجاربه المعبرة عن فترة مراهقته الشبابية؛ لتكون رسالة إلى كل شاب قارئ ديوانه، بألا ينخدع بالتدين الشكلي السلبي الجامد القائم على فهم مغلوط لنصوص الإسلام الحنيف الجميل النبيل، والمعتمد على بعد أو إبعاد عن الفهم الصحيح والسديد للدين... وينتقل بنا شاعرنا في تجربة (توشوش للنور أسرارها) بناء شكلي رباعي يدور حول موقف الذات الشابة من رسائل الحبيبة وأثر جمالها وكلامها فيه حتى إنه ليقول: (تغار الفناجيل مني عليك/ لأني آخذها من يديك/ وأغسل عنها ندا شفتيك/ وتغضب مني السجاجيد/ لما أنفض عنها خطى قدميك... ) وما أجمل قوله في ختامها: (ولا تتركيني أعاني الهوى/ تحت قبة كان) والمبالغة في الإعلان عن تأثره بالحبيب نجده في تجاربه(وما نعمت بوصلها/ طبع الجميلة/ ينسك في الظلمة عابد / عام سعيد/ بريق / محاولتي الأولى لرسم نائلة)، ونجد التصوير الكنائي المهذب في تجربة ( وكشفت عن ساقيها )وتجربة ( النهر)، وفي تجربة ( لم تعد تجدي الأماني) خبر عن نهاية التجارب الأولى بالفراق! يقول: (لم تعد تجدي الأماني/ بعدما احتل مكاني/ رجل في الدار تألفه الثواني)! تساعية بشرية خاصة: ـــــــــــــــــــــ كأني بالشاعر ينتقل بنا إلى مرحلة الكهولة، فيقدم لنا تسعة بورتريهات شعرية خاصة، تسرد لنا رؤيته لبشر أثروا كل تأثير في حياته اجتماعيًّا وعاطفيًّا وفنيًّا، يبدؤها بشخصية الأم في تجربتين، هما (وتؤجِّلُ موعد راحتها)، و(القِدِّيسة). في التجربة الأولى يصف جهاد أمه قائلا: (متعبة أمي/تمسح أركان البيت/تأزر ما انفرط من العقد/ تغسل وتنفض مسرعة/وتقلي فولا في الزيت...) إلى أن يقول: (مثقلة الرأس/ تفتش عن حل لقروش البيت/أو تسمع أغنية للست/ وتؤجل موعد راحتها/ لنهار قادم)، وتكاد تكون هذه الصور موجودة في كل أم، ويحس بها كل إنسان تجاه أمه! إنها المكافحة كفاحًا لا ينتهي ولا يتوقف! وفي التجربة الثانية(القديسة) نجد ثلاثة مقاطع كل مقطع يقدم صورة خاصة عن الأم، في المقطع الأول كنايات عن وحدتها، وكونها أرمل: (تغزل أيامًا تائهة/وتفك إزار فيافيها/ كالنجمة عاشت واحدة/لم تعرف جبلا يحميها)، وفي المقطع الثاني إشارة إلى أن الأم رحمة، فهي (شمس تلفحنا في بطن الحوت/وفي عمق الجب/شمس من نور وبهاء/روح تبحث عن ألف وليف وسماء)، وفي المقطع الثالث تصوير لفراقها وأثر ذلك عليه، يقول: (كيف افترقنا عند باب القبر/فارق حضنك الغالي عيوني/وأنا أشق اللحد بالكفين/ تخذلني جفوني/ويداك في الريح الثقيلة/ليس تقوى لا/على لمس جبيني)... ومن أمه القديسة، التي كانت تؤجل موعد راحتها، إلى أبيه الذي يتحدث عنه في تجربت(إلى أبي) كحديثه عن ابنه في تجربة(وصايا الأيام الحجرية)، وهي مكونة من أربعة مقاطع، يقول في المقطع الأول: (أنا كأبي/وكل الذي كان منه أتيته/سارب في دمي/ولما تحول فوق سمائي محاقًا/ رأيته)، وفي المقطع الثاني يعدد شاعرنا صفات الأب فيقول: (كان حرا كلهيب الشمس في كبد السماء/وبريئا كالضياء/صوته في القلب/ يقطر كبرياء...كان كالبحر سخيًّا/كان كالطود أبيًّا...كم لمسنا في انبهار/ طرف معطفه الأثير/حين يسمو بامتداد الشمس/ يوشك أن يطير)، ويشير شاعرنا إلى هيمنة شخصية الأب بعد مرور الزمن، حيث يقول:(فبدا لي بعد خمسين سنة /أنني أشهد الدنيا بأنوار سناه/والتي في جبهتي هي مقلتاه/ وإجاباتي في امتحانات حياتي/ منه جاءت لا سواه)، وهذا جعله في المقطع الثالث يستفهم: (بالله كيف تركتني؟ وجعلت أيامي ذئابا هاربة/أعطيتني ملحا من الآيات/والحكم القديمة...يا أنت كيف أخذتني مني إليك/وأنت أدرى بالوعود الخائبة)؟! وفي المقطع الأخير يندمج الأب والابن فيشيع التعبير بالمثنى، ويقل الحديث بالمفرد، بضمير التكلم عن الذات(أنا) وضمير المخاطب(أنت)، في المقاطع الثلاثة السابقة، يقول:(ماشيان/نصاحب الرياح والعقبان/والساعة التي في البيت لا تهان/فعقرب يطير عابثًا/ وآخر يعصي على الدوران...نعاند الأمواج /باحثين عن شطآن/متفقان/من بداية الزمان/لآخر الزمان/ككائنين أبيضين...)... والتجربة الخامسة بعنوان(نادية) وهي بورتريه خاص بالممثلة المصرية (نادية لطفي)، في قصيدة رملية، مكونة من تسعة وثلاثين سطرًا، وتمثل بعدًا مهمًّا في شعرية(محمد حلمي حامد)، بعد التأثر بمعطيات الفن التمثيلي والغنائي، حيث مفردات خاصة بأهل الفن ونجوم التمثيل والغناء، وأبرز أعمالهم ومفرداتهم؛ إذ نرى عقب مقاطع هذه القصيدة مدى ثقافة الشاعر السينمائية، إذ يكاد يكون مشاهدًا كل أعمال الفنانة السينمائية، وعارفًا بأدوارها، يقول في مقطعها الأول: (في ربى عينيَّ "بولا"/نظرة للحب أولى/أسكنت فيها غوايات الصبا/وبراءات الطفولة/في ربى عيني "بومبي"/ طفلة/تلعب بي/دعوة للعشق تسبي/ كل مقروح وصب) ويظل يعدد مظاهر من تفننها إلى أن يقول: (حلوة في كل أيام الحياة الكابية/حسنها يبقى شموسًا دافئات/لعصور آتية/إنها بولا وبومبي/إنها ماجي وريري/ ولطفا... نادية) وهنا خلط بين الفنانة والإنسانة، في الأسماء والصفات! ومن شخصية الممثلة إلى شخصية العازف صديقه(مصطفى) نجد التجربتين السادسة والسابعة تدوران حول الصديق، صديق العمر، صديق الفن، صديق المعاناة والإبداع، يقول في تجربة (مصطفى) معبرًا عن التمازج بينهما: (سنعبر الميدان/ونشعل اللفائف/وربما نسير واجمين/إذ نذكر الوظائف/وربما ذكرت مشكلة...كانت لنا قصائد...) وفي تجربة(عازف الناي) نجد التوقير لهذا الصديق الصادق، يخاطبه قائلا: (لو أنك كنت رسولا/لمت أمام الجموع/ولم تلق حتى دفاعا ولا موعظة/لأنك طيب..وحيد وطيب/ وهذا زمان الثعالب/هل أنت ثعلب؟)، ثم يقول عن علاقته الجوانية به: (ولم يبق غير الفؤادين/نفس الفؤادين نفس التعب/ولم يبق غير حروف القصائد/في الجيب بين الرفوف/وفوق الأكف الكتب/أغاني فيروز ترجع ثانية للشتاء/وناي جميل على إصبعيك، يصاحب ليل الأسى والبكاء...) وبعد هذه التجارب السبع تأتي تجارب ثلاث ناقدة جالدة لبشر سلبيين في حياة الشاعر، بل وفي حياة كل عاقل! وهم متنوعون عددًا بين الفرد في تجربة(أنت الهم)، والمثنى في تجربة(مسخان)، والجمع في تجربة(غرقى). في تجربة(أنت الهم) إشارة إلى النموذج البشري السيء القاسي الدامي، الذي بلغ في دمويته أن خاطبه الشاعر قائلا: (أنت ترود النار/وتوغل في ذاكرة الدم/ثم تريد الصحبة/إن الصحبة وهم) ويعلن شاعرنا عن العلاقة المثلى مع هذا البلطجي تتمثل في القصاص بقوله: (إن شعاري في التوراة وفي القرآن/يبقى فيما ذكر الله ويعرفه الشيطان/العين بعين والسن بسن)، وفي تجربة(مسخان) نجد أنموذجين سلبيين آخرين، يقول شاعرنا عن الأول: (أحدهما كبد محترق بالغل/يقلبه شيطان/سماه الأعمى في ساعة نحس رضوان/تتقافز من حوليه ضباع وكلاب)، ويقول عن الثاني: (والثاني معقوف الذيل ككلب/يأكل أقراص الرحمة في ساعة كرب/لا يعرف شرقًا من غرب/يتبعه الجاهل كالقطب)، ويصور ضررهما الفتاك: (كلبان إذا مرا بالأرض تبور/إن يلمس أحدهما الفل/تحول قيحا وبثور/ أو أدرك أحدهما الجنة/تغدو جيًفًا وقبور). إنهما مسخان يعيشان بلا جلد أو لحم أو دم! وفي تجربة(غرقى) إشارة إلى نوع مطحون من البشر في مجتمع الشاعر:(جسد فوق الشاطئ/في الرمل الحارق/أشلاء تجمع أشلاء/في البحر الغارق/ودماء رخصت أو هانت/كهوان العشق على العاشق)... التساعية الثورية: ــــــــــــــــــــ ختم شاعرنا بتسع تجارب:(بلدي/مولد ميدان التحرير/الريح تضرب/هرمنا/أطلق النار علي/عد إلينا/أخبرتكم/قدني إلى بلاد حرة/سأرسم بالصبح ظلي)، وفيها ترتيب عجيب دال، ففي تجربة (بلدي) تعبير موجز لمصر مكانًا وإنسانًا، التي نظمت في واحد وعشرين سطرًا، يقول معبرًا عن الجانب الروحي لمصرنا: (بدموع الناسك في المحراب/ينادى الله ويرقيها/ بمساجدها وكنائسها ومتاحفها ونواصيها/ بتجلي العذراء على أفق مبانيها)، ويشير إلى الجمال النسوي بقوله: (ونساء مثل البازلت منحوتات في معبدها نحت/وصبايا منحولات القد/تبيع الورد على الأسفلت)، ويشير إلى الذكور بقوله: (فلاح يعزق في حقل/يسحب أبقارًا جائعة تأكل في سهل/جميز يتسمع لحفيف العشب/عمال تضحك بين الآلات/أرملة تجلس بالخبز على الطرقات لتعول بنينًا وبنات) وهذه طبيعة الأمة المصرية، التي تعيش الحياة كفاحًا وجهادًا، وتصل بهم وبهن إلى أن أن يكونوا (شهداء يعيشون/وأحياء يموتون) فبين (الشهادة) و(الحياة) تتوزع معيشة المصريين وختامهم! وتأتي التجربة الثانية مسلطة الضوء على جزء عزيز من البلد وهو ميدان التحرير، الذي كتب عنه الشاعر تجربة خاصة به في الستينيات، وهو الآن يحادثنا عن (مولد ميدان التحرير) في قصيدة من ستة وأربعين سطرًا، تدور حول خمسة أنواع من العصافير! يبدؤها بقوله -واصفًا الحالة المصرية زمن الخامس والعشرين من يناير-: (آلات التصوير والقلة والزير/ما زحف على الأرض وما يمشي/ويطير/الماء وعشب في السهل/ونشيد في القلب بلا تدبير/في مولد ميدان التحرير) فنحن في مقدة شعرية واصفة التنوع البشري لأهل الميدان زمانئذ، ثم يعدد العصافير الخمس به: (عصفور ينزل بين الناس/ كثلج يسقط في برد/عصفور يأكل من رأس ستطير/.عصفور أدركه الذعر وأعياه التفكير/.عصفور غالبه الجوع/.عصفور ينقر رسمًا للشيطان المذعور/....) ثم تتجمع هذه العصافير في استدراك ختامي يقول شاعرنا: (هذا العصفور المقهور وذاك الورد/والبرعم يتمايل رهقًا والوردة تمتد/والساعة تذبل ناحلة/من فوق غصون تنهد) لتكون النتيجة الماثلة والمتحققة إلى الآن: (كل يقسم: لا لم يحدث شيء بعدُ)! وفي تجربة(الريح تضرب) يخاطب أنثى لعلها (مصر) مبينًا عوامل الإضعاف التي مرت وتمر بها يقول: تركتهم ينقرون الوجه كالدجاج بالصياح/ ويدخلون قلبك النبي/يسرقون بهجة الصباح)، ويشير إلى خطورة الإعلام ودوره الإفسادي بقوله:(أعطيتهم مساحة الهواء/فأطفأوا النهار في عينيك/ضيقوا البراح)، ويظل يعدد مظاهر الإطفاء إلى أن يقول: (والناس حين تباع تسقط كالمتاع/زمن تعرى من وريقة توت/ وبكى انتحارا في زواياه الضياع) ويبين حالة الطبقات المجتمعية بقوله: (الكلب فيه يسود/والآساد تهرب من أجمتها/ وتنتشر الضباع...)، وفي تجربة(هرمنا) توظيف لهذه اللفظة الثورية في التعبير عن معاناة الشعوب الكادحة في ظل الأنظمة الاستبدادية، يقول: عدمنا الصباح/يرقرق مثل الكمان/عدمنا النهار/ وكدح الحياة/وعيش الأمان/عدمنا المساء)، ويخاطب رمز الاستبداد بقوله: (فهل صرت تفهم أنا فهمنا بأنا هرمنا)؟! وفي تجربة(أطلق النار عليَّ) تعبير عن الجبروت والقهر والاستعمال المفرط للقوة العسكرية، يقول شاعرنا: (إن هذا القلب عصفور شقي/كلما فر على الأسفلت يرتد إلي/وأنا للآن حي/أيها الطود الغبي/سوف تبقى خطوتي في كل حي/أطلق النار علي) وتظل المواجهة بينهما إلى أن يقول في الختام: (أنت في القصر المخيف/وأنا فوق الرصيف/أنزف الأيام تلقاني الحتوف/ أيها الجلاد هل أنت خروف؟/أنت لا تشعر بالجمر ولا تشعر بي/ أيها الجلاد هل أنت غبي/ أطلق النار علي). إنها ثنائية الطغيان والمقاومة، الإرهاب والصمود، القهر والصبر! وفي التجربة السابعة(عد إلينا) استدعاء للتاريخ، وتوظيف لشخصية الحاكم بأمر الله، كقناع لكل حاكم ظالم مستبد، يقول: (عد إلينا/ أيها الحاكم بالله فإنا قد نسينا/سوط جلاديك في اللحم/ وحتما قد عمينا/في براح العسف والذل/وتغييب الكرامة)، ويظل يصوره في مشاهد عدة، بين حمار وقرد، إلى أن يقول خاتمًا قصيدته الجالدة: (عد إلينا في ثياب الواعظ الملهوف/يستجدي الإمامة/من وراء المسرح المكشوف/أو حتى أمامه/عد كنسر يعتلي طرف الحمامة)، والمفارقة هنا بين المتضادين: النسر والحمامة! وتأتي تجارب ثلاث أخيرة في قالب القطعة حيث تتكون كل تجربة من ستة إلى أربعة عشر سطرًا، الأولى بعنوان(أخبرتكم) وفيه جلد للمجتمع، حيث يخبر (عما يدور في عقولكم/من الخمول والصديد/وعن تخنث الرجال...) إلى أن يقول معبرًا عن الأنانية التي هي سبب فشل هذه الثورة: (وكلكم يدور حول نفسه إلى الأبد)، وفي تجربة(قدني إلى بلاد حرة) رغبة في الهجرة إلى عالم الحرية والانطلاق، ليس فيها(كذاب)، ولا (عذاب) ولا (غباء)! وتأتي تجربة الختام تفاؤلية مقدامة طموحة، في شكل بيتي من البحر المتقارب التام، مع تغيير في تفاعيل الشطر التاسع فيها، حيث تكون من ست تفاعيل بدلا من أربع! وفيها تصوير للحالة القائمة الغاشمة حيث مفردات كلب/الذباب/ضبع/جياع الذئاب. يقول واصفًا الوضع الدخاني الكئيب: نهاريَ قهر وليليَ فكر ودونيَ باب وألف حجابْ ردائي قديم وبيتي قديم وينعق فوق الأسى العذابْ ومع ذلك يقدم فألاً في آخر صورة بوحية بالديوان: سأرسم بالصبح ظلي فريدًا وأجلو عن الفجر زيفَ الضبابْ وهذا دور الفن، ودور الشعر، الفن يرسم، والشعر يكشف، وفي ظلهما وحضورهما لا يكون ضباب أو دخان أو ظلام!
#صبري_فوزي_أبوحسين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مفهوم الإرهاب في السنة النبوية الشريفة-
-
كيفية مواجهة المشكلات المادية في ظلال الإسلام
-
سحر القاهرة في مرآة الشعر العربي
-
الشيخُ خالدُ الجِرْجَاوِيُّ(838-905ه)وَقَّادُ الجامعِ الأزهر
...
-
مسرحية شعرية قصيرة مغمورة للشاعر الكبير محمود غنيم
-
أعجوبة تطوير الذات (مأمون حسن) الأكاديمي المكافح
-
منهجية الوحدة الموضوعية في السورة القرآنية سورة الكهف أنموذج
...
-
تجربة رثاء الزوجة في شعر الدكتور محمد الغرباوي ص
-
أقصوصة (نظرة) للدكتور يوسف إدريس في مرآة المنهج الفني
-
القصة القصيرة جدا: مفهومها ونصوصها
-
المصريون الصحابة في فجر الإسلام
-
تكريم فاقدي البصر في ظلال الإسلام
-
دور الشيخ محمد عبده في النقد الأدبي
-
وَصِيَّة المَأمُون لِأَخِيهِ المُعْتَصِم فِی مِرآةِ ال
...
-
البعد الإنساني في أدب بهاء طاهر(1935-2022م)
-
نحو مفهوم تجنيسي لفن الرواية
-
القصة الشاعرة مصطلحا ومفهوما
-
إستاطيقا الهادفية في السرد النسوي الإسلامي: مقاربة في رواية(
...
-
سيميائيات في ديوان (الغيم والدخان) للشاعر الأكاديمي محمد حلم
...
-
وظيفة الشعر الوطنية: علاء جانب أنموذجا
المزيد.....
-
العرض الأول لفيلم -Rust- بعد 3 سنوات من مقتل مديرة تصويره ها
...
-
معرض -الرياض تقرأ- بكل لغات العالم
-
فنانة روسية مقيمة في الإمارات تحقق إنجازات عالمية في الأوبرا
...
-
جنيف.. قطع أثرية من غزة في معرض فني
-
مسرحية -عن بعد..- وسؤال التجريب في المسرح المغربي
-
كاتبة هندية تشدد على أهمية جائزة -ليف تولستوي- الدولية للسلا
...
-
الملك الفرنسي يستنجد بالسلطان العثماني سليمان القانوني فما ا
...
-
بين الذاكرة والإرث.. إبداعات عربية في مهرجان الإسكندرية السي
...
-
شاهد: معرض الرياض الدولي للكتاب 2024
-
السفير الإيراني في دمشق: ثقافة سيد نصرالله هي ثقافة الجهاد و
...
المزيد.....
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل مسرحية "سندريلا و ال
...
/ مفيدةبودهوس - ريما بلفريطس
-
المهاجـــر إلــى الــغــد السيد حافظ خمسون عاما من التجر
...
/ أحمد محمد الشريف
-
مختارات أنخيل غونزاليس مونييز الشعرية
/ أكد الجبوري
-
هندسة الشخصيات في رواية "وهمت به" للسيد حافظ
/ آيةسلي - نُسيبة بربيش لجنة المناقشة
-
توظيف التراث في مسرحيات السيد حافظ
/ وحيدة بلقفصي - إيمان عبد لاوي
-
مذكرات السيد حافظ الجزء الرابع بين عبقرية الإبداع وتهمي
...
/ د. ياسر جابر الجمال
-
الحبكة الفنية و الدرامية في المسرحية العربية " الخادمة وال
...
/ إيـــمـــان جــبــــــارى
-
ظروف استثنائية
/ عبد الباقي يوسف
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
سيمياء بناء الشخصية في رواية ليالي دبي "شاي بالياسمين" لل
...
/ رانيا سحنون - بسمة زريق
المزيد.....
|