رياض سعد
الحوار المتمدن-العدد: 7498 - 2023 / 1 / 21 - 09:00
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
ومما قاله الشاعر والمخرج السوري عمر حكمت الخولي : ((عندما أجد سياسياً واحداً يعترف أنه دخل المعترك السياسي لمصلحته الخاصة ومجده الشخصي أولاً، وليس حباً بالمساكين والفقراء والطبقات الكادحة، سأدعمه لصدقه النادر.)) ؛ على الرغم من ان اغلب ان لم نقل كل الساسة او من يطلق عليهم الساسة – مجازا – دخلوا معترك السياسة طمعا او خوفا او لغير ذلك من الدوافع المادية والشخصية , الا انهم وبلا استثناء يدعون انهم وطنيون مخلصون وانهم انما جاؤا لأجل الوطن والمواطن والمساكين والفقراء والطبقات الكادحة ... ؛ وها هو ثعلب السياسة الماكر ومنظرها الابرز ونستون تشرشل يقول : (( رأيت وأنا أسير في أحد المقابر ضريحا كتب على شاهده هنا يرقد الزعيم السياسي والرجل الصادق، فتعجبت كيف يدفن الاثنان في قبر واحد...!! )) ولعل هذه القصة تكشف لنا حقيقة ومعدن الساسة الخبيث والرديء , اذ ان بين الصدق والشرف والسياسي بونا شاسعا ؛ فالصدق والسياسة لا يجتمعان ابدا , وكأنهما من النقائض او الاضداد ؛ وعليه اصبح وجود السياسي الصادق اندر من وجود الكبريت الاحمر كما قيل قديما .
فهؤلاء الساسة الكذبة لا يعرفون من السياسة شيئا سوى الجشع والطمع , والامتيازات الشخصية والرواتب العالية , وهوس السلطة وجاذبيّة المناصب , والمكر والدجل والكذب , والادعاءات الفارغة والشعارات الطوباوية والتصريحات الجوفاء والاستعراضات المسرحية , والعمل خلف المكاتب , والابتعاد عن ارهاصات الواقع وهموم المواطن والتحديات والاخطار التي يتعرض لها الوطن ... ؛ ناهيك عن اخذ الرشاوى والتعامل بالمحسوبيات , والانخراط في صفوف العمالة والخيانة والتجسس لصالح الاعداء احيانا ؛ لذلك شاع بين الناس قول : (( السياسة كذبة ؛ او كذب السياسيون ولو صدقوا ...)) .
كأنّ هذه المقولات الشائعة بين الناس أصبحت بمثابة الملخّص لكلّ سلوكيات السياسة والسياسيين ، وهو يكشف لنا حقائق خطيرة : أهمّها أنّ رجال السياسة لا عهد ولا ميثاق لهم، وأنّ السياسة والأخلاق لا يلتقيان , وان الساسة انما جاؤا لتنفيذ اجندات خارجية مشبوهة او طمعا في تحقيق المكاسب والامجاد الشخصية ... فأمثال هؤلاء الكذبة قد يستبعدون كل القيم الاخلاقية والمبادئ الوطنية من أجل تحقيق مكاسب سياسية وشخصية مشبوهة وفاسدة .
منذ تشكيل اول حكومة عميلة هجينة غريبة في العراق عام 1920 برعاية الاحتلال البريطاني والى الان ؛ اغلب السياسيين العراقيين ، امتهنوا السياسة كذباً وخداعاً ، وإلى حدود بات معها الفعل السياسي مرادفاً للكذب ؛ فالممارسة السياسية في أحوالها العراقية ولاسيما في عهود حكومات الفئة الهجينة استقرت على كونها نظيراً للدجل والكذب والخداع , وانعكاساً للقوة والغلبة والتسلط والاقصاء والتهميش ؛ بحيث تحولت السياسة الى أداة قمعية للتغلب على الداخل العراقي بهدف الإمساك بالسلطة باعتبارها غنيمة لا يمكن التنازل عنها أو المساومة عليها ، ولأجل ذلك، يصار إلى استخدام كل الوسائل للاحتفاظ بها، سواء عن طريق القوة والحروب والاعدامات والمقابر الجماعية والسجون والمعتقلات ، أو الإغراء بالمال والعمل بالمحسوبيات و توزيع المناصب و الامتيازات ، أو انتهاج سياسة الكذب والدجل والخداع والتدليس الاعلامي والثقافي بغية غسل الأدمغة وإنتاج (( حقائق )) مزيفة وقناعات جماهيرية مشوهة ؛ لذلك ترى ان مجمل الاتفاقيات والاجراءات والقرارات السياسية كانت ولا زالت تدور في فلك السياسات الخارجية والاحتلالات الاجنبية والنفوذ الاستعماري والاقليمي والاستكباري العالمي .
ومن الواضح ان الكاذب عندما يكذب ؛ فأنه يعتبر المكذوب عليهم اعداء او لا اقل ليسوا من فئة الاحباب والاصدقاء ؛ وعليه تعرف ان السياسي الكاذب يعامل الامة والشعب معاملة الاعداء ويعتبر المواطنين بمثابة الخصوم , ولذلك أصبح الكذب لوناً من ألوان السياسة العراقية , إذ لا يستطيع السياسي العراقي الاستغناء عن الكذب والمكر والدجل من أجل تسيير أموره بسلاسة وقضاء حوائجه بسهولة وبعدد أقل من المشاكل والصعوبات, ولذلك بحسب هذا المفهوم لم يعد الكذب عيباً أو حراماً على (السائس العراقي ) , بل ربما يكون من أهم متطلبات مهنة السياسة في العراق , مصداقاً لمقولة هتلر : ((كذب كذبة كبيرة ثم حاول تبسيطها وكررها ، في النهاية ستصدقها )) و ربما يكون الساسة “الكذابون” هم أنفسهم قد أدركوا الحاجة لاستمالة أشخاص يكذبون على أنفسهم ويصدقون ما يقولون ، وهذا الأمر يكشف لنا عن حقيقة مهمة، وهي دور الاشخاص “الحمقى” في التملق أكثر من اللازم للسياسي الكاذب، والترويج له والتصويت لصالحه، وتحسين صورته وتعزيز مكانته، رغم أنهم يدركون أنه لا يجيد غير الكلام ورفع الشعارات وتسويق الادعاءات ؛ هنا تُطرح المسألة القديمة المتعلقة بتكرار “الأكاذيب كثيرا حتى تتحول إلى حقيقة”، وهذه القاعدة نسبت إلى جوزيف غوبلز مسؤول الدعاية السياسية لهتلر إبان الحكم النازي ؛ وهناك شيء مشابه لذلك لدى الكثير من الساسة العراقيين ، بل لعلها صفة لصيقة تربط القادة الكذابين بمن يفكرون بالعقلية نفسها من الشعوب والجماعات , لنأخذ هنا في عين الاعتبار التعبيرات التي تستنفر الروح الطائفية والقومية والعنصرية في العراق ... ؛ و الإقرار بهذا الأمر قد يكون صادما للبعض على الرغم من كونه صحيحا . (1)
وأصبح تعدد الوجوه والشخصيات , و تنوع الخطاب بأكثر من لسان ومنطق , ومخاطبة كل جهة بلسان , ومقابلة كل فئة بوجه , من متطلبات العمل السياسي العراقي , إلى درجة أنّ بعضهم يعتبر السياسة فنا من فنون التمثيل والدجل والتدليس والضحك على الذقون , بمعنى أنّ السياسي ينبغي أن يكون قادراً على تقمص الأدوار, وقادراً على الخروج على العامة بلغاتٍ عديدة وأشكال كثيرة من أجل إرضاء جميع الأذواق, وتلبية جميع الرغبات.(2)
يكذب السياسيون لأنهم سياسيون. ماذا عساهم يفعلون غير ذلك؟ من المفترض أن يكون السياسيون قادة، لكن الحقيقة أن هناك قاسمًا مشتركًا بينهم جميعًا: الطمع في السلطة والثروات وتحقيق مصالحهم على حساب الآخرين.
إن السياسيين هم أكثر الناس جشعًا، ويكمن هدفهم في تحصيل ما أمكنهم من أموال لأنفسهم عن طريق استغلال من حولهم، والطريقة الوحيدة لتحقيق ذلك هي الكذب. إنهم بحاجة إلى الكذب لإقناع الناس بالتصويت لهم، فهو سبيلهم الوحيد للترشح للانتخاب، إذ إن معظم الناس لا يحبون السياسيين وبالتالي لا يريدونهم أن يترأسوا بلادهم.
يفوز أكذب السياسيين ويغدون أكثر قوة، بينما يخسر أقلهم كذبًا في كل مرة، ويكمن السبب الرئيسي وراء كذب السياسيين في أنهم يريدون البقاء في السلطة ؛ لا يمكن الوثوق بالسياسي الكاذب أبدًا، لكن إن صوّت له وأصبح رئيسًا، فماذا تتوقع أن يحدث بعد ذلك؟ هل سيتوقف عن الكذب ؟
واعلم ان وظيفة السياسي الفوز في الانتخابات فحسب ، فليس من واجبه قول الحقيقة وتحري الصدق ، بل قول ما يرضي أكبر عدد ممكن من الناس ومدارة الخصوم احيانا ، فعلى سبيل المثال ، قد يكون السياسي مع عقوبة اعدام الارهابيين ؛ إلا أنه لن ينظم حملات نشطة لتنفيذها عند تولي المنصب، بل سيجد حلولًا توفيقية مع السياسيين الخصوم الآخرين الذين يدعمون الغاءها .
ولا يألو السياسيون جهداً في إطلاق الشائعات ضد المرشح المنافس كي يُنتخبوا هم، بل تُنبش معلومات من ماضي ذلك المرشح لا علاقة لها بحملته الانتخابية بغية التأثير في الرأي العام ؛ فالسياسيون يكذبون لأنهم خائفون ويخشون فقدان احترام وتقدير زملائهم السياسيين الذين سيصبحون أقوى منهم إذا لم يفوزوا بالانتخابات.
ويخترع السياسيون بعد انتخابهم ووصولهم إلى سدة المسؤولية أعداء، في حال عدم وجودهم، ولو كانوا أعداء "طواحين" كما طواحين رواية سرفانتس الشهيرة "دون كيشوته"، فالهدف هو شد العصب الجماهيري حول القائد تحت سقف محاربة عدو ما، كائناً مَن كان هذا العدو ؛ وربما يكون هذا العدو أحياناً مواطنين من الدولة ذاتها، كما يجري في الدول التي تميّز بين مواطنيها على أساس العرق أو الدين أو الجنس او المنطقة ، كما كان الحال في العراق – في عهود حكومات الفئة الهجينة – والتي حكمت على اساس التمييز الطائفي والقومي والمناطقي .
تلك الرغبة الملحة في تقلّد المناصب هي السبب الرئيسي وراء كذب السياسيين، فالكذب يمنحهم مكانة أرفع، وهم على استعداد للمخاطرة من أجل تحقيق ما يصبون إليه ؛ و تتمثل الفائدة الأخرى للكذب في مساعدة السياسيين على تحقيق أهدافهم، فإذا كذب سياسي على فئة او مجموعات مؤثرة من الشعب بخصوص قضية ما، كإخبارهم مثلًا أن جميع الشيعة في العراق هم عجم او اصولهم غير عراقية ؛ وكذلك وصف الاكراد بالأجانب المهاجرين غير الشرعيين وانهم مجرمون وإرهابيون وعصاة و سيدمرون العراق ، فإن هذه الكذبة ستثير غضب الفئة الهجينة وابناء الطائفة السنية الكريمة وباقي فئات الامة العراقية وقد يؤيدون صدام او اي حاكم غاشم هجين في محاربة الشيعة والكرد ؛ أملًا في "إنقاذ" بلدهم او مناطقهم من هذه التهديدات الوهمية ؛ بالاضافة الى بقاءهم في السلطة وتمتعهم بالامتيازات .
أما إذا قال السياسي الهجين الحقيقة لبعض ابناء الامة العراقية من الطائفة السنية الكريمة وغيرها ، وصرح بان الشيعة : هم سكان بلاد الرافدين الاصلاء ومواطني العراق القدامى وهم احفاد السومريين والاكديين والبابليين وهم ابناء ممالك ميسان والحيرة والحضر العربية , وقال انهم اكثر وطنية من غيرهم ... ، فمن المرجح عندها أن ينتفض هؤلاء ضد حكوماتهم الهجينة العميلة ويشجبوا اجراءاتها الطائفية والعنصرية بحق الاغلبية العراقية ويطالبوا باشراكهم في الحكومة والحقوق والامتيازات ، الا ان الكثير من الناس يجهلون المواضيع السياسية أو لا يبالون بها ، لذلك لا يكلفون أنفسهم عناء تعلم أي شيء عنها إلا عند انتشار فضيحة من نوع ما او اكتشاف كذبة من العيار الثقيل تزعزع قناعات بعض المؤيدين للنظام .
تحضر في أذهاننا جميعا الصورة النمطية عن السياسيين العراقيين المراوغين والمحتالين والفاشلين ، وكيف استطاعوا خداع الامة العراقية لعقود من الزمن ، عن طريق حياكة الأكاذيب وصناعة الاحقاد و الافتراءات وذر الرماد في العيون، ومزاعمهم التي تدعي المثالية والوطنية والعروبة والاسلام ، لكنها في حقيقة الأمر مجرد أقنعة مزيفة ومشوهة ، ثم اكتشف احرار الامة العراقية المغلوبة على أمرها فجأة! أنهم كانوا فريسة لسياسيين مصابين بـ”متلازمة المحتال والكلاوجي”، و لكن بعد فوات الأوان.
على أية حال، لا يشكل الكذب في أروقة السياسة أمرا جديدا منذ جملة ميكافيلي الشهيرة في كتابه “الأمير” “أكذب، أكذب حتى يصدقك الناس”. يحترف السياسيون العراقيون الكذب، حتى أنهم يكذبون دون أن يهتز لهم جفن او يشعروا بوخزة ضمير .
علما ان مصالح العراقيين وتطلعات ابناء الامة العراقية لا تتحقق بالكذب والخداع والتدليس , وإجادة فنّ التمثيل وتعدد الوجوه, والقدرة على خداع الجماهير, بل إنّ جوهر السياسة أن يصدق الرائد أهله, وأن يمحضهم النصح, ويرشدهم إلى الحقّ, ويكشف الزيف ويحارب النفاق والمنافقين, ويقطع ألسنة الكذابين, فالقائد لا يستخدم الكذب ولا يلجأ إلى الكذب ولا يضطر إليه مهما كانت الظروف لأنّ الكذب يهدم القيم, ويفسد المعاملات, ويحطّم العهود, ويؤدي إلى انهيار الحياة ؛ نعم هنالك استثناءات سياسية سنذكرها لاحقا في محلها .
..........................................................................................
1- مقالة : كذب السياسيون ولو صدقوا / يمينة حمدي / بتصرف .
2- مقالة : السياسة والكذب / الدكتور رحيل الغرايبة / بتصرف .
#رياض_سعد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
اليوتيوب
لينكدإن
تيلكرام
تمبلر
بلوكر
الموبايل
