|
فى المنتدى الاجتماعى العالمى ... بناء عالم آخر ممكن
شريف حتاتة
الحوار المتمدن-العدد: 7485 - 2023 / 1 / 8 - 16:34
المحور:
العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية
في المنتدى الاجتماعي العالمي ... بـنـاء عالم آخر ممكن ------------------------------------------------------------------- الشمس مشرقة ، والسماء تبدو أكثر زرقة ، وأكثر صفاء من أي يوم مضى. كأن غـيـوم الـحـيـاة كلهـا تبـددت ، وأنا سائر وسط هذه الجموع التي جاءت من مختلف أنحاء العالم لتشارك في هذا الزحف الممتد حتى الأفق. شباب ، وشيوخ ، نساء وأطفال ، وجوه بيضاء ، وسوداء ، حمراء ، وصفراء ، خمرية أو برونزية اللون. رؤوس شعرها أسود طويل ، أو أكرت قصير ، أو ذهبي كالقمح ، او كستنائي مشع بالأحمر تلمع في الشمس. ناس من كل الأعمار ، والأعراق ، والأجناس ، والملل ، والمهن. عـمـال ، وفـلاحـون ، أطباء وصحفيون ، كتاب ومفكرون ، تجار ورجال أعمال ، وزراء وأعضاء برلمان ، علماء وفنانون ، رجال ونساء وأطفال من كل أنحاء البرازيل. من كل أركان الأرض يحملون اللافتات تشير إلى الحـركـة ، أو الحزب ، أو الجمعية ، أو الهيئة ، أو النقابة التي يمثلونها ، أو كتبت عليها شعارات : " نريد السلام .. لا للحرب .. تسقط الامبريالية .. طعام لكل فم ، ولبن لكل طفل ، الأرض لمن يفلحـهـا الحـرية لكل شعب ". وأعلى كل هذه اللافتات ، راية ضخمة بنفسجية اللون عليها شعار المنتدى الاجتماعي العالمي " يمكن بناء عالم آخر ". مئات الرايات ترفرف فوق الرؤوس في زهو ، وأصداء الموسيقى ، والغناء ترتفع في الجو. عند منتصف الزحف تتحرك منصة عالية محمولة فوق شاحنة حجمها ضخم. أعلى المنصة كاميرات فيديو ، وآلات تصوير ، وجمع من الشباب يمسكون بالميكروفونات ، تدوى منها الشعارات فترددها آلاف الأصوات. لا أعرف عدد السائرين ربما مائة ألف أو أكثر أو أقل. فالموكب يمتد كيلو متراً بعد كيلو متر ، كأنه بلا بداية ، بلا نهاية ، كالنهر العريض المتدفق يعكس ألوان الطيف عندمـا تغيب الشمس. على طول الطريق ، فـوق الأرصفة، وفي الشرفات والشبابيك رجال ونساء يلوحون، ويهتفون ويرددون الأناشيد .
بائعو الأيس كريم والسندوتشات والمشروبات ، مـوزعـو الكتيبات ، والمجلات ، والمنشورات ، مصورو الفيديو والسينما لا يكفون عن الحركة. امرأة تبتسم لي وتعطيني زهرة. رجل عجوز يتقدم إلى جواري مستعيناً بعكازتين. طفلة محمولة على الأكتاف يطل وجهها النضر من تحت القبعة الى ترتديها. ألمح نظرة التأمل في عينيها ، كأنها تمتص ما يدور ، وتختزنه . وفجأة يبرز وجه ضاحك من بين الجموع ، وجه يطل علىَ في سعادة وإشراق. أشعر بذراعين تلتفان حولي. أول مرة نحتضن فيها بعضنا ، رغم أننا عملنا معاً لمدة زادت عن السنتين في المنظمة المصرية لحقوق الإنسان ، " بهی الدين حسن " ، شاءت الصـدفـة أن ألقاه في لحظة خاطفة قبل أن يـجـرفنا السيل . لحظة تدفقت فيها العواطف. لحظة أصبحنا فيها جزاءاً من هذا الزحف ، من هذا الأمل الإنساني العظيم. تقـفـز بي الذاكرة إلى الوراء ، إلى لحظة أخرى في المشوار الطويل ، إلى مظاهرات ٢٦ فبراير سنة 1946 ، شاركت فيها كل طبقات ، وفئات الشعب ليجتمعوا في ميدان الإسماعيلية (ميدان التحرير) . في هذا الـيـوم ، سـار أكـثـر مـن مـليـون رجل وامرأة في شوارع القاهرة ، ليتظاهروا ضد الاحتلال البريطاني وأعوانه من المصريين. لم تكن هناك ورود ، ولا أغان ، ولا وجوه تشرق بالسعادة ، بل غضب ، ورصاص ، و دم أحمر سال فوق الأسفلت . كان هذا منذ ستة وخمسين عاماً. كم من الأحداث ، والمعارك ، والمنعطفات مررنا بها منذ تلك الأيام . كم من التغيرات شهدتها بلادنا ، وشهدها العالم ، ومازالت العدالة ، والحرية ، والسلام غائب في حياتنا. مع ذلك أحسست بالقوة والتفاؤال ، وأنا سائر في الزحف. مرة أخرى ، استنشق هواء نقياً غاب عنا. مرة أخرى استنشق هواء التضامن بين الناس ، هواء الأمل والحب ، والبحث عما هو مشترك ، عن إنسانية جديدة لها ضمير حي. روح " غاندي " كانت معنا ------------------------------------------- طوال الطريق الذي امتد بنا ما يقرب من خمس ساعات ، لم أر أي مظهر من مظاهر الضيق أو التوتر ، أو الاحتكاك ، أو العنف. تم كل شئ في هدوء ، محاطاً بالابتسامات ، والصفاء ، كأننا كنا في مهرجان ، وليس في مظاهرة ضد الخصوم ، والقهر. فهناك أسلوب للمعارضة أخذ يسود العالم. أسلوب العصيان المدني الديمقراطي السلمي ، يبيح الدفاع عن النفس دون اللجوء إلى العنف. هو أسلوب فـرضـتـه ظروف الـتـقـدم التكنولوجي الهائل في أنواع الأسلحة التي تستخدمها الحكومات والطبقات المسيطرة ، ففي إطار المنتدى الاجتماعي العالمي الذي جذب أكثر من سبعين ألف زائر أجنبي إلى " بورتو إليجرى" عقدت مائة ندوة، وسبعمائة ورشة عمل ، غطت كل ما يمكن أن نتصوره من موضوعات سياسية ، واقتصادية ،وثقافية ، وعلمية وفنية . وفي إحدة الندوات التي حضرتها في الجامعة الكاثوليكية ، التي كانت مقراً لكثير من الأنشطة استمعت إلى شاب إيطالي كان يتحدث عن حركة المقاومة ضد العولمة في بلاده ، فشرح كيف أن الرجال والنساء عندما يشتركون في المظاهرات أو حركات الاحتجاج يحولون أجسامهم إلى دروع بشرية في مواجهة حصار أو هجمات البوليس. كيف أن العصيان المدني، أي الامتناع السلبي عن تنفيذ الأوامر أو التوجيهات أو القوانين الجائرة ، أخذ ينتشر في كافة مجالات العمل ، والحياة . كان شابا جميلاً طويل القامة ، نحيل ، شعره أسود طويل ، وعيناه لامعتان ، وقوبلت كلمته بتصفيق حماسی ، لأنها لاقت صدى واقتناع في عقول وصدور الحاضرين.
هكذا تعود الشعوب بالتدريج ، وعلى نحو جديد ، إلى تعاليم غاندي ، إلى الأساليب التي ابتكرها في العصيان المدني ، بدأها بالزحف الشهير الذي انضم إليه الملايين سائراً من مدينة حيدر أباد في موطنه جوجرات إلى بحر البنغال ، ليرفع قبضته بحفنة من الملح ويقول لن ندفع ضريبة الملح التي فرضها علينا الإنجليز بعد اليوم. هذا العصيان المدني انتهى بجلاء الاستعمار البريطاني عن الهند ، واستقلالها سنة 1947 ، رغم المذابح التي حدثت ، ورغم الانقسام الذي روى بذوره بين الهند وباكستان ليفصل بينهما.
محاكمة القروض الأجنبية -------------------------------------- منذ سنين وأنا أحلم بزيارة أمريكا اللاتينية. أشياء فيها تجذبني إليها. شعراؤها ، وكتابها ، ومفكروها. نضالاتها البطولية ضد الاستعمار القديم ، والجديد. مآسيها المروعة ، وتنوع صراعاتها. الحيوية المتدفقة في موسيقاها، وأغـانـيـهـا ، ورقصات شعوبها ، في المزيج المبدع الذي يجري في دماء رجالها ونسائها ، اختلطت فيه أصول هندية وأفريقية ، وأوربية وعربية . لكن أخيراً بعد طول انتظار ، وبعد ان كدت أيأس من تحقيق هذا الحلم، وأنا في أواخر مشوار حياتي ، جاءتني دعوة للمشاركة كشاهد في المحاكمة الدولية الشعبية للقروض . هذه المحاكمة التي تعاون في إقامتها عدد من المنظمات الدولية ، والمحلية التي تنشط في القطاع المدني وهي: الشبكة الدوليـة " جـوييلي ساوث " المكونة من أربعين هيئة ومنظمة في أفريقيا ، وأمريكا اللاتينية ومنطقة الكاريبي ، وفي أسيا ومنطقة " الباسيفيك "، " اتحاد رجال القانون الأمريكي "، " منظمة كايروس الكندية "، شبكة " جوييلي ساوث " في "الولايات المتحدة "، " اللجنة الدولية لإلغاء ديون العالم الثالث " ، " تحالف الدائنين " ، " لجنة الأزمة البيئية الرأسمالية " ، وأخيراً " الزحف النسائي العالمي" . هكذا وجدت نفسي في مدينة " بورتو إليجرى " عاصمة إقليم " ريو جراندی دو سول " في جنوب البرازيل على بعد مائة كيلو متر من المحيط الأطلسى . قضيت ثمانية وعشرون ساعة في المطارات والطائرات للوصول إليها. كنت أشعر أنها رحلة من رحلات العمر. فما أجمل الجديد في الحياة ، وما أجمل انتظاره . لذلك طوال الرحلة لم يغمض لي جفن. كنت قد قرأت عن هذه المقاطعة ، التي تتم فيها تجربة ديمقراطية فريدة من نوعها ، تجربة المشاركة الشعبية في الحكم التي تعتمد على تحالف أربعة عشرة حزباً ، ونقابة ، وهيئة تمتد من اليسار إلى اليمين ، ويشكل الحزب الاشتراكي العمالي عمودها الفقري. تحالف يشترط في نظامه ألا يتخذ، أو ينفذ أي قرار إلا بالإجماع ، فإذا اعترض طرف من الأطراف الأربعة عشرة يعتبر لاغياً. طريق طويل ، وشاق . لكنه إن نجح سيفتح أفاقاً مبهرة للتطور الديمقراطة السلمية. هكذا تلعب هذه المقاطعة دور المعمل الطليعي في تجربة مثيرة ، يمكن أن يكون لها أثر عميق فى تطور العالم . مدينة " بورتو إليجرى " جميلة تتميز بثراء الطبيعة نتيجة الجو الاستوائي الحار ، والأمطار الغزيرة. مساحات خضراء ، نخيل يعلو حتى السماء بقوامه النحيل ، أشجار تحمل زهوراً بيضاء وحمراء وصفراء وبنفسجية اللون ، امتزجت بألوان البشر ، والملابس ، والأعلام والرايات . لفت نظرى نظافة المدينة رغم تدفق عشرات الآلاف من الزوار ، جاءوا من مختلف البلاد ، ومن كل أنحاء البرازيل. فرغم الأفواج اللانهائية ، ظلت دورات المياه الشعبية تلمع من فرط نظافتها ، وظل الكناسون ، وعمال النظافة يعملون وسط الجـمـوع دون أن يشـعـر بـهـم أحـد لإزالة المخلفات والفضلات ، طوال الأيام الست التي قضيتها هناك. كنت أدرك من الحوار مع بعض الناس ، ومن الملاحظة ، أنه تحت السطح الذي أراه توجد مشاكل. مع ذلك أحسست ان الجهد الجماعي المبذول في المدينة ، أتي بثمار غير عادية ، في بلد يعاني الفقر مثل غيره من بلاد الجنوب. عقدت " المحاكمة الدولية الشعبية للقروض " جلساتها يومي ۳٫۲ فبراير ۲۰۰۲ في قاعة " أراوجوفيانا " ، وهي أضخم قاعة في المدينة تسع خمسة آلاف شخص. عندما وصلت إليها في الصباح الباكر ، كادت ان تكون خالية إلا من عشرات المنظمين ، لكن ما إن اقتربت الساعة التاسعة ، وهي مـوعـد بدء المحاكمة حتى بدأت تمتلئ بالوافدين ، بهذا الخليط المدهش الذي شاهدته قبلها بيوم أثناء الزحف الشعبي عبر الشارع الرئيسي للمدينة ، والذي صب نفسه في مساحة ضخمة من الخضرة أقيم فيها حفل للرقص ، والغناء، والموسيقى ، فوق مسرح لم أر مثيلا له في الحجم . جاءوا مرة أخرى بأعلامهم ولافتتاهم ، وشعارتهم وطبولهم ، وقيثاراتهم، وأطفالهم ، كأنهم حاضرون للاحتفال. حـول منصة المسرح الكبير وزعت الورود ، والزهور، ومنتجات أراضي الاصلاح الزراعي على صوان من الخوص: البطيخ ، والقرع العسلي، والخضروات ، والبقول ، والحـبـوب . وفوقها استقرت هيئة المحكمة. رئيسها رجل قانون من أفريقيا الجنوبية يدعى " دومیزا تسيباجا " معه خمسة من القضاة. رجلان هما " ديميـتـريو فالينتين " من البرازيل ، و" تشاندرا سيكار" من "كيرالا" في الهند وثلاث نساء ، هن " نوال السعداوي " من "مـصـر" ، " نورا كـورتيناس" من "الأرجنتين" و" لورينا روزالي" من الفلبين. على يمين المنصة جلس المدعى العام ، وهو قاض سابق من الأرجنتين يدعى " اليخاندرو تيتلبوم ". كان معه مساعدوه من أوغندا ، ومالي ، والسنغال، والإكوادور ، وجزر الدومينيكانز ، ونيكاراجوا ، والهند ، وأنجولا ، والبرازيل. أمـا هيئة المحلفين فكانت تضم اثنى عشر رجلاً وامرأة من الأرجنتين ، والإكوادور ، وساحل العاج ، ومالي ، وأفريقيا الجنوبية ، وتنزانيا ، وجزر الفيجي ، وأندونيسيا ، وكوبا ، وهايتي ، والصين ، والفلبين. أقيمت المـحـاكـمـة في إطار الأنشطة المرتبطة بالمؤتمر الاجـتـمـاعي العالمي الذي يعقد للمرة الثانية في " بورتو إليجرى" ، وهو منتدى يعقد سنوياً بمساندة النظام الحاكم في " ريو جراندی دوسول " ، ويعتبر أحد أشكال النضال ضد عولمة الأقلية الرأسمالية التي تقودها الولايات المتحدة . وكان هدف المحاكمة كشف وإدانة التخريب الاقتصادي ، والاجتماعة ، الذي يصيب بلاد الجنوب نتيجة السياسات المرتبطة بالإقراض. فهذه القروض تقود إلى سلسلة من التطورات والإجراءات ، التي تؤدى الى إخضاع البلاد المقترضة . وتقود إلى ما يسمى بالتكيف الهيكلي الذي يفرضه البنك الدولي ، كشرط لتـقـديم المساعدات ، والقروض ، إلى خصخصة المؤسسات الإنتاجية والخدمية (المصانع ، البنوك ، التـجـارة والنقل والمواصلات ، الطاقة ، الصحة ، التعليم) إلى ربط العملة المحلية بالدولار ، حتى يبتاعه حاملو الدولار بأرخص الأسعار، بينما تدفع البلد المقترضة أعلى الأسعار للاستيراد . وهذا الوضع يقود الى إخضاع اقتصادها لأمريكا ، إلى عجز متزايد في الميزان التجاري واستنزاف موارد البلاد ، وإلى تخفيض الاعتمادات الحكومية المخصصة لدعم الفقراء ، والتأمينات ، وخدمات الصحة والتعليم ، ومواد الغذاء الأساسية ، وغيرها من الأشياء . كما يترتب عليها تغيير القوانين المحلية لصالح المستثمر الأجنبي ، على حساب مختلف طبقات الشعب ، وقطاعات هامة من الرأسمالية الوطنية. بينما تستنزف الشعوب إلى أقصى حد ، حتى تتمكن من تسديد القروض ، ومصاريف خدمة الديون ، وفوائدها . أثناء المرافعة التي قدمها النائب العام الأرجنتيني " اليخاندرو تيتلبوم" ، قام بعرض شامل لتأثير القروض الخارجية على بلاد الجنوب ، أوضح فيه أن حـجـمـهـا الإجـمـالي وصل في سنة 1999 إلى اثني تريليون دولار (۲۰۰۰,۰۰۰,۰۰۰,۰۰۰ دولار) وأنه مقابل كل دولار من القروض ، تسدد بلاد الجنوب في المتوسط ثلاثة عشر دولاراً (13 دولار) . بعد مرافعته استمعت المحكمة ، والمحلفون ، والجمهور إلى الشهود.كان عددهم 19 ، منهم 8 من أفريقيا ، و6 من أسيا ، وه من أمريكا اللاتينية. فأضافت شهاداتهم تفاصيل مروعة عن أثر القروض والساسيات المرتطبة بها ، على حياة الشعوب في بلادهم. قمت أنا بتقديم شهادة خاصة بمصر ، شرحت فيها كيف أن القروض عندنا ارتطبت بالاستعمار القديم ، والجديد ، والحرب. فعندما تراكمت الديون الخارجية في عصر الخديوي إسماعيل في السبعينيات من القرن التاسع عشر ، فرض الاستعمار الإنجليزي ، والفرنسي رقابة ثنائية على اقتصادنا ، فساءت الأحوال ، وثار الجيش المصري بقيادة عرابي ، وانضم إليه الشعب. عندئذ انتهزت بريطانيا الفرصة وغزت البلاد بجيوشها لتفرض احتلالا دام أكثرمن سبعين عاماً. وفي سنة 1956 أراد البنك الدولي أن يكرر ما حدث من قبل . اشترط بتوجيه من " فوستر دالز " وزير خارجية أمريكا ، أن يقترن القرض الذي كان سيقدمه البنك لبناء السد العالي ، بفرض الرقابة على اقتصاد مصر ، فرفض عبد الناصر هذا الشرط ، وقام بتأميم شركة قناة السويس بحثاً عن مـوارد لبناء السد. وعلى أثر ذلك ، شئت إنجلترا ، وفرنسا وإسرائيل اعـتـداء عسكرياً ثلاثياً على بلادنا. مرة أخرى في سنة 1991 ، ضغطت الولايات المتحدة على مصر لكي تنضم إلى حلف الثلاثين دولة التي شنت الحرب على العراق ، ودمرتها. وقدم "بوش" الأب مكافأة نظير مشاركة مصر، وتقديمها غطاء عربياً للحرب في صورة تخفيض لديون مصر قدرها سبعة مليارات من الدولارات ، سرعان ما استردتها الرأسمالية الأمريكية عن طريق اختلال الميزان التجاري. هكذا ارتبطت القروض مرة أخرى بالحرب ، التى أدت إلى إصابة التضامن العربي بضربة خطيرة وإلى تفتيت وحدته ، إلى تحطيم العراق كدولة عربية ناهضة ، مما ساعد على قلب موازين القوة بشكل واضح لصالح إسرائيل. أثناء هذه الشهادة قمت أيضاً بعمل مقارنة بين اقتصاد مصر عندما رحل عبدالناصر عنها ، مع الوضع الآن. فرغم العيوب التي كانت تشوب الاقتصاد في ذلك العهد ، ونقاط الضعف والتخلف التي عاني منها والتي تفاقمت بعد هزيمة 1967 ، كان الدين الخارجي في حدود ثلاثة ملايين دولار فقط . بينما وصل إبان حرب الخليج إلى 47 بليون دولار. كان الميزان التجاري لصالحنا ، بينما وصل العجز في الميزان التجاري للبلاد الآن إلى ۱۲ بليون دولار. كانت مصر قد بنت السد العالي الذي مازلنا نعتمد عليه لرى جزء هام من أراضينا الزراعية ، ولـتـوفـيـر نسـبـة كبيرة من الطاقة الكهربائية التي نحتاج إليها ، وأقامت ستين مشروعاً صناعياً بعضها في مجالات هامة مثل الدواء ، ومواد البناء . كان سعر الدولار في حدود 43 قرشاً بينما وصل الآن إلى 560 قرشاً في السوق السوداء ، وكانت أسعار الاحتياجات الأساسية للشعب متوافرة بأسعار تصل إلى عشر سعرها الآن أو أقل. أوضحت أن اقتصاديات السوق الحرة والخصخصة ، أدت إلى تفاقم مشكلة البطالة التي تقدر نسبتها ما بين ۱۲ ٪ و ۲۰ ٪ مليون عاطل في مصر. وأنه يوجد ما يقرب من ٢ مليون عاطل وعاطلة بين صفوف المتعلمين خريجي الجامعات ، والمعاهد العليا ، بينما في السبعينيات لم توجد سوى بطالة مقنعة ، التي مهما كانت عيوبها ، تظل أقل وطأة على القوة الحـيـة للشعب. كما أدت إلى استغلال متزايد للفلاح الذي يبتاع احتياجات الزراعة بأثمان باهظة، ويدفع إيجار للأرض الذى زاد عشرة أضعاف منذ ذلك الوقت. القروض الخارجية هي الطعم الذي قدم إلينا لربط عملتنا المحلية بالدولار ، وفرض التبعية الاقتصادية على بلادنا ، لتحول دون ان تتسع رقعة الاستقلال التي حصلت عليه بفضل نضالات الشعب. ومع مرور الأيام تتضح النتائج المدمرة لسياسات الاعتماد على القروض. لذلك تتزايد القوى التي تعارضها ، وتتسع صفوفها ، فغدت حتى الحكومات في الجنوب ، وفي مصر ، تستاء مما يفرض عليها بواسطة البنك الدولي ، والشركات المتعدية الجنسية ، ومنظمة التجارة العالمية وغيرها. في الأيام الأخـيـرة عـادت مـصـر إلى التوسع في الاقـتـراض ، مما سيؤدي إلى مزيد من الخضوع لمصالح ليست هي مصالحها. فالقروض هي أحـد العوامل الهامة التي تجرنا إلى اتخاذ مواقف سياسية خطيرة على مستقبلنا ، إلى التهاون في قضية هامة مثل قضية فلسطين ، أو إلى التخاذل إزاء تهديدات الحـرب المـوجـهـة ضـد العراق. إن شعب فلسطين يتعرض للإبادة المنظمة على أيدي شارون ، وآلة الحرب الإسرائيلية التي صنعتها أمريكا بقروضها ، بثلاثة بلايين من الدولارات ، تمنحها سنوياً لإسرائيل لتغذى بها آلة الحرب. فالرأسمالية ، وعلى الأخص الرأسمالية الأمريكية ، لا تستطيع ان تعيش بدون الحرب ، ولا تستطيع ان تدعم عولمتها الاقتصادية ، إلا بعسكرة العولمة السياسية ، وتسليحها المتواصل .
الحاجة إلى يسار جديد ----------------------------- المحاكمة الدولية الشعبية للقروض ، هي جزء لا يتجزأ من الحركة المناهضة للعولمة الرأسمالية ، التي تستنزف الشعوب حتى يتراكم رأس مالها. إنها خطوة على الطريق ، تنبه إلى مخاطر الاقتراض الخارجي التي عرفناها وجربناها ، أثناء علاقتنا التاريخية مع الاستعمار الأجنبي. قادتنا إلى التبعية، والإفقار ، والحرب. إنها تشير بأصابع الاتهام إلى البنك الدولي ، وصندوق النقد الدولي ، والشركات المتعددة الجنسية ، وحكوماتها في البلدان الرأسمالية للشمال ، وحكومات الجنوب التي تنفذ سياساتها. إنها جزء من حركة ثرية متعددة الأشكال ، والاتجاهات ، والمجالات ، والأنشطة انبثقت من القطاع المدني وكونت منظماتها بعد فشل الأحزاب في الدفاع عن جماهيرها. الطريق أمامها مازال طويلاً ، فالصعوبات تحيطها من كل جانب ، والتنسيق بين روافدها ، وفرقها التي تعد بالمئات ، والآلاف مهمة شاقة . لكنها حركة تتسع ، وتتدعم ، وتكتسب تجـاربـهـا ، وتولد إبداعاتها. لم تستطع أحداث 11 سبتمبر ، أن توقفها إلا لفترة محدودة ، استأنفت بعدها الزحف . لكن ضعف الأحزاب اليسارية ، أو غيابها ، يضعفها . فـوجـود أحـزاب يسارية قادرة على استيعاب دروس الماضي ، واستئناف نشاطها بفعالية ، وعمق ، وعلى إدراك الحاضر ورؤية المستقبل باحتمالاته ، سيساعد كثيراً على تجميع مختلف روافد الحركة المناهضة للعولمة ، تلك العولمة التي تسيطر عليها أقلية رأسمالية تسعى إلى فرض هيمنتها بالعسكرة ، والحرب. أصبحت إعادة بناء الأحزاب اليسارية ونشاطها أكثر إلحاحاً من أي وقت. إنه شرط من شروط بلورة تضامن محلى ، وإقليمي ، وعالمي قادر على إحباط خطط الهيمنة ، والعدوان ، والاستغلال ، والعنف. إن إعادة بناء اليسار ، يستلزم ان يتعلم ليس فقط من تجاريه، ولكن أيضاً من تنوع وابداع ، ومرونة منظمات ، وهيئات القطاع المدني ، ومن مئات المبادرات المتعلقة بحياة الناس ، ومشاكلهم. من كتاب : " فى الأصل كانت الذاكرة " 2002
#شريف_حتاتة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فقراء العالم يزحفون
-
البحث عن ثغرة فى الحصار
-
الأعداء الحلفاء
-
الخوف من التقدم
-
الاغراء الأخير
-
هل أصبح المستقبل للجواسيس ؟
-
شجاعة الابداع
-
الابداع وتجربة الوعى الباطنى
-
يوميات ايطالية
-
أدراج الحياة المنسية
-
الرضا بالمقسوم .. حوار مع سائق تاكسى اسمه - ممدوح -
-
آفة الفكر الأحادى فى النقد الأدبى
-
- مارادونا - خواطر غير كروية
-
رجل مثل شجرة الجميز
-
- عطر - قصة حياة قاتل
-
شقة الى جوار الكنيسة
-
هل انطفأت الشعلة الأدبية فى مصر ؟؟
-
أحلام الطفولة
-
اللورد - كرومر - يعود الى مصر
-
قرصنة فى ثوب جديد
المزيد.....
-
صحف عالمية: تحديات هائلة أمام إسرائيل وليبراليوها يعيشون معض
...
-
-حكومة اليمين المتطرف في إسرائيل تريد استغلال يوم 7 أكتوبر ل
...
-
القضاء الفرنسي يحدد 15 أكتوبر موعدا لإصدار قراره حول طلب الإ
...
-
حزب النهج الديمقراطي العمالي: لا للتهميش والاقصاء للجهة الشر
...
-
الشيخ قيس الخزعلي: من يحكم الكيان الان وهو اليمين المتطرف هم
...
-
التقدم والاشتراكية والشيوعي الفيتنامي يبحثان تعزيز التعاون و
...
-
أبو عبيدة: نثمن بكل اعتزاز الحراك الشعبي العظيم في اليمن الح
...
-
نهاية إسرائيل.. حل مانديلا أم متلازمة شمشون؟
-
جورج عبد الله مناضل لبناني مسجون بفرنسا منذ عقود
-
عام على «طوفان الأقصى» و«حرب 7 أكتوبر» / «الديمقراطية»: بالم
...
المزيد.....
-
مَشْرُوع تَلْفَزِة يَسَارِيَة مُشْتَرَكَة
/ عبد الرحمان النوضة
-
الحوكمة بين الفساد والاصلاح الاداري في الشركات الدولية رؤية
...
/ وليد محمد عبدالحليم محمد عاشور
-
عندما لا تعمل السلطات على محاصرة الفساد الانتخابي تساهم في إ
...
/ محمد الحنفي
-
الماركسية والتحالفات - قراءة تاريخية
/ مصطفى الدروبي
-
جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ودور الحزب الشيوعي اللبناني
...
/ محمد الخويلدي
-
اليسار الجديد في تونس ومسألة الدولة بعد 1956
/ خميس بن محمد عرفاوي
-
من تجارب العمل الشيوعي في العراق 1963..........
/ كريم الزكي
-
مناقشة رفاقية للإعلان المشترك: -المقاومة العربية الشاملة-
/ حسان خالد شاتيلا
-
التحالفات الطائفية ومخاطرها على الوحدة الوطنية
/ فلاح علي
-
الانعطافة المفاجئة من “تحالف القوى الديمقراطية المدنية” الى
...
/ حسان عاكف
المزيد.....
|