أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نمر سعدي - كتاب (كحل الفراشة) - ايقاعات نثريَّة - الصادر في عام 2019 عن دار روافد للنشر والتوزيع / القاهرة















المزيد.....



كتاب (كحل الفراشة) - ايقاعات نثريَّة - الصادر في عام 2019 عن دار روافد للنشر والتوزيع / القاهرة


نمر سعدي

الحوار المتمدن-العدد: 7432 - 2022 / 11 / 14 - 17:30
المحور: الادب والفن
    


نـمر سعدي




كحلُ الفراشة




ايقاعات نثريَّة







بوَّابةٌ أولى


نصوصٌ على حافةِ الحاسَّةِ الزرقاء












(1)
ما روتهُ الفراشةُ



الشاعر الفلسطيني الراحل راشد حسين قال ذات مرة في لقاء صحفي أن الشاعر أو الفنان إذا تزوَّج يصبح في حالة جاذبيَّة سوريالية غريبة ومعقَّدة فملائكة السماء تشدُّهُ من شعرهِ نحو الأعلى بينما تشدُّهُ ملائكة الأرض وهم زوجتهُ وأولادهُ من قدميهِ نحو الأسفل ..لقد صدقَ ولكنهُ نسيَ الحبيبة التي تشدُّ من القلبِ والروح أيضاً.
***********
أول رواية عظيمة صنعت قدري العابق بعطر الحبر بطريقة ما وجرَّتني من تلابيب قلبي إلى عالم الأدب رواية الفارس الخالد لميشال زيفاكو ..كانت رواية طويلة بمجلدين وكنت في التاسعة من عمري ..رواية حافلة بالحب والتضحية من أجمل ما قرأت في حياتي..فيها طاقة تصويرية ورومانسية هائلة..تُنسيك نفسكَ وتجعلكَ تعيش أجواء عصر النهضة في فرنسا الملكيَّة..بعدها جاءت مرحلة روايات جرجي زيدان التاريخية.
حدثت هذه الرواية في أزهى عصور الفروسية والسيف في فرنسا وأوربا كلها وفي هذه الرواية تبين لنا كيف استطاع بطلنا الفارس الخالد ريكبمرج أن ينتصر على مكائد خصومه وخصوم بلاده وهم من أصحاب الوجاهة والنفوذ. ميشال زيفاكو روائي تملكت نفسه مشاعر الرغبة بانتصار الحب والعدل والإخلاص في هذا العالم الملئ بالظلم. ورواية الفارس الخالد واحدة من رواياته التي نالت شهرة كبيرة وترجمت إلى الكثير من اللغات ولاقت وما تزال تلاقي الرواج لما تحمله في طياتها من هذه المعاني العظيمة.
**********
(نعم) مع علامة سؤال تختصرُ دوار البحر .. هذه الكلمة المصابة بقمرِ الذهول قفزت من فمها كالسمكةِ البريئة عندما قالَ لها أُحبكِ.
**********
فاطمة بالنسبة لي ليست مجرَّد رمز أنثويٍّ فقط , وليستْ موتيف عشق عربي رتيب النغمة , مثلما هي عند الكثير من الشعراء العرب القدامى والأحياء . منذ أمرئ القيس وحتى نزار قباني وأحفادهما , فاطمة عندي هي أعمق وأبعد من تجليَّات اللازورد في مرايا الروح , والحضور المشتعلُ أبداً بأطياف الغيابْ.
*********
آه ما أجمل روح تشرين.. تشرينُ زهرةٌ صخريَّةٌ..قمرٌ أخضرُ...طيرٌ أبيضُ الحزنِ والسكينةِ يبلِّلهُ النعاس.
*********
ما أجمل حورية البرق الحمراء ..التي ترقص الفلامنكو في سماء حيفا..أعشقها من بعيد وأرى قدميها الورديتين المشتعلتين بالغيوم وقلبها المتوهج بزرقة البحر الليلية..هنا ..الآن.
*********
أتوَّجع لا من أجلِ ما حدثَ وما سيحدثُ في الآتي والغدِ بل من أجلِ سؤال تائه ومن يقيني أنهُ لا يوجد في هذا الكونِ قوة واحدة عادلة تقفُ إلى جانبِ العرب وحقهم الضائع في اختيارِ مصيرهم... قوة واحدة لا غير تملكُ ضميراً إنسانياً يقظاً بل ومتوهجاً.
********
الكتابة هي فن الحذف .. هكذا قالَ شاعرٌ ما .. هيَ عندي فن الصمتِ أيضاً.. فأنا عندما أعيشُ حالات بيات شعري طويلة أتعلَّمُ في اللغة شيئاً جديداً.. أسلوباً ما..مجازاً ما ..وجعاً ما.. فأحس أنني ما زلتُ في الشعرِ أحبو كطفلٍ صغير.
********
بعدما رحل الشاعر حبيب الزيودي عرض عليَّ الفيسبوك طلب إضافته لقائمة الأصدقاء فبعثتُ طلب صداقة له بحركة غير إرادية تحكَّم فيها الحب له ولشعره والحنين الهائل إلى المتفيزيقيا ..الآن أتذكرَّ أنني بعد موت محمود درويش وبحركة غير إرادية أيضاً حاولت الإتصال بهاتفهِ الجوَّال الذي كان مجهولا لي من قبلُ بعد أن قرأت قصيدة للشاعر سميح القاسم سجَّل فيها رقم هاتف توأم روحه وصديق عمره الراحل..الآن لا أعرف ماذا أسمِّي هذا التصرُّف هل هو الجنون الصرف؟ أم الحب المطلق ؟ أم هو حنين الروح لوردة المتفيزيقيا؟
********
لا كلامَ في فمي أروع من كلامكِ الذي يشبه زهر اللوز.
*******
شوق عظيم يجرفني للأماكن تلك...التي تركتُ شيئا فيها وتركتْ شيئاً فيَّ..شيئاً يشبه فتات الضوء العطري.
*******











(2)
فسحةٌ لكلامِ البنفسج


يدُ الله وحدها التي صبَّت ماء نعناع الموسيقى فيَّ كانت وراء شغفي بالتفاعيل والغنائية.. وليأتِ شاعر يقنعني بقصيدة النثر كأنسي الحاج أو محمد الماغوط كي أسلِّمَ لهُ مفاتيح قلبي.. الشعر الممسوس بكهرباء الموسيقى عالية الشحنة له طقوسه الغرائبية ومشهده النوراني ونفسُه العذب منذ جرير والبحتري وأبو تمام والمتنبي حتى أحمد شوقي والسياب ومحمود درويش كلهم كانَ يدخل في حالة وجد موسيقي حين يكتب أو تتلبسهُ روح أبولو أو فاغنر.
***********
عندما صمتَ قلبهُ في الظهيرة الأخيرة كانَ يتناولُ فطورَهُ السماويَّ ممسكاً رغيفَ خبزٍ بيمينهِ بحركة ضاغطةٍ لا ارادية.
وماذا قالَ.. ؟
لا شيءَ كانت عيناهُ تحتشدانِ بالغصص والأسرارِ المبهمة.. وبكل شيء.. هكذا حدثني أخوه الأكبر البارحة..
الأنقياء دائما يذهبون الى الله.
**********
يحيِّرني الذي يقولُ كن طيباً كحمامةٍ وحكيماً كأفعى..
كيفَ يحسنُ جمعَ الضدَّين؟ يا له من طباق.
**********
شجرة الزيتون التي تـُجزُّ ضفائرُها، تبكي بحرقة واختلاج.. أسمعها تبكي.. أسمعها تتنهد.. بكاءُ الشجرة أكثر بكاء موجع في الدنيا.. بكاءُ الشجرة... الشجرة المرأة.
*********
كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة.. نعم هو كذلك يا نفَّري فقد ازدادَ شطبي وحذفي حتى لم يتبقَ لي من الصفحة المخطوطة ذات القطع الكبير أكثر من سطر واحد مكوَّن من عدةَّ كلمات.. يا لهذا المعنى السراب.
**********
قالَ همنغواي: أكتب كأنك تموت غداً..
هل سمع بقولِ علي بن أبي طالب رضي الله عنهُ إعمل لدنياكَ كأنك تعيش أبداً ولآخرتك كأنك تموتُ غداً؟
*********
صدقاً أقولُ : ليسَ ثمَّة جمالٌ لم يكن عبئاً على قلبي.
*********
الظاهر أني لن أبرأ من مرض الحنين.. وإلا فما هو سرُّ غرامي بالأمكنة؟ اليوم مثلاً تحسَّستُ بعينيَّ مناطق كثيرة في وسط البلاد وفي المثلث كأني أنظر الى جنتي الموعودة.. أهو شوقُ آدمَ المخبوءِ فيَّ الى الجنَّة التي طُردَ منها.. آهِ يا أمي الأرض.. في قلبي مليون حشرجة.. لم يبقَ لي سواكِ.
*********
الضوء الأزرق للمدهش الراحل حسين البرغوثي ينتمي الى صنف الكتب العظيمة التي تترك فينا شيئا ما .. تكسرُ ضلعا برفيف فراشةٍ .. نتغيَّر طفيفا بعدَ قرائتها.. لم أنم قبل عدَّة أيام حتى أتممت قراءة الصفحات المئة والثمانين خلال عدَّة ساعات وهو رقم قياسي بالنسبة لي اذ نادرا ما أنهي رواية بمثل هذه السرعة.. والأجمل من كلِّ شيء أنها تصيبك بنعمةِ الصمت.. شكرا لك حسين البرغوثي أعتز بأنني أقرأ لراءٍ عظيمٍ مثلك.
*********
لا أملكُ قلبَ قديِّس لأعرفَ سببَ تسرُّبِ الملحِ الأسود المُرِّ والقاسي الى طعامي ومائي وهوائي صباحَ هذا اليوم ليغمِّسَ خبزي بالدمع الذي لم أصدِّق عجزي الكامل عن رفضهِ وأنا أشاهد النساء والأطفال في مخيَّم اليرموكِ وهم يبحثون حتَّى عن الأعشابِ البريِّةِ التي لا تصلح للأكل لإسكاتِ جوعهم. كأنَّ محمود درويش كانَ يراهم بقلبهِ عندما قالَ وأنتَ تعدُّ فطوركَ فكِّر بغيركَ لا تنسَ قوتَ الحمامْ.
*********
أسرقُ شهقةَ الشِعرِ من إمرأةٍ عابرةٍ بسيطةٍ وطيبَّةِ القلبِ جداً تقولُ على بُعدِ قمرٍ مني أنامُ بعينينِ مغمضتينِ وقلبٍ مفتوحٍ أو الحبُّ تغريبتي في بدئي ونهايتي فطوبى للغرباءِ.. طوبى لقلبٍ سمكيٍّ في الماءْ.
*********
لا أقول أنها تستطيع أن تجعل الزمان يتوقف عن جريانهِ كرمى لجمالها الأوحد أو ينتظر كغودو تحتَ شجرةِ الشمسِ.. أو مثلاً باستطاعتها أن تجعل كلَّ أيامِ السنةِ ربيعاً لا يذبلُ.. فكلُّ هذا مجازٌ لا يسمن ولا يغني من حقيقةٍ.. يكفيها أنَّ باستطاعتها أن تمسك بالنظريةِ النسبيةِ بيدها وتطلقها كطير أخضر في الفضاء اللا متناهي. يكفيها أنها تربي على يديها القصائدَ كلَّها.
**********








(3)
خفقاتٌ لإضاءةِ الروح

لا أعرف لماذا أكتب بالضبط وكيف قادني القدر إلى الشعر ..الناس العاديون البسطاء يسمّون الذي يكتب مجنونا ..ربما هذا الرأي المسبق أو الصورة النمطية للكاتب لديهم ..كنت أعتقد أنني أكتب لأخلق ذلك التوازن في روحي القلقة أو لتحرير المياه الجوفية لرتابة الحياة ومللها من بئر الجسدِ الأرتوازي ..أو ربما لإضاءةِ نفق مظلم بالحزن غير المفسَّر في جوانيَّةِ النفس..اليوم أضحك من تلك النظريات ..بعد عشرين سنة من اشتعال أصابعي بالحبرِ المقدَّس وتخبطِّ القلبِ في مصيدةِ النصاعة التي تلمعُ من وراءِ القصيدة الحقيقية..لا أعرف لماذا أكتب أو أفكِّرُ بالكتابة بالضبط.
**********

أنا مهووس بالحبر والورق..مع احترامي للحاسوب والكيبورد ..-بعد كل هذه الثورة الالكترونية ..- حتى أنَّ العديد من الكتّاب والشعراء قد نسيَ رائحة الحبر ولون الورق ..ولكنني أنصاع لعطر الحبر ولوهج الورق حتى اذا أردت كتابة كلمة واحدة أخربشها وبعد ذلك أشطبها وألغيها. حتى أفقر ستاتوس أكتبه على الورق بتذَّمر أحيانا ..لا أعرف ما هيَ قصتي مع الحبر والورق.
************
قرأت خلال عشرين سنة المئات من المجموعات الشعرية لشعراء عرب وأجانب وملكت تلك الحاسة التي تستطيع أن تميِّز بن الحقيقي واللا حقيقي.. تستطيع أن تعرف ذلك النوع من الشعر الذي عندما تقرؤه تحسُّ بأن قمة رأسك قد أُنتزعت وأنك تسبح فوق الغيوم على حدِّ اميلي ديكنسون .... شعر محمود درويش ينتمي الى هذا النوع من الشعر .. هو شعر يبلغُ مستوى رفيع من الجمالية والحساسية .. ومكاشفة الذات .. شعر حقيقي يجوب مساحات شاسعة وعالية جدا من النور ..هذه كلمة حق لا أقَّل ولا أكثر.. مشهورة بوجوه كل المتخرِّصين كذَّابي الشعر الذين لا يروق لهم تربُّع درويش على هرم الشعر العربي وهي على كل حال انطباع ذاكرة قارئة .. باحثة أبدا عن أشياء الجمال .
**********

لتفكيك نص ما أحتاج إلى عدة قراءات قد تتجاوز العشرة أحيانا.. أُلغي بها نرجسيتي وأمسحُ هالة الانبهار عن عينيَّ
*********

الفرح يرفضُ أن ينام .. الفرح بالشعر لا ينامُ أصلا .. في هذا الزمن الخالي من أحلام الشعر عزاء كاتب أو شاعر ما في هذه الحياة أن يُحتفى بنصوصه في مكان ما من الأرض وهو لا يدري .. وأشدِّد على كلمة لا يدري ..لأنها تحملُ في طيَّاتها فرحاً لا ينام ولأن هذا الاحتفاء في الجانب الآخر من الأرض يعني لي الكثير من الأشياءِ الجميلة.
***********

موسيقى مرئية مصطلح اخترعته في خريف عام ٢٠٠٣ وهو اسم مجموعة شعرية لي صدرت عام ٢٠٠٨ عن مؤسسة ومجلَّة مواقف واسم قصيدة لي كتبتها حسب ما أظن في سنة ٢٠٠٣ أو بعدها بقليل ونشرتها قبل عام ٢٠٠٦ في صحف محلية وعلى النت أي قبل صدور كتاب يوميات محمود درويش أثر الفراشة والذي يحتوي على قصيدة نثرية تحمل هذا العنوان .. وقبل اطِّلاعي على الكتاب ..سبحان الله من توارد الخواطر ووقع الحافر على الحافر
********
يقولُ لي الشخصُ الغريبُ اليومَ أنه ممنوعٌ من انتظارِ أيِّ شيءٍ.. أجيبهُ أن لاشيءَ أجملُ من الانتظارِ بالنسبةِ لي .. الحياةُ كلُّها انتظارٌ لما لا يأتي
********

قال الشاعر التونسي الخالد أبو القاسم الشابي مرَّة في قصيدة: وأنظر الوادي يغطِّيه الضباب المستنير..
قرأت قصيدة الشابي قبل زمن بعيد فلم أفهم حينها معنى هذا الضباب المستنير الذي يعنيه الشاعر الرومانسي الحالم الكبير إلا فيما بعد.. اليوم مثلا هذا الضبابُ المستنير الذي ذكره الشابي في قصيدته قبل عشرات السنين يغطِّي كل هضاب وجبال المنطقة الخضراء التي أعيش فيها منذ الصباح الباكر.. يا له من جمال أخَّاذ.. ساحر.. شاعري .. ربيعي .. يمتازُ بهِ آذار الذي يشكِّل جسراً طبيعيَّا وجمالياً.. رومانسيا عذبا بينَ فصليْ الشتاءِ والربيع.. ضباب أبيض كثيف فراشيٌّ تتخلَّله أشعة شمسية ذهبية خجولة.. كم أحب هذا الطقس منذ الصغر رغم ذرات الغبار الصغيرة المشبَّعة بالرطوبةِ في هوائهِ.. كأنه الطقس المثالي للشاعر الذي يسكنني.
*********

بعد أن يتحوَّل الطغاة الى رماد أسود ستطلعُ وردةُ العتابا السورية النقيَّة الصافية البيضاء من تحت هذا الرماد وتمتزج بيد صبية.
**********
همِّي الشخصي جداً هو نفسهُ همِّي العام الكوني.. أتلاشى في كلِّ شيءٍ.. وكلُّ شيءٍ أيضاً يتلاشى فيَّ.. يخيَّلُ لي وأنا أفكِّرُ بالجميع أنَّ الجميعَ أيضاً يفكرون بي.. العصفورُ الذي حطَّ على مقربةٍ مني يكلُّمني في صباحي الربيعيِّ الجميل وأنا لا أفهمهُ.. لكني رغم نفسي أردُّ لهُ التحيَّة.. أتماهى مع فرحهِ المقتضب كما تتماهى الكائنات الصغيرةُ مع صمتي المفتعل.. كلُّ الحياةِ تماهٍ بتماهٍ إذن.
**********



(4)
خبطُ الأجنحة المائية


كارولين طالبة أدب مقارن أميركية بيضاء.. جميلة ذات شعر ذهبي.. لا تفارق البسمة وجهها الناصع.. كانت تدرس الأدب الانجليزي في جامعة كولومبيا في مدينة نيويورك.. جاءت عام 2007 في بعثة دراسية صيفية الى جامعة حيفا.. كانت تعطي دروس خصوصية في اللغة الانجليزية.. وقد درَّستني عدة دروس فبدأت معي بسونيتات شكسبير قراءة وتفكيكا وشرحا.. كنت أودُّ لو بدأت من الشعر الأميركي المعاصر.. تشارلز بوفوسكي مثلا أو آن سكستون.. ولكنها أصرَّت على شكسبير ولغتهِ العالية.. كارولين وأظنها كانت من أصول يهودية.. فتاة جدا لطيفة ومحبة للشعوب الأخرى وإنسانية إلى حدِّ مرهف.. كانت تحب حيفا وتتنزَّه بشكل يومي في حي وادي النسناس الشهير وتتناول الفلافل.. قالت لي مرَّة أثناء تدرسيها لي أنها تحب الشعب الفلسطيني ومعلمها الحيفاوي الأصل المدرِّس في جامعتها النيويوركية العريقة البروفيسور بشير أبو منَّة وتعتبره أحد عباقرة هذا العالم وأنه يملك عقلا من أصفى العقول على مستوى العلوم الانسانية في العصر الحاضر..
المهم في الأمر أنني بعثت في الماضي لمكتبة جامعة كولومبيا كتبا شعرية لي ظلت لسنوات لا تظهر في كتالوج المكتبة الالكتروني.. حتى يئست من البحث عنها.. إلى أن جائتني رسالة من مدرِّستي عاشقة الشعر.. تخبرني فيها عن وجود الكتب ورابط البحث.. شكرا لكِ عاشقة الشعرِ والحياة والفراشات الصفراء والخضرة. أي إنسان ممكن أن ينسى سونيتات شكسبير بعد سنوات طويلة ولكنه لن ينسى فتاة مثل كارولين..
*********

لم تلتصق به صفةٌ طوال حياتهِ كما التصقت بهِ صفة حالم.. لا عاشق للسراب.. لا شاعر.. لا أي لعنة أخرى.. كان الجميع يقولونها له وكأنهم يقيِّمون شخصيَّته بعد خبرة.. بفرح من اكتشفَ كنزا.. مئات البشر قالوها له.. حتى آنيتا عاملة المطعم نادته مرَّة بها مطلقةً ضحكةً مجلجلة كأنما أصيبتْ بمس.. لا أدري كيفَ اصطلحوا عليها ولم يصطلحوا على أي كلمة أخرى؟ حالم؟!

********

في الزمن الالكتروني لا أحد يهتم ولا يتكلَّم مع أحد.. حتى قهوة الصباح لا تُشرب بمعزل عن نقر الهاتف أو اللابتوب... الزوج والزوجة والأولاد والبنات على مدار الساعة مشدودون بجاذبية غريبة عجيبة الى الفيسبوك.. أو تويتر أو الواتس أب أو الفايبر.. أصبحت عواطف الناس كالزهور الاصطناعية والزجاج.
********

سحرُ البيان الذي في سورتي الرحمن والملك لا حدود له... ما عليك إلا الانصات بهدوء.. الطاقة الجمالية في القرآن لا يقوى كلُّ قلبٍ على استيعابها..
انسيابية هذا النثر المركَّب تذهلك. موسيقا الألفاظ تحاول تسكين الموج المتلاطم في مكان ما من روحك.. كل شِعر عظيم متأثر بشكل أو بآخر بلغة القرآن الكريم.
********

هناكَ أزمة قراءة.. الآن ما فائدة أن يطبع الشاعر أو الروائي مثلا ألف نسخة من كتابه.. أظن أنه يكفيه ربع هذا العدد ان كان هو الوحيد من سيقوم بتوزيع كتابه على الأصدقاء أو المكتبات العامة أو الجامعية؟
باعتقادي ألف نسخة كثير وفائض عن الحاجة في وقت لا أحد فيه يقرأ وليس مستعدا أن يقرأ أي شيء.. العالم الافتراضي يشدُّ الناس بحبال سحرية حتى أن عدد الذين لا يزالون يتمتعون بنعمة القدرة على القراءة الورقية قد أخذ بالتقلِّص حتى لم يعد مجديا أن يقاس بعدد الجمهور الافتراضي.. لا أظن أنه سيقوم بتوزيع أكثر من مئة نسخة على أصدقائه ومثلها على المكتبات وكل ذلك مجانا لوجه الله تعالى.. مرةً لفت نظر صديق لي وجود كم لا بأس به من كتبي عندي في البيت فقال مازحا ماذا تفعل بها..؟ قلت له لا شيء.. أي صاحب مكتبة محلية اذا قلت له أنك تريد أن تهدي مكتبته عدة نسخ فانه يشط ويولول كمن أصابه مس من الجنون أو عبرت أمامه أفعى..
لا أحد يقرأ الشعر.. الناس يعتبرونه هذيانا وكلاما فارغا لا أكثر..
قالَ لي أفضل شيء تفعله أن تعطيها لمن يشحذ عليها.. وقهقه بسخرية.. مستغربا أني لم أجن من الكتابة طول عمري قرشا واحدا ويعاتبني بشدة على انني وزعت قسما منها على الأصدقاء والمكتبات العامة على نفقتي.. قلت له هذه طريق شاقة.. لا تقاس بالمال بل بالمتعة.. عندما كنت صغيرا كنت أحلم دائما في النوم واليقظة أن أطبع كتابا والآن تجيء أنت وتقول لي (وبعدين مع هذي الكتب شاغلة مساحة من البيت.. ارميها أو اعطيها لمن يشحذ عليها؟)
********

أنكيدو لم يكن من أصدقائها ولم يكن يعرفها أو لمحها يوما تملأُ الجرارَ من منابعِ البلورِ الحديثةِ.. لكنه عندما تفتَّحت الزهرةُ البريَّةُ المتوحشةُ الزرقاءُ عن وجهها القمريِّ الناصع تجرأ وقالَ لها كمن يحدِّثُ نفسَهُ أو يهمسُ للهواءِ المراوغ أنتِ أشبهُ النساءِ بأفروديتَ الجديدةِ يا من قددتِ قميصي بقبلة.
أنكيدو لم يكن أنكيدو.
*********

تتسِّعُ اللغة أحيانا .. تتسعُّ كثيرا.. حتى أننا اذا نقلنا كتابا عن لغة أخرى فغالبا ما تلتبس علينا ألفاظ كثيرة.. لتأدية الكلمة عدة معانٍ.. حتى أنه لفت نظري قبل عدة أيام أن عنوان رواية الكولومبي جبرييل غارسيا ماركيز الخالدة مئة عام من العزلة هو في اللغة الأصل واللغة الانجليزية مئة عام من الوحدة.. وأظن أن للعزلة معنى آخر.. العزلة في نظري لا تعني الوحدة.. ممكن أن تكون معزولا أو معتزلا مع من تريد.. ولكن للوحدة معنى مختلفاً ليس المعنى نفسه الذي تؤديه العزلة.. أيضا ترجمة صالح علماني لرواية أخرى لماركيز حملت عنوان ذاكرة غانياتي الحزينات.. بينما ترجمة المترجم الأستاذ رأفت عطفة الرائعة حملت عنوان ذكرى عاهراتي الجميلات.. هنا التبس الأمر عليَّ ولم أعد أعرف من أصابَ ومن أخطأ.. ولا أظن أن الغانية هي بالضرورة عاهرة أو العكس.. وهل الذكرى هي الذاكرة؟ لا.. الذاكرة شيء والذكرى شيء آخر.. هكذا أعرف.. وهذا الشيء لا يمس أو يقلل من أهمية هذين المترجمين الفذين.. أيضا هناك عنوان آخر لمجموعة قصصية وهو ايرينديرا البريئة.. فكيف تتحول هذه الايرينديرا في ترجمة أخرى أو مقال لأحد الروائيين المهمين الى ايرينديرا الغانية؟ وهناك ترجمة لرواية مهمة لنفس الكاتب ينشرها أحدهم بعنوان خريف البطريق بينما هي في ترجمة المترجم التونسي البارع محمد علي اليوسفي خريف البطريرك.. فأين البطريق وهو اسم لطائر بحري من البطريرك؟ اليوم اطلعت على كتاب مئة عام من العزلة مترجما الى اللغة العبرية وقد وجدت كلمة الوحدة بدل العزلة.. هذه اللغة العبرية التي انطمست وذابت أكثر من ألفي سنة.. العبرية لغة بسيطة ومختصرة ومحدودة اذا قيست بلغة جبارة كاللغة العربية.. ولكن هناك من بعثها من غياهبها ومن اشتغل على إحياء ألفاظها بعد أن كانت لغة عنقائية (من عنقاء) ولغة توراة منقرضة وبائدة.. أما نحن فنعمل على طمس وتغييب ومحو لغة هي من أروع اللغات الحية في الوجود.
********

بالنسبة له لم يفعل أيَّ شيء منذ عشرين عاماً.. سوى تربية هشاشته كما تُربَّى الورود في القوارير.. أو الطيور في القفص الذهبي.. حتى وهو يحلمُ بالفراشاتِ أو يدخِّنُ سيجارة الصباح كانَ يربِّي الهشاشة في الغابة البشريَّة.. كانت ذاكرته مقبرة للروايات.. هكذا قالَ لي شقيقهُ قبل شهر ومنذ ذلك الحين وأنا أفكِّر بكلامهِ الهلامي.
هل تربيةُ الهشاشة وظيفةُ الانسان الحديث؟
********

حياة جابرييل غارسيا ماركيز الشخصية والأدبية لم تكن بمعزلٍ عن الفانتازيا السحرية أو العجائبية.. والا فكيف نفسِّر نجاح كاتب مغمور حتى مطالع السبعينات.. كانَ يبيع علب الكولا بيبسي وباعَ سيارته لينفق على نفسهِ وأسرتهِ في وقت كتابتهِ لرائعته مئة عام من العزلة بينما كانت زوجته تشتري الحليب والخبز بالدين..؟ النجاح بعد ذلك كانَ منقطع النظير.. بيعُ 30 مليون نسخة من الرواية وتتويجٌ عالميٌّ بنوبل؟ الشيء الأغرب والملفت في حياتهِ هو ثقته العمياء بعملهِ. كانَ يعرف أنَّ مشروعه الأدبي سينجح.. آمن بهذا منذ البداية.
نجاح كنجاح ماركيز يسمَّى في أدبنا العربي فانتازيا.
********

أسعى دائماً إلى توريةِ شمسٍ صغيرةٍ عاشقةٍ في ثيابِ امرأة..
شمسٍ صغيرةٍ لا تُرى ولكنني أسعى إليها على عينيَّ.
********

ما قبل عصر الفيسبوك غفوت قليلا في قطار صباحي ينهبُ مسافةً زرقاء ما بين مدينتين ساحليتين في فلسطين.. حيفا وعكا.. حلمتُ بأنني أكتب كتاباً ينتمي الى تيار الكتابة عبر النوعية.. كله مكوَّنٌ من فقرات نثرية مرقمة لا تزيد الواحدة عن خمسةِ أسطر ولا تخضعُ لوزنٍ ولا لقافية ولا هي قصة أو قصيدة أو مقالة أو خاطرة بالمعنى الحرفي.. بل هي مزيج مبتكر وكوكتيل من أجناس أدبية كثيرة.. فقرات مثل نقاط الماء.. صغيرة ومدونةَّ على حائط الحياةِ الرمادي.. تحملُ حديث الروحِ لا أكثر.. وتعجُّ بصخب القلب البريء.. الفيسبوك الآنَ يؤسِّسُ لمثل هذا النوع من الكتابة.
********

خمسة أيام أو أكثر وأنا أكتب ذهنياً لنفسي أفكاراً متحررةً لقصائدَ قادمة.. حارَّة وحادَّة وثائرة ومنفعلة تارةً وفرحة ورومانسية وشفَّافة وبسيطةً تارةً أخرى.. في النهاية محوتها كلها من ذهني.. لا أعرف لماذا.. ولم أندم عليها.. هل لأنني أعيش التحرر فقط في ذهني؟ ربما لأسباب كثيرة أخرى.. مرَّة قلت في قصيدة.. كل الذي أعنيه لا أرويه.. وكل الذي أرويهِ لا أعنيه.. هذا تدريب أوَّلي على تماهي الوجه مع القناع. يقولُ لي صديقي جرِّب أن تقول ما تريد وسترى كم مقصلةً ستُنصبُ من أجلك أو كم صليباً سيُرفعُ لك.. الأفضل أن تحلم بالحداثةِ نائماً في خيمةِ أبي سفيان.
********


مرضٌ اسمهُ البكاء

أبو أحمد صديق قديم.. رجل شهمٌ.. قوي البنية.. مربوع القامة.. حاد النظرات.. في وجههِ بقيَّةُ ملاحةٍ شوَّهها حزنٌ ساهمٌ.. يشعلُ الشيبُ أطرافَ خصلات شعره العسليِّ.. يبدو كأنهُ على أعتاب الخمسين لكن الحقيقة أنه في أواخر سنوات الثلاثين.. التقيتُ به صدفةً قبلَ بضعةِ أيَّام في محَّلٍ لبيعِ أدوات البناء.. إنسان صلب قضى حياته عاشقاً للكتب والروايات والفنون.. روحهُ بشفافية فراشة صيفية وهو منذ نعومة أظفاره يعملُ في مجال العمل الشاق والبناء.. كانت فرصة سعيدة لتبادل الحديث والنوستالجيا والقهوة والسجائر معه.. قال لي أنه دائمُ الشعور بالحنين المبهم والقلق من دون أيِّ سبب لذلك.. فلقد دفعَ ديونه وديون زوجته للمؤسسات الحكومية التي كانت تطاردهُ بالمسدسات المسلولة وتقضُّ قيلولة والدهِ المسنِّ الذي ناهزَ الثمانين عاماً.. إلى أن صرخَّ بوجههِ ذاتَ يومِ بعدما ضاقَ بجرائرهِ.. روح شوفلك شغلة غير شغلة الكتب والروايات اللي رايحة تخرب بيتك.. جيالك كلهم صاروا مدراء شركات محترمين وأنت ما زلت صعلوكاً صغيراً تبكي على كسرة الخبز وبدك مصروف جيبتك من أمك.. أمك الآن في السماء.. إعتمد على نفسك وذراعك.. كانَ يقود بعصبية ويتصرَّف بعصبية ويتشاجر مع زوجته وعابري الطريق طوال أسبوع بعد كلام والدهِ.. سألته بحنوٍّ لمَ طلَّق زوجتَهُ أمَّ طفليهِ فحدَّق طويلاً في الفراغِ بحزن وقالَ لي أتصدَّقُ حتى هذه اللحظة أني لا أعرف.. اللعنةُ عليَّ.. لم أفهم عبارته الأخيرة وماذا يقصدُ بها.. قال لي تصوَّر أنا إنسان نصفهُ ذئبٌ شريدٌ ونصفُ الآخر عصفور ضعيف.. طولَ حياتي لم أحسب حساباً لأيٍّ كانَ.. ومرَّت عليَّ ظروف قاسية عشتُ فيها كما يعيش المتسوِّلون في الشوارع.. أنا الآن في بحبوحة.. لم أعد أخشى من الحجز على حسابي المصرفي من طرف أية مؤسسة حكومية تدَّعي أنها تساعدُ البشر ولكنها في الحقيقة تنصبُ لهم المقاصل غير المرئية والصلبان الحريرية.. لكن هناك حالة غريبة تنتابني منذ عدَّة شهور. عندما أصل بيتي في المساء بعد يوم عمل شاق.. وأستحم وأجلس لتناول العشاء..تتجمعُّ الدموعُ المعجونة بالأثير في عينيَّ كالغيومِ الصغيرة وأدخلُ في بكاءٍ حارٍّ وعميق.. في الليلِ أستيقظُ نتيجةَ كابوس أسود وأدخل حالة البكاء ذاتها من جديد.. من غير سبب.. مجرَّد بكاء نظيف أبيض.. لا أدري ما الذي يجعلني أبكي.. وبهذه الطريقة الطفولية؟ حياتنا كلها يا صديقي تؤسسُّ للقلق. ولكنني دفعتُ لهم ما يريدون من ضرائب... وتبتُ عن أشياء كثيرة أخرى.. من أينَ يأتي القلقُ يا عزيزي.. من أينَ؟ الآن أريد أن أحيا لحظةً واحدةً كما أريد.
******

دائما أتفاجأ بلفظة محبرة عندَ قراءتي لديوان جديد.. كنت أعتقد أنها سقطت من قاموس القصيدة الحديثة .. هيَ لفظة رومانتيكية تعني دَوَاة ، ، قِنِّينَة صَغِيرَة بِهَا حِبْرٌ .. لا أظنها تحمِّل القصيدة الواقعية دلالةً مهمَّة في نظري. لا أعرف ما الذي تفعلهُ بعدُ في قواميس شعراء حداثيين؟
******

بعيداً عن الشعرِ.. بعيداً عن قلقِ الشعرِ تحديداً.. أهمسُ لنفسي: جمالكُ الكاريبيُّ لم يكُ عبئاً عليَّ.. الآنَ ماذا جنيتُ منكِ سوى الحرائقِ المطيرةِ؟ بعدما أحرقتِ دمي انسللتِ بخفة النورس الأزرق وتركتِ فيَّ شتاءاتٍ يتيمةً تبحثُ عن مخرجٍ من جسدي.. بينما دموعُ الطبيعةِ تتكوَّر في قلبي الصغير.
******

منذ وقت طويل عندما لا أنام في الليل أتذكر في الصباح بيت بشار بن برد
لم يطل ليلي ولكن لم أنمْ
ونفى عني الكرى طيفٌ ألَّمْ

وبما أن الشيء بالشيء يذكر أتذكر بيته الرقيق الجميل المنطوي على المفارقة البديعة

إنَّ في برديَّ جسماً ناحلاً
لو توكأتِ عليهِ لانهدمْ

وأحيانا أضيف على ما أتذكره أشياء من عندي من باب التداعيات. كهذين البيتين

حكمةُ الشهوةِ في الشقوةِ أو
سرُّ هذا الحبِّ في ذاكَ الألم
جسدي كالسلَّمِ المنخورِ كم
أرتقي فيهِ لجنَّاتِ الندمْ
******
هذا الصباح أتناول رواية السلالم الرملية لسليم بركات.. المركونة كغيرها في مكتبتي منذ سنوات في عصر النت والفيسبوك.. يخيَّلُ لي في البداية أنني أقرأ شِعراً.. سرعان ما أتراجع ثمَّ أقنعُ نفسي أنَّ ما أقرأه لا يتعدَّى أن يكون نوعاً حديثاً من القصَّةِ أو ما يشبه يوميات شعرية تأملية.. عجيب أمر هذا الكردي المدهش الذي يمزج الرواية والقصة والشعر والأسطورة والتاريخ بخفَّةِ ومهارةِ ساحرٍ في نصِّ مفتوحٍ يستعصي بكثافة لغته البريَّة الجامحة والذاهبة في شمس الماضي على أي إطار أو جنس أدبي.. هذه الرواية تشبهُ الى حدٍّ ما الطائر الملوَّن الغريب الذي يحلِّق سعيداً في السماء فإذا حاولتَ أن تسجنه في قفص فهو سرعان ما يتلاشى ويموت.
*******

أكثر شيء ممكن أن يعكِّر صفو نفسك ويُبكي قلبك بدموع غزيرة ويجعلك تنرفز حد الجنون في هذا اليوم الصيفي الذي يشوي الجلد بحرارتهِ اللاهبة الجحيمية منظر امرأة شابة سمراء طويلة تحمل طفلة بالكاد عمرها شهرين وتلفها بخرقة بيضاء وتتسوَّل على مفرق الشارع السريع ... وأنت تحصي نقودك في البيت أو تشاهد التلفاز أو تقرأ شعر الغزل والحب والانسانية أو تنام على هدير المكيِّف أو تتناول الطعام الذي تحسنُ زوجتك طهيهُ .. أو تضع ابنتكَ في حضنك وتقبلها أو تقود سيارة جديدة وتشغِّل المكيِّف فيها على أقصى درجة فكِّر بغيرك ..فكِّر بغيرك .. من يأكلون لحم الشموس أو تأكلهم الشموس بلا رحمة ..بلا رحمة.. صدقتَ يا محمود درويش.. صدقت.
********

رحم الله الشاعر الفلسطيني الكبير الدكتور جمال قعوار الذي رحل الى ربه هذا الصباح .. آه كم عرفنا هذا الطريق الممتد من ساحة العين حتى مدخل جريدة الأخبار في شارع النمساوي .. كما يمتد الحنين من القلب حتى آخر السماء.. كان شاعرا وصديقا كبيرا وكثيرا ما كنت أراه يكتب قصائده أحيانا في مكانٍ ما وهو يسرح ويشط في التأمل ..وأعتقده كان يرتجل القصيدة ارتجالا لتمكنِّهِ من صنعتهِ.. أو كان يرتجل بعض القصائد الغزلية.. كنت معجبا بهذه الطريقة في الكتابة وكانت تربطني به صداقة الطالب بأستاذه. في فترة لاحقة كان يختفي ولا أراه يذرعُ شوارعَ الناصرة.. فأعرف من البعض أنه كان يلعب النرد في صالون للحلاقة في منطقة العين مع بعض الأصدقاء القدامى ... أثرهُ الشعري يشبه أثر العطر في الوردة ..لروحه السلام.
**********





(5)

رذاذٌ على وردةِ الذاكرة

زرتُ مكتبة جامعة حيفا أول مرة قبل 12 عاماً في ربيع عام 2002.. هي من ربىَّ فيَّ القلق الوجوديَّ العظيم.. منذ سنوات ثلاث لم أزرها..قبل أيام زرتها فوجدتها عبارة عن مدينة صغيرة من الكتب.. ليسَ هناكَ في هذه الحياة ما هو أجمل من التشرّد الجميل في مدن الكتب.. حتى من غير انتساب للجامعات المكتظة بالفراشات الملونات. وبعطر الحب الغامض. الشعراء رواد المكتبات هم صعاليك هذا العصر الذين يهيمون في صحراء القصيدة وفي مدن الكتب بنفس القلق الوجودي الأول الذي سكن الشنفرى.
********
تسللتُ مرَّة الى أصبوحة شعرية في جامعة ما.. كنتُ غريبا كمن هبط من غيمة. اندسستُ بين طلبة اللغة العربية وآدابها.. أصغي الى حوار الطلبة اليومي العابر أكثر ممَّا أصغي الى القصائد الملقاة كأوراق في الريحِ.. تسألني طالبةٌ هل تحملُ قلما.. أرد بالنفي.. ربما لم أحمل قلما في حياتي وأخرج من البيت.. أنزعج من شبك القلم في جيبِ القميص كمثقف. إذن ماذا تفعلُ هنا.. أجيبها: لا شيء.. فقط هبطتُ من غيمة. أتركيني أنامُ على هامش القصيدة.. ولا تطلبي مني أن أصف لكِ سعادتي.
********
روادتني أمنية سرِّية صغيرة منذ الصغر تتمثَّل بقراءة الأعمال الأدبية شعرية كانت أو روائية وهي مكتوبة بخط يد المؤلف.. هكذا أتنفسها بالعين أكثر.. أفهم اشاراتها السيكولوجية الخفية بلغتي كما أشاء. اللغة المطبوعة أجدها جامدة شبه ميِّتة أشبه بتماثيل الجير.. عكس اللغة المخطوطة المتموِّجة الضاجة بالحياة.
********
شاهدتُ مرةً فيلما وثائقيا عن حياة الشاعر الكويتي فهد العسكر وتأثرت بمشهدٍ فيه يجمعُ أحدُ أقرباء الشاعر كل مسوداتهِ الشعرية التي تركها خلفه بعد أن حصلَ عليها بواسطة أختهِ في دلو معدنيٍّ ويحرقها بكلِ برودةِ أعصاب ولا مبالاة.. مسألة حرق الإرث الأدبي كثيرا ما أصابتني بالحزن والرهبة والقلق.. وتذكرت ما قالهُ لي أحد الأقرباء (على سبيلِ السخرية) منذ زمن بعيد وأنا أعدُّ مسوَّدات شعرية قديمة أنه حتما سيكون مصيرُ هذه الأوراق الشعرية البالية والمتآكلة في نارِ المدفأة. بعدَ سنين أحرقتها أنا بنفسي عندما اكتشفتُ الهوَّة بينها وبينَ ما أريدُ الوصولَ اليهِ.
********
القلق شبيهٌ بوخزة الحب.. هو غيمٌ ناصع البياضِ والغموض أيضاً.
********
يغنِّي المشرَّدُ في حديقةِ الأمِّ في حيفا: تكلَّم إليَّ بالورودِ.... أو زهرةُ ابتسامتها الصغيرةُ تضيءُ قلبَه الليليَّ البعيد.. الى آخر الأغنية.
*******
نسيمُ أنوثتها الخفيف حوَّل الذئب الشرسَ الى حَمَل وديع.. بينا كانَ جمالها يقفُ على حياد ويراقبُ عن بعد.
********
المسلسل المكسيكي الحابس للأنفاس (قهوة ذات رائحة إمرأة)الذي تابعته في صيف وخريف عام 1997 وكان يبث في الساعة الحادية عشرة من صباح كل يوم سبت.. لا أعرف الآن كيف عاد ليصيبني بمرض الحنين.. الخفي .. الخفيف.. النظيف.. المليء بالخدر.. وسكرات الحب.. والشِعر أيضاً.
ما هو الحنين؟ أن تترك شيئا من روحك في زمانٍ ما أو مكانٍ ما؟ ما هو الحنين.. أهو الرائحة كما قال محمود درويش؟ ما هو الحنين؟ما هو؟
سأتكلَّم عن حنيني حتى لو لم يكن هناكَ فيسبوك.
********
كي تكتبَ قصيدة أو كي تبدع بأيِّ فن في هذا الزمن بالذات أنت بحاجة دائما الى فسحة فكل شيء يحاصرك من كلِّ الجهات... قلقك.. انشغالك.. غضبك.. حزنك.. تشظيِّ روحك في الأمكنة.. حنينكُ الى ذاتكَ الأولى.. كل شيء يحاصرك من الجهات الست.. لم يحدِّد أي فسحة يريد ولكنني ظننته يعني فسحة من الحريَّة.. هكذا قالَ مرة شاعر عالمي لا يحضرني اسمه الآن.. لكن ليس فقط من أجل الإبداع نحتاجُ إلى فسحة من حريَّة.. لكي نعيش في هذا الزمن نحن بحاجة دائما الى فسحة من حب وإيمان وتأمل وراحة وشغف.. أفكر أن المثقَّف في وقتنا الراهن يقبضُ على جمرةِ الثقافة بكلا جناحَيْ قلبهِ المائي.
*******

كانَ النصُّ الأدبي قبلَ إغراء الشاشة الزرقاءِ يتكوَّنُ بهدوء في الظلِّ أو ظلامِ الحالة الشعورية وهذا ما يتيحُ لهُ أن يتنفَّس على مهلهِ وأن ينمو رويداً رويدا تماما كزهرةٍ على شرفةِ المخيِّلة.. كانت المساحة الفاصلة بينه وبين الرغبة العارمة للنشر تتيحُ له ولو قليلا من الوقت كي يتمتَّع بقدرٍ كبيرٍ من الحريَّة والتموِّج واللمعان في فضاء من البحث عن الجمال وفي فسحةٍ نقبض فيها على خفقة الروحِ الهاربة واصطيادها لتوظيفها في مكانٍ ما من القصيدةِ.. في محاولات إعادةِ الكتابة والتشذيب والمحو.. كانت فنيَّة الحذف هي يدُ الشاعر الخفيَّة التي تكتبُ القصيدةَ أو النص الأدبي.. حينها كانت الكتابة لغرضِ الكتابةِ فقط ( بالنسبةِ لي على الأقل ) وأيضا لإزاحة صخرة ألم وجوديٍ عظيمٍ عن القلبِ.. كنتُ أؤمنُ بمسألةِ الإجادة حتى لو استغرق العملُ على كتابة قصيدة واحدة شهوراً طوالاً وأعتبرها الهدف الأسمى الوحيد الذي يتمايلُ في الذهنِ.. أصبحت الآن السرعة وإغراءُ هذه الشاشةِ الزرقاء بنشر أيِّ نصِّ فارغٍ من قيمتهِ الأدبية وباستعجال قياسي محموم هي ما يتحكمُّ بأيادي الشعراءِ الخفيَّة وبأنفاسهم اللاهثة أبداً إلى ضوءِ آخرِ النفق.
*******

حيفا أقرب إلى قلبي مني..أقرب من نبض القلب.. كل شيء أحبه في هذه المدينة.. كل شيء.. أزقتها.. شوارعها.. رائحةَ بحرها.. صعلكتي البريئة في مكتباتها وجامعتها.. كأنَّ لها روحاً تجذبني إليها.. هيَ لا كالمدن.. فيها شيءٌ ما من المرأة العصيةِ..عشت فيها عام 2000 أجمل أيام حياتي.. أنا مدينٌ لهذا العام طيلة حياتي لأنه أمدَّني بالخميرةِ التي تلوِّن أخيلتي بألوان الطيفِ.. كلُّ شيءٍ فيها يذكرني بلوركا ومحمود درويش والأشعار البحرية والطيور الزرقاء.. أحب وردة ليلها التي تجرح الروح من غير أن تمسها.. أحب نهارها البنفسجي.. حتى خصوماتي الصغيرة مع الأصدقاء فيها أحبها. أنا في حالة عشقٍ دائمٍ معها. أجملُ الأشعار تلك التي كتبتها في ظلِّ هذا العشق.
*******

كيفَ ضيَّعتكِ في زحمةِ أيامي الطويلة؟
أشعر أن قول السياب هذا يتشظَّى فيَّ منذ الطفولة.
********











(6)
أصواتٌ من القلبِ

أكلُّ شيء يفلت مني. حياتي كلها، ذكرياتي، مخيلتي بما تحتويه، شخصيتي؟ الكل يتبخر، أحس باستمرار أنني كنت شخصاً آخر، وأنني أحس بالذي أعانيه هو مشهد من سيناريو آخر.. من أكون؟.. كم من ذوات أنا؟ من هو أنا؟ ما هو ذلك الفاصل الموجود بيني وبيني؟!!

هذا مقطع للشاعر البرتغالي فيرناندو بيسوا مؤلف كتاب اللا طمأنينة.. فيرناندو عاش يحلمُ وكتب أيضا بلغة الحلم التي كان يمليها عليه شخوصه الوهميون.. هو في نظري من أكثر الشعراء العالميين تعبيرا عن نفسية الشاعر الحديث القلقة.. شخوصه لا ينتهون بل يتناسلون إلى الأبد.
***********

أجمل شيء في هذه الحياة أن تعيش كشاعر.. ليس مهما أن تكتب.. ولكن كونك شاعراً في عالمٍ مليءٍ بالأوغاد وأولاد الحرام يجعلكَ دائماً على خط تماس مع نار الحياة التي لا تقتاتُ إلاَّ على أعصابك وعاطفتك الإنسانية.. ترفعُ قلبك المتوثِّب للحريَّة الغائبة في وجهِ الريحِ بيدٍ مشتعلةٍ كفتيل قنبلة.. أن تكون شاعراً في هذا الزمن القذر أعتقدُ أنه مشروعُ قدِّيس. ولكنك تحيا رغم كلِّ شيء بنشوةٍ عظيمةٍ كأنكَ سماءٌ من المحبة.
***********

عندما يأتيك المديح من شاعر كبير بكل المقاييس فأوَّلُ ما ينتابك رذاذٌ خفيفٌ من البكاء. حتى لو كنتَ لا تنظرُ إلا الى أسفل نهركَ ولا تتاجرُ بمدائح وشهادات المبدعين الكبار.
***********

منذ سنين عديدة وأجمل لحظاتي الصباحية عندما أجلس وأستمع إلى حكايا كبار السن وهم في أغلبهم ثمانيون ومحدثون جيدون يتذكرون أصغر التفاصيل التي عاشوها في صغرهم أيام حكم الانتداب الانجليزي في فلسطين وخلال فترة ( الهجيج ) أي تهجير سكان فلسطين الأصليين إبَّان النكبة عام 1948.. أحدهم قبل عدة أيام حدَّث عن نساء قرية سعسع جنوب شفاعمرو وكيفَ أنهنَّ كنَّ يحملن جرار اللبن الثقيلة على رؤوسهنَّ مسافة طويلة الى مدينة حيفا بينما تغوصُ أقدامهنَّ الحافية في طينِ الشتاء.. كنَّ يسرنَ حافيات لأن المنطقة سهلية موحلة.. المسافة بين سعسع وحيفا ربما تتعدَّى العشرين كيلو مترا يقطعنها اللبانات في الثانية صباحاً بنشاط لكي يصلن إلى المدينة مع بزوغ شمس الفجر.. ويرجعن محمَّلات بالخضارِ ومؤونة البيت في الظهرِ.. محمَّلات في الذهاب والإياب.. كانت الحياةُ صعبة جداً ولكنها بريئة وعفوية وصادقة.. صباحات مغمَّسة بروائح التبغ والهالِ والقهوة العربية وحكايات طويلة وغير منتهية للبطولة والتضحية والعشق.
***********

في الماضي كانوا يخدعونها بقولهم حسناءُ .. اليوم يخدعونها بوضع لايك لصورتها.. ولكن لم أفهم معنى الخدعة هنا إذا كانت فعلاً جميلةً.

**********

الذي ينظِّرُ للشِعرِ وهو ليسَ بشاعرٍ ولن يكون.. والذي يتكلَّم عن الحبِّ وهو ليس بعاشقٍ.. كالأعزب الذي كانَ يتفلسف عن الحياةِ الزوجية.

*********

داليا رابيكوفتش شاعرة عبرية مهمَّة ذاتُ حسٍّ إنسانيٍّ رفيع.. انتحرت في عام 2005 بعدَ معاناة طويلة من الاكتئاب والحزن.. قبل رحيلها بفترة قصيرة قالت في حوار تلفزيوني معها أن شاعرا فلسطينيا شاباً من رام الله على ما أذكر جاء الى تل أبيب واتصلَّ بها كي تساعده على أن يجتاز محنةً ما أو تجد له عملاً.. تقول داليا كنتُ جدا حزينة لأنني لا أعرف كيف أساعد هذا الشخص لدرجة أنني كنتُ أستيقظ في الليلِ وأبكي.. من زاوية أخرى حدَّثني مرةً صديقٌ وهو شاعرٌ ناشئٌ أنه اتصلَّ بمن يدَّعون الثقافة ويتمسَّحون بالشِعرِ (والانسانية) من أبناء شعبهِ لمساعدةٍ ما.. فأشبعوهُ سباباً وشتائمَ على الهاتف ومن يومها لم يتصل بأحد.
**********

ماذا تفعلُ بي يا جون شتاينبك عندما أقرأ لك؟
تحيلني إلى طائرٍ يحلِّقُ فوقَ حدائق الغيوم..
كيفَ تحشدُ كلَّ هذا المجاز في بوتقةٍ من ضوءٍ أيها الساحر؟
ولكنني بحزن أسأل: هل أنتَ أنت من كنتَ تشبِّهُ أصابعَ الطيَّار الأمريكي الذي يقصفُ ويحرقُ فيتنامَ وأهلها الأبرياء بأصابعَ تلاعبُ البيانو؟
***********

بما أن غنائيتك هي لغة الحلم.. تفكِّرُ دائماً باللغة المضادة .. لغةِ الحياة الموجعة.. بمحمد الماغوط مثلاً.. وبلغتهِ البريَّة الجامحة الغاضبة كفرسٍ غجرية.. تنادي الشاعر الذي سحقت قلبه القدم الحجرية.. لعلَّهُ يأتي ويأخذ بيدك في هذا النفق المظلم.. كيفَ تستطيع بلغة حلمك الذي يعيش في مكانٍ ما خارجَ حياتكَ أن تعبِّر عن غضب وقلق هذهِ الحياة الحديثة وعصبها المتوتِّر؟
كيفَ ستكتب حلمكَ/ غضبكَ/ قلقكَ/ حزنكَ/ بعدَ اليوم؟
***********

هذه الحياةُ ذاتُ الوجعِ الكابوسي المزمن.. كم أحبها..
أنا الذي حوَّلتها بكل ما أوتيتُ من حبٍّ وحلمٍ وإرادة إلى قصيدة طويلة..
***********

هذه الحمامة التي على غلاف ديواني الشعري "وقت لأنسنة الذئب" تعيدني إلى لحظاتِ عشقي الطفوليِّ للحمام قبلَ عشرين عاماً.. أيام كنتُ أبحثُ عن هذا الطائر المملوءِ بالطمأنينةِ كما لو كنتُ عاشقاً.. أريد أن أُشبعَ يديَّ من هذا المخلوقِ الذي يثير حنيني بمجرَّدِ تحليقهِ في زرقةِ السماءِ اللا متناهية.. أتذكرُّ أنني حاولتُ مساعدةَ حمامةٍ على التحليقِ وكانت تستندُ على غصن شجرةٍ بعلو 8 أمتار بجانب دارنا ما أدَّى إلى سقوطها وتهشُّم جناحها تهشُّماً طفيفاً.. منذ تلك اللحظة وبيني وبين الحمام شبه علاقة روحية.. محبة نورانية.. فأنا عشتُ فترة طويلة من طفولتي كنتُ أظنُّ فيها أن الله خلقَ الروح على هيئة حمامة. أنا آسف جداً يا حبيبتي الحمامة.. روحك أنقى منا جميعاً.
***********

يا للهول.. سراب العاطفة تسرَّبَ إلى نصوصي الشعرية الكثيرة التي كتبتها في هذه التجربة الفيسبوكية الغنية بشكل مذهل.. هذا ما اكتشفته عندَ مراجعتي لملف القصائد المكتوبة آخر سنتين ونصف.. كلُّها عاطفية حتى لو لم تكن قصائد حب. أكثر شيء يعجبني في قصائدي أنها نفَسٌ لي وتعبِّرُ عني وعن حلمي الروحي بصورة حقيقية.
**********

ذوقي الموسيقي صعب جداً.. أحيانا أضطر لسماع مئة أغنية كي أُعجب بواحدة.. ولكن متى أعجبتني تلك الأغنية الواحدة فإنني أسمعها مئات المرات ولا أملُّ منها إلا بعد أسابيع أو شهور طويلة.. في واقع الحياة يتحكَّم هذا الذوق الصعب جدا أيضا بانتقاء الأصدقاء.
***********

قالَ أحدهم.. رحيل الأم هو أكبر مأساة في الحياة ممكن أن يُمنى بها نصف الشعراء.. بينما يُمنى النصف الثاني بمأساة الزواج...
قلتُ له هذه نظرية فيها نظر.
********

كل قصيدة جديدة أكتبها أحسُّ من خلالها أنني أكتب الشعر لأوَّل مرة.. كل حوار هاتفي مباشر على الراديو أشعر أيضا من خلال رجفة صوتي أنني أتحدث عن تجربتي الشعرية لأول مرة.
**********


صباح هذا السبت شعرتُ بوخزةٍ حنين للقدس.. نوستالجيا غريبة نازعتني اليها.. هناك فترة استمرت من عام 1995 حتى 2010 كانت تقام فيها كل صباح سبت رحلة الى مدينة القدس للصلاة في الأقصى والتسوق ثم الرجوع ما قبل المغرب بقليل.. كان قسم كبير من أهل القرية يسافر الى هذه المدينة المقدَّسة المزدانة بوهج الأصالة والعابقة بأنفاس التاريخ.. والتي نترك فيها شيئا من أرواحنا رغما عنا خلال زيارتنا لها.. تذكرت اليوم أن أمي طلبت مني ذات مرة أن أرافقها الى أجمل مدن الأرض.. لا أذكر الآن إن كنت رافقتها أم لا حينها ولكنني ذهبتُ إلى القدس فيما بعد مرات عديدة وطفت في حاراتها وأسواقها طويلا ومشيت في طريق آلامها أجرُّ صليباً خفيَّا وزرت كنائسها ومساجدها كلَّها.. كأن ما طلبته أمي مني قبلَ سنوات عديدة كانَ شبه وصيَّة.
**********

في التاسع من نوفمبر قبل واحد وخمسين سنة من الآن تم نقل الشاعر الانجليزي الويلزي الكبير ديلان توماس إلى المستشفى في نيويورك بعدما انهار من جرَّاء احتسائه أكثر من 18 قدحا من مشروب كحولي.. ليفارق حياة قصيرة ملأها بالحب والشعر والانكسار والأمل واليأس وهو في التاسعة والثلاثين.. يعتبر ديلان أحد أكبر الشعراء الانجليز في القرن العشرين.. ديلان شاعر استفزازي نبوئي لم يكن متصالحاً مع الأشياء وحاول بأسلوب رومانسي مثقل بالاستعارات والايحاءات العميقة تعرية قضايا وجودية شائكة.. قبل ايام قرأت له عدة قصائد متفرقة على الشبكة العنكبوتية وشعرت بتداخل غريب لروح قصيدته مع نفسي. الشعراء الحقيقيون كديلان توماس حزانى بلا سبب ورومانسيون بلا طائل ومنسيون بلا ذاكرة.
***********

بغض النظر عن التحولات التي شهدتها المنطقة فما زال للشعر توهجه وألقه في نفوس شعب ترَّبى على محبة هذا الفن الجميل( ديوان العرب) رغم أنه يكاد ينسحب قليلا الى ناحية النخبة المثقفة.. ولكن التجارب الفردية لا تزال مشتعلة بنار الشعر الأبدية.. التجارب التي يمثِّلها الكثير من الشعراء العرب ومنهم على سبيل المثال العراقي سعدي يوسف واليمني عبد العزيز المقالح واللبناني شوقي بزيع والسوري أدونيس وغيرهم.. منهم من تُرجم إلى لغات عالمية كثيرة وحظي باهتمام نقدي على مستوى رفيع مثل أدونيس وسعدي يوسف..
أفكر أحياناً أن صورة الانجاز الشعري لدينا هي بالمجمل صورة فردية بكل المقاييس.. عكس حالة الشعر العالمي التي تأخذ شكل الكورس الجماعي.. هناك شعراء في غاية الأهمية ولكن أشعر أنه لا يهتم بهم أحد وهم يعيشون على هامش الحياة الثقافية العربية في شبه عزلة افتراضية قسرية ولا نجد لهم الا بعض المشاركات عبر صفحات مواقع التواصل الاجتماعي.. هناك اذن انكسار معيَّن في حالة التلقي الشعري.. ولكن ماذا تريد من أمة يبلغ عدد أفرادها أكثر من ثلاثمئة مليون فرد أغلبهم لا يحسنون فك الخط أو القراءة في عصر الفضائيات والشبكة العنكبوتية من الطبيعي أن نلمس انحيازا للصورة التي أصبحت قادرة أكثر من الكلمة على إيصال الفكرة.. بالرغم أن أحلامَ القصيدةِ كانت في الماضي تدغدغُ طموح الشارع العربي وتدفع بالانسان إلى حملِ روحهِ على راحتهِ والالقاءِ بها في مهاوي الردى والثورةِ على البؤسِ السياسي والثقافي.
للصورة أهمية كبرى طبعا وهي تملك مقدرة عجيبة على النفاذ الى عقل ونفسية الانسان المتلقي وتحريضه على التحرك والنهوض .. ولكن للقصيدة العربية أيضا دورها في رسم خارطة التغيير والثورات التي حصلت فكأن الشعرَ برقُ الروحِ وحدائقُ الحريَّة المعلَّقةُ وما هذا الفراغُ الذي يسكنُ مساحاتِ الكلمةِ سوى وعدٍ بيوتوبيا جميلةٍ وهبةٍ لحريَّةٍ منتظرةٍ وفردوسٍ حالمٍ بالخلاصِ.
بالنسبة لمسألة عجز القصيدة عن وصف المشاهد اليومية التي نراها كل لحظة فلا أعتقد أن هذا القول صحيح إذ أن الشعر الحقيقي من المستحيل أن يكون عاجزا عن وصفها ولملمتها بحساسية عالية كأنها نقاط بلورية في صحراء مظلمة.. لأن اللغة العربية بتركيبتها الفذة لغة واسعة ولا تضيق تعابيرها بوصف مشهد هنا ومشهد هناك خصوصا اذا ما استعملها شاعر يعرف ما يريد منها ومن توظيفاتها المدهشة.
اشير إلى أن أجمل ما قدمته لنا تقنيات لغة الحداثة وفنية التعبير عالية الوضوح والصفاء التصويري هو هذا التزاوج الجميل والرائع والمكثَّف بين القصيدة والصورة.. وأجمل القصائد في تاريخ الشعر العربي هي تلك القصائد التي استثمرت الصورة لكي تقدِّم تجاوزاً ملفتا وتترك أثرا بالغ الأهمية.
***********
تجميل قبح هذا العالم هو الفعل الأكثر شقاءً في الوجود.
**********
محمود درويش شاعر مذهل بحق متمرِّس أحد أجمل الشعراء الكونيين الممسوسين بإيقاع اللغة وجماليات الشعر الصافي.. يصعب توصيفه والالمام بجوانب عبقريته وايقاع قصيدته وفرادته الشعرية.. عاش قديس شعر ومات قديس شعر.. كان الشعر يجري في مجرى نفسه وفي دورته الدموية.. من من شعراء اليوم يخلص للشعر مثلما أخلص له درويش.. من يجعل من القصيدة رسالة حياة؟ أهمية درويش تكمن في العروض في وقت نجدُ فيه الأغلبية الساحقة من الشعراء العرب مفتونين بقصيدة النثر التي لا أحاربها ولا أتخذ موقفاً منها فأنا حاولت أن أجرِّب كتابتها في أكثر من قصيدة وديوان.. ولكنني أعتقد أنها أفقدت الشعر العربي الكثير من سحرهِ.. من يتقن من الشعراء الشباب العروض اليوم؟ شعراء التيك أوي والنثريات الضحلة والفيسبوك والطنين الفارغ لن يأتوا بمحمود درويش آخر لأن الشعر لا يشكل لهم رسالة حياة وأنا أراهن على هذا الشيء لأن الشاعر الحقيقي الموهوب دائم البحث عن المعادلة الصعبة في كتابة القصيدة وعن سماوات جديدة للتحليق بعيداً وعن أرض جديدة لم تحرث.. وكل ذلك من دون التخلِّي عن الموروث وجمالياته وتجديد الايقاع الشعري للبحور العربية الذي أعتقد أن أهمية محمود يكمن شيءٌ منها في هذا التجديد .. بالاضافة الى لغتهِ المنتقاة وأساليب تعبيره الملفتة والجديدة.. كيف نريد من شاعر لا يعرف البحور ولا الأوزان أن يكون محمودا آخر.. محمود كان يحثنا على الطيران في سماء الشعر بينما نحن كنا نريد ملاصقة الأرض.
*********










(7)
أوجاعٌ نثريةٌ / حبقٌ مضافٌ للقلب

(كلُّ شيء يفلت مني، حياتي كلها، ذكرياتي، مخيلتي بما تحتويه، شخصيتي؟ الكل يتبخر، أحس باستمرار أنني كنت شخصاً آخر، وأنني أحس بالذي أعانيه هو مشهد من سيناريو آخر.. من أكون؟.. كم من ذوات أنا؟ من هو أنا؟ ما هو ذلك الفاصل الموجود بيني وبيني؟)

هذا مقطع للشاعر البرتغالي فيرناندو بيسوا مؤلف كتاب اللا طمأنينة.. فيرناندو عاش وهو يحلمُ وكتب أيضا بلغة الحلم التي كان يمليها عليه شخوصه الوهميون.. هو في نظري من أكثر الشعراء العالميين تعبيرا عن نفسية الشاعر الحديث القلقة.. شخوصه لا ينتهون بل يتناسلون إلى الأبد.
***

أتناول رواية السلالم الرملية لسليم بركات.. المركونة كغيرها في مكتبتي منذ سنوات في عصر النت والفيسبوك.. يخيَّلُ لي في البداية أنني أقرأ شِعراً.. سرعان ما أتراجع ثمَّ أقنعُ نفسي أنَّ ما أقرأه لا يتعدَّى أن يكون نوعاً حديثاً من القصَّةِ أو ما يشبه يوميات شعرية تأملية.. عجيب أمر هذا الكردي المدهش الذي يمزج الرواية والقصة والشعر والأسطورة والتاريخ بخفَّةِ ومهارةِ ساحرٍ في نصِّ مفتوحٍ يستعصي بكثافة لغته البريَّة الجامحة والذاهبة في شمس الماضي على أي إطار أو جنس أدبي.. هذه الرواية تشبهُ الى حدٍّ ما الطائر الملوَّن الغريب الذي يحلِّق سعيداً في السماء فإذا حاولتَ أن تسجنه في قفص فهو سرعان ما يتلاشى ويموت.
***

كانَ النصُّ الأدبي قبلَ إغراء الشاشة الزرقاءِ يتكوَّنُ بهدوء في الظلِّ أو ظلامِ الحالة الشعورية وهذا ما يتيحُ لهُ أن يتنفَّس على مهلهِ وأن ينمو رويداً رويدا تماما كزهرةٍ على شرفةِ المخيِّلة.. كانت المساحة الفاصلة بينه وبين الرغبة العارمة للنشر تتيحُ له ولو قليلا من الوقت كي يتمتَّع بقدرٍ كبيرٍ من الحريَّة والتموِّج واللمعان في فضاء من البحث عن الجمال وفي فسحةٍ نقبض فيها على خفقة الروحِ الهاربة واصطيادها لتوظيفها في مكانٍ ما من القصيدةِ.. في محاولات إعادةِ الكتابة والتشذيب والمحو.. كانت فنيَّة الحذف هي يدُ الشاعر الخفيَّة التي تكتبُ القصيدةَ أو النص الأدبي.. حينها كانت الكتابة لغرضِ الكتابةِ فقط ( بالنسبةِ لي على الأقل ) وأيضا لإزاحة صخرة ألم وجوديٍ عظيمٍ عن القلبِ.. كنتُ أؤمنُ بمسألةِ الإجادة حتى لو إستغرق العملُ على كتابة قصيدة واحدة شهوراً طوالاً وأعتبرها الهدف الأسمى الوحيد الذي يتمايلُ في الذهنِ.. أصبحت الآن السرعة وإغراءُ هذه الشاشةِ الزرقاء بنشر أيِّ نصِّ فارغٍ من قيمتهِ الأدبية وباستعجال قياسي محموم هي ما يتحكمُّ بأيادي الشعراءِ الخفيَّة وبأنفاسهم اللاهثة أبداً إلى ضوءِ آخرِ النفق.
***

حيفا أقرب إلى قلبي مني..أقرب من نبض القلب.. كل شيء أحبه في هذه المدينة.. كل شيء.. أزقتها.. شوارعها.. رائحةَ بحرها.. صعلكتي البريئة في مكتباتها وجامعتها.. كأنَّ لها روحاً تجذبني إليها.. هيَ لا كالمدن.. فيها شيءٌ ما من المرأة العصيةِ..عشت فيها عام 2000 أجمل أيام حياتي.. أنا مدينٌ لهذا العام طيلة حياتي لأنه أمدَّني بالخميرةِ التي تلوِّن أخيلتي بألوان الطيفِ.. كلُّ شيءٍ فيها يذكرني بلوركا ومحمود درويش والأشعار البحرية والطيور الزرقاء.. أحب وردة ليلها التي تجرح الروح من غير أن تمسها.. أحب نهارها البنفسجي.. حتى خصوماتي الصغيرة مع الأصدقاء فيها أحبها. أنا في حالة عشقٍ دائمٍ معها. أجملُ الأشعار تلك التي كتبتها في ظلِّ هذا العشق.
***



الأوتار المائية التي تسكنُ قلبي لا تهدأُ أبداً.. والسماءُ التي تسكنني منذ الصغر لا تريدُ الخروجَ من جسدي المشتعلِ بنارٍ باردةٍ لأستريحَ لحظةً واحدةً.. ماذا أفعلُ إذن؟
********
بنفس الرغبة القوية بالكتابة حدَّ الإيمان يستمرُّ الشاعرُ المجهول بالانسحابِ أكثرَ إلى الظلِّ أو إلى ما وراءَ الستارة.. كلهم يقولون هذا.. أصدقاؤه .. إخوته .. أهل بلدهِ.. جيرانه الكثر.. منذ أن تلطَّخَت أصابعه بالحبر السماوي الغامض.. ولا شيء يقولهُ أو يبرِّر عزلته الاختيارية بهِ.. لا شيءَ يفعلهُ سوى محاولةِ لملمةِ هذا الرذاذ الذي يتطايرُ عن جذوةِ روحه.. بتأملٍ مجروح..الكتابةُ فقاعةُ حلم لا تقلُّ سعادةً عن عزلتهِ التي ارتضاها لنفسهِ.
*******

صديقي الذي يشبه طائر الدوري والذي قاسمني في أعوامٍ خلت وردَةَ الأخوَّة وبرودةَ كانون وخبز الصباح المغمَّسَ بالسعادة والغبطة والنكات الطازجة.. يكبرني بعامين من الزرقةِ والصفاء والتذمُّر من الصقيع والموتِ الشتائيِّ الحزين وطيران روحهِ على أجنحة عاصفة ثلجية.. مات كما لا يشتهي.. في أوجِ الصقيع.. هو الآنَ يجلسُ في ناحيةٍ ما من السماءِ متحوِّلاً إلى أقحوانةٍ ثلجيَّة مشتعلة.
********

جمالهنَّ هو الشيءُ الحقيقيُّ الوحيدُ الذي سوفَ يقهرُ الموتَ..
********
في يناير تحطُّ على القلبِ ذاتُ الأغنية التي سمعتها قبل عام كفراشةٍ من زنبق.. وينتابني إحساسٌ غامضٌ ورغبةٌ بيضاءُ بمشاهدةِ فيلم يسوع المسيح للمرَّةِ الألف على اليوتيوب.. وقراءةِ شعرِ أبي تمَّام وكتابات حسين البرغوثي أكثر من أي وقت آخر في السنة..
في ينايرَ تفلتُ أجملُ القصائدِ من يدي في النهار وأرجعُ في المساء محمَّلاً بالنثرِ الركيك..
في ينايرَ تجتاحني شهوةٌ للبكاءِ من دونِ سببْ..
ربما في هذا الشهر تسافرُ فراشاتُ جسدي نحوَ حدائق الجنوب.
**********

من كثرةِ الدموعِ التي ذرفتها أصابعُكِ الرقيقةُ نبتتْ في القلبِ عاصفةٌ كهربائيةٌ لا تهدأُ أبداً.
**********
أجمل اللحظات تلك التي تخلعُ فيها عن منكبيك أعباء القصيدة وأنت تتأملها بصمتِ عاشق.
*********
النقد العربي المصاب بعقدة الخوف ورقصة الدراويش لن يخطو خطوة واحدة إلى الأمام ما دامَ ينظرُ إلى الخلفِ أو إلى الأسفل بعدم ثقة ويجتر لغةً جافةً حول أسماء مكرَّسة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة.. بعكس النقد الغربي الرائي إلى الأعلى والذي يحترف الطيران العمودي والبحث الدائم عن أسماء جديدة.. المشكلة في الناقد العربي تكمن في ظنِّهِ أن دراسته (الزائدة ) عن الشاعر الفذ والرائد الكبير الذي رحل قبل عشرات السنين والذي تناولت تجربته مئات الكتب والأبحاث والدراسات النقدية ستوصله ذات يوم إلى نوبل للأدب.
**********
في كلِّ مرَّة يجتاحني فيها عطرُ الروزا أوقنُ أنَّ للعطر روحاً من أقحوان الغيمِ الخفيف. من قالَ أنَّ للنباتاتِ العطريةِ رائحةً فقط؟ وإلا فما معنى أن أنسى مدينة كاملةً زرتها ذاتَ صيف وأتذكرَ فقط عطر نبتة الروزا اللاذع.. العميق؟ ما معنى تأريخي لفترة من طفولتي برائحتها التي تشبهُ جيِّداً رائحة الحب الأوَّل؟ ما معنى أنني لا أنسى امرأة واحدة ليديها رائحةٌ تشبهُ رائحة عطر نبتةِ الروزا التي كانت تنمو في زاوية من زوايا حديقتها المنزلية وفي حديقةِ روحي معاً؟ لعلَّ هذه النبتة العطرية تركت بصمتها بقوة موجعة في ذاكرتي وفضاء قلبي وعلى مسامات يديَّ.. كما لم تتركهُ أيُّ نبتةٍ أخرى.
**********
بما أن الفيسبوك يشبه الى حد كبير جدا ما نطلق عليه في اللهجة العامية ( ديوان عربي) يجمع إخوة أو أصدقاء لا (أعدقاء) فأظن أنه يجب أن يسود جو من احترام رأي الغير أو حرية التعبير الشخصي.. ما دمت أنا ألتزم باحترامي لرأي من يختلف عني في المورد والمشرب والفكر والطبع والدين فالواجب أن يبادلني غيري نفس الشعور.. لا أحصر كلامي في رأي نشرته مرة عن شاعر أو ملك مات أو حتى إنسان صعلوك.. بأي حق تجد من لم تشعر بوجوده أو تعرف أنه صديقك في صفحتك منذ أكثر من سنتين ونصف يحتج على منشور شخصي لك لأنكترحمت على فلان وقلت كلمة حق في علان..؟ لا يهم ... المهم أن نتعلَّم كيف نحترم خصوصية الآخر.. أقول هذا الكلام لأنني لم أجرِّح ولو مرَّة واحدة أصدقائي الذين يختلفون عني. لم أدعُ صديقي الملحد إلى الإيمان ولم أعاتب صديقي الآخر الذي كان مهووسا بلغة من ( الزنار وتحت) في أغلب منشوراته والأخيرة التي ذهبت مع الريح عندما لم يعجبها نشري لأغنية من الراي المغربي منذ مدَّة طويلة.. نسيتُ اسمها ورسمها.
**********
الرواية هي حديقة القصيدة الخلفية وماؤها اللا مرئي.. أجمل الأشعار تلك التي كُتبت تحت تأثير الروايات العظيمة.. وفي ظلِّ قرائتها.. يستطيع أيُّ شاعر في لحظة اعتراف أن يسمي كلَّ تلك الروايات التي كتبَ بفضلها أجملَ قصائدهِ.. بالرغم من أنَّ الرواية في أجمل تجلياتها المتوهجة لغةُ الوعي.. بينما القصيدة تعبيرٌ عن حلم فضفاض بلغةِ اللا وعي.
*********
"أنا نفسي لا أستطيع أن أقول ما أفكر فيه بصراحة."
اذا كان الشاعر أدونيس يقول هذا الكلام.. فما الذي تستطيع أن تقوله طبقةُ الشعراء المسحوقين والمغيَّبين والمهمَّشين والبائسين ومن لا بواكي لهم؟

*******
اليوم قرأت على نفس واحدٍ رواية (ورَّاق الحب) للسوري خليل صويلح.. لم أقرأ في الشهور الأخيرة رواية حابسة للأنفاس مثلها.. تقرأها كما لو أنك تحلِّق في فضاء الغواية ودهشة المجاز وعبق الشِعر.. رواية مكتوبة بحذق لغوي عالي المستوى.. مفعمة بروائح الحب وممجدة لفلسفة الجسد بلغة تبلغ بجماليتها حدَّ القداسة.. أعجبتني جدا.. هي واحدة من أجمل الروايات العربية في رأيي.

*********

يقول الشاعر السوري الجميل نزيه أبو عفش: الله قريبٌ من قلبي
وأقول: أنا قريبٌ من حبي.. ذلك الحب الذي يشِّكل لي أجمل توازن روحي في الحياة حتى ولو كانَ حلماً ناقصاً..

*********

كم أُشفقُ على أشباه الشعراء.. من أينَ يأتون بكل هذه الركاكة يا الله.. ولا أحد منهم لديه الجرأة والصدق ليقول لنفسهِ (ليس للغيرِ) أنه شاعرٌ فاشلٌ..؟ قصائدهم لها طعم الكاوتشوك الممضوغ.. ارحموا الفضاءَ الذي يغصُّ بها.. نريدُ هواءً جبليا نقياً.

*********
قال لي أحد أجمل الشعراء منذ ربيعٍ بعيدٍ أن أهم حاسة يمتلكها الشاعر هي حاسةُ الشم.. ليس لأن باستطاعتهِ أن يلتقط بأنفهِ أخفى تلك الروائح الزكية التي تنبعث من جميع الفصول والنباتات والمدن والرياح واللحظات فحسب.. بل لأنه وهذا الأهم يستطيع أن يتنسَّم عبقَ الأنوثةِ الغامض الذي يبعدُ عنهُ مسافات ضوئية.. ابتسمتُ.. فردَّ عليَّ بقهقةٍ عذبه: ربمَّا جعلَ الله للشاعرَ خياشيمَ غير مرئيَّةٍ في قلبهِ كما تلك التي للأسماك. كأنه يقصدُ أن الشاعر ليسَ إلا سمكةً عمياءَ تخفقُ في ماءٍ أنثوي.
*********
في آذار فقط تهدأ ثورة دمك العاطفي.. تصادف سيدةً بجمالٍ حزين وعينين من عسلٍ فتقولُ لها كم أن فمها جميلٌ وبأنك لا تعرف كيف تكبحُ نحلاً هائجاً حولَ فمكَ يشتهي تقبيله.. لا إضاعةَ لوقتٍ في حديث عن عطور ساحرة أو حالة طقس أو ما شابه.. ربما لو كانت دون الثلاثين حتما ستعجب بمجاملاتك التافهة.. ولكن لا شيء يثيرها الآن غير الصمت ونظراتك الحزينة التي التقت بحزن عينيها الذاهب إلى أقرب كوكب.. هي بمنديلها الكستنائيِّ في نظرك أجمل من كلِّ جميلات هوليوود.. وأنت شاعرٌ منسيٌّ في ذاكرةٍ ما..
**********
كلما أقرأ منشورا لامرأة تشكو لعنة زواجها وظلم زوجها أو المجتمع لها وبؤس حياتها وهي لا حولَ لها ولا قوَّة أحس كأن روحي تتمزَّق وأن غيوم دموع كبيرة تتجمع في عينيَّ من وقع مفارقة واقعية كبيرة بين ما تقاسيه امرأة ما قُدِّر لها أن تعيش في الجانب المظلم وبين امرأة أخرى في الجانب المضيء أراها كلَّ لحظة متحررة جميلة قوية واثقة بنفسها وبجمالها ومستقلة شخصيا وماديا وهي قادرة أن تسحق غرور أكبر رجل يتربص بها بكعب نعلها إن أرادت..
مشكلة بعض المجتعات التقليدية ليس في أنها لم تفهم مشاعر الأنثى فحسب.. بل لأنها تتوهَّم أن بامكانها أن تبني علاقة ناجحة بين رجل وامرأة لا شيء فيها من التضحية والمساواة والمحبة.. والايمان بحرية الآخر..
**********
سرعان ما يختفي زهر اللوز.. يذوب أو ينطفئ.. ولكنه يتوهج في قلبك الى الأبد.
*******

وأنتِ تشربينَ قهوتكِ السماوية.. لم تكن شمس الربيع سوى نادلتكِ الجميلة.
********

ماذا سأجني من شوبنهاور ونيتشه وكيركغارد وسارتر وكامو في هذا الربيع العاشق؟
ما ينقصني الآن هو شعر الحب الصافي. وقراءة رسائل جبران لمي زيادة وكافكا لميلينا وغسان كنفاني لغادة السمان ونزار قباني لبلقيس ولويس أراغون لإلزا وخليل حاوي لديزي الأمير وبابلو نيرودا لماتيلدا..
أحتاجُ إلى جهدٍ وطاقةٍ هائلين (لا أمتلكهما الآن) لتذويب قراءات فلسفية ووجودية وجمالية في القصيدة التي سأكتبها لكِ ذاتَ يومٍ ولكنك تصنعينَ قصيدتي على طبقِ رقصتكِ الباذخة بهدوءِ وقدرةِ ملاك.. وأنتِ ترقِّصينَ كل الأغاني الحزينة.
********

طوال حياتي لم أكن مرتعباً إلا من فكرة واحدة.. وهي فكرة فقدان أمي.. كانت تجعلني هشَّاً كعصفورٍ صيفيٍّ صغيرٍ يواجه عاصفةً ثلجيةً لا ترحم..
أمي كانت لي أكثر من أم.. كانت بقوة شخصيتها تشكِّلُ إحدى السماوات العظيمة التي كنتُ أتكأُ عليها وأنظرُ إلى الأعلى ساخراً من كلِّ العواصف وأوجاع الحياة. كانت جذور النور التي أستمدُّ منها عنفواني وفرحي.
شكرا يا الله أنك استجبت لي وأنا أدعوك في السرِّ أن تمدَّ لي بحياتها.. إلى صباح ذلك اليومِ المشؤوم.. حينَ تحوَّلت هذه الفكرة من المجرَّد إلى المحسوس وانقضَّت عليَّ بكل ما فيها من قسوةٍ وفظاظةٍ مثل كابوسٍ ينهشُ الروحَ في أيلول 2009.
**********


كانَ يجدرُ بي أن أتحدَّثَ عن الفرنسيةِ (سين) التي التقيتها صباحَ الأحد في مكتبة الجامعة فلم ننبس بحرفٍ رغمَ معرفتنا العميقة لبعض.. عن صلتها برسائل أرتور رمبو وحبِّ بودلير لجال ديفال.. عن جمالها الذي لا يهرم أبداً بل يزداد نضارةً وصباً وتوهجاً.. عن جدائلها الذهبية التي تهتاج وتتموَّجُ في نهاري الربيعيِّ العاشق منذ عام الفين.. والتي تغسلُ آلاف النوارس في الفضاءِ الأزرقِ برذاذ الحنين.. (سين) هذه ربما تكون احدى حفيدات إلزا.. كانَ يجدرُ بي أن أحدثكم بإسهاب موجع عنها لولا غيابُ أحد الأصدقاء صباحَ الثلاثاء.. ممزَّقاً بينه لعنة امرأتين.. مشرداً منبوذاً.. متمرداً خاسراً.. كانَ يجدرُ بي منذ سنين طويلة أن أكتب رثاءً لشخصٍ مات مظلوماً.. لغارسيا لوركا أو تشي جيفارا مثلاً أو المهدي بن بركة أو حتى سيد قطب ولكنني لم أستطع لذلك سبيلا.. كلَّ ليلة عندما آوي لفراشي أفكِّر بهؤلاء.. لم أتحدَّث عن سين ولم أكتب قصيدةَ رثاء لأحد ولم أصف علاقتي بمدينةٍ زرتها ونسيتُ قلبي فيها.. ولم أتأسَّف على صديقٍ خاصمني قبل سنوات رغمَ حُبِّي له لأنني صارحته بحقيقةٍ أوجعته.

***
يلتقي شاعران في نقطة ما.. شاعر كذا وشاعر كذا..شاعر حقيقي وشاعر فاشل الى نهاية الكلام الذي نسيته.. هذا لا يعني أنني أعني أحدا بل أبني كلامي على المجهول.. كما تقول رواية ما: اختصم رجلان في الجاهلية.. أو شركاء في السوق.. هل تذكر لنا الرواية أسماء الذين اختصموا؟ فلماذا تريدون أن تُذكر أسماء؟ وما سر ولعنا نحن العرب بالأسماء.. ألم نشبع من الفتنة بعد؟ ومتى نتخلص من سوء الفهم الذي يشخصن الكلام دائما..؟
***
الصديق الذي ينكركَ على أرض الواقع أو يتظاهرُ بأنه يجهلكَ تماما بعد ثلاث سنين صداقة في العالم الافتراضي.. هو في نظري أسوأ نكرانا من يهوذا الاسخريوطي.. ولا لزوم له. حقيقةً هناك بشرٌ وجودهم مثل غيابهم عدم. ذكروني بفكرة تقول أن الفيسبوك من زاوية أخرى حراثةٌ في بحر أو صراخٌ في صحراء خالية.
***
هناك من يسألني متى يبكي الرجل ومتى تبكي المرأة..؟ هل تصدقون؟ ما هذا الترف الشعوري؟
***
فكرةُ إحالة ما أكتب عليَّ شخصيَّاً من أكثر الأفكار المزعجة والمقيتة التي من الممكن أن يصطدمَ بها الشاعر في حياتهِ.
***
(رنينُ المعول الحجري يزحفُ نحوَ أطرافي)
هذا البيت الشعري قاله السياب قبل ما يربو على نصف قرن.. هل كان يرى بعين قلبهِ أن ثمة برابرة متخفين لا يزالون في نطفة الغيب ستسيطر عليهم يوما ما شهوةُ التكسير والتدمير بمعاول حجرية.. فينسلون من كهوفهم المظلمة ويمعنوا في هدم احدى أعظم الحضارات القديمة.. حضارة ما بين النهرين.. هذه حرب ضروس لا تنتهي بين الأمل العبقري وحبِّ الحياة والعمل والفن لدى الشعوب القديمة ومنها الأشوريون والكلدانيون وبين اليأس واللاجدوى من الحياة وشهوةِ تدمير كل شيء جميل على هذه الأرض لدى هؤلاء البرابرة الجدد.
***
شغفي ببعضِ قصائدي بحجم قبضة القلب المفتوحةِ على المطلق..
***
الانسانُ هو قيمة تضحيته في سبيل ما يؤمنُ ويحلمُ به.
***
أفكر في هؤلاء الحياديين أو (الأرقام الاضافية) والهامشيين الذين لا تربطني بهم أي صلة أو رابط روحي أو قبس محبة أو تواصل إنساني منذ فتحت حسابي على الفيسبوك.. طالما لم يكرَّسوا هذه الفسحة الزرقاء إلا للغربة وللمسافات الرملية الشاسعة التي تترامى بيننا ما يقارب الثلاث سنوات والتي حاولت جاهدا وحالما أن أبددها.. ربما هناك بعض الأنانية أو النرجسية فيما أقول أو في نفوس من أقصدهم ولكن بما أن الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تنافر منها اختلف.. وبما أنني باحث أبدي عن كل شيء.. ولا أريد أن أجرح أحداً بحذفي له كما يفعل الكثيرون.. أتساءل لماذا يستمرُ بصداقتي من أشكِّلُ عبئاً ثقيلاً عليه؟ أو بعبارة أدق لا يشدُّهُ ولو خيطٌ واحدٌ دقيقٌ من الاهتمام.
***
رغم مغالاة الشاعر أدونيس فيما يتعلَّق بالدين إلا أن في بعض أقواله الكثير من الحقيقة.. فليست داعش على حد تعبيرهِ إلا تنويعاً جديداً لتاريخٍ دمويٍّ ابتدأه الخوارج والزنادقة والملاحدة ومن فسرَّوا الدين على هواهم وفصَّلوه على مقاساتهم..مشيراً إلى أن غبار حروب العرب ضدَّ بعضهم البعض لم يهدأ أبداً.
***
داعش هي الكابوس الأسود الذي تمخضَّ عنه الربيع العربي القارس بدلَ حلم المدينة الفاضلة.
***
كانت إحدى مآسي الشاعر الفرد الذي انتهى زمنه أن يمنى بمجموعة هي من أكثر الناس نفاقا وبعدا عن قيم الصدق والشعر تتدفأ بأسطورته وتتحلق حول هالته فتحجب نورها عن الآخرين.
***

عندما تصرخُ الدماءُ بصخب جنوني حتى تصم الأرواح في حروبِ الدينِ والطائفية..
عندما تبحثُ في مهاوي الردى العربيَّة عن الحريَّة يصبح كلُّ شيء عبثاً جنونياً لا لزوم له.. عندها (وأنا همومي شخصية صغيرة) أسخر من نفسي كلما حاولتُ أن أقرأ أدبا جميلا أو أكتب قصيدة جديدة أو أستمع لموسيقى على اليوتيوب.
***

بعثت لي قبل عدة أيام تقول ألا تستطيع أن تتخلى عن بعض الأشباح من أجلي؟ قلت بلى.. وسألتها من تقصدين بالأشباح؟ قالت المتوارون..
آه كم هناك من أشباح في العالمين.. الافتراضي والحقيقي.
***

إلى متى يا شمسَ دانتي الجحيمية تتسلينَ بتعذيبنا؟
***

رسائل رائعة من مكتبات وجامعات غربية تصل إلى البريد الإلكتروني لذلك الحالم العربي المتبرع لها بكتابٍ من نتاجهِ.. رسائل كلها تقدير وتشجيع لهذا الكائن الهشِّ المسكون بوهم الحبرِ والذي يواجه عصف الحياةِ بأجنحةِ فراشةٍ وحدهُ ويربِّي فرخَ حلمهِ في عشِّ قلبهِ.. لكنه إذا أهدى أي مكتبة أو جامعة عربية كتابا فإنَّ كتابه يسقط في هاوية من هاويتين.. الأولى حاويةُ القمامة والثانية يدُ أي أكاديمي أو مسؤول أو عابث تتوصَّل اليه لتسرقهُ وتركنهُ بلا أي اهتمام في زاوية من زوايا مكتبته غير المقروءة.. حتى من دون أن تقول هذه المؤسسة للمؤلف شكرا.. لا أستغرب هذا التصرف فالعرب ما زالوا يعيشون متأخرين عن الشعوب الأخرى بما يعادل خمسة قرون وربما أكثر.
***
صديقةٌ عزيزةٌ وكاتبةٌ جميلةٌ ومبدعةٌ تحتفي بقصائدَ لي في ندوة ثقافيةٍ في وطنٍ حبيبٍ ينزفُ منذ خمس سنوات.. هل يريد الشاعر أكثرَ من ذلك؟ لا أعتقد.. هذه جائزته المعنويَّةُ الكبرى.. كانت قصائدي مجرَّدَ حلمٍ من حبرٍ وورقٍ.. ومسودَّاتٍ مركونةٍ في أحد الأدراج إلى أن أطلقتها هذه الحوريَّة الجميلةُ في الفضاءِ الورديِّ.. فأصبحت طيوراً زرقاءَ وحدائقَ معلَّقةً وظلالاً لفراديسَ منسيةٍ وعطوراً ليمونيةً.. هل يريدُ الشاعرُ أكثرَ من ذلكَ؟! لا أظن.
***
أقولُ لي دائماً قولةَ امرئ القيس الأثيرة ( اليومَ خمرٌ وغداً أمرٌ)
أي لا تعكِّر فرحَ الحاضرِ الذي بيدكِ بقلقِ المستقبل الذي على الشجرة.. ربما أكونُ مخطئاً في عيون البعض.
***
لا أجدُ توصيفاً (للمثقَّف) الذي يمتدحُ الطاغية.
***
وظيفةُ الشاعر أن يحوِّلَ منطق الحديد والنحاس إلى ذهب كما يقول السيَّاب.
***
أعترف أنني قرأتُ الكثيرَ من الكتب.. شعراً عربياً وأجنبيا ودراسات ومسرح ونقد ورواية وغيرها.. ولكن هذه الكتب بغضِّ النظر عن استفادتي منها أو نفوري المطلق من عوالمها لم تترك إلا ضباباً أبيضَ في ذهني.. يشبهُ حفيفَ القطن الغيمي.. منذ صيف 2008 وأنا أكتب بصعوبة بالغة.. أقصدُ أنني أعجزُ عن لمس البرقِ الأخضرَ الطالعِ من سديمِ الضبابِ الأبيض.. أشعرُ دائماً أنَّ كلَّ قصيدةٍ أتهيَّأُ لكتابتها هي الأولى لي.. الكتابة في نظري ممارسةٌ صعبةٌ.. بل صعبةٌ جداً. وغوايةٌ محفوفةٌ بالمكرِ لم تخلِّصني ولو للحظة واحدة من فداحةِ شعوري بتفاهة ما أكتب. القراءة والكتابة ليستا سوى وسيلةٍ لتزجيةِ هذه الحياةِ بحلوها ومرِّها... يأسها وأملها.. حزنها وفرحها.
***

كيفَ يستطيع روائي مترجَم إلى لغات عالمية ويظن نفسه عظيما وقامَ بنشر روايات كثيرة تنضح بالفكر الإنساني وقيم الحرية والجمال والمحبة.. كيفَ يستطيع أن يفكر بعقلية راعي البقر الأمي.. (مع بالغ الاعتذار لراعي البقر المسكين وطيب القلب..) ويستولي على الحساب الفيسبوكي لزوجته الشاعرة المثقفة الدكتورة ويحذف ويحظر من يشاء.. كيف..؟ ينقصه بعدَ ذلكَ أن يخلِّلها في مرطبان وينظر إليها وهو يكتب روائعه..
ذكَّرني هذا الروائي بشاعر من بلد عربي آخر تزوَّج بشاعرة وناشطة حقوق إنسان قبل سنوات فحرمها من هواء الحريَّة وعاملها تماما كما عاملَ الروائي المصاب بالهوس المرضي والبرانويا زوجته الصبيَّة الجميلة الرقيقة.

***
أحياناً أشكُّ بأني كتبتُ قصيدةً حقيقيَّةً واحدةً.. ربمَّا كتبتُ شيئاً يشبهُ التمويهَ النفسيَّ.. كأني أكذبُ على أنايَ وعلى الآخر.. أو كلَّما حاولتُ أن أغوصَ في نصِّي لا أجدُ في جوَّانيتهِ البوح الحقيقي الخبيء في القلب منذ الطفولة.. لا أعثر على الاعترافِ البريءِ الذي يعبِّرُ عني كإنسان وكشاعر.
القصيدةُ كتبتْ نفسَها بنفسها إذن.. وأنا مجرَّدُ ذلكَ القرويِّ الذي لا علاقةَ لهُ بالشِعر.. والذي تشتعلُ روحُهُ بوجعٍ غامضٍ.
***
الذي يعرفُ العربيَّة جيِّداً ويعرفُ خفايا شعريَّتها وألفاظها ويفهم فلسفتها كما ينبغي يُدركُ أنها لغتانِ في لغةٍ.. لغةٌ لكلِّ شيءٍ ولغةٌ للشِعر.. للشِعرِ فقط..
كيفَ يستطيع شاعرٌ إذن أن يحشرُ في قصيدتهِ كلماتٍ أقلُّ ما يُقالُ عنها أنها غيرُ شعريَّةٍ وجافةٌ ومبتذلةٌ وتصلحُ لعلمِ الاجتماعِ أو التاريخِ أو لعلمِ الفضاء أكثر مما تصلحُ للشِعرِ في حين يدَّعي الكتابةَ وفقَ نسقٍ أو سياقٍ جماليٍّ خاص..؟ قيمةُ النصِّ في نظري تنبعُ من فرادةِ وقداسةِ الكلمات القريبةِ البعيدةِ التي تكوِّنهُ.
***
من الممكن أن يدفع الإنسان ثمن أخطائهِ ومن الممكن أن يسلم بجلدهِ ولكن لا نستطيع أن نقيس الحياة بمقاييس محدَّدة ومعيَّنة أو نحشرها في حكمة نمطيَّة.. أعرف الكثير ممن جمحوا بلا حدود في كلِّ شيء وخرجوا من دون أي خسائر.. وأعرف من ظلَّ يمشي الحيط الحيط كل حياتهِ وكانَ مسالماً جداً ولكنه سقط سقطة مريعة.
***
هل تصيبكَ هذه الحالة.. أنك لا تستطيع أن تتأملَّ صورتها من فرطِ ما تشعرُ بهِ من وجعِ شيءٍ ما.. غامضٍ ولا نهائيٍّ.. هو أعلى وأكملُ وأعمقُ من الجمال؟
***
(أريدُ أن أكتبَ كتاباً وأرسلهُ إلى مكتبة بعيدة.. في آخر الأرض.. لكي أرتاحَ من بعضِ شغفي)
هكذا قلتُ لعامل المقهى الحيفاوي في تموز 2008 عندما فتح فمه وعينيه مذهولاً.. تحكي عن جد.. هذا الكتاب اللي على الطاولة إلك؟ يعني إنتَ كتبتهُ...؟ لم يكن هو وحدهُ مذهولاً أنا أيضا كنتُ مذهولاً بكتابي أكثرَ منهُ.
***
هذه الأرضُ النبيَّة الطاهرة المطهَّرة القدِّيسة ماذا بوسعي أن أقولَ لها وهي تحتاجُ الآنَ لمن هو أنقى من شاعرٍ عابرٍ ليمدحها.. كلما أردتُ أن أكتبَ لها كلمة واحدة أخجلُ من نفسي. من أنا لأقولَ لها ما أقولُ لها؟
*******
القدسُ أرضٌ أم سماءٌ من رخامٍ ساجدٍ قدَّامَ عرشِ اللهِ؟
هذا هو السؤال الجوهري الوجودي المجازي الذي ظلَّ يلاحقُ عدَّة قصائدَ لي بلا إجابة شافية منذ طفولتي حتى الآن.
********
كلَّما مرَّ عامٌ كلَّما تضاعفَ شغفي بكلِّ شيء وتفتَّحت وردةُ الحياة على المطلق.
*******
كأنهُ توارد مصادفات غريبة هذا الذي يحصل لي عادةً في الأسبوع الأخير من تشرين أوَّل منذ بضعة سنوات.. أوَّلُ المطرِ.. بُحَّةُ الصوت.. رغبةٌ جامحة للكتابةِ.. مرض حاسوبي.. حنيني لقراءةٍ حكاية من ألف ليلة وليلة على وقع هطول مطر ناعم على شكل سمفونية.. وأخيراً استيقاظي من النوم وهجسي بتعديل شطر من قصيدة جديدة حتى قبل أن أفعل أي شيء آخر وأخرج.. التعديل قبل كلِّ شيء.
*******
هناك قصيدةٌ بعينها لامست قلباً.. لامست شيئاً ما في ذلك القلبِ السماوي.. قصيدةٌ لي كتبتها قبل عامين وأكثر.. جعلت قارئة ما تبحث عن صفحتي الخصوصية وغير المتاحة للعامة وتكتب لي رسالة مديح أصابتني بالدهشة.. لا تحتاجُ القصيدة سوى لرسالة قصيرة واحدة تبلِّلُ قلبي بمثل هذا المطر الخريفي المنهمر في الخارج.. تجعلني أخرج وأقف على شرفة البيت لعشرِ دقائق ساهماً متأملا نعومة المطر التشرينيِّ وداخلاً فيما يُشبه حالة الوجد الصوفي.
********
غالبا ما تشكِّل الكتابة توازناً روحانياً لي أو تبديداً لطاقةٍ غيرِ مرغوبٍ بها إذا احتبست فانها لا ريب ستكون ضارَّةً.. عندما تحتبس قصيدةٌ ولا أستطيع كتابتها لأيامٍ أو ربما لأسابيع على الرغمِ من تمايلِ أطيافها في مخيِّلتي فإنني أُرهق نفسي بالأعمال الشاقة حول البيت.. أخلق عملا من لاشيءٍ.. أو أذهب مشياً على الأقدام في رحلة إلى وادي صفوريَّة الذي يبعد عن بيتي حوالي سبعة كيلومترات وأعود.. ثم أخلد بعدها للنوم وأنا منطفئ من التعب.
إذا احتبست القصيدة أياما فأنت ستقاتل الهواء من العصبية بلا سبب.. حتى من غير أن توقظك طواويس جارك الحبيب في الخامسة من صباح السبت وهي في فترة تزاوجها الربيعيَّة.. ومن غير أن يقلِّد أحد الأشقياء الصغار صوت الكلب قريبا من نافذة نومك.. أو يمازحك أحد الأقرباء باتصال عبثي وهو يرغي كلاما غير مفهومٍ بالروسية.. أو يطلبُ منك معتوهٌ آخر عبرَ إتصال مزعج في السادسة صباحاً بصوتٍ يشبه زعيق صفارةِ الإنذار أن تعيد له امرأة من القرية كانت طلَّقته قبل عشر سنوات.
**********
لماذا يصرُّ بعض(الشعراء) الذين لا يعرفون البحور والأوزان على كتابة القصيدة الموزونة؟ طالما أنك لا تعرف البحر الكامل من البحر المتوسط لماذا تكتب عشرة أسطر على إيقاع الكامل وفي السطر الحادي عشر وبطريقة فجائية من دون سابق إنذار تصدمنا بجدار نثري سميك وغير موزون..؟ يا رجل إرحمنا.. هلكتنا.. كرهتنا بالبحور والأوزان.. تسوق بنا وكأنك في سباق رالي متهور.. تخفض من الغيار الخامس إلى الأول فجأة وتفرمل وأنت في أقصى سرعة.
***********
سؤال منطقي.. ما فائدة أن يكتب الشاعر قصيدة تفعيلة أو قصيدة عمودية طالما أن الأغلبية الساحقة لا تعرف البحور الشعرية العربية والأوزان والايقاعات ولا تفرِّق بين قصيدة النثر والشعر الموزن وبين الرمل والسكَّر.. ومن المستحيل في النهاية أن تقنع أحدهم بأن ما تكتبه موزون؟

***********
كلمة(شْلاتي) تعبير شعبي فلسطيني يستعمله أهل الجليل.. أو بالأحرى جزء منهم حتى أكون دقيقا في قولي.. لا أعرف بالضبط معنى هذه الكلمة التي يغمى عليَّ من الضحك عندما يقولها أحد أمامي.. ربما تجمع الصعلوك إلى فاقد القيمة.. لا يهم.. في صغري سمعت امرأة في الخمسين من عمرها تقول لأصحاب عرس وهي تشير لمجموعة من الشباب المدعوين:عازمين كل هذول الشلاتية ومش عازمين ابني؟ والله ما بحضر الكو عرس.. سكرتُ حينها من الضحك.. الآن كم من (الشلاتية) في حياتنا؟ شلاتية للردح والمدح والشعر والعهر والرقص والتهريج.. ولكل شيء.
**********


(8)
قصاصات عطريَّة

كهفُ الحوريَّات

أجملُ القصائدِ الموزونة تلكَ التي تقرأها وكأنها بلا وزن.. كأنهُ ذائبٌ في حناياها وبينَ تلابيبِ أنهارها.. أو أنها لم تُكتب من أجلهِ فقط.. لتدلَّ عليهِ كما دلَّتْ عينا عاشقةٍ على قمرٍ.. ولم تُخلقْ لتسيرَ في ظلِّ نرجسهِ الانتهازيِّ.. هي امرأة من قوسِ قزَحٍ.. نافرةٌ كالمهرةِ الجموحِ.. تتمرَّدُ على سطوةِ الإيقاعِ والرملِ والبياضِ وتركضُ محلولةَ الضفائرِ في الريحِ وعندَ حوافِ الموج الليليِّ.. لا تريدُ لأحدٍ أن يأخذها من يدها إلى أيِّ شأنٍ من شؤونها الكثيرةِ.. غيمةٌ تسمعُ هديرها وتحسُّ بهِ يدغدغُ ظاهرَ يدكَ كالعصفورةِ العصبيَّة.. أبداً لم يكن الوزن قفصاً شكليَّاً وذهبيَّاً للشِعرِ الأفكار المسبقة هيَ التي جعلتْ منهُ قفصاً ومحارةً وكهفاً تنامُ فيهِ الحوريَّات.. فدع المرأة التي تسكنُ في القصيدةِ أن تسيرَ الهوينى أو ترقصَ رقصتَها الصباحيَّة ودع الطيورَ لكي تحلِّقَ.. تذويب الوزن في القصيدة أن أبلغ بها إلى حدود الصفاء الشعري الذي كان يعنيه الشعراء الحقيقيون وعلى رأسهم شاعرنا الأسطوري محمود درويش. أن أكتب قصيدة موزونة من غير أن ينتبه الآخرون إلى أنها موزونة من فرط جمالها ومن نعومةِ تدفَّق الماءِ من تلقاءِ نفسهِ فيها وليس من جرَّاء موسيقاها فهو ما يصبو إليه قلبُ الشاعرِ فيَّ. أجملُ القصائدِ الموزونة كأنها وجعُ الماءِ على فمِ الحبيبةِ القرمزيِّ وتنهيدةُ الحصى تحتَ أقدامها.
***



سونيتات شكسبير

في هذا الربيع رجعتُ إلى سونيتات شكسبير أتملَّاها وأعيدُ قراءتها مقارناً ما بينَ ترجماتها الكثيرة.. منها ما يبلغُ حدَّ الروعة والدهشة الحقيقيَّة بجوهرِ البوحِ الحقيقي العذب الصافي ومنها ما هو دونَ ذلكَ بكثير.. ولكن لا أشعار تحرِّكُ القلبَ وتجعلهُ كنسمةِ صَبا مثل هذه الغزليَّات الإنجليزية المكتوبة قبل أكثر من أربعةِ قرون لتصلحَ لكلِّ عشَّاقِ العصور.. مع أنني منحاز لترجمة جبرا المقاربة للنصِّ الأصلي والفاتحة لمغالق الجملةِ الشكسبيريَّةِ إلا أنَّ الترجمات الرصينة الأخرى أعجبتني وراقت لي بالرغمِ من الاختلاف والتباين الطفيفين في ترجمات سونيتات شكسبير تلكَ التي أنجزها جبرا ثم بدر توفيق يليه كمال أبو ديب وأخيرا ترجمة عبد الواحد لؤلؤة المدهشة.. الشيء الوحيد الذي لم أستطع أن أفهمه في الترجمات الأخرى المنجزة في الخمسينيات والستينيات هو لماذا حاول البعض ترجمتها شعراً عموديا وأحيانا على البحور المجزوءة؟ حتى في سونيتات شكسبير نبحث عن القيود؟!
***

مكانُ القصيدةِ المثالي

شاطئُ البحرِ في صباحٍ ربيعيٍّ غائمٍ هو المكان المثالي للمشي والتأمل.. واصطياد خيوط القصائد وأسماكها المراوغة.. هنا عاشقٌ يسندُ رأسه المحشوَّ بالغيوم على كتفِ حبيبتهِ وعاشقةٌ تسندُ رأسها على كتفِ حبيبها.. وأنا منهمكٌ بقراءةِ دواوين رياض صالح الحسين المحمَّلة على هاتفي الجوَّال.. وأرجئُ مشاغل الحياة لساعتين تقريبا.. القصيدة التي لم يكتبها ذلك العاشق لحبيبته الجميلةِ ذات الشَعرِ المنساب كحريرِ الليلِ حاولتُ أنا كتابتها واصطيادها لهما.. بينما في الروحِ تشعُّ عينا امرأةٍ تحبُّ عكا وتسألُ نفسها دائماً : من أجمل أنا أم صبايا عكا؟ ولكن القصيدة حينَ هممتُ بتدوينها فرَّتْ مني كما فرَّتْ السمكة الذكيَّة.
*****

البشرُ الهامشيُّون هم الأكثرُ هشاشةً ورقةً وعفويَّةً على تطبيقات واتساب وفايبر، المرأة التي كنتَ تظنُّها قاسيةً أو متسلِّطةً والتي أرهقتْ الرجالَ بصدودها وعنفوانها تصبحُ شاعرةً رقيقةً وامرأةً أخرى على واتساب في رسائلها الصباحيَّةِ لجارتها أو صديقتها.. في كلِّ كلمةٍ بسيطةٍ تقولها.. مرهقة.. تعبانة.. اشتقتُ إلكْ.. كأنَّ كلامَها ترجيعاتُ موجةٍ عاشقة أو أنَّاتُ محارةٍ في محيط، الرجالُ الأشدَّاءُ المتجهِّمون يصبحون عشَّاقاً قدامى و(جنتلمانات) حقيقيِّين وهم ينقرون بأصابعهم الغليظةِ شاشاتِ هواتفهم من أماكن بعيدة، ويتركون رسائلَ قصيرةً صادقةً وخارجةً من القلبِ يحملها رنينٌ مباغتٌ وناعمٌ إلى مساءات نسائهم. كأنَّ التخاطبَ عن بُعد يصفِّي أرواحَ البشَر من الشوائبِ والنرجسيَّة.
*****
فوضويَّةُ القراءة


نادراً ما كنتُ أتركُ الرواياتِ في المنتصف، لم يحدث ذلك تقريباً معي في الماضي حتى لو بلغتْ صفحاتُ الرواية 700 صفحة، ولكنني في الفترةِ الأخيرةِ تركتُ الكثيرَ من الكتب في المنتصف، روايات، دراسات، دواوين شعر وغيرها، عشرات الكتب الالكترونية والورقية، لا أعرفُ السبب، كأنهُ هروبٌ من النهايات، سواء كانت سعيدةً أو حزينةً، أو بحثٌ أبديٌّ عن فسحِ التأمُّلِ في عالمِ المادة، ولكن لكي تقرأ فأنتَ بحاجةٍ إلى الإطاحةِ بناقوسِ القلقِ الوجودي الذي يسكنُ أضلاعَكَ إلى هاويةٍ منسيَّةٍ، هكذا تركتُ رائعة الكاتب الأمريكي الشهير همنغواي (وداعاً للسلاح) بعد مئة صفحة لأقفز إلى قراءة بعض كتابات جان جينيه وبورخيس وهنري ميلر، منهم انتقلتُ إلى كتاب (اللاطمأنينة) لبيسوا ثمَّ إلى عوالم كافكا الكابوسيَّة.. فجأةً وجدتُ نفسي مشغوفاً بالشاعرين العراقي حسب الشيخ جعفر والفارسي المتصوِّف فريد الدين العطَّار، أنا قارئٌ لا منهجيٌّ، أو صرتُ قارئاً لا منهجياً، حتى أنني أغلقتُ روايةَ (عندما بكى نيتشة) للكاتب الأمريكي إرفين د. يالوم قبلَ نهايتها بقليل رغمَ تأثري وإعجابي الكبيرين بها وأعدتُ قراءةَ المجموعة القصصية الرائعة (الخيمة) للكاتب المغربي المبدع محمد شكري وصوتي الداخلي يقول: أريدُ أن أسكنَ إحدى روايات أو قصص مجنون الورد هذا.. أو أسكنَ إحدى الأغاني المغربية إلى الأبد.. كم أنتَ جميلٌ ومختلفٌ يا محمد شكري.
***

حيرةٌ مشتهاة

قصيدتكَ هي لعنتكَ الأبديةُ أيها الشاعر، فقاعةُ النور الهلاميَّةُ التي ترى فيها وجهكَ في السرداب المظلم، غزالتكَ التي تتودَّدُ إليها فتنفر، تدنو منها فتبتعد، تراوغها فتستعصي، نجمتكَ الخضراءُ المحترقةُ على تلَّةِ العنقاء، حبيبتكَ المغرورةُ المنسيَّةُ التي تنادي باسمها فتخرجُ لكَ لسانها بسخريةٍ مُرَّة، هي حيرتكَ المشتهاةُ واللحظةُ التي تنتظرها طوال عمركَ ولكنها لا تجيء، أو تجيءُ بعدَ فوات الأوان، مرايا قلبكَ السرابيَّةُ والسمكةُ الماكرةُ، وهي الفسحةُ المستحيلةُ المعلَّقةُ على شرفةٍ لا تطال، هيَ غبارُ القُبَل الذي تنفضهُ بفمكَ عن قميص احداهنَّ.
*********

حبرٌ بطعم الشغف

كيفَ انتهى عصرُ الحبرِ وتغيرَّت تلك العوالم الجميلة في هذه السرعة القياسية؟ في أواخر التسعينيات كنتُ أكتبُ القصيدة وأشمُّها على الورق، كما يشمُّ العاشقُ رسالةَ حبيبته الأولى ،كانَ لحبر القصيدةِ عبقٌ خاص، أبعثها بالفاكس أحيانا أو أضعها في الظرف البريدي وأرسلها لعنوان صحيفة الإتحاد الحيفاوية، وفي مرَّات كثيرة أذهبُ بنفسي لتسليمها للمحرِّر الأدبي في ذلك الوقت لأنتظرها في الثلاثاء الأدبي على أحرِّ من الجمر، كانت همومي صغيرةً والحياةُ بريئةً حينها، وكانت تربطني صداقةٌ حقيقيةٌ بالمحرر الأدبي في الأتحاد، نتكلَّم بشكل شبه يومي، نادرا ما كنتُ في حيفا ولم أمر بمكتبهِ لإلقاء التحية، كان شغفي الشعري هو الذي يوقظني من النوم في صبيحة اليوم التالي من أجل هدف مقدَّس واحد، أن أذهب لحيفا وأعودَ بالصحيفة لأرى قصيدتي المنشورة، بعد هذا العالم بسنوات جاء دور البريد الالكتروني ليحتلَّ فراغ الورق والحبر والبريد البطيء، مرحلة تشبه الحلم لكنها أقلُّ تعباً من سابقتها، مئات القصائد نشرتها عبرَ ما يُسمَّى البريد الالكتروني أو الايميل، ببساطة تبعث القصيدة أو المقالة إلى مجموعة بريديَّة تحوي عناوين الجرائد والصحف والأصدقاء المهتمين، الآن أفكِّرُ أن هذه المرحلة انقرضتْ أو تكاد تنقرض في ظلِّ سطوة الفيسبوك ومواقع التواصل، أغلب الكتَّاب والشعراء انضمَّوا تدريجيَّا إلى هذه الغرفة الكونية، انتهى وقت المجموعات البريديَّة والشعور بمسؤولية ما نكتبهُ، أصبحنا نمارسُ العبث الكتابي اليومي في الفضاءات الزرقاء، هل هناك من لا يزالُ يكتب بالحبر ويضعُ قصائده أو مقالاته في الدرج أسابيعَ وشهوراً لتختمر التجربة أو لتزهر القصائد، ويبعث ما يكتبهُ في النهاية بالفاكس أو البريدِ الأرضي إلى الجهة التي يريد؟
*****
أحبُّ الشعراء إلى نفسي الصعاليك بقلوبهم حتى لو كانوا أرستقراطيين، فالصعلكة الحقيقية هي صعلكة القلب.
*****






(9)
خفقُ الأنفاس


نوستالجيا


أنا كائن نوستالجي.. أفضِّلُ شوكَ الماضي على حريرِ الحاضر.. كيفَ تذكِّرني بالماضي وأنت غير قادر على إرجاع لحظة واحدة منهُ؟ لماذا تعذِّبني بلفتةٍ للوراءِ وبنداءٍ على حياةٍ لن تعود؟ ألا تعرفُ أنكَ تحيلني بهذه اللفتةِ وبهذا النداءِ الأصم شجرةَ ملحٍ لا تقربها العصافير؟ إذا قالَ ناظم حكمت (أن أجمل الأيام تلك التي لم تأتِ بعد) فأنا أنقضُ كلامه الرومانسيَّ العذبَ هذا وأقولُ إن أجملَ الأيام تلكَ التي ذهبتْ بلا عودة..
أنا كائن نوستالجي كلَّما كبرتُ كلَّما ازددتُ طيشاً.
******





شعراء الظل


البشرُ الهامشيُّون هم الأكثرُ هشاشةً ورقةً وعفويَّةً على تطبيقات واتساب وفايبر، المرأة التي كنتَ تظنُّها قاسيةً أو متسلِّطةً والتي أرهقتْ الرجالَ بصدودها وعنفوانها تصبحُ شاعرةً رقيقةً وامرأةً أخرى على واتساب في رسائلها الصباحيَّةِ لجارتها أو صديقتها.. في كلِّ كلمةٍ بسيطةٍ تقولها.. مرهقة.. اشتقتُ لكِ.. كأنَّ كلامَها ترجيعاتُ موجةٍ عاشقة أو أنَّاتُ محارةٍ في محيط، الرجالُ الأشدَّاءُ المتجهِّمون يصبحون عشَّاقاً قدامى و(جنتلمانات) حقيقيِّين وهم ينقرون بأصابعهم الغليظةِ شاشاتِ هواتفهم من أماكن بعيدة، ويتركون رسائلَ قصيرةً صادقةً وخارجةً من القلبِ يحملها رنينٌ مباغتٌ وناعمٌ إلى مساءات نسائهم. كأنَّ التخاطبَ عن بُعد يصفِّي أرواحَ البشَر من الشوائبِ والنرجسيَّة.
********

فوضويَّةُ القراءة


نادراً ما كنتُ أتركُ الرواياتِ في المنتصف، لم يحدث ذلك تقريباً معي في الماضي حتى لو بلغتْ صفحاتُ الرواية 700 صفحة، ولكنني في الفترةِ الأخيرةِ تركتُ الكثيرَ من الكتب في المنتصف، روايات، دراسات، دواوين شعر وغيرها، عشرات الكتب الالكترونية والورقية، لا أعرفُ السبب، كأنهُ هروبٌ من النهايات، سواء كانت سعيدةً أو حزينةً، أو بحثٌ أبديٌّ عن فسحِ التأمُّلِ في عالمِ المادة، ولكن لكي تقرأ فأنتَ بحاجةٍ إلى الإطاحةِ بناقوسِ القلقِ الوجودي الذي يسكنُ أضلاعَكَ إلى هاويةٍ منسيَّةٍ، هكذا تركتُ رائعة الكاتب الأمريكي الشهير همنغواي (وداعاً للسلاح) بعد مئة صفحة لأقفز إلى قراءة بعض كتابات جان جينيه وبورخيس وهنري ميلر، منهم انتقلتُ إلى كتاب (اللاطمأنينة) لبيسوا ثمَّ إلى عوالم كافكا الكابوسيَّة.. فجأةً وجدتُ نفسي مشغوفاً بالشاعرين العراقي حسب الشيخ جعفر والفارسي المتصوِّف فريد الدين العطَّار، أنا قارئٌ لا منهجيٌّ، أو صرتُ قارئاً لا منهجياً، حتى أنني أغلقتُ روايةَ (عندما بكى نيتشة) للكاتب الأمريكي إرفين د. يالوم قبلَ نهايتها بقليل رغمَ تأثري وإعجابي الكبيرين بها وأعدتُ قراءةَ المجموعة القصصية الرائعة (الخيمة) للكاتب المغربي المبدع محمد شكري وصوتي الداخلي يقول: أريدُ أن أسكنَ إحدى روايات أو قصص مجنون الورد هذا.. أو أسكنَ إحدى الأغاني المغربية إلى الأبد.. كم أنتَ جميلٌ ومختلفٌ يا محمد شكري.
********

القدس

لا أذهبُ إلى القدسِ كثيراً.. أذهبُ كلَّما اشتدَّ شوقي إلى السماءِ.. كأنَّ الله أقربُ إلى القدسِ من بقيَّةِ الأرضِ.. ثمَّةَ حنينٌ لشيء ما يرتطمُ بقلبي أنَّى توَّجهتُ.. ثمَّة أنبياءٌ غيرُ مرئيين يسيرون في الطرقاتِ ويطرحونَ السلامَ على العابرين.. وخروجٌ من هذا الوقتِ إلى وقتٍ آخر.. أكثر جمالاً واتِّساعاً.. في القدسِ يتذكَّرُ كلٌّ منا أُمَّهُ وحبيبتَهُ المنسيَّةَ.. ثمَّةَ كلُّ ما يحنُّ إليهِ شاعرٌ وعاشقٌ وقدِّيسٌ ومجهولٌ.. هواءٌ ناصعٌ.. أحجارٌ معجونةٌ بدمِ البشرِ الغابرين.. أقمارٌ مائية على الأرض.. ترابٌ مجبولٌ بهالات الضوء.. أشجارٌ عاشقةٌ.. كلُّ شيء تقريباً.. وشوقٌ مضاعفٌ للسماء.
********




اعتراف

أحياناً أشكُّ بأني كتبتُ قصيدةً حقيقيَّةً واحدةً.. ربمَّا كتبتُ شيئاً يشبهُ التمويهَ النفسيَّ.. كأني أكذبُ على أنايَ وعلى الآخر.. أو كلَّما حاولتُ أن أغوصَ في نصِّي لا أجدُ في جوَّانيتهِ البوح الحقيقي الخبيء في القلب منذ الطفولة.. لا أعثر على الاعترافِ البريءِ الذي يعبِّرُ عني كإنسان وكشاعر..
القصيدةُ كتبتْ نفسَها بنفسها إذن.. وأنا مجرَّدُ ذلكَ القروي الذي لا علاقةَ لهُ بالشِعر.. والذي تشتعلُ روحُهُ بوجعٍ غامضٍ.
********

هذه التفاصيل الصغيرة جداً ..جداً .. لامرأة تحملُ طفلتها التي لا تتجاوز السنتين بحمَّالةٍ قماشيَّةٍ ملوَّنةٍ على صدرها وهي تمسكُ بكلتا يديها روايةً من رواياتِ البيست سيلر وتتصفَّحها بشغفٍ سريع وهي تنظرُ في ساعة اليد مرَّة وإلى الطفلة الشقراء مرَّة أخرى، هذه التفاصيلُ الصغيرةُ جداً.. جداً.. ليتني أملكُ الأعصاب الباردة والنفس الكافي لكتابتها.
*






(10)

بينَ الحيرةِ والشغف





مراوغة مجازية


قبل عدة أيام سألتني مخرجة وصحفية فلسطينية كبيرة عن ابتعاد الشعر الفلسطيني عن السياسة والقضيَّة الأم، وعن أسباب هذا الابتعاد، في الحقيقة فاجأتني بهذا السؤال الصعب والمحيِّر في آن، أجبتها بإجابات كثيرة غير مقنعة تبدو أقربَ إلى الحجج الواهية منها إلى أي يقينيَّات أخرى، قلتُ في البدايةِ أنني من وجهةِ نظرِ النقدِ الموضوعيِّ شاعرٌ غير سياسيٍّ ينحو منحى جماليَّاً أو عاطفيَّا أو رمزيَّاً في أغلبِ الأحيانِ ويبتعدُ قدر المستطاع عن الهموم الشائكة.. بغض النظر كانت سياسيَّة أو غير ذلك، أهتمُّ أحياناً بجمالية الفكرة الإنسانيَّة أو أكتبُ من منطلقِ مذهبِ الفنِّ للفن، أحيانا تطغى روحُ المأساةِ والخسارةِ على كتابتي الشعريَّة على حدِّ تعبير الشاعر والناقد الأردني عمر شبانة، مع مزجي لمفاهيم حبِّ الوطن بالنوستالجيا العميقة وعذاباتها، تحدثتُ عن انتهاء زمن الشعارات والخطابية وصراخ الايديولوجيا الأجوف واللغة المباشرة وفكرة الفن للفن واختلاف أساليب الكتابة والتلقي والموضوعات وقلتُ أن الوقتَ تغيَّر وأساليب كتابة الشِعر أيضا تغيَّرت وما كان يصحُّ في الماضي لا يصحُّ الآن وعلى القصيدةِ الجديدة أن تتخلَّصَ من أسمالِ الشعارتية والتقريريَّة والصراخِ الأيديولوجي الأجوف الذي يعيقُ مشيها، وذكرتُ أنَّ بابلو نيرودا ولوركا شاعران سياسيَّان حتى في أشعار الغزل التي كتبوها لحبيباتهم.. ولكني لم أقل لها الحقيقة التي انتظرتها هي مني، والتي أهجس دائماً بها بأن سبب ابتعاد الشاعر عن الصراعِ السياسي يرجع إلى أسباب كثيرة ومتشعبة، من أهمها تركيبته الروحية الهشة والقلقة وعدم تصالحه مع الأشياء من حولهِ وانكساره الأبدي على ذاتهِ المتنافرة والمسكونة بشجاراتها الداخلية، هو يريدُ استثمار لحظات هدوء قليلة من أجل الكتابة والتأمل.
محمود درويش في الفترة الأخيرة فهمَ معادلة القصيدة الصافية واتجهَ نحو الآخر البعيد والمختلف ونحو العالمية من خلال قصيدة جديدة خالية من ضجيج السياسيِّ والأفكار المسبقة والبساطة، تشيرُ إلى صراع مرير وهيَ تشرحُ وجعَ الإنسانِ الحديث، من دونِ تكرارِ لازمة معيَّنة، بل تكفي الإشارة بمجازٍ خفيٍّ إلى الموضوع.
********

عبد الوهاب البياتي

في الثالث من آب عام 1999 رحل الشاعر العراقي المبدع عبد الوهاب البياتي وأظنه كان يوم أربعاء أيضا.. أحببت البياتي حبا روحيا وانشددت أكثر للسياب ولكن شيئا ما في قصيدة البياتي جعلني أتعاطف معها.. السياب في كلِّ استدعاءاته للمرأة أو تبرُّمهِ بمرضهِ كان يبكي بانفعال وغضب بينما البياتي في كلِّ تجليَّاتِ حبِّهِ كان ينتحب بأناقة وزهوّ وكبرياء، مرة سألت الشاعر الكبير سميح القاسم عن الفرق بين البياتي والسياب فقال لي أن البياتي طوَّر أكثر في أساليب كتابة القصيدة العربية الشيء الذي لم يتح للسياب لقصر حياته معأنه كان أكثر موهبة واحتراقا بنار الشعر ولكنه مات في أوج شبابهِ وعنفوان قصيدتهِ.. البياتي يشبه محمود درويش في نقطة مهمة جدا، أنه لم يكتسب أهميته الشعرية إلا في مرحلتهِ الشعرية المتقدمة أي أن دواوينه المبكرة برأي النقد لا تنطوي على اجتراح تغيير درامي وحقيقي أو زعزعة جذريَّة في بنيةِ الشعر العربي حينذاك.
ماذا يبقى من البياتي اليوم؟ يبقى منه كل شيء، خصوصاً الشغف الفطري بالحياةِ وجماليات النحيب الإنساني في كل ما كتبَ بدءاً من أواخرِ الستينيات حتى رحيلهِ.
***
الفيسبوك على حسناته يشكِّلُ دفيئة لابتذال العلاقات الإنسانية العميقة والحقيقيَّة بنظري، وأحيانا يعمل على هدمها في سبيل الترويجِ لقيم زائفة ونفاق اجتماعي ملوَّن، لذلك أحافظ على المسافة بيني وبين كاتبي الأثير وشاعرتي الأجمل.. من فرطِ عشقي لهما أبقيتهما خارجَ متاهتي الزرقاء هذه.
***
أصبحنا نقيس حياتنا بهذهِ المتاهة الكونيَّة (الفيسبوك).. نضبط حيواتنا على توقيتِ ساعةٍ وهميَّة زرقاء منذورةٍ للأرق، نتركُ (لساعات قليلة) صفحاتنا / ممالكنا الافتراضيَّة التي شيَّدناها من رمال التخييل ونحنُ ننظرُ إلى الوراء ملهوفينَ بأعيننا الداخلية، نعودُ بعدَ منتصفِ الليلِ على عجلٍ من سهرةٍ أو فرَحٍ عائليٍّ أو قدَرٍ طارئٍ لنغرق أكثر في دوَّامة العبث واللا جدوى، ننامُ متعبينَ حيارى ونصحو بقلوبٍ مشدودةٍ إلى سرابِ اللايك.
***
في أوائل التسعينيات كنا مجموعة من التلاميذ والأصدقاء وقد جمعتنا مناسبة مع أحد أساتذتنا في الأدب العربي آنذاك، فطلب منهُ أحدُ الحاضرين أن يذكر له أغزل بيت قالته العرب، تردَّد قليلا، أخذ بعدها بإلقاء أبيات لامرئ القيس وعمر بن أبي ربيعة، ولكني بعفويَّة
ذكَّرتهُ ببيت أبو صخر الهذلي الذي يقولُ فيه:
وإني لتعروني لذكراكِ هزَّةٌ كما انتفضَ العصفورُ بلَّلهُ القطرُ
فردَّدهُ وسط قهقهات وسخرية البعض، منذ ذلكَ الحين لا أحد يعرفهُ سوى بلقب (أبو العصافير).. قبلَ أيام التقيتهُ ضاحكا وذكرتُ له قصَّة بيت أبو صخر الهذلي القديمة، وقلتُ لهُ بسيطة أستاذ.. يعني عصافير أحسن من كلاب وضباع ومن أي شيء آخر، آسف لأني ورَّطتك.
***

صحَّحتُ صباحَ اليوم بيتاً من الشعر القديم نشرتهُ احدى الصديقات الشاعرات.. من غير أن أبحث في جوجل أو في المراجع الأصليَّة، سليقتي العروضية هي التي دلَّتني إلى الصيغة الصحيحة.. طبعا البيت هو جزء من أغنية نُقلت ولُحنت على خطأ في الوزن.. والذي نقلها نسي أو تناسى أن جزءاً حيويَّاً هامَّاً من قيمة شعرنا العربي وإعجازهِ يكمنُ في موسيقاه وبحوره الشعرية التي يتفوَّق برنينها على شعريَّات عالمية أخرى، نتذكَّرُ قصة الديوان الأخير لمحمود درويش وعشرات المقالات الغاضبة التي كُتبت عن موضوع الخلل الوزني فيه، والضجة والجدل اللذين أثيرا حولَ بعض السقطات والهنات العروضية التي لم يكن الشاعر مسؤولا عنها.. بل هي نتيجة تسرع الناشر من غير تسليم الديوان لمراجعته عروضيا، كانت هناك كلمات في الهامش لم يلتفت اليها أحد، وضعها محمود بخط صغير ريثما يرجعُ اليها وقتَ تنقيح النص النهائي.
الشعرية العربية القديمة بنظري شيء أقرب الى القداسة وهي منجز لا يتوجَّب علينا أن نبدِّل أو نغيِّر فيها.. إذ أنه من الاستحالة أن نتقبَّل فكرة أن امرئ القيس وأبا نواس وجرير وابن الرومي والمتنبي والمعري كانوا يلحنون في العروض والبحور الشعرية، مشكلتنا أننا لا نتعامل مع تراثنا باحترام عندما ننقلُ شيئاً منهُ أو نختار مادةً للأغاني، والكلام موجَّه بشكل خاص ل (مطربي الغفلة) فينا.

البيت هو لشاعر يُدعى الخُبز أَرزي
? - 317 هـ / ? - 939 م
نصر بن أحمد بن نصر بن مأمون البصري أبو القاسم.
شاعر غزل، علت له شهرة.
يعرف بالخبز أرزي ( أو الخبزرزي )، وكان أمياً، يخبز خبز الأرز بمربد
البصرة في دكان، وينشد أشعاره في الغزل ، والناس يزدحمون عليه ويتعجبون من حاله. وكان (ابن لنكك) الشاعر ينتاب دكانه ليسمع شعره، واعتنى به وجمع له (ديواناً). ثم انتقل إلى بغداد، فسكنها مدة، وقرأ عليه ديوانه، وأخباره كثيرة طريفة.

فلو كان لي قلبانِ عشتُ بواحدٍ وأفردتُ قلباً في هواك يُعَذَّبُ
ولي ألف وجه قد عرفتُ مكانه ولكن بلا قلبٍ إلى أين أذهبُ

أصبحَ صدر البيت الأول في الأغنية ومئات المواقع الالكترونية على هذه الصيغة
(لو كانَ لي قلبان لعشتُ بواحدٍ)
***
الشاعر، الناقد، المثقَّف العربي الذين كنا نأمل منهم أن يقدِّموا لنا طروحات ابداعية وفتوحات جديدة في الأدب والشعر والنقد والفن وغير ذلك.. خرب الفيسبوك بيوتهم وجعل منهم مهرِّجين وبهلوانات في حفلات نساء الفيسبوك التي يتقافزون فيها بلايكاتهم وتعليقاتهم مثل السناجب البائسة.. هذه تعرضُ فتنة ونعومة أنوثتها وهاتيك تتباهي بشَعرها الحريري وبظهرها المنكشف وتبرز حدائق أعالي صدرها وهذه كل خمس دقائق تنشر صورة بوضعيَّةٍ جديدة وسحرٍ مختلف، (لستُ ضدَّ هذا) ولكن نريد خلخلةً حقيقية في منجز الأدب العربي الراهن، نريد قراءة موضوعية عميقة وذات بعد رؤيوي حقيقي.
***
قبل أيام أصابني الذهول وأنا أشاهد موسوعة القذافي بمجلداتها الضخمة الفخمة تزِّين رفوف احدى المكتبات الجامعية العملاقة، والآن يكتملُ ذهولي وفجيعة الشِعر العربي بهذه الموسوعة التي يجب أن تدخل موسوعة غينيس للأرقام القياسية، بينما تصلني أحيانا رسائل من شعراء حقيقيِّين يشكون فيها أنهم لا يملكون ما ينشرون به ديواناً واحداً بعدما أكلَ الشِعرُ زهور أعمارهم.
***
في التاسع عشر من آب، ذلك اليوم المغسول بشمس صيفيَّة عاشقة رحل شاعران أحببتهما، فيدريكو غارسيا لوركا وسميح القاسم.
بعد أكثر من خمسين سنة على رحيل شاعر إسبانيا العظيم كان سميح القاسم يناجي روح صنوه لوركا المختبئ في أحد بيوت غرناطة هربا من جندِ فرنكو:
فد.. ري.. كو
قنديل الحزن قمر
الخوف شجر
فانزل
أنا أعلم أنك مختبئ في البيت
مسكونًا بالحمى
مشتعلاً بالموت
فانزل
أنذا منتظر في الساحة
مشتعلاً بلهيب الوردة
قلبي تفاحة
***
عن العالم الدكتور أحمد زويل

كم نحن شعب جحود وناكر للجميل، كنا ننتظر الموت التراجيدي للعالم المصري العظيم لنتغاضى عن قيمته العلمية وعن كلِّ ما قدَّمه للانسانية من فتوحات علميَّة عظيمة وإنجازات غير مسبوقة، ونشكَّ باحترام وتقدير كل علماء ودول الدنيا له، كنا ننتظر موته لنفتح أعيننا الكليلة على عثرات قليلة في مسيرتهِ الأسطورية، من غير حتى أن نتقصَّى الحقيقة، أو نقرأ عنه أي شيء، ومن غير أن نستمع لحوار واحد من حواراته التي يفيض بها اليوتيوب، لكن أحمد زويل يبقى أحد العظماء العرب الناجحين الأفذاذ وذلك ليس باعترافنا نحن بل باعتراف العالم بأسره، كان أولى بنا أن نصمت حزناً وأن تغصَّ قلوبنا بالدمع على رحيلهِ.
***
تسكُّع

الشيء الوحيد الذي مارستهُ بكل شغف روحي ومحبة نابعة من أعماق قلبي ولن أندم عليه في النهاية هو التجوال المفتوح أو (التسكُّع) على حساب كل شيء آخر من التزاماتِ حياتي.. فالانسان لا يعيش مرتين وأنا لا أحب سردَ التفاصيل، لماذا؟ وأينَ ؟وكيفَ ؟ومتى؟
التسكُّع في نظري هو معنى الحياة الأجمل.. حتى ولو كان ضلالا.
***
لا أحد من كم الشعراء والكتَّاب الهائل عبر لايكات وتعليقات المدائح الأسطورية صحَّح عبارة تلك الشاعرة التي كتبت ( قريبةٌ من سماؤك).. بقي الخطأ كما هو لأيام ولأسابيع وبقيت هي في نظرهم (الشاعرة الرائعة.. الكبيرة.. المبدعة.. المتألقة)
***

ليالي رمضان والفيسبوك

وحدها ليالي رمضان هي التي تشعُّ من قاعِ الماضي كالنجومِ العصيَّةِ على الانطفاء.. كأنها يدٌّ تلوِّحُ لي من مجرَّةِ السنواتِ الماضية.. لا أعرفُ السبب.. لكنني تقريبا لا أتذكَّرُ من الماضي سوى التماعات هذا الشهر.. بكل ما فيها من شوق متغلغل في الشرايين.. ولأنَّ روحانياتِه متغلغلةٌ في أقاصي الروح فإن شغفي بالقراءةِ والتأمل يزداد نوعاً ما فيه مقارنةً بالشهورِ الأخرى.
ليالي رمضان تتقاطع مع تجربتي الفيسبوكيَّة بشكل مذهل.. هذه التجربة التي كانت على المستوى الشخصي مميزَّة ومدهشة ومن أغنى تجاربي، لا لأنك تستطيع أن تتواصل وتتفاعل عبر هذهِ الفسحة الزرقاء مع الآلاف من الأصدقاء وتتأثر بهم وكأنك تجلسُ معهم في غرفةٍ واحدة.. بل لمحاولتك بناء شبكة صداقات حقيقية عميقة مع أفراد حقيقيين يبعدون عنك آلاف الكيلومترات.. أصدقاء يسألون عنكَ إذا ما غبتَ لأيام قليلة أكثر ربما ممَّا يسأل أصدقاؤك الواقعيون... شكرا لتلك الصديقة والمثقفة الرائعة التي حثَّتني مرارا على دخول هذا الفضاء اللا متناهي الجمال والتأثير قبل انضمامي الفعلي إلى الفيسبوك بسنوات وأظن كان ذلك في عام 2007، والتي كانت قارئة ذكية لكل قصائدي وأتذكر أن اسمها كانَ كرمل وهي من فلسطينيي الأردن.
ليسَ رمضان فقط الذي يختلفُ.. الأشياء والقصائد أيضا تختلفُ فيه.. تصبحُ أكثر شفافيَّةً وصدقاً ووهجاً ولمعاناً.. حتى الإنسان اللا ديني وغير الصائم يحبُّ رمضان.. كأنهُ يصالحهُ مع نفسهِ، كأنَّ هذا الشهر هو نسيمُ الحب الإلهي الذي يهبُّ على صيفِ الوجودِ بأسرهِ.
***

غالبا ما تشكِّل الكتابة توازناً روحانياً لي أو تبديداً لطاقةٍ غيرِ مرغوبٍ بها إذا احتبست فانها لا ريب ستكون ضارَّةً.. عندما تحتبس قصيدةٌ ولا أستطيع كتابتها لأيامٍ أو ربما لأسابيع على الرغمِ من تمايلِ أطيافها في مخيِّلتي فإنني أُرهق نفسي بالأعمال الشاقة حول البيت.. أخلق عملا من لاشيءٍ.. أو أذهب مشياً على الأقدام في رحلة إلى وادي صفوريَّة الذي يبعد عن بيتي حوالي سبعة كيلومترات وأعود.. ثم أخلد بعدها للنوم وأنا منطفئ من التعب.
إذا احتبست القصيدة أياما فأنت ستقاتل الهواء من العصبية بلا سبب.. حتى من غير أن يقلِّد أحد الأشقياء الصغار صوتَ الكلب قريباً من نافذة نومك.. أو يمازحك أحد الأصدقاء باتصال عبثي وهو يرغي كلاما غير مفهومٍ.. أو يقضُّ راحتكَ معتوهٌ آخر عبرَ إتصال مزعج في السادسة صباحاً بصوتٍ يشبه زعيق صفارةِ الإنذار.
***
لماذا يصرُّ بعض(الشعراء) الذين لا يعرفون البحور والأوزان على كتابة القصيدة الموزونة؟ طالما أنك لا تعرف البحر الكامل من البحر المتوسط لماذا تكتب عشرة أسطر على إيقاع الكامل وفي السطر الحادي عشر وبطريقة فجائية من دون سابق إنذار تصدمنا بجدار نثري سميك وغير موزون..؟ يا رجل إرحمنا.. هلكتنا.. كرهتنا بالبحور والأوزان.. تسوق بنا وكأنك في سباق رالي متهور.. تخفض من الغيار الخامس إلى الأول فجأة وتفرمل وأنت في أقصى سرعة.
***

الرجل المحظوظ في نظري هو ذلك الذي لا تتهمه زوجته بأنه متزوج عليها في الفيسبوك.. لا تصرخ وتولول ما أن تلمح صورة احدى صديقاته على اللابتوب: هذه هي.. هذه زوجتك الجديدة.. فعلتها وتزوجتَ علي.. يقول لها أنها مجرد صورة على الصفحة الرئيسية وأن آلاف الكيلومترات تفصله عن صاحبتها. حينها كل فلاسفة العالم وأنبيائه لا يقنعونها بأنه ليس متزوجا عليها كما تظن.. فقط صورة صديقة عابرة لا غير من الممكن أن تفعل الأفاعيل.
***
(المثقف العربي) ما أن يجلس على كرسي تحرير صحيفة أو مجلة مثلا فسرعان ما تصبح مزرعته السعيدة التي ورثها عن أبيه وأمهِ وسائر أجدادهِ. هو بهذا لا يختلف عن الطاغية العربي بشيء.. طبعا من غير تعميم.
***

(شاعرٌ لم ينل حقه) أصبحت أسمع هذه العبارة كلَّ يومٍ تقريباً من شعراء أصدقاء وشعراء لا أعرفهم حتى.. عن أي حق تتحدثون؟ أنا متنازل عن كل حق.. ثمَّ أنني لا أحيا حياتي كشاعر.. أنا لا أجيد تمثيل دور شاعر وكثيرا ما أهرب من أناسٍ عرفوا بطريقة ما أنني أكتبُ.. ليس بسبب مفاهيم سائدة تجعل من الشاعر مجرد شخص خيالي مريض بالوهم في عالم مادي بل بسبب خجل وراثي.. ويحدثُ كثيراً أن أفرح عندما يرشقني من أتخاصم معه من الأصدقاء بعبارة ( انت شاعر كذابي ومش عارف من وين بتسرق الشعر).. لكن أن تكون عابرا في شارعٍ ما ويتقدم منك رجل ستيني بسعاله وتبغه ويطالبك أن ترتجل شعراً..( بدك تقولي بيت شعر.. مديح.. هجاء.. غزل.. مش عارف شو.. ما بتركك) فذلك هو مأزقي الحقيقي.. أختلق له ألف عذرٍ سدى وأجيبه بأني لست شاعر ارتجال ولست شاعراً شعبياً.. لست زغلول الدامور ولا غيره.. ( عرفت انك شاعر وبدك تكتبلي قصيدة الآن) شو هالعلقة.. كيف أخرج من هذا المأزق؟ حتى لو كان حقي جائزة نوبل فإنني متنازل عنه.( واذا ما أخذت حقي شو رح يصير يعني أو شو رح يتغير بالدنيا؟)
***
أجملُ ما في الجوائز الإبداعية تلكَ التي تأتي بلا انتظار.. وأن تذهب لمن هو خارج توَّقعات الفوز بها، هي لفتة مهمِّة للمبدع البعيد عن دوائر أضوائها الذهبية، ورسالة غامضة أو مفهومة ضمنا لهؤلاء الذين انتظروها بلا جدوى، حتى شارفت أعمارهم على الانطفاء.
***

صوتها وهو يلقي قصائدي كانَ عبق فلسطين وزهورها وأشجارها السماوية وخريفها الملوَّن الذي لم أبرأ من حنيني اليه بعد، جمعَ فلسطين كلُّها في هذه البانوراما الخريفيَّة الشعرية بكل بهاء وضوء وألق منساب.
***

في الزمن الافتراضي من المستحيل تصفية هذه الأطنان من النصوص الفيسبوكية لاستخراج ذرة ذهب شعرية واحدة.. هذا الشيء يشبه البحث عن محارة في محيط، ولأن الفارقَ ما بينَ مبدعي ومدَّعي الفيسبوك هو حرف واحد لا غير، أصبحَ المبدعُ الحقيقيُّ كمن يشكُّ بذائقتهِ.
***
رحيل الروائي والمترجم العراقي المبدع حسين الموزاني وحيداً في منفاهُ البرليني خسارةٌ لا تقاس ودمعةٌ لا تجفُّ، خلال معرفتي القصيرة بهِ كانَ مثالَ المثقَّف الحقيقي الذي لا يعنيه لغوُ الكلام ولا الجدلُ العقيم لفرط انشغالهِ بالبحث عن المعنى الأعمق والأكمل والأنقى للجمال والابداع والكتابة.. كأن لا نصيبَ للمبدعين في هذه الحياةِ سوى القلق الوجودي العظيم والوحشة الأبدية والرحيل في صمتٍ وحزنٍ بعيداً عن ترابِ الوطن الأم.
***

لا أعرف كيف من الممكن أن يكون شاعرٌ له تاريخهُ ومنجزهُ واسمه مجرَّدَ شبِّيح بغيض؟ على أساس أن جوهر الشعر هو الإيمان بالحريَّة والمحبة والجمال والقيم الإنسانية العليا، هل يجد في هذا الخراب السوريالي الجحيمي الكامل الذي يطبقُ على سوريا كلِّها ما يُقنعهُ ك (شاعر) أو ك (مثقف) أو ك (إنسان)؟
***

ليست القصيدة سوى لعنةٍ جميلة، وشاعرٌ لا يرتضي لعنتهُ لا يُعوَّل عليه.
***

هل سأشفى من حبِّ قصائد الشاعر السعودي الكبير علي الدميني؟ لا أظن، قبلَ عشرينَ عاماً تتبعت هذا الشاعر المبدع بأنفاس محبوسة، جذبتني قصيدته بصوتها السحري كما جذبت السيرينات عوليس، منذ قراءتي لشهادتهِ المعنونة ب (لستُ وصيَّا على أحد) في كتاب (أفق التحولات في القصيدة العربية) وقد ضمَّ شهادات شعرية لأبرز الشعراء العرب وذلك في منتصف صيف 2001، كانَ الدميني أحد أجمل آبائي الشعريين وأحد الشعراء الأفذاذ الذين تأثرت بهم، كان صوتهُ قادرا على الاحتفاظ بأصالتهِ ونقائه ونصاعتهِ وألقهِ الأسطوري حتى لو تردَّد في قلبي مئات المرَّات.. وذلك هو الإمتحان الذي يجب على القصيدة أن تجتازه في طريقها للجمال الصرف والمجاز الصافي.. قصيدتهُ انتصار للحب، للحريَّة، للإنسانية، قلبي الآن نجمة مضيئة وليس مجرَّة فحم مطفئة، قلبي نجمة مشتعلة، وشبه ممسوسٍ بغبارِ الجمال الفضيِّ، لأنَّ يد هذا الشاعر المتفرِّد هي التي حملت أحد دواويني برمادِ غواياته السريِّ وبعثرته في وجه الشمس.
***

يتمنَّى الشاعرُ أن لا يتبدَّى له خسرانُ الشِعر المبين في صراعهِ اليوميِّ مع المادة.
***

طريقُ الشِعر محفوفةٌ بطمأنينةِ القلقِ الجميل.
***

قد تمتدُّ يدُ أحدهم لمحو إحدى حبيباتهِ القديمات من على سبُّورةِ ذاكرتهِ.. بعد أن تسوِّل له نفسهُ بنعمةِ النسيان.. ولكن أن يفعل شاعرٌ هذا مع إحدى ملهماته الأثيرات.. فذلك هو يأسُ الشعراء الأعمق.
***

يحدثُ أن يتوقَّف شاعرٌ عن الكتابة أو يكتبَ صمتهُ الأبديَّ البليغَ كما فعلَ رمبو.. وبمنتهى البساطة.. لا من أجلِ شيءٍ وليسَ لأنَّ أحلامه انهارتْ.. أو لأنَّ حبيبةً أو فكرةً هجرتهُ، بل لأنهُ سقطَ في عجزٍ روحيٍّ عن تحويل ما في الحياةِ من أشياءٍ لا تُحصى إلى شِعر.. العجزُ أحياناً موتٌ مجازي، والشاعرُ يشبهُ تلكَ الآلةَ السحريَّةَ التي تحوِّلُ القبحَ إلى جمالٍ والقوَّةَ إلى هشاشةٍ والأرضَ إلى سماء.
***

الأُمُّ والشِعرُ.. هل من المصافاتِ أن يتقاسما نفسَ اليومِ؟
رغمَ كلِّ شيءٍ كانا أجملَ اختصاراتِ الحياةِ، حلمَ البداياتِ وشغفَ المُشتهى.
***

أن أصدرَ ديواناً ولا يُكتب عنه خبرٌ في الصحافة الأدبية أمرٌ طبيعيٌّ جدَّاً بالنسبة لي ولا يزعجني إطلاقاً.. وهو أفضل بمليون مرَّة ممَّا يقعُ فيهِ الكثيرون من سقطات قويَّة.. كأن يكتب أحدهم خبراً عن صدورِ ديوانهِ الجديد واصفاً نفسه ب(الشاعر الكبير).. من المستحيل أن أصدِّقَ شاعراً يصفُ نفسه ب (الشاعر الكبير) حتى لو كانَ بابلو نيرودا ينطقها أمامي، كلمةُ شاعر هذه تشبهُ علاقةً سريَّةً بيني وبين قلبي، لا علاقةَ للآخر بها، وهذا ليسَ تواضعاً ساذجاً بل ثقةٌ مطلقةٌ بقصيدتي.
***








منذ خمس سنوات لم أفقد اللغة كما أفقدها الآن، أو تنكسر رغبتي بالكلامِ من دون سبب، أو لأسباب لا أعرفها، وأستبعدُ أن تكون هذه الفظاعة السريالية التي يعيشها عالمنا العربي، أو نفور نفسي من تضخُّمِ (أنا) البعضِ في فضاءاتِ السوشيال ميديا أو من هذيانات رومانسية مهترئة لا تمتُّ للواقع بصلة، منذ شهرين أحاول كتابة منشور واحد يزيدني قناعةً بجمالِ الحياةِ السريِّ، ولكني كمن يجاهدُ العبثَ حتى في هذا الأمر، كم هو صعبٌ أن تركضَ خلفَ خمسةِ آلاف صديقٍ في هذا المدى المترامي الزرقةِ، مع أنهم كلهم رائعون ويحدون بشكل حيوي من غربتك الوجودية، إلا أنَّ كلَّ هذا الركض الأعمى على حساب صحتك ووقتك وراحة قلبك وعائلتك، ولكن الحياة بكاملِ حالاتِ صعودها ونزولها تحتاجُ إلى هذا التوازن الروحي الإفتراضي الضروري، لا لشيء.. بل كي يستمرَّ خفقانُ الشعلة.
***
العبارةُ السوريةُ الرقيقةُ (دخيل قلبك) تعادلُ كلَّ القصائد في نظري.. لا سيما وأنَّ معناها المجازي هو (أُحبُّ قلبكَ).. أو معنى قريبٌ من هذا المعنى.. هذه العبارةُ تحملُ في طيَّاتها مزاميرَ عشقٍ لا تنتهي، خصوصاً عندما تقولها امرأةٌ لرجل بشكلٍ مباغتٍ ومن دونِ انتظار، عبارةٌ كأنها وردةٌ حمراء أو أمطارٌ حزيرانية تغسلُ غبارَ الظهيرةِ.
***
تابعتُ ردود الفعل التي أثارها اكتشافٌ نادرٌ لظهورِ أيقونة الأدب الفرنسي مارسيل بروست في فيلم زواج يعودُ إلى عام 1904، اندهشتُ أيضاً من إثارة الرأي الأدبي على الساحة العالمية ومن الجدل حولَ هذا الاكتشاف غير المسبوق، وكيفَ أن أستاذاً جامعياً كنديَّاً برتبة بروفيسور متخصِّص بدراسةِ أدب هذا الروائيِّ الفذ هو الذي اكتشفَ بعدَ لأيٍ ومتابعةٍ طويلةٍ اللحظاتِ السريعةَ لنزول الكاتب على درجِ الكنيسةِ التي أقيمَ فيها إحتفال زواج إبنة إحدى دوقات فرنسا والتي تربطها علاقة صداقة ببروست الذي يظهرُ في الفيديو معتمراً قبَّعةً طويلةً وغيرَ متقيِّد بطقوس ومراسيم الاحتفال، وهو المتمرِّد الأبدي على التقاليد الموروثة سواء في الأدب أو المجتمع، طبعاً الكاتب مارسيل بروست على حد قول غراهام غرين هو أعظم روائي في القرن العشرين لإنجازه أضخم عمل روائي في تاريخ الأدب الإنساني على مرِّ العصور، وهو مكوَّن من سباعيتهِ ذائعةِ الصيت (في البحث عن الزمن الضائع) التي ترجمت إلى أغلبِ لغاتِ العالم فضلاً عن العربية، ولكنها تعدُّ من أصعبِ الرواياتِ العالميَّةِ قراءةً على الإطلاقِ، لوعورة وكثافة لغتها وطولها إذ يبلغُ عدد صفحاتها أكثر من أربعة آلاف وثلاثمئة صفحة ويبلغُ عدد شخصياتها أكثر من ألفي شخصية، روايةٌ من مليون ونصف المليون مفردة مزجَ فيها الكاتب المتخيَّل بالواقعي والمجازي بالحقيقي هل هناك من يستطيع أن يتفرَّغ لقراءتها قراءة متبصِّرة الآن؟ ربَّما الذين يقرأون بروست الآن هم رجال الأكاديميا ودارسوه وهذا ما أسرَّهُ لي أحد أساتذة الجامعات ذات مرَّة.. وأضافَ أن كاتباً عبقريا كمرسيل بروست سيبقى عصيَّاً على اكتشافِ عوالمهِ السحريَّة إلى الأبد، حتى لو كلَّفنا عشرات الأساتذة المختصِّين بفك رموز عملهِ الأسطوري الذي كتبهُ من 1909 إلى 1922 مريضاً بالربوِ ولم يكن إلاَّ محاولةً يائسةً بإمساك خيوط الزمن الهارب.
***
لا أفهم مغزى هذه المقارنات والمفاضلات التي ينظِّرُ لها بعض النقَّاد هنا وهناك بين الشعراء، وفي أحيان كثيرة يعقدون مقارنة غريبة عجيبة بينَ شاعرين اثنين يتنافران ويختلفان كلَّ اختلاف ولا تتقاطعُ خيوط تجربتيهما مع بعضها البعض، ناهيك عن أن لكلِّ شاعر عالمهُ السري ولغته الخصوصيَّة جداً، من قال أن شعريَّة المتنبي تشبهُ شعريَّة أبي تمام؟ صحيح أن أبا تمام كانَ بمثابة أستاذٍ للمتنبي ولكن نفس المتنبي الشعري مختلف تماماً عن نفس أستاذهِ وطريقة صياغته أيضا تأخذ منحىً وأسلوباً مغايراً، المتنبي هو شاعرٌ فطرة وسليقة بينما أبو تمام يرتكزُ على صناعةِ قصيدتهِ وتنقيحها حتى ولو أغرق في المجازِ والبديع وشطَّ عن المعنى المراد، كذلك هو الأمر مع الشاعرين الكبيرين الفلسطيني محمود درويش والسوري علي أحمد سعيد أدونيس وإن صرَّح الأخير في أكثر من موقف ولقاء أن درويش يسبحُ في فضاءٍ شعريٍّ قريبٍ من فضائه هو.. ولكن من يقرأ بعمق تجربةَ كلٍّ منهما يعرفُ أنهما شاعران مختلفان ولا تنتمي لغةُ أحدهما إلى لغة الآخر.. مع تأثر بسيط لدرويش بلغة أدونيس الشعرية في بداياته، مع أنني أميل إلى اعتقاد أن لغة درويش الشعريَّة أقرب إلى بساطة وجمال لغة الشاعر العراقي سعدي يوسف منها إلى لغة أدونيس التي ترهقها الفكرة المؤطَّرة والذهنية والهاجس الفلسفي والغموض، وأوافقُ الرأي الذي يقول أن جمالية اللغة الشعرية لدى درويش تتفوَّق في كثير من المواضع على جماليَّة لغة أدونيس الشعريَّة بالرغم من أن القضيَّة تحكمها الأذواق لا أكثر، درويش شاعر موهبة وفطرة كالمتنبي وأدونيس شاعر حدس رؤيوي كأبي تمام له كشوفات وفتوحات غير مسبوقة على مستوى التجريب الشعري، ولكنهُ لا يتقيَّد بنظام عروضي كدوريش الذي تنصاعُ قصيدته لنظام التفعيلة بصورة صارمةٍ وهذا نادراً ما نجدهُ عند أدونيس.
***
لا شيءَ يثيرُ الاشمئزاز أكثر من قراءة كتابات تمجيد المثلية الجنسية والسحاق، أحترم خصوصيات الآخرين وحرياتهم الشخصية ولكن الأمر غيرُ سويٍّ ولا منطقي بنظري، أقرأ عشرات التعليقات والردود بل ربما المئات منها ولا أدلي برأيي الشخصي وكأنَّ الأمر لا يعنيني، أبقى صامتاً كصخرةٍ، لا أريد أن أقتنع بهذه الجدالات التي تدخلني في دوار سريعٍ وغضب روحي، لا قوانين في الطبيعة تقبل هذه الفكرة التي لا تعادلَ فيها، أسألُ نفسي كيف ولماذا يدافعُ الآخرون عن هذا الخطأ / الخطيئة التي أرفضها من منطلق جسدي قبل أن يكون ديني أو عقائدي، كيفَ يتزَّوجُ رجلٌ برجلٍ وامرأةٌ بامرأةٍ فيما كلاهما خلقا لكي يكمِّل أحدهما نقصان الآخر في الحياة، من الممكن جدا أن أختلف مع الكثيرين حول هذا الموضوع ولكنني لن أندم على رأي أو قناعةٍ ما دمتُ مستسلما للفطرة القرويَّة الجميلة.
***
لا أعرف إن كانت هذه القصائد التي أنشرها تباعاً هي ذاتها التي أردتُ كتابتها فعلا.. لا أدري.. ولكن أحيانا أمتلئُ بالشعر ولا أكتبهُ.. أكونُ ربما في ظرف غير مناسب أو بعيداً عن القلمِ والورقة أو عن حاسوبي الشخصي.. ربما تكون قصائدي المنسيَّة أجمل بكثير من تلك المكتوبة والمنشورة ولكنني لا أحفظها.. أحيانا تتشكَّلُ القصيدة نهاراً وتأخذ شكل قصيدة النثر وعندما أجلسُ لأكتبها في الليلِ أجدها تلبَّست لبوس التفعيلة من غير قصد وجعلت تركضُ كالغزالةِ خلف فكرة القصيدةِ النثرية التي تشكَّلت في النهارِ كغيمة.. لا شكل للقصيدة.. القصيدةُ هيَ التي تشكِّلُ نفسها بنفسها وتتكوَّرُ كنهدٍ صغير.. كقبلةٍ على طرفِ فمِ امرأة.. هيَ التي تبدأُ كهبوبِ نسيمِ الحُب.
***





(11)

قوسُ قزحٍ على جبلِ الكرملِ









بين نجوميَّةِ الشاعر وأهميَّتهِ


في الآونة الأخيرة لفت انتباهي جدلٌ حول مسألة أهميَّة المبدع ودور الإعلام والنقد ودور المؤسسات الثقافية وغير الثقافية في تلميع إسمه وصورته وصنع هاله من النجوميَّة حوله، مع وجود فرق شاسع بين النجومية وبين الأهمية، فهناك شعراء عظام لم يكونوا نجوماً بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة، عاشوا حياتهم بكل خيباتها وانكساراتها على الهامش، الشعريات العالمية المختلفة تشهد على ذلك ومنها الفرنسية والانجليزية.. لوتريامون..بودلير.. نرفال.. رمبو.. ادغار ألن بو.. ديلان توماس.. شيلي.. ووردزورث.. والقائمة طويلة جدا.. عندنا هناك مثال على ذلك في الشعرية العربية ينطبق على تجربتي نزار قباني وبدر شاكر السيَّاب.. نزار نجم شعري كبير ومتوهِّج.. السياب شاعر مهمٌّ وعابر للزمن.. هنا لا نقلِّل من قيمة نزار ولكن السياب شعريَّا بنظري ربما يكون أهمَّ من كلِّ مجايليهِ بما فيهم نزار، وتحديداً في مرحلة صعود قصيدةِ التفعيلة، وإن افتقرت حياتهُ إلى هالة النجوميَّة تلك، من الممكن أن لا يتفق معي الكثير من النقاد في رأيي ولكن في حينهِ كانَ السيَّاب الشاعر الذي اخترع لغةً مائيَّةً بالغةَ الخصوصيَّة تستندُ على الرومانسية الواقعية من جهةٍ وعلى نزوع إلى التعبير عن خلجات النفس بلغة جديدة ومختلفة، فيها نفس وجودي متدفق من جهةٍ أخرى، هو بكلِّ بساطة ورغم قصر حياته حاولَ اجتراح آفاق مجازية تعبِّر شعريَّا عن حالةِ القلق التي كان يعاني منها الشاعر العربي الحديث، مع أن عمر السياب الشعري لم يتعدَ العشرين سنة.. وامتد عمر نزار الشعري الى ما فوق خمسين سنة فكرَّرَ نفسه في قصائد لا تحصى، السياب توهَّج وانطفأ سريعاً ولكنه ترك بصمةً لا تُمحى وغيَّر مجرى القصيدة العربيَّة إلى الأبد، بينما كانَ نزار شاعر حب جميل ولغة شفافة عذبة تدغدغُ القلوب رغم أنه لم يترك أثراً عميقاً في الشعريَّة العربية كأدونيس مثلاً، أو محمود درويش أو سعدي يوسف، يبقى واحداً من أجمل عشرة شعراء عرب على مر العصور.
***

الشاعر محمد بنطلحة


وأنا أبحث عن صفحة الشاعر المغربي الكبير الصديق محمد بنطلحة على فيسبوك أجدهُ يبعثُ لي طلبَ صداقة وبعد ذلك يردُّ على تحيَّتي برسالةِ محبة هي من أجمل وأرقى وأبهى الرسائل التي تلقيتها من شاعر أحبُّهُ وأحترم منجزهُ الأدبي المدهش، نعم أحبُّ هذا الشاعر المختلف والحائز على جوائز شعريَّة عربيَّة وعالميَّة كثيرة منها جائزة الأركانة، وأُحبُّ قصائدهُ الانعطافيَّة البلوريَّة التي تشكِّلُ جسراً بين الشعرية العربيَّة والشعريَّة العالميَّة لأنها تشبهُ بصفائها المرآة الروحيَّة لكل من يقرأها ولأنها على مستوى عالٍ من الأناقة التعبيريَّة والصدق الفني والتجريب الشجاع ولأن الصديق العزيز محمد يمتلكُ من الشفافية والأصالة والنبل وقيم المحبة والموهبة الحقيقيَّة ما لا نجدهُ عند الكثير من أقرانهِ الشعراء، ما يخوِّلهُ إلى أن يُعتبر في نظر النقد العميق والجاد أحد أجمل الأصوات الشعريَّة العربيَّة الراهنة التي تحتلُ مكانةً محترمةً على ساحة الشعر في العالم والتي تعملُ على مشروع شعري مهم بصمت وهدوء وبلغة شديدة الخصوصية والتميُّز، شاعرَ قلبي محمد أستعيرُ منكَ ما قلتهُ أنتَ...
دعْ لي يا نديمي
جوربَ الدفلى
وشِسْعَ الأرغن الحجريِّ
أو عرِّج على آثار ضرب الخطِّ في سبأ
فإن سريرةَ الممحاةِ معراجي
وإن دمي غريمي.
***

حالةُ نرفانا

حالةُ النرفانا التي قلَّ نظيرها والتي رأيتها بأمِّ عيني في مساء الأحد الخامس عشر من يوليو عام ٢٠٠٧ تؤكِّد أن هذا الرجل الوسيم ذا المسحة الطفولية الحزينة والكبرياء الرومانسي الآسر شخصٌ غير عادي أبداً، كان يبعد عني بضع قبلات ولكنني لم أستطع أن أخلِّص نفسي من مزاحمة الآلاف لاحتضانهِ، كانَ نجماً شعريَّاً بكلِّ ما تنطوي عليه هذه الكلمة من معانٍ ودلالات، أمسيتهُ النادرة تلك حقَّقت تآلفاً وطنيَّاً حميماُ وإن بشكل مؤقت، مع الاستئثار الرسمي لجهة معيَّنة بالحدث والأضواء، كيفَ استطاعَ درويش جمع كل ألوان الطيف الفلسطيني في قوس قزحٍ يستندُ على جبلِ الكرملِ الأشم؟ كيفَ وحَّدَ تيارات السياسة والأدب المختلفة والمتضاربة تحت سقف واحد في أمسيته الرائعة تلك؟ سرعان ما انتهت النرفانا الشعريَّة وغاب الشاعر في الدهليز العميق بلمح البصر كقمرٍ مصابٍ بالعشق، ذلك الكائنُ الأسطوريُّ المسمَّى محمود درويش كان محاطاً بوهجِ محبَّةٍ يضيءُ القلوب إلى الأبد.
للذين يقولون أن المغني اللبناني مارسيل خليفة كانت له يدٌّ ما في صناعةِ نجوميَّة درويش الشعريَّة أقول أن مارسيل خليفة لا علاقة له بأهمية محمود درويش ودراسات كنفاني وغيرهِ لأدب المقاومة الفلسطيني في بدايات درويش لم يكن لها أهمية تذكر أيضاً في مسيرته آنذاك.. أهميةُ شاعر مثل درويش تستندُ على قوة تجربته وموهبته وكاريزماه الشخصية وقصيدته، الإعلام لا يصنع شاعراً ولكن درويش استفاد من قضيَّة وطنه وعرفَ كيفَ يوظِّفها مجازيَّاً وبأبعاد إنسانيَّة جميلة وراقية في قصيدتهِ، وكان يجدِّد ذاته الشعرية وينقلبُ عليها بعد كل ديوان.. شعره الكوني الانساني أهمُّ بمليون مرة من شعره المقاوم وهذا الشيء جعل طبقة كبيرة من مثقفي اليهود في اسرائيل تقرأهُ بكلِّ إعجاب بقيمته الشعرية الإنسانية الكبيرة، أحمد شوقي والبياتي وقباني والسياب كُتبت عنهم رسائل أكاديمية كثيرة ولا تحصى ولكن هل هناك دراسات جديدة عن البياتي وقباني مثلا؟ محمود كانت شعريته أعمق وأبعد أثراً لذلك فهي ستعيش أكثر وستدعمها الدراسات الأكاديميَّة وستضيء جوانبها، لذلك هو برأيي الشخصي يعدُّ الشاعر الثاني بعد المتنبي من حيث الأهميَّة في الشعر العربي كلِّه، وربما تكون شاعريَّة أحمد شوقي بينهما، فامتلاك درويش الموهبة الفذة وكل مقوِّمات الشهرة والنجومية كشاعر ساعدَ في تكريسِ شاعريَّته لحراسةِ حلم فلسطين وفي أن يصبح آخر الشعراء الإنسانيِّين العظام، هو شاعرٌ آمن بحلمه منذ البداية فتحقق، وتحقَّف كما يريدُ هو، لا سواهُ وكفى.
***


شعراء الفضاءِ الأزرق


لا أكاد أُحصي عدد الشعراء والكتَّاب على مواقع التواصل الاجتماعي، أن تُحصي عددهم فتلك مهمَّة مستحيلة كأن تعد ذرَّات رمل في صحراء شاسعة أو تحصي محاراً في محيط متلاطم، المشكلة الحقيقيَّة في المواقع الاجتماعيَّة أنها ساهمت ولو بصورة غير مباشرة بتضخِّم الأنا الوهميَّة حتى حدود الغرور لدى الكثير من الشعراء والكتَّاب، فنادراً ما تجدُ شاعراً أو كاتباً يقرأُ لزميلهِ قراءة متبصِّرة أو متأنيَّة بهدف معرفة الآخر وتتبُّع خيوط تجربته الكتابية والوقوف على منابعها الحقيقيَّة، ربما يكونُ الانغلاق على الذات السمة الغالبة التي لا أستطيع استبعادها من تفكيري وأنا أتابع صفحات أصدقائي على مواقع السوشيال ميديا، هذه السمة هي التي تؤدي في النهاية إلى القطيعة الشخصيَّة وحتى إلى العداء الصريح.
***

رائحةُ أيلول


لأيلول رائحةٌ تشبهُ غموضَ رائحةِ الحُب، هو من أجملِ الأشياءِ التي يصعبُ تفكيكها، أجملُ القصائد هي تلك التي تولدُ في أيلول، هناكَ براعمُ غير مرئيَّةٍ في الهواء الطلق، هناك نسيمٌ أنثويٌّ يغسلُ الصباحاتِ والعشيَّاتِ بمرورهِ العذب الأنيق، أيلولُ أرجوحةُ الشهور، عاشقٌ تغرَّبَ في صحراء الكناية، امرأةٌ تحلُّ ضفيرتها على مرأى خضرةِ الزيتون، لو لم يكن أيلول في الأرض لاخترعته خيالات الشعراء.
***

صداقةٌ افتراضيَّة


أن يكون لديك 5000 صديق على أحد مواقع السوشيال ميديا أغلبهم من خارج فلسطين، ليس معناه أنك سوبر ستار وهمي أو نجم افتراضي أو فقاعة شخصيَّة تظنُّ نفسها مهمَّة في أحد المجالات التي تحبُّها، فالكتابة على الحائط الأزرق مجانية إلى حد السخافة وتشبه الحرث في البحر، والصداقات الافتراضية بقدر ما تبدِّد العزلة والوحدة فإنها تكرِّسها وتعمِّقُ هوَّتها مع الزمن، للصداقة في هذه الفضاءات وجهان، ظاهرٌ يريك الابتسامة والتودُّد والجمال الإنساني، وخفيٌّ متجهِّم موغل في الأنانية والازدواجية والخصومة، صداقتك التي بنيتها خلال خمس أو ست سنوات مع الآخر من الوارد جدا أن تنتهي بضغطة زر واحدة وفي أي وقت يشاء الطرف الآخر.. فكيانك محكوم بمزاجيتهِ ونرجسيتهِ الافتراضيَّتين.. وإلا فما معنى أن تنتهي صداقةُ من كان من أقرب أصدقائك إليك ولا يمرُّ يوم أو يومان إلا ويكلِّمك؟ وما معنى أن تؤدِّي كلمة تودِّد واحدة إلى محو علاقةٍ استمرَّت لأكثر من خمس سنوات مبنيَّةً على الثقة والعفويَّة والصدق، حافرةً في التفاصيل الإنسانية البريئة والصغيرة جدَّاً، من دون أن تلتفت لحظةً واحدةً لصوت الرغبة أو لفحيح النزواتِ العابرة؟
***


(صبرا فتاةٌ نائمة)


(كانت ليلةً غريبةً جداً وهادئةً، كانت السماءُ مضاءةً بالقنابل الضوئية وكأن المخيَّم تحوَّل إلى مدينة أشباح، لم ندرك حينها أن مجزرة من أفظع مجازر التاريخ البشري الحديث تُرتكب هناك، عندما شاهدنا الذي حصل لم نكن لنصدِّق أعيننا) كانَ هذا مقطعاً من شهادة أحد الصحفيين الأجانب عن مجزرة صبرا وشاتيلا التي حصلت في السادس عشر من سبتمبر عام 1982.
ولكنك عندما تستذكر تاريخ مجزرة رهيبة كمجزرة صبرا وشاتيلا في ذكراها الخامسةِ والثلاثين فإنك تنسى أسبابها ولا تفكِّر بكلِّ تلك الحيثيات السياسيَّة والتفاصيل الدقيقة، لا تعنيك الوثائقيات التي شاهدتها أكثر من مرَّة على يوتيوب ولا النصوص الأدبيَّة التي خلدَّت قسوةَ الإنسان على أخيه الإنسان وفظاعة الانتقام ووحشيته، لا تتمثَّلُ شيئاً الآن يعيدُ ذاكرتك إلى رمل ذلك المخيَّم المسربل بالدماء، لأنك فقط تريدُ أن تحتفظ برائحة لبنان البحريَّة في نفسك، لبنان وطن الجمال الذي لم يكن يعني لك شيئا سوى الرحابنة وفيروز وجبران والشعراء الذين فُتنتَ بهم، وصوت زغلول الدامور المعجون بالآس، وغنج النساء الساحرات، ولأنك تعرف أن هناك أسراراً مخفيَّة رهيبةً ما زالت طيَّ الكتمان حول هذه النقطة السوداء في تاريخ لبنان الحديث، ما الذي سيعيد توازنَ روحك أمام هذا الخراب الإنسانيِّ الصاعق.. لا شيء.. فأجملُ القصائد لو اختبرتها حتماً ستنطفئ أمام فوضوية الموت ومجانيَّة الفظاعة والوحشيَّة، كم حياةً نحتاجُ حتى ننسى صبرا وشاتيلا ونحنُ نصرخ بملء أرواحنا: لماذا؟!
***

خذ من تحبُّك

قلتُ في إحدى قصائدي (قيلَ لي في قرىً في شمالِ فلسطينَ
خذْ من تُحبُّكَ لا من تُحبّْ) وهذا مجرَّد قولٍ نقلتهُ إلى قصيدتي كما هو بعدَ أن سمعتهُ خلال نقاشٍ رجلين حولَ علاقةِ الرجلِ بالمرأة، لاحظتُ بعد نشري القصيدة تفاوت وجهات النظر واختلاف بعض النساء عليها وامتعاضهن منها ولهنَّ الحقُّ في ذلك، مع أني على الصعيدِ الشخصيِّ لا أقفُ ضدَّ فكرةٍ محدَّدةٍ مسبقةٍ كما أقفُ أمامَ سذاجةِ هذهِ الفكرة التي تبدو لي عمياء، أو خاليةً من المنطق.. إذ كيفَ يتزوَّجُ الرجلُ من لا يحب؟ كم من الساديَّةِ تدخلُ في تجربةِ الحبِّ التي من طرفٍ واحدٍ؟ والأنكى من ذلك أن أسمع أحد اصدقائي المثقفين يبرِّرُ لي هذه الفكرة دائماً بقولهِ: أن تحبَّكَ امرأتك خيرٌ من أن تحبَّها أنتَ فتستغلُّ هذا الحبَّ المفرط لتحقيقِ رغباتها ومطالبها.. أن تحبك فمعناهُ أنها ستتنازلُ عن أنانيَّتها وتتعلَّقُ بك إلى الأبد.. وكأنَّ المرأةَ كائنٌ قُدِّرَ له أن يبذلَ ويخلصَ ويحبَّ ويضحِّي من غيرِ انتظار مقابلِ، وفي هذا استحالةٌ لا يقبلها عقلٌ ولا يرضاها قلب، أيُّها الرجل تزوَّج من تحبُّها.. من تحبُّها بقوَّةٍ ودعكَ من خرافاتِ التقاليدِ البالية.
***

(12)

عن الشِعرِ والأنوثةِ وأوَّلِ المطر





حكي عالماشي


لمن نكتبُ الشِعر وننشرهُ ونطبعهُ بعدَ ذلكَ في دواوين أنيقةٍ في زمنٍ لا تجدُ أحداً يسأل عنه.. أو يسعى لقرائته وشراءِ الدواوين الشعريَّة سوى نخبة النخبة أو الشعراء أنفسهم؟ أمسِ صباحا كنت في مدينة شفاعمرو أقرب المدن في الداخل الفلسطيني إلى قلبي وقريتي، التقيت هناك بأصدقاء مثقفين أعتز بهم.. قمت بإهدائهم نسخاً من دواوين شعريَّة لي كانت معي في حقيبة تلازمني أحياناً عندما أزور بين الفينة والأخرى مدناً فلسطينيةً كحيفا أو الناصرة أو يافا أو جنين أو نابلس وغيرها.. أزور المكتبة البلدية وأتركُ عدةَ نسخٍ من هذا الديوان او ذاك، لتكون هناك وللتخفُّفِ من وجعٍ وجوديٍّ في داخلي لصراخ هذه الكتب المركونة في بيتي منذ سنوات، البارحة صدمني أحدُ الأصدقاء بوابل من أسألة وجودية.. لماذا توزِّع ولا أحد يقرأ؟ ولماذا لا تبحث عمَّن يدعمك.. معنويا.. ماديا؟ مركز ثقافي؟ مؤسسة ثقافية ربحيَّة تشتري منك الكتابَ ولو بربعِ أو حتى خمسِ سعرهِ؟ وما الذي تنتظرهُ من هذا الأمر؟ أليسَ الأجدى أن توفِّر تعبكَ ومالك وتستثمرهما في أشياء أكثر أهميَّةً وجدوى مشيراً إلى إرسالي لكتبي عبر البريد الأرضي والجوِّي لأصدقاء ومكتبات في البلاد وخارجها؟ كانَ يتكلَّم بحرقة ولأنه مقرَّب مني ويعرف أنني لستُ مليونيراً؟ وأمارس أحيانا أعمالا شاقةً لأعتاش.. أوضحتُ له أن الكتابةَ لديَّ إيمانٌ طفوليٌّ ممزوجٌ بتسليةٍ عبثيَّة لا أستغني عنها.. فيها أجدُ معنىً لحياتي ولا أنظرُ إليها على أنها خسارةٌ مطلقةٌ، أعطاني في النهاية رقم أحد الأشخاص وقال لي أنه بائع كتبٍ لمكتباتِ المدارس والمدن والقرى، عندما هاتفتهُ في المساء وطرحت عليه الفكرةَ أصبحَ يصرخُ ويولولُ كالمجانين ويقول لي: (كل شي ولا كتب الشعر والأدب.. مش مستعد أشتريها ولو بقرش أصفر.. وما تسألني ليش؟!)

***

نيكوتين إلكتروني


أن يصيب خلل ما حاسوبك الشخصي وتستيقظ صباحا مكتفيا بالهاتف الخلوي الذي لا تستسيغ أستعماله فيسبوكيا وبك كل عطش الدنيا للنيكوتين الالكتروني.. دليل قاطع على تحولنا لكائنات افتراضية طائرة.. واختبار نفسي لذيذ يؤكد التواشج الحميم الجميل في العلاقة والتعلق بالآخر.
***

لغةُ الفيسبوك

يستعمل بعض الأصدقاء والصديقات لغةً جارحة.. قاسية.. عارية تصلُ أحيانا حد الشتيمة الشخصية وهم يعبرون عن امتعاضهم من تجاهل أصدقائهم لمنشوراتهم وصورهم على مواقع السوشيال ميديا وعدم تفاعلهم بتاتا مع وجودهم فيها.. مع أن هذا غباء أو شيء قريب منه.. تماما كالاحتفاء بأصدقاء افتراضيِّين لم تحظ منهم ولو بلفتة واحدة عبر خمس سنين.
***

أوَّلُ المطر


منذ الصباحِ والمطرُ الأوَّلُ يهطلُ، حيناً بغزارةٍ وحيناً آخر برذاذٍ خفيفٍ، كم أُحبُّ المطرَ الأوَّلَ أو أوَّلَ المطر والذي نسمِّيهِ (الوسميَّ).. لم أهدأ اليوم.. لأكثر من ساعتين وأنا أتأملُّهُ بعينيْ عاشق، أمُدُّ يدي من نافذة غرفتي وأشمُّ رائحتهُ النهارية.. تلكَ الرائحة المعجونة بخميرة أزهار بريَّة، والتي تحملُ شيئاً من رائحةِ السماء، وشيئاً من رائحةِ غبارِ الأرضِ، وأشياءَ لا تحصى من الأحاسيس الجميلةِ والذكريات، أُبلِّلُ قلبي بمطر تشرين.. أتقافزُ تحتهُ كالقطِّ الصغير، لا أعرفُ ما هو تشرين، أقربُ الشهورِ إلى روحي التي وُلدت مساءَ أربعاءٍ فيهِ،وحملتْ بعض غموضهِ وبرودة شمسهِ وشغفَ نهاراتهِ بالجمال، تشرينُ قصيدةٌ غامضةٌ نقرأها مئات المرَّات وفي كلِّ مرَّةٍ نكتشفُ فيها شيئاً مغايراً أو مختلفاً عمَّا وجدناهُ في قراءاتنا السابقة، تشرين هو مهدُ الشعراءِ المصنوعُ من قطنِ الغيمِ ومن براءةِ الينابيعِ الصغيرةِ، تشرينُ يدُ امرأةٍ من الجليلِ موشومةٍ بالحنَّاء.. خصرُ فتاةٍ أهيف.. روحُ شاعرٍ منسيٍّ.. قصائدُ ضاعتْ في مهبِّ رياحِ الخريف، لا أعرفُ ما هو تشرين.
***

فرادةُ حسين القهواجي


أكتبُ وأبحثُ عن الحقيقيِّين في الواقع وفي العوالم الإفتراضيَّة.. أكتبُ وأشطبُ، أكتبُ وأنسى.. أكتبُ وأرمي في سلَّةِ المهملاتِ.. أبحثُ عن كلِّ شيءٍ يعيدُ توازنَ روحي إليَّ، عن كلِّ شيءٍ يضيءُ روحي ولو كانَ بحجمِ ذرَّة رملٍ أو نقطةِ ماء، أبحثُ وأفشل ولكن كيف لم أعثر على إنسان كحسين القهواجي الشاعر والكاتب التونسي الذي غادر عالمنا قبل أيَّام؟ كانَ حسين القهواجي ذاكرةَ القيروان المشعَّة وحارس قلبها وأحلامها، وأحد أصفى منابعِ البراءةِ والدهشةِ في الشعر العربي الحديث، مثقَّف جوَّال بروح فراشة أو نجمةٍ أو شجرة، تركَ شيئاً من شغفهِ في آجُّرِ أعمدةِ القيروان ومبانيها العتيقةِ، في وهجِ صلصالها وفضاءاتها الانهائيَّةِ، كم تركَ حسين في داخلي من يقين بالشِعرِ وبالفنِ وبحبِّ الجمالِ حتى ولو كانَ بعيداً وعصيَّ المنال، تنفَّسَ حسين عبر النثرِ الشعريِّ العفويِّ الممسوسِ بالصدق واللهفة وتركَ واءهُ عدَّة دواوين هي بنظري من أصدق تجارب قصيدة النثر التونسيَّة، نذكرُ من أعماله «غراب النبوءات»، «باب الجلادين»، «كمان البيت وشمعدانه»، «أحفاد سقراط وصلوا قرطاجة»، «فجر من وراء الزيتون ينهض».
رثاهُ الكاتب أنيس الشعبوني رثاءً رقيقاً صادقاً حيث قالَ عنهُ ( حسين القهواجي كان يعتبر نفسه حارساً للمدينة (القيروان) ولروحها كأنّه أحد أوليائها الصالحين، وقد أحبه كل الذين زاروا القيروان لشاعريته المفرطة وعمق إلمامه بتاريخ المدينة).
***


الشِعرُ في عُهدةِ الأنوثة


قرأنا في كتب التراث والأدب الجاهليِّ كيفَ أن كلَّ شاعرٍ كبير كانَ يتخذُّ راويةً لهُ، والراويةُ هو شاعر مفترض أو مشروع شاعرٍ مستقبلي مهمتهُ إلقاء قصائد ذلك الشاعر والتي يحفظها عن ظهرِ قلبٍ في المحافلِ والأندية، كانَ بمثابة جهة إعلامية تساعد على انتشار وسيرورة شِعر من يروي لهُ، والشعراء جميعاً، هم في أول أمرهم بالشعر رواة شعر، ولا يكون الشاعر منهم شاعراً حتى يحفظ الشعر ويرويه، لانَّ الحفظ يساعده على قول الشعر ونظمه فيما بعد، ويكون تمرينناً أوليَّاً له، فأكثر شعراء العرب في الجاهليَّة وصدرِ الإسلامِ هم رواة في الاصل، حفظوا من الشعر ما ساعدهم على النظم، يضاف اليه موهبة الشاعر وسليقته فيه. وقد يقال إن الشاعر الراوية أمكن في الشعر وأقدر عليه من الشاعر، الذي لا يروي من الشعر الا نزراً يسيراً، أو لا يحفظ منه شيئاً، لأن الشاعر الراوية يتعلم من فنون الأقدمين ومن خبرتهم وتجاربهم في النظم ما يخفى على من ليس له علم سابق بهِ.
وقد ذكر أهل الأخبار أسماء عدد من شعراء الجاهلية في قول الشعر بروايته وحفظه، ثم صاروا من أكابر الشعراء فيما بعد، نذكر منهم زهير بن ابي سلمى، فقد بدأ حياته في الشعر راويةً لشعر "أوس بن حجر"، وكان أوس راوية الطفيل الغنوي وتلميذه. ومنهم "كعب بن زهير بن ابي سلمى"، فقد كان راويةً لوالدهِ، ثم "الحطيئة"، فقد بدأ الشعر براوية شعر "زهير" وآل زهير. وكان "زهير" راويةَ "طفيل" الغنوي أيضاً، وكان "أمرؤ القيس" راوية "أبي دواد" الإيادي، وكان الأعشى راوية لشعر "المسيَّب بن علس"، والمسيَّب خال الأعشى.
ولا نكاد نجد شاعراً لم يحفظ شعرَ غيره من الشعراء المتقدمين عليه، أو من المعاصرين له، ولا يكون شاعراً فحلاً في الشعر، إلا إذا حفظ من شعر غيره من الشعراء الفحول، فحفظ الشعر يدربُّهُ ويقوِّيهِ على نظمهِ، وكذلك كان أمرُ الشعراء الجاهليِّين، ويؤيد هذا الرأي ما نجدهُ في الأخبار من حفظ الشعراء شعر غيرهم، ومن مناقشتهم للشعراء في شعرهم، مما يدلُّ بالطبع على حفظهم له.
ما جرَّني لكتابة هذا التعريفِ برواةِ الشعر القدماء ظاهرة فيسبوكيَّة إستوقفتني موخرَّاً بشيءٍ من الحيرةِ والإستغراب، بعدما اكتشفتُ أن إحدى الصديقات احتفتْ بأحد نصوصي الشعريَّة قبل ما يقارب العام، حيث حصل ذلك النصُّ المنشور في صفحتها على 249 لايك و94 تعليق.. بينما لم يحظَ بصفحةِ كاتبهِ على عُشرِ هذا العدد من اللايكاتِ.. وبلا أيِّ تعليقٍ، مع الإشارةِ إلى أن عدد أصدقاء صفحتهِ يشكِّلُ أضعافاً مضاعفةً لعدد أصدقاءِ صفحةِ الصديقةِ التي نشرت القصيدة، هنا ينبثقُ السؤال الملِّح والأبديُّ.. هل على الشاعر أن يتخِّذَ من المرأة راويةً على طرازٍ حديثٍ لشعرهِ كي توصلهُ إلى حدودٍ تُرضي نرجسيَّته الشعريَّة؟ هل عليهِ أن يعلِّقَ قصائدهُ على حبالِ الأنوثةِ والجمالِ لكي يقرأها الآخرون في زمنِ متاهاتِ الرياءِ والمجاملات والنفاقِ الاجتماعيِّ؟
***

طعمُ الشغف


وأنا في الطريقِ للقاء الشاعر الفلسطينيِّ الصديق المقيم في الجليل الفلسطيني عبد المحسن نعامنة كنت أفكِّرُ بصدر بيت المتنبي (على قلقٍ كأنَّ الريحَ تحتي) وأحاولُ تحويرهُ ليصبحَ (على شوقٍ كأنَ الريحَ تحتي) ذلكَ أن صداقتنا الافتراضيَّة طالتْ وصارً يجبُ على أن نضفي عليها جمال اللمسة الواقعيَّة ونستبدلَ المجازَ بالحقيقة، فكثيرا ما محضني هذا المبدع الأصيل محبته الصافية عبر منشورات تدلُّ على إعجابه ببعض ما أنثرهُ في الفضاءات الزرقاء وكنتُ كلَّما رأيتُ ما خطَّت أناملهُ من وفاءٍ يتلبَّسُ لبوس الكلمات أقولُ في سرِّي: شكرا لقلبك صديقي على هداياك الجميلة والمدهشةِ.. نادراً ما أصادف رجالاً بمثل شفافيَّتك وبساطة روحك وأناقتها حتى وأنت في خضمِّ العمل الشاقِّ الذي تمارسهُ لتعتاشَ.. أتذكَّرُ حينَ قلت لي ذات يومٍ أيها العزيز بأنَّ القصيدةَ هي كلمة نقولها ونمضي.. شجرةٌ نزرعها لآخرين.. وأنا أوافقك وأثق بك.. بصداقتك الحقيقيَّة القريبة من الحبِّ ونبلِ الصدق.. كلِّي فرحٌ غامرٌ بما أقرأ لك من أدبٍ يدلُّ على روح مثقفة متوثبة ثائرة وحالمة بالحرية.. أحسُّ بروحك الوثابة في كل جملةٍ، أحسُّ بثورة روحك كجمرٍ تحت الرماد يعانقُ الريحَ الخضراء، صداقتنا باقية وستكتملُ وقد كان يجب أن نحوِّلَ الافتراضَ الى واقع منذ زمن.. بعد انتظار خمس سنوات ونصف.. سأقولُ بأنني أنتمي إليك.. إلى هذه الطبقة المقدَّسةِ التي تأكل خبزها المغمَّس بعرق الجبين.. وهي تضحكُ في وجهِ عذاباتِ الحياة بعذوبةِ الأنهار.. قابلتُ في حياتي مئات الأدباء والشعراء ولكن لقائي المرتجل بك على عجل كان استثنائيا ومميَّزاً.. كان الشغفُ الصافي يحملني.. يفكِّرُ عني.. يحرِّكني كأوراقِ شجرِ الخريفِ في تلكَ الظهيرةِ الغامضةِ، ليس لأنك من نفس الجيل الذي أنتمي اليهِ شعريَّاً وعمريَّاً فحسب، ولا لأن أفكارنا السياسية تتوافق.. ولا لأن الأرواح جنود مجنَّدة فما تعارف منها ائتلف وما تنافر اختلف.. بل لأسباب عديدة.. لا أجد المجاز المناسب الذي يشرحها الآن، ولكن سأفسِّرها بالقصائد ذات يومٍ، وأنا الذي كثيراً ما طلبتُ منك أن تكرِّس نفسك للكتابة وتحرص على كل حرف وتحميه من الضياع.. أن تكملَ نقصانَ هؤلاء الشعراء المنسيِّين، وأن تلتفت الى نبض قلبك والى هذه الرسالة التي نمهر حياتنا لها.. من غير انتظار مقابل.. فالشعر هو مجاز حياتنا المجرد.. هو هامش يتأرجح بين المتن والحقيقة.. هو أحدُ أجمل وأعلى وأكملِ تجلياتنا.
***


قصيدةٌ بلا أيديولوجيا


يتهمُّ البعضُ قصيدتي بأنها قصيدة بلا أيديولوجيا أو أنها خالية من موقف فكري سياسي محدَّد، لا أعرف أيَّة أيديولوجيا يريدون مني أن ألبسها لقصيدة ترقص حرَّة وشبه عارية تحت المطر وفي الهواء الطلق؟ الأيديولوجيا بنظري تختلف اختلافاً جذريَّاً وقاطعاً عن مفاهيم سائدة وبالية لا أعتبرها تدخل في صلب ما تعنيه لي هذه الأيديولوجيا ولا تبلور رأياً نقديَّاً بحتاً وموضوعيَّاً بالنسبة لكتابتي الشعريَّة، فقصيدتي ليست دفاعاً عن فكرة سياسيَّة أو دينيَّة أو قوميَّة.. بقدر ما هي لمسةٌ شغفيَّة وبعدٌ إنسانيٌّ وخربشةٌ بريئةٌ على الماء، مجازُ القصيدة هو فضاءُ حريِّتها.. لذلك فهي دائماً مع الخاسر والضحيَّة على حدِّ قول الرائي الإسباني العظيم فيدريكو غارسيا لوركا، سبقَ وعبرَّتُ بنصوص كثيرة عن الخراب الهائل الناتج عن الخريف العربي وخسرتُ أصدقاءً رائعين ولكنني كنتُ مرتاحاً لأنَّني نطقت بكلماتٍ كانت روحي تغصُّ بها، سألني مرةً صديق: مع من قصيدتك؟ فأجبتهُ: مع تشي جيفارا، مع الحريَّة الخاسرة، مع لثغة طفلةٍ في الخامسة، مع نقشِ حنَّاءٍ على يدِ امرأةٍ فلَّاحةٍ، قصيدتي هي فرحي وحزني وغضبي وحُبِّي واكتمالي ونقصاني، أيدولوجيا قصيدتي الحقيقيَّة هي إعتناقُ الجمالِ كما هو بدون رتوش إضافيَّة، ورفضُ مرايا التاريخ الأسود.. هي محاولة للقفز عن كوابيس حصلت في أمكنةٍ ما في هذه الأرض.. كوابيس أحاولُ نسيانها ورفضها منذُ حروبِ البشريَّةِ الأولى إلى ما يجري الآن في سوريا واليمن والعراق وغيرها.
***

ظهيرة ورديَّة


في مدينةِ جنين في شمالِ قلبِ فلسطين تحسُّ بطيبةِ وكرمِ وأناقةِ روحِ الشعبِ الفلسطينيِّ وأصالتها.. في جنين والقدس وغزَّة ورام الله ونابلس وغيرها من مدنِ الضفَّة الغربيَّة.. تشعرُ بانتمائكِ الروحي لهذا الشعبِّ العظيم بالرغم من الحواجز الوهميَّة.. أقولُ في جنين تحسُّ بذلك الأمان النفسي الجميل الذي لا تمنحك إياهُ لا حيفا ولا الناصرة ولا يافا، وتشعرُ بعفويَّةِ الناسِ وبساطتهم ونبلِ أخلاقهم، في ظهيرةِ جنين الخريفيَّةِ الورديَّةِ كانت طفلةٌ بشعرٍ ذهبيٍّ وعينينِ بحريَّتين، طفلةٌ آيةً في الجمالِ والعذوبةِ، أظنُّها في السادسةِ أو السابعةِ من عمرِها، تتسوَّلُ المارَّةَ في منطقةِ المدينةِ الصناعيَّة.. تقتربُ من كلِّ رجلٍ بخطىً خجولةٍ وصوتٍ مرتعشٍ (ساعدني عمَّو.. الله يخليك).. يكرمها الجميع بسخاء.. للوهلةِ الأولى تكسرُ هذه الطفلةُ قلبي.. تطفرُ من قلبي دمعةٌ وأنا أقتربُ منها وأُعطيها ما فيهِ النصيب.. أنحني عليها وأسألها (عمَّو ليش تشحدي.. ما عندك أهل؟) فتنزلقُ من عينيها دمعةٌ غير مرئيَّة وهي تجيبني بصوتها المائيِّ (عمَّو.. أبي متوفي وأُمي مريضة).. تنكسرُ روحي من هولِ حرمان الأب.. ومن ضعفِ الأُم.. لأوَّلِ مرَّةٍ أنكسرُ بهذا الوجعِ أمامَ طفلةٍ في ظهيرةٍ ورديَّة.
***










(13)

وردٌ على رمادِ القصيدة


سهمُ النقدِ الذي لا يجرح


لاحظتُ أن الكثير من أصدقائي الشعراء العرب يمتعضون ويأخذون على خاطرهم حينما يُصوِّبُ ناقدٌ ما سهماً صغيراً ليِّناً من جعبتهِ إلى بعض مفاصلِ تجاربهم الشعريَّة.. مع أن هذا السهم النقدي لا يجرحُ أبداً وأقلُّ حتى من أن يخدشَ ولكنهُ يتركُ أثراً سلبيَّاً لا يُمحى في نفسِ صاحب التجربةِ المنقودة، لا أعرفُ ممَّ ينبعُ هذا الغضب؟ أهو عدمُ ثقةٍ بالقصيدةِ بشكل خاص أو التجربةِ بشكل عام؟ مرَّةً قالَ الشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري أن أكبر كارثة يُمنى بها الشاعر إبداعيَّاً فقدانُ الثقةِ بما يكتبُ، حينها يستطيعُ أصغر ناقدٍ في الدنيا أن يستثيرَ أعصابهُ ويشتِّتَ فكرته، وأتذكَّر حادثةً جرت بينَ أمير الشعراء أحمد شوقي وبين الموسيقار محمد عبد الوهاب حين وجدهُ الأوَّل حزيناً بسبب النقد الجارح الذي كيلَ لهُ في الصحافةِ المصريَّةِ المكتوبة، فما كان من شوقي إلا أن أحضر جميع الجرائد التي نشرت مقالات النقد وطلبَ من عبد الوهاب أن يقفَ عليها بعدَ أن صفَّها عموديَّاً وسألهُ: هل رفعتكَ أم حطَّتك؟ لا يخفى علينا طبعاً المعنى المجازي الذي قصدهُ أميرُ الشعراء شوقي من وراء فعلتهِ تلك، ولكن هذه الحادثة كانت نقطةً مفصليَّة هامَّة في تجربةِ عبد الوهاب الفنيَّة، بالنسبةِ لي شخصيَّاً طالما فضَّلتُ النقد الإيجابيَّ على المديح والإطراء، وطالما تمنَّيتُ ممَّن كتبَ عن تجربتي أن لا يكونَ محابياً مطرياً أو مدَّاحاً مجاملاً على حسابِ صداقةٍ أو ودٍّ.. بالقدر الذي أريدهُ فيهِ أن يكونَ صارماً وقاسيَّاً وباحثاً عن الهفواتِ الصغيرةِ في قصائدي.. فالنقد الصريح أنفع لتجربةِ الشاعرِ من كلام المديح، بعبارةٍ أخرى.. لماذا يُرهبنا النقدُ إلى هذا الحد؟
***



سيبقى الشعرُ حارسَ أحلامنا



فقط في دور النشر العربيَّة أصبح الشعرُ سلعةً كاسدةً أو موضوعاً بلا قُرَّاء، كل دار نشر يتوَّجه إليها شاعرٌ ما بغضِّ النظر عن مستوى كتابتهِ، فإنها تتأفَّف وتتململ كأنما بُليت بمصيبةٍ تقصمُ الظهر والرجلين معاً.. إحدى دور النشر المرموقة ولأسبابٍ شخصيَّةٍ كثيرة أمتنعُ عن ذكر اسمها لأنَّ ما حدثَ لي معها أصبحَ شائعاً وكثير الحدوث مع غيري من الشعراء والكُتَّابِ الشباب لدى دور نشر لا تُحصى، ظلَّت هذهِ الدار ولأكثر من عامٍ تمارسُ عليَّ نوعاً من الكذبِ المبطَّن، وأحياناً (الإستهبال) الصريح وأنا أستفسرُ عن نشر مجموعتي الشعريَّة التي وعدوا بطباعتها وكانوا يصرُّون في ردِّهم عليَّ أنها جاهزة ومعدَّة للطباعةِ وبعد شهور طويلة يقولون أنها طُبعتْ وموجودة في مطبعة دار النشر وبعد ذلك بشهور يقولون أنها في طريقها لتُعرض في مكتبةِ الدار نفسها.. وفي كلِّ مرَّة أتصِّلُ بهم يؤكدِّون فيها على فراغهم من نشرها وهم يستعدِّون لتسويقها وتوزيعها ووو الكثير الكثير من الكذب و(الإستهبال) الخرافي حتى جعلوا من المحيط الأطلسي بيارات حمضيَّات.. ولكن الحقيقة أنه لم تُطبع حتى ولو كلمة واحدة من الديوان،لا أدري السبب.. أيكونُ الإستخفافَ بقيمةِ الشعر إلى هذهِ الدرجة؟ لا يا أصحاب بعض دور النشر أو النشل كما أطلق عليكم أحد الأصدقاء، لن أقف عند هذهِ التجربة الموجعة، يا من تريدون إلغاء الشعر أو تسليعه أو المقايضة بهِ أو تدجينه وحبسه في الأقفاص المكيَّفة.. لا.. سينتصرُ الشعر عليكم وعلى أفكاركم المحكومةِ بالأرقام.. الشعر باقٍ وسيبقى نارنا المقدَّسة وحارس قلوب العشَّاق ومصباح أحلامنا في الليالي والنهارات وسيِّد رغباتنا.. سيبقى خارجِ أُطر حساباتكم وتصنيفاتكم ودوائركم الضيِّقة وهوائكم الفاسد.. لن تقيِّدوهُ بنظريَّاتِ أرقامكم والمصارف البنكيَّة والترَّهات.. سينتصرُ عليكم الشعر حتى لو خُيِّل لكم أنكم نجحتم في هزيمتهِ المؤقَّتة.. سيبقى الشعرُ وستذهبون وحدكم بحسابتكم وأرقامكم وترَّهاتكم إلى هاويةِ الجحيم.
***


أتذكَّرُ سيناء




أتذكَّرُ سيناء، بجبالها الرماديَّةِ المشغولةِ بقوسِ قزحٍ ورديٍّ في الظهيرةِ.. أتذكَّرُ أهلها الطيِّبين وهم يدعون أيَّ ضيفٍ عابرٍ أن يقاسمهم أنفاسَ الشيشة أو البيض المقلي وصحن الفول المدمَّس ونضارةَ النهارِ الأزرق، أتذكَّر سيناء وأهلها يصنعون من حديدِ الخيالِ محاريثَ وحذواتٍ لخيولِ الصحراء.. أتذكَّرُ دربها المستقيمَ يقسمها لنصفين متوازيين، الأوَّلُ للشمسِ والثاني للقمرِ.. مدىً ورديَّاً لا يُحدُّ ضارباً للزرقةِ.. فلَّاحةً تغسلُ وجهها بماءِ صنبورٍ من فضَّةِ الولهِ والاستعارةِ، قوافلَ تغربُ خلفَ الكثبان الرمليَّة، وأغانٍ مبعثرةً كأغاني الغجرِ على طريقِ الكحلِ والنعاس، أتذكَّرُ ذلك الزمنَ الجميلَ المخشوشن/ الناعم، الحميميَّ العذب، براءةَ ناسهِ وبساطتهم وشغفهم بالحياة.. أتذكَّرُ كلَّ شيءٍ تقريباً قبلَ دخولنا في زمن ملوكِ الطوائف وفوضى الدماءِ ومجانيَّةِ الحروبِ والمراثي.
***

رمادُ القصيدة



أتركُ ديواني بعدَ طباعتهِ لشهور.. لسنوات.. وأنا أتجنَّبُ اكتشافَ أيَّ خطأٍ تعاميتُ عنهُ فيهِ، ثمَّ أعودُ إليهِ كالملهوف.. أتصفَّحهُ على عجلٍ ثمَّ أقرأه رويداً رويداً بصوتٍ داخليٍّ، أتلمَّسهُ كأعمى يتحسَّسُ تمثالاً في مدينةٍ شرق أوسطيَّة، كامرأةٍ ولهى تتقرَّى يدَ حبيبها، أبتعدْ عن ذاتي الشعريَّة لأراها تلتصقُ بي كقطَّةٍ خريفيَّة، تمسِّدُ ظهرَها بي، أقولُ في نفسي: من هذا الرجلُ الغريبُ الذي كتبَ هذهِ القصائدَ؟ ومن أجلِ منْ؟ أُحدِّقُ في تعرجاتِ الحبرِ كمن يبحثُ عن زنبقةٍ غير ورئيَّة، وكأني أراهُ للوهلةِ الأولى، الآن أختبرُ رضايَ عن قصيدتي بمقاييسَ ومعاييرَ ثانويَّةٍ لا تخطرُ على بالِ أحد، ثمَّةَ رائحةٌ للقصائد، ناصعةٌ.. شفَّافةٌ.. كحليَّةٌ.. زرقاء، رائحةٌ تشبهُ شهوةَ الريح، لا شرقيَّة ولا غربيَّة، تشبهُ طعمَ الوله، خفيفةٌ، حزيرانيَّةٌ تملأ القلبَ بنرجسيَّةِ عاشق ونداءاتِ قدِّيس، أضعُ قصيدتي على المحك، أتخلَّى عنها كما تفعلُ أمُّ صغارِ النوارسِ، أتركها في الريحِ الشرقيَّةِ، وأنا مطمئنٌ إلى شيئين اثنين، تحليقها المتناسق أو سقوطها في هاويةِ النسيان، أتركُ رغبتي في القصيدةِ حتى تصيرَ رماداً.. ثمَّ أُذرِّيها بفرحِ ذلكَ الرجلِ الغريب.
***






مملكةُ الصمت


الذي يقرأ تاريخ سوريا الحديث الممتد من سيطرة حزب البعث فيها بالحيلة والغدر على مقاليد الحكم حتى يوما هذا، أو يشاهد الوثائقيات التي لا تُحصى عن إذلال الإنسان وقهره ومحو كيانه بالكامل يُصدم من هول الظلم الذي مورس على البشر في مملكة صمت مريع أشبه بجحيم أرضي، ولا يكادُ يصدِّق فظاعة المجازر المجانيَّة الخرافيَّة التي أُرتكبت بحق الأبرياء من أطفال ونساء، وربَّما يدخلُ في حالةٍ من الذهولِ وهو يفكِّرُ بسرياليَّة والقسوةِ والعنصريَّةِ والاستبداد وطائفية فرِّق تسد التي مارسها هذا النظام الفاشيُّ المجرم على شعب حر شريف ليس له من ذنب سوى حبِّهِ للحياةِ وتطلُّعهِ للحريَّة، من الصعب نسيان الذكريات التي تقطرُ دماً.. رماداً.. لهيباً وعذاباً من أطرافِ شهادات السجناء المرعبة وهم يتكلَّمون عن تجارب اعتقالهم في أقبيةِ المخابراتِ السريَّة، من الصعب أن تصدِّق كيفَ أن بشراً تحمَّلوا من أجلِ حياةٍ أجمل وحلمٍ بغدٍ وردي كلَّ أساليب التنكيل والمحو الجسدي والنفسي والتعذيب الذي لا أجدُ لغةً تسعفني لأصفهُ مدةً تقتربُ اليومَ من نصف قرنٍ ولم يحطِّموا بعد تمثال طاغيتهم المجازي ويرموه في البحر، وكلَّما اقتربوا من ساحلِ الانتصارِ باعاً ابتعدَ ذراعاً عنهم لخذلان دول العالم المنافق لهم، لا تزال أفكار الطاغية الغامض تحكم سوريا بالحديد والنار ولو بشكل غير مباشر حتى وهو في قاع قبره وما ابنه سوى دمية هزيلة تحركها أطياف هذه الأفكار السوداء فوقَ خرابِ البلاد.
***




وردةٌ محايدة


أنا على حيادٍ تام من الزمن، على حيادِ فراشةٍ على سياجِ الضوءِ، أو زهرةِ صُبَّارٍ في الخريفِ السريع، أكتبُ ما أريدُ، مقطعاً نثريَّاً رديئاً عن طاغيةٍ فتكَ بشعبهِ، قصيدةً في مديحِ الأُمهات، فكرةً لوصفِ امرأة حامل، أُغنيَّةً عن حبٍّ ضائع، أكتبُ ما أُريدُ ولكن على حياد غيمةٍ بحريَّة، أكرهُ المسافات المليئة بالفراغ والنداءات المكتومة والأصداء الذابلة، تلك المسافات التي رسمها بشرٌ عاطلون عن الحبِّ والحريَّةِ والفرح حول حيواتِ الآخرين، أوجعتني محاكم التفتيش الممتدة على جسد تاريخنا المظلم، وأوجعتني قبلاتِ الرعيَّة على نعل الطاغية المبتسم لأعمدةِ النورِ في قصرهِ، في هذا النهارِ الأزرقِ المأخوذ من لوحةٍ لسلفادور دالي ما الذي يريدهُ شاعرٌ مجهول سوى أن يبكي بصمتٍ أمامَ جمالِ امرأةٍ مقهور؟ أو يتركَ وردةً على طاولةِ الأُمومة؟ ما الذي يريدهُ الغريبُ سوى أن يملأ قلبه بهواء الحنين إلى أوَّلِ النساء والبلدان؟
***


يومُ إدمون

البارحة رحلَ شاعرٌ طالما استوقفتني قصائدهُ بالغة العذوبة ومسرحياتهُ المنسوجة بذكاء نادر، شاعرٌ ومسرحيٌّ وروائيٌّ ذو حسٍّ سردي جميل،وإنسان في غايةِ النبلِ وجمال الروح، رحلَ إدمون شحادة محمَّلاً بنهاياتِ القصائد وبداياتِ الشجنِ الروحي، بنداءات الحبق الجليلي وترجيعاتِ الحجلِ في مرجِ ابن عامر، سأفتقدك يا صديقي الجميل إدمون فاغفر لي عزلتي، سأفتقد اتصالاتك الدائمة وكأننا نعرف بعضنا البعض من عشرات السنين، سأفتقد صوتك الجميل العذب المائي المنبعث من مجرَّة سحريَّة أو بئرٍ خضراء، أتذكَّر لقاءاتنا الأولى في مكتبتك في أوَّلِ الناصرة، وذاتَ صيفٍ في كرملِ حيفا، أتذكَّرُ مرحك وتواضعك وعفويَّتك وشفافيَّة الأديب ورقَّة وعذوبة الشاعر فيك، وحرصك على لغتكَ الشعريَّة، تلكَ اللغة التي رحت تتعهدها كحديقة، صداقتنا لم تكن عابرةً ولم تكن سطحيَّةً كصداقات البعض، بل كنتَ من القلائل الأثيرين والقريبين من القلب رغم فارق العمر بيننا والذي ينيف على أربعةِ عقود، أمس أحببتُ أن أبكي بصمت كما تبكي الطير عليك، على صداقتك الاستثنائيَّة، على مرحلة أغنتْ حياتي بطاقةٍ إبداعيَّة لا تنتهي، على نهارات خريفيَّة ضاجَّة بحفيف القصائد، لن أقولَ وداعاً ولكن أقول الى الملتقى.
***






تفاصيلٌ سريَّة


تكتبُ امرأةٌ عن أنوثتها وتفاصيلها السريَّة، أُخرى تخاصمُ عاشقاً وتطردهُ عن نوافذ رغبتها.. ثالثةٌ تكتبُ لحبيبها بفمها على ورقٍ يتنهَّد، في عوالمِ النساء الثلاث يبحثُ شاعرٌ عن صفائهِ التعبيريِّ ومجازهِ الخصوصيِّ، يصقلُ حجراً هوائيَّاً ويلمِّعُ بهِ جسدَ ايزيس، كم من الوقتِ ينقصهُ كي يرتقي إلى هاويةِ الرغبة؟ تكتبُ امرأةٌ عن مزاجيَّتها المفرطةِ ويشطبُ شاعرٌ قصيدتهُ النثريَّة الملأى بالاستغاثاتِ النهريَّةِ وزنابق العطش، تكتبُ امرأةٌ على زجاجِ مراياها شهوتها الرماديَّة، ويمسحُ رجلٌ عابرٌ كحلَ فراشتها عن ظلالِ أصابعها.
***


السائرُ في المنام



جمالكِ يعذِّبني عذاباً جميلاً، منذ رأيتكِ والفراشات تلسعُ قلبي لسعاً خفيفاً، أعرفُ بأنني سأتورَّطُ تورُّطاً لا بدَّ منهُ كي أكتب بعض قصائدٍ أو هذياناتٍ محمومةٍ، أعرفُ أيضاً بأنني سأتبرَّأُ من هذا الشِعرِ عندما أفيقُ منكِ، أنا السائرُ في المنامِ والمسرنمُ بوصاياكِ، جمالكِ هو الشيء الوحيد الذي أتمنَّى أن اشربَ مسحوقهُ السحريَّ ممزوجاً بالماءِ أو بالنبيذ، لستُ ديكَ جنٍّ آخر ولا أحبُّ طعمَ الرماد، لا أحبُّ الكلماتِ المعلَّبةَ ولا مراثي الأُنوثةِ، لستُ ديكَ جنٍّ آخرَ ولستِ حبيبتهُ ورد، لستُ امرئ القيسِ ولستِ فاطمةَ، لستُ نيرودا ولستِ ماتيلدا، لستُ دالي ولستِ غالا، لن تكوني قصيدتي الشتائيَّةَ، ولن أكونَ سوى توجُّسكِ من رائحةِ اللوز.
***







(14)

تأخَّرتِ قليلاً عن غوايتي



صرخةُ فان غوخ


يدان تتشابكان في مكانٍ ما، نحيلتانِ كقصبتيْ سكَّر، خفيفتانِ كنداءِ تمثال جريح، تنطفئانِ في المتن وتشتعلانِ في الهامش، محاطتانِ بصرخةٍ تصعدُ من قاعِ بئرٍ معطَّلة، تشبهُ نحيب غيمةٍ في خاصرةِ امرأةٍ، أو عواءَ فنسنت فان غوخ في ذلك الفيلم الشهير، تهبُّ من العدم الأرضيِّ ومن جهةِ الريح الرماديَّة، تحرِّكُ حريرَ المرايا والستائر الورديَّة المجعَّدة، تهزُّ أواني الخزف بخفَّة ريشةٍ، وتحترقُ في المراثي الطويلة، أه ما أجمل وأكمل هذهِ الصرخة المضمومة كقبضةِ عاشقةٍ على زهرةِ لوتس بريَّة، المفتوحة على تجلِّياتِ اللغة والقداسة، يا لكَ من ساحرٍ رجيمٍ يا فنسنت، حتى وأنت مغيَّبٌ عن ذاكرتك وحدائقك المنسيَّة، وفي صخب لياليك واعترافاتك، كلَّما أغمضتُ عينيَّ على نجومك الصفراء المتناثرة على قماش أزرق تناسلتْ حقولُ عبَّادِ الشمسِ في مخيَّلتي المشدودةِ إلى حذوةِ فرس، كأغنيةٍ مشدودةٍ إلى السديم، أو كجاريةٍ على طرفِ رغبةِ نخَّاس، أبداً لن تموتَ صرختكَ، سيلتفتُ اللهُ إليها، وإلى قصائدك غير المكتوبة، قصائدك التي استبدلت الكلمات بالخطوطِ المتقاطعةِ وبالألوانِ المائيَّة وبالسنابلِ المنفرطة من ضفائر النساء.
***


القصيدةُ والحُب

الأبياتُ التي أحذفها من القصيدة الجديدة ليست أقلَّ جمالاً وفتنةً من القصيدةِ ذاتها ، بل ربمَّا تكونُ همساتُ النزوة التي انسحبتْ وراءَ السطور، أو أصداءُ الرغبة الخافتة التي ارتضت أن تستترَ وراء نصاعة الورق ورذاذ الحبر، أجملَ بكثير من القصيدةِ المكتوبة وهذا ما عناهُ أحدُ المبدعين بقوله أن الكتابة الحقيقيَّة هي مهنةُ الحذف، ولكن كم هو صعب أن تتركَ ذائقتك تتأرجحُ بين شطري قصيدة، هذه الحالة تشبهُ تماماً حالة حذف حبٍّ ما تمكَّن من قلبك ولكنك تعجزُ عن فعلِ هذا، يتسلَّطُ ذلك الحبُّ الافتراضيُّ عليكَ لدرجة أنك تبقى منقاداً له بحاسةٍ سحريَّة ماكرة، وبشغف إنساني جميل، تحاولُ مراراً حذف الجزء الهلامي منهُ في ذاكرتك أو تمتدُّ يدكَ لتمسحَ تلكَ السطور البيضاء من القصيدة المكتوبة ولكن بلا فائدة، فالحبُّ الغامض والاستعارات المجرَّدة كلاهما يلتمعُ في قلبكَ وذهنك كالوميض، يحاصرك من جهاتك الستِّ، القصيدةُ الغائبةُ كالحبِّ تماماً، لا تستطيع أن تحذفها من قلبك، أو تطلقها كالعصافيرِ الأليفةِ في فضاءِ البيتِ، نصفها صداقةٌ مكتوبةٌ بضوءٍ شحيحٍ ونصفها الآخر حبٌّ يستعصي على الكتابة وعلى النسيان.
***

اللغةُ حين تكونُ في عباءةِ القبيلة


لم أكتب أدب مذكرات ولم أُفكر بكتابته على الرغم من حبي الجارف له، لا لأنه لا يستهويني كثيراً أو بسبب خوفي من السقوطِ في رداءةِ النثر والتيهِ في مجاهيلهِ، بل لأسباب كثيرة أهمُّها أنني لم أدرِّب نفسي على البوح بما فيهِ الكفاية، لم أُخرج لغتي بعد من عباءةِ القبيلة وعاداتها وموروثاتها ونداءاتها العصيَّةِ، بكلماتٍ أُخرى لم أُحرِّر كتابتي كما كنتُ أحلم بذلك وأنا أقرأ كتابات هنري ميلر أو محمد شكري أو جونيشيروا تانيزاكي أو ماريو فارغاس يوسا مثلا، لمن يسألني عن المذكراتِ أقولُ: دواويني التي حشرتها في عشرةِ كتب هي مذكراتي ويومياتي السريَّة، فمن الممكن جدا أن يبحث فيها الآخرون عن اللغة الشفافة والرغبات المطويَّةِ تحتَ عباءةِ القبيلةِ الفضفاضة، بالنسبة لأدب المذكرات أعجبتني في مرحلةٍ ما مذكرات آنا فرانك، خصوصاً ذلك التدفق الحيوي الغريزي المشبع بشهوة السرد والمشافهة، وكنتُ أقفُ مشدوهاً عند كل سطر من قصةِ غرامها وأحبسُ أنفاسي متسائلاً: كيفَ لطفلةٍ مراهقةٍ لم تتجاوز الخامسة عشرة من عمرها أن تكتب بمثل هذا التدفق التعبيري المذهل وبمثل التكثيف الجمالي المدهش لأصغر التفاصيل، وبلغة نقيَّة ناصعة بلغت بها آنا الصغيرة قمة البلاغة والمجاز، كيف تستطيع طفلة بمفردها أن تخطَّ واحداً من أهمِّ كتبِّ أدب المذكراتِ في تاريخِ البشريَّةِ الحديث؟
***

زليخةُ السريَّة


زليخةُ التي أعنيها في مزاميري السريَّة لم تهرمْ بعد.. كأنها لا تكبرُ، ولا تتقدَّمُ بها سنواتُ القهر نحوَ النهاية، زليخةُ الموزَّعةُ في القصائد القصيرةِ والمطوَّلات امرأةٌ ليستْ كباقي النساء، ضفائرها كسنابلِ القمحِ الذهبيَّة وليديها عطرُ الليمون والحبق، هي من صنفِ نسوةٍ لا يشيخُ جمالهنَّ حتى بعد الخمسين، كلُّ شاعرٍ بلا زليخة لا يُعوَّلُ عليه، كلُّ ديوانٍ بلا قمصانها ناقصٌ، كلُّ بحرٍ بلا تنهداتها سريرٌ مهملٌ، كلُّ أبجديَّةٍ بلا ناياتها قصبٌ جريحٌ، كل وجودٍ لا يحتويها عدم.
***

عينا إلسا


أُفكِّرُ بعيني إلسا، حبيبةِ لويس أراغون وأنا أعدُّ زنجبيل المساء على عجلٍ، أُفكِّرُ بشبيهةِ إلسا وأنا أُراقبُ عصفوراً ورديَّاً غريباً حطَّ على مقربةٍ مني كي يبتلَّ بماء حزني، كلَّما وقعت عيناي على تلك الفتاة في إحدى الأغاني الساحليَّةِ أُناجيها في سرِّي بشِعر السيَّاب: رأيتُ شبيهةً لكِ شَعرها ظلَمٌ وأمطارُ وعيناها كينبوعين في غابٍ من الحورِ.. هل فيها شيءٌ من إلسا؟ لا أدري، ولماذا إلسا بالذات؟ أيضاً لا أدري، المهم أنني أفكِّرُ بعيني إلسا وبأشياءَ كثيرةٍ، كعادتي دائماً، لم أتغيَّر.. أُفكِّرُ بالعدم وأنا أُفكِّرُ بعيني إلسا.
***

الحياةُ كحلم



أنظرُ إلى الحياةِ من طاقةِ حلم مشاكس، هكذا أنا منذ الطفولة، الحياة هي حلمُ كبيرٌ نرفدهُ بأحلام صغيرة أُخرى، ملوَّنة، شفَّافة، عصيَّة، مستحيلة، لكنها تشكِّلُ طاقة دعم روحي ومعنوي ومجازي لنا في هذهِ الحياة المعطوبة، شخصيَّاً لا أتنفَّسُ هواء الحياة إلا من فجوةِ جدارِ هذا الحلمِ بالرغم من الخيبات والانكسارات التي لا تُحصى، كلَّما خبا وهجُ حلم ما أستضيءُ بوهجٍ حلمٍ جديد آخر، وهكذا، اُريدُ أن أقضي هذه الحياة حالماً وغيرَ ملتفتٍ لنهاياتِ السنوات التي تذكرِّني بلحظاتِ الفشلِ والإخفاقِ والانكسار، لا تعنيني بتاتاً نهاياتُ السنواتِ التي انفرطت من سبحةِ حياتي بل مطالعُ القصائد والأغاني، ولا أعاتبُ نفسي أو ألومها على عجزي عن تحقيق أحلامي الصغيرة، ما دمتُ أُحاولُ أن أكتبَ شيئاً يجعلُ لحياتي معنىً خصوصيَّاً فلا بأس.
***


القصيدةُ والأسطورة


ما ينقصُ القصيدة العربيَّة الآن هو التخفُّف قدر المستطاع من الهمِّ الوجودي وماديَّة اللحظة الراهنة والرجوع إلى الموروث الشعبي العربي والعالمي بشقيِّهِ الواقعي والخرافي المتخيَّل، فلو نظرنا إلى الشعريَّات الأخرى في العالم لوجدنا امتزاجها بالأساطير والحكايا الشعبيَّة والخرافة، عبر تأثرها بالموروث القصصي الخيالي وبكتب من صنف ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة وميثولوجيا وأساطير الشعوب القديمة وغيرها، تضفي الأُسطورةُ على العمل الأدبي بعداً رمزيَّاً إنسانيَّاً عالي المستوى، وتمنحه دلالاتٍ غنيَّةً تعملُ على تحفيزِ الخيالِ والذاكرة للامساكِ بخيوطِ الفكرةِ الملوَّنة، ونرى أن الشعراء التموزيِّين العرب وضعوا الاهتمام باللاواقعي والخرافي نصب أعينهم بعد اطلَّاعهم على نماذج شعريَّة كثيرة في الشعر الأجنبي تسعى على توظيف الأساطير داخلَ النص، فلا يخفى اعتمادُ الشعراء الانجليز على هذا العنصر الهام وفي مقدمتهم ت س اليوت في (الأرض اليباب) وشكسبير في عدد لا بأس بهِ من مسرحياته الشعريَّة الهامَّة لا سيما (هملت) و (عطيل) و (العاصفة)، وأيضاً نجد في الأدب الروسي في القرن التاسع عشر نزوعاً قويَّاً إلى توظيف الأُسطورة كما نلحظ ذلك في المطوَّلة الشعريَّة (روسلان ولودميلا) لأمير شعراء روسيا ألكسندر بوشكين.
***


إيماءات



أنت جنَّةُ الغيبِ والعنبِ يا جان ديفال ونظرةُ بودليرَ مفتاحها
*
بينَ يديْ حزنكَ المائيِّ يا سركون بولص تغتصبُ براءةَ القصيدةِ امرأةٌ بشَعرٍ غجريٍّ من مدينةِ أين
*
تلبسُ الكلماتُ ابتسامتكِ البيضاءَ كالأشجارِ تومضُ بأزهارِ الغيم
*
القبوُ المظلمُ يعذِّبُ روحَ الرَّحالةِ الذي يحملُ الأرضَ على شكلِ فقاعةٍ في قلبهِ، القبوُ المظلمُ مبنيٌّ بشكلٍ هندسيٍّ غريبٍ على رأسِ طائرٍ فينيقيٍّ
*
لجمالها طعمُ الحنطةِ ورائحةُ الحبقِ المحروق، لبياضها طعمُ الوجع
***


تأخَّرتِ قليلاً عن غوايتي


ضعي يدكِ على نافذة قلبي وانسحبي من قصيدتي بكاملِ ظلالكِ الحياديَّةِ، لن أتلصَّص بعدَ هذا الغيابِ على تفاصيلكِ الصغيرةِ وغيرتك من الأخريات، لن يعني لي جمالكِ الحزينُ المراوغُ شيئاً ولا حتى شقاؤكِ سوف يستثيرُني، لو قرأتُ أناشيد بتراركة أو غزليَّات كواسيمودو مثلاً بدلَ كتابةِ خطابات بائسة لكِ لكنتُ أكثر سعادةً، لو استبدلتكِ في الوقتِ المناسبِ برقصةٍ واحدةٍ لمونيكا بيلوتشي لأصبحتُ أكثرَ شاعريَّةً، لو استبدلتكِ بتقاسيمِ نايٍ غامض لجرى الماءُ من تحتِ قصائدي، لو تأخَّرتِ قليلا عن غوايتي لأصبحتْ أعلى وأجملَ وأكمل.
***















(15)
حنينٌ يستيقظُ في الظهيرة

عثوري على السيَّاب


حادثةُ عثوري على تجربة بدر شاكر السيَّاب الشعريَّة أو بتعبير أكثر دقَّةً تعثري باسمهِ تعتبر بالنسبة لي حالةً لا تخلو من الطرافة والغرابة ولم تحصل لديَّ مع شاعر آخر غيرهِ، لم أنتبه أبداً لتجربة السيَّاب في البدايات وكنت متأثراً بغيرهِ كأحمد شوقي وخليل مطران وجبران وأبي القاسم الشابي وغيرهم من أعمدة النهضة الشعريَّة، حتى أنني لم أسمع باسمهِ أبداً قبل مرحلة الدراسة الثانويَّة.. بعد الانتفاضة الفلسطينية الأولى أي في أوائل سنوات التسعين من القرن المنصرم عثرت على احدى المجلات الأدبية الفلسطينية العريقة وأظنها مجلَّة (عبير) وهي من المجلات الفلسطينية المرموقة وكانت تمجِّد في سياقِ موضوعاتها انتفاضة الحجارة الأولى، وكانَ من ضمن المادة الأدبيَّة للمجلَّة حوار أدبيٌّ جميل مع شاعر فلسطيني لا يحضرني اسمه الآن، وفي الحوار إشادة عظيمة بتأثره بشاعر عراقي حداثي فذ اسمه بدر شاكر السياب، استطاع بموهبته الشعريَّه الجبَّارة أن يغيِّر المفاهيم السائدة في الشعر العربي عبر ثورة عارمة على نظام الأوزان الشعريَّة التقليديَّة، بحيثُ نجح في كسر عمود الشعر العربي وحاولَ توزيع تفاعيل السطر الشعري الجديد بذكاء ومهارة وفقا لمعاني الجمل الشعريَّة، وذلك تأثراً بالشعر الانجليزي وخصوصاً (ت س اليوت) و (بيرسي شيلي) وغيرهم من الشعراء الانجليز، منذ ذلك الحين وأنا أفكر ببدر، وأبحثُ عن نصوصه الشعريَّة الحارة، وأذكر أنني تصفَّحتُ كتاباً ضخماً بعنوان (شاعر الأناشيد والمراثي) للناقد اللبناني (ايليا حاوي) عن السيَّاب وأعجبني جداً، وكنتُ حين أقرأ لبدر شيئاً أعثر عليه في أي كتاب أدبي تصيبني رعشةٌ ما أو أنتقلُ روحيَّاً إلى مناخات فردوسيَّة جماليَّة سيَّابية بامتياز، مناخات يشتبكُ فيها الحلم والكابوس وتتضافر في فضاءاتها الحقيقةُ والأسطورة.
***

من أنتَ؟

الغريب والمحيِّر أنه فقط أصحاب الأقنعة المستعارةِ يسألونك: من أنتَ؟ وأبداً لا أجيبُ على سؤالٍ كهذا، خصوصاً إذا كان السؤالُ موجَّهاً من هؤلاء، وهم يطلُّون عليكَ من حضيض الخفاء والعتمة، يفركون أعينهم بالأصابعِ، ويصفعونك بسؤال أبديٍّ بليد.. من أنت؟!
***


نعمةُ الحذف

حذفتُ شاعراً عابراً خُيِّل له أنهُ أربكَ قصيدتي حين ظنَّ واهماً أنها بحاجةٍ اليهِ والى جائزته البائسة كتجربتهِ الشعريَّة، وحذفني شاعر كبيرٌ أُحبُّهُ لأنني قلتُ في تعليق تحت مديحٍ كالتهُ له إحدى الناقدات الجميلات ما معناهُ أن زمن الأُسطورة والفردية في الشعر العربي قد أوشك على الانتهاء وما الشاعر إلا صوت متفرِّع من كورس غنائي في سيمفونيَّة كونيَّة هائلة فيها الصوت الجميل وفيها الصوتُ النشاز، وحذفتُ شاعراً آخرَ لأنه كالرحى التي تطحن الحجارة، يملأ رأسي جعجعةً فارغةً منذ ست سنوات، وحذفني شاعرٌ آخرُ لأن المسكين يترصَّد بي في كلِّ حرف أكتبهُ ويظنُّ أنني أنافسهُ أو أهدِّدُ غروره الشعري وأن قصيدتي تشكِّل خطراً على نرجسيته المبالغِ فيها والفائضةِ عن حدها، وحذفني شاعرٌ فاشلٌ لأسباب لا أعلمها حتى الآن، وحذفتُ شاعراً أفشلَ منه لأنه منذ أربعين سنة يكتبُ القصيدة نفسها ما يجعلهُ يحسُّ بشفقتي عليه وعلى قصيدتهِ عبر حاستهِ السادسة ولا أُريدُ لهُ أن يتذوَّقَ هذا الإحساس المرير بشفقتي علي ما يكتب، وحذفني شاعرٌ بعد نقاشٍ طويل في مسألةٍ عروضيَّة بسيطةٍ أصابَ فيها وأخطأتُ أنا، أو لشكِّهِ بأنني أُحبُّ امرأةً يحبُّها وتستعصي عليه، لا تهمُّني صداقاتُ أشباه الشعراء أو معرفتهم، وأكبرُ شاعر على وجه هذه الأرض يستحق الحذف والرفض والنسيان وعدم تحيته بكلمة واحدة لو صادفتهُ في شارعٍ في مدينة بعيدة إذا كانَ هو نفسهُ استعلائياً وأنانياً وكاذباً في قرارةِ نفسهِ ويرفض الآخر ولا يرى غير أناهُ في قاموسِ الوجود الإبداعي، يستحقُ الرفض روحيَّاً، لكن ذلك لا يلغي قراءةَ منجزهِ، إذا كان ما يكتبهُ جديراً بالقراءة.
***

زغلول الدامور قيثارةٌ من السماء


سأشتاقُ إلى عصافير الشمال الملوَّنة التي سكنت تجاويف صوت زغلول الدامور، سأفتقدُ تنهدَّاتِ النعناعِ في أصابعِ امرأةٍ جنوبيَّة، ونداءاتِ الجبالِ على ناياتِ الغجرِ الرحَّلِ، أنا الذي كنتُ أرى في نغمتهِ ما أريدُ، وأتنسَّمُ عطرَ الزمن كأعمى يستدلُّ بنسيمِ الزنابقِ على الأشياء، جوزف الهاشم الأسطورة، القيثارة السماويَّة، النهر السحريُّ، ملكُ الزجلِ غير المنازع، صاحبُ الموَّال الأكثر عذوبةً وصفاءً واكتمالاً، يرحلُ بعد امتدادِ سبعةِ عقودٍ على تضاريسِ الغناءِ الجبليِّ العالي، لا أتذكر في أيِّ سنةٍ كان يتهادى صوته في سوقِ الناصرةِ القديم، صادحاً بالعتابا وبالمعنَّى والقرادي، ربما كانَ ذلك في نهايات الثمانينيات، شيءٌ في صوتهِ المغسولِ بالحبق والماس والبنفسج جعلني أتعلَّق بهِ، وبكثيرٍ من الشغف الطفوليِّ ( يا حلوه كاس حبك جرِّعيني/ وقبل ما تصدميني جي رعيني/ خيالك في طريقو جر عيني/ وصرت برموشها لم التراب).. اختزن الزغلول في نبرات صوته الشجيَّة أناقةَ روح لبنان، جماله، طبيعته، ماءهُ، هواءهُ، ترابهُ النديَّ وغناء حورياته الفاتنات، اختزن واختزل كل شيء، يخيُّل لي أنه المغني الأجمل للوجع والفرحِ اللبنانيين ومنشدُ تغريبةِ العشَّاق، من لم يطرب لتجليَّات جوزف الهاشم الزجليَّة من الصعب عليه أن يشَّم روائح لبنان عن بعد مئات الكيلومترات، صوته أشبهُ بوردةٍ حمراء من غيمٍ وماءٍ تتفتَّحُ على حدائق ونوافير وكنائس ومآذن وقرى في الجبالِ ونهاراتٍ زرقاء وليالٍ لا تنام، الترجيعات التي كان يتركها في دواخلنا محيِّرة هي تكفي من حيث الجمال والعذوبة والتجلِّي أن تطهرنا من النزوة والندم، هي قادرة أن تؤمئ للحروبِ أن إهدأي قليلاً فثمَّةَ من يريدُ التأمُّلَ أو الحلم، سأشتاقُ إلى عصافيرِ الشمالِ وإلى ترجيعات القيثارةِ السماويَّة (خذيني بعطفك وحلمك وعدلك/ لحتى ان غبت برجعلك وعدلك/ حلفتلك بجي وقلبي وعدلك/ وعد زغلول مش موعد غراب).

قصيدة (صدفة) لزغلول الدامور

صدفة التقو بعيونها عيوني
وعالبيت من غير وعد عزموني
وقلبي فلت مني و سبقني وطار
ومدامعي عالدرب دلوني
ولحقت قلبي و عملت مشوار
عبساط جانح ريح مجنونة
ومن غيرتي عليها خيالي غار
و تحارَب جنوني مع جنوني
وصّلت ... ولقيت القلب محتار
والــ عازمتني مقدّرة فنوني
وأحلى ما إيدي تحترق بالنار
عا بابها دقيت بجفوني
وسمعت صوت بيشبه الأوتار
حرّك شعوري و فيّق ظنوني
وقالت يا أهلا ... ودخلت عالدار
وعيونها بديو .... يحاكوني
وايدين مثل الشمعتين قصار
ما عرفت كيف و ليش ضموني
ولفّوا ع خصري داير و مندار
ولولا ما أجمد كان حرقوني
والشعر ياليلي بلا أنوار
من عنبر كوانين مشحونة
وجبين طافح بالحلا فوّار
خلاّ عقول الناس مفتونة
والحاجبين الجار حد الجار
سيفين بالحدّين ذبحوني
وجوز الحلأ عا دَينتين زغار
من الجرح بعد الذبح شفيوني
والأنف قمقم شايلو العطّار
لدموع أحلى زهور ليمونة
لو شافتو بيّا عة الأزهار
بتقول منّو العطر بيعوني
وخدين متل الزنبق بنوار
أكتر ما بدي عطر عطيوني
إلــ بيشوفهم بيقول توم قمار
جاعوا و طلبوا الأكل و المونة
وشفاف حمر بيسكرو الخمار
من فرد نقطة خمر سكروني
وسنان شال الفل منها زرار
بيضا بلون العاج مدهونة
والعنق مثل الخيط عالبيكار
مسكوب لا ورقة ولا معجوني
والصدر من أتقل و أغلى عيار
متحف درر و كنوز مدفوني
وتفاحتين بيبهرو الأنظار
عالصدر ... يا ريتن يقبروني
وعالخصر عيني بتحسد الزنار
لو مطرح الزنار حطوني
تا كنت أكشف قوة الأسرار
ومعليش لو مجنون عدوني
يا ناس هيدا اللي جرى و لصار
وتتصدقوني... و تا تعذروني
روحوا معي عا بيتها شي نهار
وتفرجوا عا حسنها من بعيد
وان ضل فيكن عقل... لوموني".
***


لن نختلف على شيءٍ بعدَ اليوم


لن نختلفَ على شيءٍ بعد اليومِ، لا على قيمةِ هنري ميلر الروائيَّة ولا على قيمةِ تشارلز بوكوفسكي الشعريَّة، لن نختلف على مفردةٍ نشازٍ ولا على خللٍ في الايقاع، لأنكَ تجيدُ الضغطَ على زرِّ محو الآخر، من دون أن تشتبكَ معهُ في نقاشٍ عابرٍ قد تنتصر فيهِ لفكرتكَ ويخسر هو، ما نفعُ قصائدك وقصائدي أمامَ هولِ المحرقة التي تعصفُ بوطنك، وابتلاعِ الخرابِ الهائل لبلادكَ واستكلابِ الانتهازيين الأشرار عليها؟ أليسَ من الأجدى لنا أن نصمت؟ أتفهَّمُ جرحكَ النرجسيَّ ولوعتكَ من انقلاب عوالمك الحلميَّة المتخيَّلة، أتفهَّمُ حجم وجعك الروحي وأشمُّ وردةَ يأسك، ليتكَ تنقلبُ على نفسك وقصائدك، ربَّما لم يكن الشِعر إلا مضيعةً للوقت، كصداقتنا تماماً.
***

صوتُ ريم بنَّا

خلق الله صوتَ هذه المرأة الجميلة من تنهيدة الحبق على شرفةٍ نصراوية، أو من ترجيع المياهِ في ساحةِ عينِ العذراء، صوتها ليسَ صوتاً تماماً، بل هو شيءٌ يشبهُ رائحةَ الربيع أو حفيف السنابل في حزيران، هو تلويحةُ العصافير للشمس، أو صدى زرقةِ بحر يافا، أو ربمَّا كان قارورةَ ضوءٍ صبَّ اللهُ فيها أصواتَ نساءِ الأرض جميعاً، صوتُ هذهِ المرأة الجميلةِ هو الاسمُ الحركيُّ لعشق هذه الأرض، وهو الوجهُ المضيء لجمال المرأةِ الفلسطينيَّة، وهو نافذةٌ على سماءِ المحبَّة تحرسُ أرواحنا والأغاني، كأنَّ في صوتِ هذهِ الغزالةِ النافرةِ في ظهيرةِ قلوبنا امرأةً عاشقةً ترقصُ في هبوبِ المطر، في شفقِ الريح ونوَّار القصائد.
***

تردُّد شعري

كنتُ محكوماً بالتردُّد الجميل المراوغ عشيَّة مشاركتي في مهرجان الشعر الفلسطيني - الصوت والصدى - الذي نظمَّته أكاديمية القاسمي في باقة الغربية بتاريخ 10/3/2018 داعيةً إليه نخبةً من شعراء ونقَّاد فلسطينيِّين كبار من الجليل والمثلث ومن مناطق الضفة الغربية، كان المهرجان أشبه بتوحيد شطري البرتقالة الفلسطينيَّة أو مزج الصوت الشعري الفلسطيني بصداهُ البعيد العذب، مشاركةٌ في مهرجانٍ كهذا من الواضح أنه سيكون لها أكثر من معنى ومغزى، فهي تأتي بعد شبه عزلة أدبية أعيشها بإرادتي نائيا بنفسي عن أجواء التنافس والنديَّةِ ومهاوي الشلليَّات، في النهاية اتخذتُ قراري وذهبتُ لأقاسم غيري من شعراء تعلَّمتُ منهم خبز القصيدة، مبتهجاً بحضور رموز شعرية كبيرة ومضيئة في سماء الإبداع الفلسطيني الحديث، كأنني أُعلن تمرُّدي الشعري الشخصي على فكرة نمطية لا شعرية في الأساس ولا تعترف بأن في استطاعةِ القصيدة أن تغيَّر شيئاً ما في هذا العالم التي تسيِّرهُ قوى لا شعريَّة، تهمِّشُ الشعرَ أو تعدُّهُ مجرَّد سقط متاع لا غيرَ، ولا بدَّ من التخفَّف منه سريعاً، من هنا تأتي مشاركتي كتمرُّدٍ خصوصيٍّ جداً على نفسي وسحبها من ظلالِ عزلتها غير المبرَّرة إلى فضاء الشمس والهواء وموسيقى الأوزان ومداراتِ الطير، لم أختر القصائد التي سأُلقيها في المهرجانِ برويَّة وتفكير، كنتُ في حالةِ نشوةٍ بلقاء أصدقاء مبدعين لم ألتقِ بهم منذ سنواتٍ طويلة، أو التقينا افتراضيَّاً من على صفحات مواقع التواصل الإجتماعي، وللذكرى أقول أنني دائما كتبتُ ما كتبتهُ في الظلِّ، أو حتى في ظلِّ الظلِّ، وكنت أبتعدُ قدرَ استطاعتي عن التجمُّعات والشلليات الثقافية ولم أسعَ مرَّةً لأضواءِ المنصَّات ولا لهالات المهرجانات الشعرية ولا للملتقيات الأدبية التي دائما ما كنتُ أحسُّ بعضها يُفرض عليَّ فرضاً وبإصرار كبيرٍ من الأصدقاءٍ أو من النخبة المثقفة والأكاديمية في البلاد، ولا أريد أن أخوض في تفاصيل ليس هذا سياقها، أو أن أذكر أسماء فلسطينية وعربية كبيرة كنتُ دائم التنصَّل من دعوتها وإصرارها على حضوري الشعري.
***

تونسُ الشاعرة


قبلَ أن أخلدَ للحلم، أو أشربَ نخبَ الحبيبةِ الضائعة، قبلَ أن أفكَّ سيورَ القصائد الصغيرةِ، أو أدخِّنَ سيجارة ما قبل النوم، قبل الاستسلامِ لوثائقيات التاريخ الوهمي أو للأفلام الحديثة، قبلَ القهوة الليليَّةِ، وصودا العنب المكسورة بالعبير الخفيف أو بماء اللهفة، قبلَ الكتابةِ عن أصابع امرأةٍ فقيرةٍ تشبهُ ناياتِ الغجر التي تتبعني كالريحِ في البريَّةِ، قبلَ كلِّ حبٍّ سريعٍ وامرأةٍ غريبةٍ أعترفُ أنني تلميذٌ صغيرٌ للشعريَّةِ التونسيَّةِ العظيمة، الشعريَّة التي علمتني كيفَ أفتحُ عينيَّ للندى كزنبقتين وأن أرقصَ في ربيعٍ ممطرٍ، الشعريَّة التي أنحني لها انحناءةَ عاشقٍ وأرمقها بقلبِ شجرةٍ أو بعيني نجمةٍ مطفأة، والتي تسيلُ معها العذوبةُ الروحيَّة كما يسيلُ العذابُ من أصابعِ الشعراء أو الكحلُ من عيونِ قصائد الحُبِّ وعيونِ نسوةِ الهالِ والياسمين، الشعريَّةُ الفضيَّةُ الساحرة، فارعةُ الجمال والأنوثة، التاركةُ ضفائرها الصفراء الطويلةَ على مرمى زرقةٍ لا تُحدُّ تعلِّمُ عبَّادَ شمسِ الهواءِ التحديقَ إلى أعلى، أنا ربيبُ هذهِ الشعريَّة الطافحة بالعناقيد، أنا طفلها المشاكسُ، أنا تلميذها الصغير وسأظلُّ هكذا إلى الأبد.
***


الشاعر محمد الهادي الجزيري



محمد الهادي الجزيري شاعرٌ أصيلٌ من تونس التي لن نشفى من حبِّها ولا من تموُّجاتِ خضرتها في أرواحنا، مبدعٌ استثنائيٌّ وناثرٌ في غاية الرهافة، أُحبُّ أن أقرأ له وأتابع نصوصهُ العذبة الشفَّافة وثرَّة الجمال على مواقع السوشيال ميديا وفي موقع أثير العماني وغيرها، ولكن في زحمةِ هذا الفضاء المكتظ بالأمواج المتلاطمة وبالحارثين فيها ربما تاهَ كل منا عن الآخر بالرغم من كوننا صديقين منذ سنواتٍ طويلة، ولكن أقولُ شكراً للكاتبة الفلسطينيَّة المتميزة أنوار الأنوار لأنها قادته اليَّ ووضعتهُ في طريق قدري، وقدحت شرارة الصداقة والتواصل من جديد، ما جعلهُ يقرأ بصمت مجموعتي الشعريَّة (استعارات جسديَّة) ويعيدُ تفكيكها وتشكيلها في خياله الخلاق الخصب على ضوء ذائقة جماليَّة صافية لشاعر متميز.. جميل وصادق يحملُ نصُّهُ من الأصالة والتجديد ما يحمل، أثقُ بهِ وبقصيدتهِ المختلفة، وبحسِّهِ النقدي الموضوعي أكثر حتى من ثقتي بنقاد محترفين كبار، الجميل في الأمر أنَّ الجزيري قرأني كما يجب لشاعر عاشق مختلف، مسكون بتجليات الأنوثة والجمال والبروق الخضراء، وخرجَ بقراءة تحاورني بذكاء وتجاورُ روحي بلهفة وانعتاق، وبكثير من فيض المحبة، لم يفاجأني بأصالةِ روحهِ العالية أو بنبلهِ النادر بين الشعراء، أو بمحبتهِ لفلسطين وما تبدعهُ من مزامير علويَّة وقصائد في شفافيَّة الماءِ والضوء، إلا أنهُ قدَّم قراءة أحسستُ من خلالها بتآلف روحين يجمعهما الشعر ويحرسهما قمرٌ واحدٌ في الظلام، ماذا أقولُ لتونس؟ وأنا مهما سأكتب يا صديقي المبدع، أيها الجزيري الفذ النبيل الجميل، سأظل صدى أصواتكم العظيمة يا شعراء تونس، من أبي القاسم الشابي إلى أصغر شاعر تونسي يكتبُ الآن.. مروراً بالمنصف الوهايبي ويوسف رزوقة ومحمد الصغير أولاد أحمد وبك أنتَ وبالشاذلي القرواشي ومكي الهمامي وفتحي آدم وسلوى الرابحي وعشرات بل مئات غيرهم.
***

مطرُ أبريل

مطرُ أواخر أبريل أخضرُ اللون، كأوراق الزيتونِ أو كالعشب السماويِّ اليانع، لا أتذكَّرُ متى هطلَ قبلَ هذهِ المرَّة بغزارة هكذا، ربما في عامِ ألفين واثنين، كانَ ينقرُ بلَّور النوافذ نقرَ صغارِ العصافير، أو كأجنحةِ الفراشاتِ المخضلَّة، مطرٌ ناعمٌ، شفَّافٌ، من بقايا أحلامِ الطفولة، مشرَّدٌ ما بينَ السماءِ والأرض، يشبهُ نسيماً خفيفاً أو تنهيدةَ امرأةٍ تطلُّ على الأربعينِ بكاملِ تفَّاحِ أنوثتها، أو نهراً نحيلاً يرقصُ في الفضاء بقدمين عاريتين تزيلان طلعَ الريحِ عن وردةِ الزمن اليابسة، وآثارَ العواصف الرمليَّة التي خلَّفها الشتاءُ وراءهُ، مطرٌ نحتاجهُ لنعلو ونحلمَ ونخفَّ، لنعشقَ أكثرَ أو لنكتبَ أجملَ، نحتاجهُ لنحلِّقَ أبعد، مطرُ أبريل هو الطقسُ المفقود في لوحة القصيدة، هو القصيدةُ المائيَّةُ الخضراء.
***
مدنُ الساحلِ والنجوم

مرَّةً كانَ يحدِّثني صديقي عن تاريخ مدن الساحل الفلسطيني بينما كنت بشغف أراقب النجوم وأحدِّثه عن المسافات الخيالية والسنين الضوئية التي تفصل بين كل نجمة وأخرى.
***





روحي كغيمةٍ ضالة

آويت إلى فراشي لأنام ولكن كانت روحي كغيمةٍ ضالة تعبى تجوبُ الأرض مدينةً مدينةً من أقصاها إلى أقصاها.. من أصغر كوخ خشبي في طوكيو إلى أصغر زقاقٍ متسِّخ في بوينس آيريس يعجُ بالقطط الضالة والفتيان الذين يلعبون كرة القدم .. كنتُ أتحسَّسُ الاسفلت بيدي لأصدِّق أنني هناك .. وبالفعل مسستهُ.. هل هذه أحلام يقظة من تأثير (جوجل مابس)؟ لا أعرف.. هل أفرطتُ في التدخين أو شرب القهوة السادة اليوم؟
***
طريقُ الشعر

غالباً ما تقودك طريقُ الشِعر الى واحدٍ من ثلاثةٍ.. مجد أو صعلكة أو تسوُّل.
***











بوَّابة ثانية / حواريَّات














الشاعرُ الفلسطينيُّ نمر سعدي
في لقاء خاص بصحيفة "القدس" الفلسطينية :


*دواويني التي ارسلها لقسم الثقافة العربية نامت على الرف نومة أهل الكهف في حين طُبعت سخافات كثيرة أخرى**عندنا الشعر على مستوى بعض الأفراد الذين تكرّمهم دائرة الثقافة
* ضلّ من يقول أن الشاعر يكتب لنفسه فقط* اقول أن أغلب المحررين الأدبيين في الصحف أرباع مثقفين بل ربمّا أصفار مثقفين، ولا يتمتعون بثقافة راقية، وذوق سليم، فهم إما يخلطون الغث بالسمين، والدر بالحصى، أو يطرحون النص في سلة المهملات، لجهلهم بمواطن الفن والسحر فيه، وهذا ما حصل فعلا معي ومع غيري من الشعراء
رام الله-القدس-امتياز المغربي

هو الذي قال في احد قصائده التي اسماها لهفة الفينيقْ روحي تنامُ على تنفُّس...مائِها الدُريِّ في...أشعارِ هولدرلينَ...فيما جلدُها الرخوُ المضمّخُ...بالنعاسِ وبإنسيابِ العاجِ...يشهقُ في شراييني...ويعوي في شتائي...لم أقترنْ بفضائها اللغويِّ...إلاَّ كي أردَّ النقصَ....عن أسرابِ موسيقايَ...أقطف حكمة بيضاء...من بستان فردانيتي...أنا لهفة الفينيق...في غدها المحّنى بالحدائق...والرماد الارجواني المعطر...، كان هذا مقطع شعري للشاعر نمر أحمد نمر سعدي، الذي ولد في قرية بسمة طبعون، وهي قرية في الجنوب الشرقي من حيفا، وهو ناشط في المجالات الثقافية ويطمح في يوم ما الى تجسيدها بصورة اكثر فاعلية، أما اهتماماته فهي كتابة الشعر وقراءته واستكشاف خفاياه وكتابة المقالة. وقراءة الرواية والدراسة الأدبية عربيا وعالميا , والإطلاّع على ما ترجم من الشعر العالمي إالى اللغة العبرية .والنشر في جرائد محلية وفي بعض المواقع الأدبية مثل دروب والحوار ودنيا الوطن والجبهة. وكان لنا هذا اللقاء الخاص بالقدس مع الشاعر الفلسطيني الشاب نمر سعدي.
1. حدثنا قليلا عن بداياتك عن العائلة والقرية والاصدقاء ومكان الدراسة واكتشاف نفسك أو من اكتشف موهبتك في الشعر والادب؟ حدثنا عن أول قصيدة وسببها؟
البدايات ترجع ربمّا الى أواخر الثمانينيات أو بداية التسعينيات .فأنا لا أعرف بداية شغفي باللغة والأدب ولكنني لا أذكر وقتا من حياتي لم أكن ميّالاً الى الأدب ففي دراستي الأبتدائية كنت أقرأ كتاب حقول في اللغة والأدب السنابل الذي كانت تقرره دائرة المعارف . وفق منهاج اللغ العربية . في الأ سابيع الأولى من الفصل الدراسي الجديد متعرفا على نماذج عديدة من الشعر العربي والعالمي وقصص من الآداب العربية والروسية والصينية والأوروبية .
هذا الى جانب الجمال الطبيعي لشمال فلسطين والقرية التي تربيّت فيها الذي ربىّ داخلي ما يشبه الحنين الى مكاشفة حية بيني وبين الكون . وأوجد نزعة خافتة الى تغيير أو خلق شيء ما.
أقرُّ أن نصف موهبتي يرجع الى بيئتي القروية الهادئة وترابية الحياة فيها
وهدوئي النفسي في فترة الطفولة وما بعدها بقليل . أظن أن الابداع الحق لا ينمو ويتطوّر الاّ في ظل الطبقة الاجتماعية البرجوازية وهذا ما حصل معي بالفعل . فالعائلة كانت تمنحني الحرية المطلقة في تسيير بعض الأمور الشخصية . وهذا ربما جزء صغير أعزو اليه عدم جديتّي في إستكمال الدراسة العليا ولكن من يدري . ربمّا أستكملها في يوم ما، أصدقائي في هذه الفترة كانوا مشغولين عن الإهتمامات التي شغلتني .كان همهم اللعب واللهو . كنت أكبر من جيلي . فكريا وعاطفيا .
كان مكان دراستي قريتي الوادعة نفسها . وكان اكتشافي لنفسي في سن مبكرة نسبياً .ولم يكتشف موهبتي الاّ استاذ الإنشاء والتعبير في أواخر المرحلة الثانوية . أي أواخر1994 وبدايات 1995.
بالنسبة لأوّل قصيدة فهي لا تحضرني . ولكنني أذكر أنني بدأت كلاسيكياً بحتاً .معنى هذا أن مخزوني الشعري والثقافي الأوّل كان بالأساس مخزوناً تراثيا عربيا بحتاً بالإضافة الى النماذج التي تعلمتها في المدرسة وهي من الأدب العالمي .أماّ سبب الشعر أو الدافع وراء كتابة القصائد الأولى عندي فهو دافع خفي يدعوني في بداية الأمر الى تقليد أو مجاراة الجاهليين او الأمويين أو العباسيين من خلال نصوصهم التي تعلمناها .
2. هل أثرت الطبيعة المحيطة بك في أشعارك؟
بالطبع كان التأثير كبيرا هناك نزوع طبيعي لدي واستعداد نفسي لإستيعاب كل ذرات الجمال الخارجي للطبيعة . أو تقاسم التناسق الجمالي لهذه البقعة الطيّبة التي تمتد على جسد الجليل كله حتى بحر حيفا غربا .
قلت أن نصف موهبتي يرجع الى الجمال الطبيعي الذي يتصف به شمال فلسطين بجباله وسهوله وتضاريسه المكونة لجزء من طبيعة بلاد الشام يتميّز بغناه وصفاء هوائه وروعته . يمتد حتى أعالي لبنان ماراً بشرقي سوريا . في النهاية كل أشعاري تستند على هذا الإرث الجمالي الطبيعي الهائل الذي ورثته النفس وتمتعت به وتغنت بحسنه.
3. إلى أي المدارس الشعرية تنتمي؟
أنا من الشعراء الذين يرون أن النص الشعري بوجه خاص أو الكتابي بوجه عام ينتمي الى الكاتب بصفته منتجه . أي ينتمي الى لا وعيه أولا . وثانيا الى ثقافته وقراءاته وثالثا الى بيئته وزمنه . النص هو نتاج نفسي معّين يدل على الكاتب ولا يدل على سواه وهذا ما ذهب اليه بعض النقاد وفسّروه . مسألة المدارس عندي مسألة تتعلق بالجماعة أكثر من تعلقّها بالفرد . اليوم لم يعد عندي أية ثقة بالشعارات الأدبية . كأن يقولون هذا من مدرسة الاحياء وهذا من مدرسة الديوان وهذا من مدرسة التفعيلة وهذا من مدرسة شعر النثر . هذا عبث نقّاد لا غير . نقاد لم يقدموا الكثير أو المهم بالأحرى خلال قرن من الزمن. بالرغم من أن النقد عندنا كانت له جناية كبيرة على الأدب .النقد عندنا لم يتطوّر بصورة فعلية الاّ عندما أخذ يحتك بالغرب ويطبّق نظرياته وقد اعترف مارون عبود أن نقده ما هو الاّ وجهات رأي قد تصيب أو تخطأ . وكذلك الأمر مع الآخرين أمثال نعيمة والعقاد وطه حسين . تجربة نعيمة في الغربال تجربة أنضج قليلا وخالية من الشك ولكن كل هذه المحاولات لم تكن الاّ ارهاصات في سبيل نقد أدبي علمي ازدهر على يد محمد غنيمي هلال ومحمد مندور . وأعجب لقول ناقد ومترجم كبير عندما يقول أن الشعر النثري هو الحالة النموذجية الأصيلة والحتمية الشعرية التي توّصل اليها الشعر العربي . أو هو أمتداد طبيعي له. في نظري لا توجد قصيدة نثر أو شعر نثري . هنالك نص لا غير . نص يحتفي ربما بصور شعرية أو يعبّر عن حالة شعورية , كان التأثر بهذا النوع من الشعر مستجلباً من الغرب . وكان شعراؤه الأوائل مأزومين على صعيد المثل . فعبّر عن ثورة ورفض مع بدايات محمد الماغوط الذي قال انه بدأ كتابة الشعر النثري في سجن المزة وكانت قصيدته الأولى تعبّر عن انقلاب وهياج وتمرد وضياع روحي .ثم طورّها أدونيس وانسي الحاج فأحتضنت أبعادا شتى . منها الغزل والنثر الذاتي .وتناولها شعراء نثر مثل قاسم حداد وعبده وازن وكتبها شعراء التفعيلة كسعدي يوسف ودرويش وقباني . ولا أجد مبررا لكتابتهم هذه وهم المتمرسون بالعروض والتفعيلة .
أماّ مدرسة الإحياء فأذكر أن عميدها شوقي أثرّ عليّ كما لم يؤثر شاعر آخر عربي أو أجنبي علي , حتى بت أقول أنني لولا شوقي لما صرت شاعرا أذكر أنه سيطّر عليّ السنين الشعرية الخمس الأولى وطغى عليّ شعره الصافي الجزل المشرق الموسيقي السلس . شوقي أكثر الشعراء العرب الكلاسيكين احتفاء بالوسيقى الشعرية وهذا الأمر أعجبني جداً
خصوصاً لامتلاكي أذناً موسيقية مرهفة . أعتقد أنني قرأت كل ما كتب شوقي من شعر وأمتلأت به وتمثلته في فترة ما من حياتي دعيتها الشوقية. حتى أخرجني السيّاب من سجنه ودائرته في عام 1996 في أوائل أكتوبر، فوقعت في اسر السيّاب محب وتلميذ أحمد شوقي ثانية . ولكن السيّاب لم يكن كشوقي . كان برجوازيا ثائرا مسكوناً باللهيب حتى الموت. كان ثائرا على مجتمعه وعلى أغلال القصيدة العربية .
في النهاية آمنت بمدرسة الشعر الحر ورأيت في شعر التفعيلة أفقاً جديدا يشرع التحدي أمام أنصاف أو أرباع المواهب من أنصار قصيدة النثر التي يحاولون بها تخريب الشعر العربي بنماذجهم الرديئة القريبة من التقرير اليومي العادي . ولم أستطيع أن أتصوّر الشعر العربي بدون وزن وموسيقى مارشية مهيبة كما في العروض العربي . هناك موسيقى خارجية يشي بها الوزن العروضي وموسيقى داخلية تشي بها الحروف.
رغم كتابتي لشعر النثر والقصيدة العامودية أنا من أتباع التفعيلة .التي أعتبرها الوريثة الشرعية الوحيدة للشعر العربي.
ولكن الشاعر أخيرا هو تابع نفسه . أو نصه بالأحرى.
4.ماهي الرموز والدلالات التي تستخدمها في شعرك، ولماذا؟
كل كتاباتي أو أشعاري تتمحوّر في نهاية المطاف حول مسألة مكاشفة الوجود . واكتناه أسراره . والإجابة على الكثير من الأسئلة الكبيرة حتى لو كان النص مكتوباً بلغة الحب ومحاورة الجماليات الكثيرة . القصيدة هي سبر غور الذات في كثير من الأحيان . وفهم المتناقضات الكثيرة .
أقول أنه كلماّ ازدادت المتناقضات في الحياة كلما وجدت حاجة في نفسي للكتابة والشعر . وكلما ازدادت الحياة قسوة . وجددت في روحي نزوعا صلبا وطاغيا لتجميلها وتفتيت قساوتها بالشعر .لا داعي هنا الى تعديد المتناقضات . فهي ملأى من حولنا .
سؤال الحرية هو سؤال مركزي في شعري وأحاول في العديد من التجارب الشعرية أن أثير بعض القضايا المتعلقة بها .
مثلا ديوان عذابات وضاح آخر . يتحدث عن إشكالية الحب وتحقيقه .
في عالم الواقع لا في عالم الخيال . الا يوجد هناك عناق خفي مع روميو وجولييت ومجنون ليلى وأنطونيو وكليوبترا . حيث وجد مسيح الحب وجد أيضا يهوذا البغض واستحالة الوصال والأمن. والحب المتبادل.
شعري وصف لعيني السا جميلة ضائعة في غابة من المتناقضات يحاول افتراسها ذئب المفارقة والمستحيل .
استخدامي لهذه الرموز والدلالات هو ما سيضمن لشعري العيش بعد أن يموت كل شعر كان يعبرّ برخص وابتذال عن قضايا صغيرة.
5. اصداراتك الشعرية حدثنا عنها؟
منذ أواسط التسعينات وأنا أكتب الشعر وبدأت نشر البواكير في الأتحاد الحيفاوية بفضل الكاتب يوسف فرح . كتبت عدة دواوين منها عذابات وضاح آخر وأوتوبيا أنثى الملاك الذين نشرتهما بنسخ محدودة عام 2005 رغم أن الأول جاهز للطبع منذ أيار 2003 . في مرحلة ما بعد النشر في الاتحاد عام1999.توقفت عن النشر في الصحف المحلية . الى أن بدأت مع مطالع عام 2005 بالنشر مجددا في عدة صحف منها الاتحاد وكل العرب والأخبار التي تصدر في الناصرة ويرأس تحريرها الكاتب محمود أبو رجب . الذي كان له دور أجّله وأعترف أنه ساعدني كثيرا في النشر ساعة تخلىّ عني الجميع وأبرز اسمي في حين كان الآخرون يحاولون طمسه.
في الداخل هناك أزمة حقيقية لشاعر موهوب فهو إن لم تتبناه المؤسسه الثقافية ان وجدت أصلا فأنه في النهاية لن يستطيع أن يفعل شيئا . لن تصدر دواوينه ولن يترجم الى أي لغة ولن يلتفت اليه أحد . هناك الكثير من الضبابية والفساد القائم هنا حيث يستطيع كل شخص يملك المال أن يكتب كلاما سخيفا وفارغا من كل مضمون وخال من أية ثقافة وينشره وينال عليه الجوائز والتكريم . ولا أعرف لمن أتوجه ليكون لي عونا في نشر شعري وديواني الذي لو جمعته لجاوز العشر مجموعات من الشعر . الوضع هنا مزري ولا مستقبل لكاتب أو شاعر في الوسط المحلي الا بقدر محدود هذا هو رأيي الشخصي الذي ربما أختلف مع غيري به . أما في الوسط اليهودي . فربما كاتب ناشئ لا يتجاوز الخامسة والعشرين يكتب رواية وتترجم الى عدة لغات أوروبية وتتبناها دور النشر المختلفة وتكون لصاحبها سبب نجاح باهر .أدبي ومادي . هذا ما يحصل عند الغير . وفي الدول المتقدمة المتحضرة.
وينطبق على المؤسسه عندنا البيت التالي
لقد اسمعت لو نديت حيّا ولكن لا حياة لمن تنادي .
6. في صيف عام 1991 بدأت رحلتك الشعرية ونشرت ألبواكير في الاتحاد الحيفاوية حدثنا عن ذلك بالتفصبل؟
الطريق الى الشعر الفصيح عندي بدأت في هذه السنة بالذات من خلال حبي واعجابي وشغفي بالشعر الشعبي وهذا تطور عندي الى ان جرّني الى العروض وتفاعيل الخليل والشعر العربي والأدب العالمي . روايات فرنسية عديدة مترجمة الى العربيه تركت أثرها الوجداني علي في تلك الفترة . وأنغام تجويد القرآن أيضا كانت تسحرني . وروايات جرجي زيدان في مرحلة متقدمة على قراءة المتنبي وأبو تمام وأمراء الشعر الأموي والعباسي وشعراء الإحياء وعلى رأسهم شوقي .ثم قراءة جبران ونعيمة في أواخر الثانوية . جبران ونعيمة كاتبان خطيران جدا في تشكيل هوية المثقف في حداثته أي في مرحلة الثانوية الخاصة . ولا يستطيع أي قارىء أن يفلت من تأثيرهما الخارق .
جبران ونعيمة كاتبان عالميان استوعبا كل ميزات الكتاب العالميين في نظري ولا أكون مجاذفا اذا قلت أن موهبة جبران لا تقل عن موهبة الروائي الفرنسي العظيم مارسيل بروست . ولكن ظروفه لم تساعده ليكتب مثلما كتب بروست . بروست ذخر طاقته في البحث عن الزمن الضائع . وجبران بددها هنا وهناك .بالرغم من أن حياتيهما كانتا متشابهتين . وعلى وتيرة وطول لا يختلف كثيرا . مات مارسيل في سن الواحدة والخمسين أما جبران فمات مسلولا في الثامنة والأربعين .
7. شعرك أثار الجدل في الاوساط الثقافية خصوصا بعد أن نشرت مجموعتين من الشعر الحداثي بعنوان عذابات وضاح آخر وأوتوبيا انثى الملاك، حدثنا بالتفصيل عن ذلك؟
من خلال قراءاتي وتأثري بالشعر العالمي والعربي نشأت عندي ميزة خاصة وسمت شعري وهي المعانقات العديدة والمصافحات مع الكثير من الشعراء والكتاب الكونيين . وبرز تمثل افكارهم ومحاورتهم ثقافيا .
وذهنيا وحضاريا وشعوريا . شعرية التجاور هذه اعجبتني ولكن البعض اعتبرها عرض عضلات غير مبرر.ولكنها في الأخير محاولة لإستنطاق الأنا والوصول اليها من خلال الغير .وأيضا تبنّيت أسئلة غير مطروحة بشفافية عالية ومهارة شعرية والتزام فني في الشعر المحلي مثل أسئلة الحرية والحب كما في ديوان عذابات وضاح آخر .أيضا الموسيقى داخل قصيدتي تعبرّ عن حالة شعورية يصعب تجاهلها، وهناك أجواء موّشاة جميلة وعوالم أقرب الى عوالم رمبو ولوتريامون ألذي تأثرت بسرياليته وأحببت غرابته وظرافة وجدة صوره . في حين كان الشعر المحلي يقيم سدا بينه وبين التجديد على نطاق الموضوع والتركيب والرؤيا . أكاد القول أن الكثير من شعرائنا سوى قلة قليلة لم يفهم حتى هذه اللحظة معنى ومكونات القصيدة القبل حداثية فكيف يفهم الحداثة أو كتابة ما بعد الحداثة .
عندنا الشعر على مستوى بعض الأفراد الذين تكرمهم دائرة الثقافة ما يزال يعيش في النصف الأول من القرن الماضي على مستوى اللغة ,والموضوع والرؤيا والطرح.
8.متى بدأت تنشر على الانترنت ولماذا؟
بدأت النشر على النت مطالع عام 2005 لأنني أعتبر ان العصر الذي نعيش فيه هو عصر النت والتقنية الالكترونية الفاتحة لمجالات لا نهائية تمنح القصيدة كونيتها التي طالما حلمت بها وتعطيها أيضا لا محدودية تليق بها وتشرعها على الجهات الأربع حتى حافة الأرض . وهذا فتح تكنولوجي جديد وباهر .
9.متى تكتب الشعر؟
أعتقد أن كل الأوقات صالحة للكتابة .وأعتبر ان الشاعر او الكاتب الحقيقي يستطيع أن يبدع متى شاء أنّى شاء . هذا متعلق بتركيبته . أكثر مما هو متعلق بالزمان والمكان . أنا أكتب خلال اليوم في أغلب الأحيان ونادرا ما أكتب خلال الليل.
10.ماهي رسالتك من الشعر؟
ضلّ من يقول أن الشاعر يكتب لنفسه فقط . يكتب لنفسه نعم ولكن يكتب ايضا للآخر المختلف . الكتابة عملية للتبعثر في كل الفصول . والعيش في كل العصور . أنا أحاور في كتابتي فرجيل وهوميروس الذين قرأتهما وتسكن نصوصهما لا وعيي الخاص. الشعر عندي هو فنية الكشف والتعرية الوجودية . والتمازج مع موروث آخر . يسحرني ويقنعني .
حتى الشعراء المغمورين العرب والأجانب فأنني اعيد صياغتهم بلغتي فأنا في النهاية مشارك حيوي في غزل وإتمام هذا النسيج الشعري الكوني ورسالتي ان أكون أنا وأن لا يتلاشى صوتي مع أصوات غيري . وأن أحقق ذاتي الشعرية الأخرى التي ورثت الكثير عن جدها المتنبي وصنوه بايرون . وأن أسكت هذا النداء الى المجهول الجمالي المطلق.الصارخ أبداً. الى ما لا نهاية.
11. ماهي الابداعات الادبية والصور الشعرية التي تجلت في شعرك؟
أنصح بالرجوع الى قصائدي واستجلاء الصور التي لا مجال لحصرها هنا فهي كثيرة وعديدة ومتنوعة وغنية ومستمدة من خيالات وثقافات لا تعدُّ ولا تحصى .هذا سؤال فضفاض ويحتاج الى دراسة أطمح أن يقوم بها أحد هؤلاء المخلصين للشعر والفن الكتابي .في يوم ما .
12. ماهي المواضيع التي تطرق لها شعرك والسبب في اختيارها؟
المواضيع التي تطرق اليها شعري كثيرة ومتنوعة وقد أتيت على ذكرها عندما تحدثت عن الدلالات والرموز في شعري . أما السبب في اختيارها فلظنيّ انها تشكل بؤرة مهمة يجب تسليط الضوء عليها . الحديث عن الهم الجماعي في النص المكتوب ينبع من ميل ونزعة لصياغة هم فرداني ملحّ وهذا يتجلى عند شعراء كثر .كالسياب مثلا.وينبع ايضا من حلم بحياة أفضل للجميع على هذه البسيطة.
13. هل من الممكن ان تسرد لنا ثلاثة اقوال لنقاد حول شعرك
كتبت عني بعض المقالات النقدية . وممن كتب الروائي الفلسطيني سهيل كيوان والدكتور بطرس دلة والدكتور منير توما والسيد شاكر فريد حسن والدكتور الناقد العراقي ثائر العذاري وغيرهم .
والمقالات منشوره على النت ولا يحضرني الآن شيئا من أقوالهم .فمن أراد البحث عنها فهي موجودة ومنشورة في عدة مواقع أدبية معروفة.
14. هل لك ان تسرد لنا القليل من ديوانك الشعري الأخير ؟
هاتان قصيدتان من نتاج عام 2005

النوارس في دمي تبكي

سألمُّ يوماً ما تناثرَ من صدى قدميكِ حولَ ضفافِ قلبي
مثلَ عطرِ النارِ يفجأُني
النوارسُ في دمي تبكي لأوَّلِ مرَّةٍ في الروحِ
تملأني بدمعِ شقائقِ النعمانِ
قلبي زائدٌ عن حدِّهِ
أو ناقصٌ من وردهِ
شفةً تقلِّمُ لي حنانَ الأرضِ وهو يفيضُ عن وجهي
وعن لغةِ ارتحالي في الضبابْ
سألمُّ يوماً ما بأهدابي زهورَ بحيرةِ الحُمَّى
تهدهدُ روحَ لامرتينَ في شفقِ العذابِ
تضيئني لغتي بلا قمَرٍ رخاميٍّ
ويطفئني عراءُ جمالكِ الممهورِ بالموجِ الحزينِ على ذبول الصمتِ
والمهدورِ بالنعناعِ في أبدِ السحابْ

**************

لهفةُ الفينيقْ


روحي تنامُ على تنفُّسِ مائِها الدُريِّ في أشعارِ هولدرلينَ
فيما جلدُها الرخوُ المضمّخُ بالنعاسِ وبإنسيابِ العاجِ
يشهقُ في شراييني ويعوي في شتائي
لم أقترنْ بفضائها اللغويِّ إلاَّ كي أردَّ النقصَ عن أسرابِ موسيقايَ...
أقطفَ حكمةً بيضاءَ من بستانِ فردانيَّتي ....
أنا لهفةُ الفينيقِ في غدِها المُحنَّى بالحدائقِ
والرمادِ الأرجوانيِّ المُعطّرِّ بالحنينِ الى مكانٍ
لستُ أعرفهُ
الحنينِ الى زمانٍ
ليسَ يعرفني.... ولوعةُ أسئلهْ
ترفو عذابَ الليلِ في قلبي... ونارُ قرنفلهْ
بدمي أراها في الهواءِ الرخصِ
تنحلُّ القصيدةُ دونَ قُبلتها
ووحدي لا أرى
عطشَ الاباحييّنَ ينضحُ من أصابعها على قمرِ القرى
في القلبِ وهو يخبُّ في جمرِ الغوايةِ
كائناً / صفةً لعينيها
ويلحقُ قيصرا.

15. كيف تحدثت عن المرأة في شعرك؟
المرأة في شعري تحتلُّ مكانا بارزا لشدة تأثيرها على الشاعر بوجه خاص فهي ملهمته وعلى العالم بوجه عام . الأنوثه متشعبة في كل شيء وتطال كل شيء هناك من يقول ان الحضارة أنثى . وأن الشمس أنثى وأن الطبيعة أنثى , وهذا ما آمن به الشعراء على مرِّ العصور .هي من الأشياء التي يجدر أحتفاؤنا بضوئها الخفي . والهائل في الوقت ذاته .هناك شعراء كان دافع الكتابة لديهم الحب .فهم غارقون في فيوضاته وهيولاه .أماّ
حديثي عن المرأة من خلال كتابتي يركزُّ على دورها وخصوصيتها في الحياة بصفتها العنصر الأهم والمكّمل للرجل . وبصفتها أيضا رافدا من أهم وأغزر الروافد ألتي تخص كل فن وأدب . كل القطع الموسيقية في العالم ترتبط ارتباطا وثيقا بالحب والمرأة كذلك الشعر والنثر والرواية الحديثة . فهي تصوير للمرأء وصدى علاقتها مع الرجل في أبهى تجلّيات هذه الصلة والعلاقة . المرأة أساس غنى عاطفي يستطيع الأنسان أن ينطلق منه ويكوّن فنه . هي اذن قبل كل شيء النواة والبذرة حتى قبل أن يتكلم الشاعر عن همومه الذاتية والحياتية والحرب والسلم وأوجاعه وأفراحه وملذاته وأحزانه .
لا يوجد هناك شاعر واحد أو كاتب لم يكتب عن المرأة . ولا يوجد موسيقي قديم أو حديث لم يكن عمله صدى لعلاقة حب وتخليدا لها.
16. ما سبب توجهك ايضا لكتابة المقال وماهي المواضيع التي تتطرق إليها؟
أنا مقل في كتابة المقال الأدبي الذي أحاول فيه أن أشرح بعض آرائي وأسلّط الضوء عمّا خفي من تجربتي الشعرية .وهو كثير .وعلاقتي بالشعراء, وإبراز نظرتي وإعجابي وتأثري بنصوص مختلفة لشعراء وكتاب مختلفين.
17.ما رأيك في الشعر الفلسطيني الحديث، وبماذا يختلف عن الشعر القديم؟
الشعر الفلسطيني في العشرين سنة الأخيرة عند شعراء مثل محمود درويش وسميح القاسم وغسان زقطان وعز الدين المناصرة والمتوكل طه ويوسف أبو لوز . وسواهم من طبقتهم وجيلهم يحتل مكاناً مهما في صدارة الشعر العربي . وأعتقد أن الشعراء الفلسطينيين يقاسمون اخوانهم الشعراء العراقيين والسوريين واللبنانيين أمارة الشعر الحديث . في حين تزدهر في مصر والسعودية وبلاد المغرب الرواية ويعلو النص النثري وصوت المقالة والنقد.
اختلاف الشعر الفلسطيني عن الشعر القديم يرجع الى اختلاف طرق التعبير والهم الذاتي والمرحلة والبحث عن هوية يحاول الحاضر طمسها . الشعر الفلسطيني شبيه بالشعر العربي الى حد التماهي . بالشعر الجزائري مثلا في كثير من الأحيان لا أستطيع أن أميّز شعر عز الدين ميهوبي عن شعر سميح القاسم .وبما أن جيل كامل من الشعراء العرب تأثروا بهذا الثلاثي الرائع وأقصد محمود درويش وسميح القاسم وعز الدين المناصرة . فاننا نستطيع أن نجد تشظّيهم في أصوات شعرية عربية كثيرة . ونلمس أصداءهم البعيدة الرجع في المشهد الكلي للشعر الحديث متجاورة مع أصداء أدونيس وسعدي يوسف والمقالح وأمل دنقل.
18.مارأيك في الشاعر الفلسطيني أولا والعربي ثانيا؟
الشاعر الفلسطيني اليوم يعيش حالة من الضياع الثقافي فهو من ناحية يسعى جاهدا للحفاظ على ماضيه والتمسك بهويته التاريخية والحضارية ومن جهة اخرى يحتضن المنفى مرغماً ويفتشُّ في بلاد وثقافة غيره عن ملجأ لوجعه وإنكساراته . أغلبية الشعراء الفلسطينيين الكبار مشردون عن أوطانهم . ويفيضون حنيناً الى طفولة بيضاء . كانت لهم في ظلال شجر السنديان . جلهم في الشتات يعيش أزمة مصيرية ثقافية أما هنا نحن في الداخل . فالتواصل ضعيف الى حدّ ما مع الخارج العربي .مما يجعلنا نعيش في شبه انقطاع لولا ما يتيحه النت . أما صورة الشاعرالعربي فلا تختلف كثيرا عن صورة الشاعر الفلسطيني .
فالنخبة امثال أدونيس وسعدي يوسف . لم يستطيعوا أن يجدوا الحرية الفكرية المرجوّة في بلادهم . ولم يفلحوا في ايجاد هرمونيا مع الواقع الثقافي والفكري في أوطانهم، بالاضافة الى ظروف كثيرة اجتمعت لديهم، أبرزها سطوة السلطة وتجبرها . مما حدا بهم الى الرحيل الى الغرب والإنتماء ولو كان ذلك في أقصى دخيلتهم الى الغرب حضاريا وثقافيا.
19. هل هناك شعر مستهلك ولماذا؟
يوجد هناك شعر مكرّر حتى أنه فاقد للونه الأصلي . ويوجد أيضا شعارات مستهلكة عندنا في الشعر العربي وهي كثيرة .
نتيجة عدم الانفتاح وعدم التحاور الثقافي والأستفادة من موروث الغير الجمالي . لم يتطور الشعر العربي بصورة فعلية الاّ بعد احتكاكه بالأداب الأخرى . وتمثلِّ جمالياتها اللا نهائية . وهضم موروثها من الألياذة الى مؤلفات شكسبير مرورا بكوميديا دانتي الالهية.
20.ماهي مشاكل الشاعر الفلسطيني المعاصر؟
مشاكل الشاعر الفلسطيني المعاصر متعددة منها . استحالة البقاء أمام تيّار العولمة الداعية الى تهميشه . الخوف من تلاشّيه وخسران هويته الثقافية الحضارية وموروثه التاريخي . استمرارية النزاع الدائر على وطنه . فقدان استراتيجية الدفاع عن الحلم بالمستقبل .الوصول الى ايجاد أفق أوسع للحرية الذاتية .
هنا أعني حالة الشاعر الفلسطيني المقيم في الشتات.أولاّ . وثانيا الشاعر الفلسطيني المقيم في وطنه .

21. هل لك أن تسرد لنا مقطعين شعريين من شعرك؟

سأسرد قصيدة بعنوان لي ولها

لي ولها


كلُّ ما تتمخضُّ عنهُ القواميسُ
لي ولها
كلُّ ما تتمخضُّ عنهُ النفوسُ
التي احترقتْ مرةً
في فضاءِ البنفسجِ
وهيَ تزيِّنُ صلصالها
بأغاني النجومِ...
الحياةُ التي أفحمتْ شاعري
بالفراغِ البريءِ
وما تتمخضُّ عنهُ المزاميرُ
لي ولها
لي جنونُ أبي الطيّبِ المتنبي
وخسرانُ سلمِ بن عمرو
وموتُ امرىء القيسِ
من غيرِ معنى يؤكدُّ
ماهيّةِ الرملِ والشعرِ
أمّا لها
فالنهارُ الذي يسكبُ الآنَ
فوقَ جفافِ الكلامِ جدائلها
والحمامُ الخفيُّ الذي
يتساقطُ كالدمعِ
من ناطحاتِ السحابْ
لها قسوةُ الأمنياتِ
وكلُّ احتضارِ الضبابْ.

22. في رصيدك مئات القصائد الغير منشوره بسبب التعتيم الاعلامي والحصار الذي يضرب على كل ما هو جميل وجيد في الحياة، بماذا تعلق على ذلك؟
أقصد بهذا القول أن أغلب المحررين الأدبيين في الصحف أرباع مثقفين بل ربمّا أصفار مثقفين ولا يتمتعون بثقافة راقية وذوق سليم فهم إما يخلطون الغث بالسمين والدر بالحصى أو يطرحون النص في سلة المهملات . لجهلهم بمواطن الفن والسحر فيه . وهذا ما حصل فعلا معي ومع غيري من الشعراء .
23. ما هو دور المؤسسات الثقافية في دعم الشاعر الفلسطيني؟
أجبت على هذا السؤال سابقا .
لا أظن أنه توجد مؤسسات ثقافية فعلية وذات تأثير ملموس لدعم الشاعر الفلسطيني . أنا أعتقد أن الثقافة والشعر والفن عندنا نحن العرب في أسفل سلمّ الأفضليات إذا كان هناك سلّم أصلاً . دواويني التي بعثتها لقسم الثقافة العربية نامت على الرف نومة أهل الكهف أو أكثر بقليل وطبعت
سخافات كثيرة . في كل دقيقة يطبعون لمن هبَّ ودب َّ وعندما أستفسرُّ عن كتابي يقولون لا توجد ميزانية.أعتقد أنه توجد هناك عصابة رخيصة تحتكر هذا الذي يدعى بدائرة الثقافية العربية. وتدير بيروقراطية النشر والدعم فيه. أنا أعتقد أنه لا توجد مصداقية وتوجد علاقات عامة ورياء ومحاباة وجهل وجاهلية وتخلّف .
24. مواقف حدثت معك ولن تنسها في رحلتك عبر بحور الشعر؟
أذكر موقفا طريفا مع الشاعر الكبير سميح القاسم . كنت في الناصرة قبل مدة وأحببت أ أمر لأسلّم على الشاعر سميح القاسم وكانت معي جريدة الأخبار وفيها منشورة قصيدة لي . رأيت سميح الكبير في غرفة أشبه بردهة تميل الى الصغر . كنت قد أهديته ديوانين من قبل . رحبَّ بي وصبَّ لي القهوة بنفسه . أبدى اعجابه بالديوانين . مدَّ لي سيكارة بارلمنت . ودخنّا سوياً . تناول مني الجريدة وقرأ قصيدتي بصوته الجهوري الصافي . لا أنسى أنه أستاذ كبير في فن الإلقاء .
كان كريما صريحا شفافاً لم أكن قد قابلته من قبل ولم أعرف شيئاً من نبله وبشاشته . أثناء الإلقاء نبهنيّ الى وجود خطأ عروضي داخل القصيدة وأكدَّ ذلك . وتداركت هذا معه . كنت وقتها أعتقد أنني تمرستُّ في علم العروض وأستظهرت خفاياه . ولكن لكل جواد كبوة أو كبوات وفوق كل ذي علم عليم . تعلمت أيضا أن سميحاً هذا شاعر كبير وإنسان أكبر . لا تخفى عليه في علم ولا في أدب خافية . ويستحقُّ مكتباً أكبر بكثير من مكتبه في كل العرب.
25. الى ماذا يحتاج الشاعر الفلسطيني؟
الشاعر الفلسطيني . بحاجة الى تطوير أدواته الشعرية والحد من القلق الوجودي الذي يتأكل روحه . منذ أكثر من نصف قرن . الشاعر الفلسطيني بحاجة الى فسحة ضوء وعطر وحرية وجمال وحب , تغسل الدم النازف من أرضه وتاريخه.وماضيه وحاضره.والى لغة تخاطب خارقة وعابرة للقارات يستطيع ان يكسب بها الرأي العم العالمي ويقنع بها خصومه . ولا بأس اذا صيغت من فراشات ملونة حديدية وندى ناري . واذا حملت كل صخب الأرض وهدوء السماء .
26. ماهي طموحاتك المستقبلية؟
لا أطمح بشيء لا أستطيعه . أطمح بأشياء بسيطة لا علاقة لها بجدي المتنبي . القائل
اذا غامرت في شرف مروم فلا تقنع بما دون النجومِ
فطعم الموت في أمر حقير كطعم الموت في أمر عظيمِ
أن أستمر في الكتابة هذه المهنة المقدسة والملعونة في آن معاً , وأن أجد الأمن الذي لم يجده السيّاب . وراحة أبي تمام الكبرى، والرضى النفسي. وفي النهاية أن أجد دار نشر تساعدني في طبع أعمالي. وأن أترجم إلى عدة لغات، وأحظى ببعض الدراسات الأدبية مثل غيري .
27.ماذا تقول لكل الشعراء؟
لا أجد ما أقوله للشعراء الاّ الذي قلته هنا .
* عن جريدة القدس
25/12/2007

******














الشاعر الفلسطيني - نمر سعدي – في لقاء أدبي لزمان الوصل :
حاوره : مرهف مينو – زمان الوصل/ سوريا



لو كنت لا أعرف نمر سعدي لظننت أنه شاعر ستيني، فحرصه على تقاليد قصيدة التفعيلة حد التقديس يشجع على مثل هذا الظن..فضلا عن انتهاجه نهج الستينيين في محاولة غزل خيوط الواقع ونسجها في نسيج رومانسي يتخذ من عناصر الطبيعة وعاءً لقضايا الفكر.
ثائر العذاري - ناقد من العراق-

لم أجد اجمل من هذه الكلمات لوصف الشاعر نمر سعدي .....
عرفناه شاعرا متمكنا مجيدا يحلق في سماء الشعر بأسلوب مميز يظهر جليا في قصائده التي يبدو وكأنها تنسلخ من روحه المبدعة سنحاول في هذا اللقاء أن نسلط الضوء أكثر على هذا الشاعر ونتعرف عليه عن قرب

• • تعرفنا على الشاعر نمر سعدي من خلال ما قرأناه من خلال الصحف والدوريات الثقافية او ما يصلنا من خلال شبكة الانترنت .. نريد ان تحدثنا عما لا نعرفه عن نمر سعدي كبداية .

أوّلا أنا عربي مسلم أعيش في فلسطين المحتله في بقعة تدعى الجليل . من عائلة متواضعة من ضلع فلسطين وملح أرضها تسكن في قرية بسمة طبعون في الجنوب الشرقي من مدينة حيفا الساحلية .
وثانيا أنا كائن مملوء بالأحلام والطموحات والرؤى النبيلة ومسكون بعشق الحرية . وليست الكتابة عندي الاّ محاولة جريئة مني لتجسيد هذه الأحلام وممارسة الحرية ومنحها بعض الشرعية الوجودية لكي تتنفس في رئة حياة باتت جامدة وتتواجد في صخب هذا الواقع الذي بات يثقل كواهلنا بماديته وضيق أفقه ومحدوديته... أخيرا لكل شخص أن يفسرّني كيف شاء هواه من خلال قصيدتي .

في ليلةٍ ما عندما يصحو الندى
في حنطةِ الأيامِ
سوفَ يضيئني وجعي الذي أدمنتهُ
زمناً... وتركضُ في مفاصلِ وردتي
نارُ المجوسِ..
يحيلني ندمي
الى أنقاضِ فردوسٍ
يحيلُ دمي فقاعاتِ النبيذِ المُرِّ
في قلبِ امرئِ القيسِ
المُعذَّبِ بالجمالِ الحُرِّ أو بلحاقِ قيصرْ

• • من الملاحظ أن المرأة تحتل مساحة واسعة من شعرك ؟

في الفترة الأخير أحاول أن أعطي المرأة بعدا رمزيا في قصيدتي وأمنح هذه العلاقة الملتبسة بعض الشفافية ليحاول الآخر أن يستشف ما يخفى عليه داخل جوهر الأنوثة . فنحن كبشر رجالاً ونساءً يكملُّ أحدنا الآخر ولا تقتصر صلتنا بعضنا ببعض على الحب أو ألنوازع البيولوجية فقط . هناك في بعض القصائد الأخيرة إستدعاء للمرأة المعجزة أو إمرأة اليوتوبيا الموعودة التي لا تتحقق الاّ في داخلنا وفي أعماق وهمنا وفردوسنا المفقود ولا نجدها في واقعنا . هذا الأحساس ينبع من خوف فقدانها وخسارتها كقيمة جمالية كبرى . كل كاتب أو شاعر أو فنان يستشعر هذه الخسارة الإفتراضية وهذا الفقد الوهمي قبل أن يقعا لذلك فهو متطرفٌّ الى أبعد حد بمثاليته الغنية الثرّة .من جانب آخر نحن نحاول دائماً التغنيّ بمزامير الطريق ولا نصل أبداً وهذا هو سر الجمال والسعادة هنا . المرأة كمدينة مسوّرة سحرية اذا وصلتها ضاع كل شيء . وقيمتها الجوهرية الفذة تكمن في هذه الضبابية التي تحيطها بالغموض والمجهول.

• • تعددت أساليبك الشعرية فتارة تكتب بالتفعيلة وتارة القصيدة العمودية .... فلما التنقل من مدرسة لأخرى ؟

أنا بالأساس شاعر عمودي أي بدأت عمودياً ولا زلت أكتب قصائد عمودية كشعراء كثر وهذا لا يضير فهناك شعراء عموديون وتفعيليون في نفس الوقت كنزار قباني ومحمد علي شمس الدين وسميح القاسم ولكني وجدت فيما بعد أن التفعيلة هي الصورة الحية المقنعة لتطوّر القصيدة العربية والأمتداد الطبيعي للموروث الجمالي الشعري لدينا . أعتقد أن التفعيلة حاولت بكل صدق أن تذهب بعيداً وتحتوي تجارب صادقة وأن تعبّر جليّا عن مكنونات الشاعر العربي في الوقت الراهن .القصيدة العمودية مرتبطة ذهنيا عندنا وقبل كل شيء بخيام البدو وأبلهم وظبائهم .ولكنها استطاعت أن تتطوّر عندما كتب بها شعراء موهوبون . الشكل الشعري لا يهم كثيرا هنا. ما هو الاّ وعاءً أما المهم فالسائل الذي يملؤه .
التجربة النثرية مثيرة للجدل والاهتمام لأنها استوعبت الكثير من العناصر والجماليات الجديدة . وأتمنى أن لا يكون هناك فجوة عميقة بين تطوّر هذه وحضور تلك . لأن النثر في النهاية يرجع نثرا مهما بلغ من الروعة والبلاغة ويحسب علينا كذلك في المستقبل . هناك مثلا تجارب النفرّي وأبن عربي وأبن حزم الأندلسي هي حسب مقاييس الغرب لقصيدة النثر تجارب شعر محض ولكنها في موروثنا تجارب نثر فنيّ أو صوفي أو نثر جمالي ذاتي وجداني . أما الشعر فلا مبّدل له . هل يستطيع أحد أن يغيّر شعر المتنبي ؟ أو شعر أبي تمام . لا أظن ذلك .
• • ما رأيك بالحركة الشعرية المعاصرة " الغير ملتزمة بالتفعيلة أو القصيدة العمودية " عربيا ؟

هناك بعض الضبابية أنا لا أستطيع أن أميّز موهبة كبيرة حقاً .
وكل الشعر يبدو لي متشابها بعض الشيء . نحن نسير حسب قول أينشتاين الى الكارثة الثقافية . المشكلة أن الشعراء النثريين لدينا مثقفون وكاتبو دراسات نقدية وأبحاث وعلى مستوى عالٍ من الإطلاع وهم واعون جيداً لمشكلة هيمنة النثر الجمالي . لا أعرف سر هذه الحملة على الإيقاعات العربية . هناك شعراء مثل سعدي يوسف الذي فتح المجال أمام اليومي والشائع ومثل أدونيس الذي أغرى الآخرين بالشعر الفكري المشبع بالرمزية والغموض والذهنية والتقريرية أحياناً.
أنا ضد هيمنة القصيدة العمودية ولكنني أيضاً ضد هيمنة قصيدة النثر . حتى أدونيس" رغم إعجابي بشعره وتنظيره الجريء "في كثير من كتاباته لقصيدة النثر غامض وغير متسلسل وتغلب عليه الذهنية والفكرية أحيانا . أنا أحب شعره التفعيلي أكثر . وأحترم ريادته وتجديده في الأوزان العربية وفي المحتوى والمضمون .
• • نمر سعدي ... هل أنت متأثر بتجربة شعرية حديثة أو قديمة ؟

من الصعب عليَّ أن أجزم بكلمة واحدة أنني متأثرٌ بتجربة بعينها قديمة أو جديدة . أؤمن أن المبدع اذا توقفَّ عن القراءة فقد أنقطع وحيه وجف نبعه. تجاوز الذات شيء مهم لدي وانقلابات الشاعر على نفسه أيضا . أحيانا تجربة واحدة غنية ومتنوعة كتجربة "ماركيز" تغنيني عن تجارب عدة فقيرة .
كل يوم جديد أكتشف تجارب جديدة تقنعني بضرورة المتابعة والكتابة .في النهاية أنا متأثر بالمجموع الكلي للتجارب الجيّدة الحقيقية ولست متأثرا بتجربة واحدة فقط .

• • لمن تحب أن تقرأ ؟

لشعراء وكتاب كثيرين عرب وأجانب لا مجال هنا لحصرهم جميعا , ربما أقرأ في الصباح في رواية من روايات مركيز وفي الليل أقرأ في ديوان المتنبي . هناك تنويع كبير ولا محدودية في القراءة الموزّعة على الشعر والرواية والمقالة النقدية ولكنني في أحيان كثيرة أقرأ طويلا متأملاً في وجوه الناس والطبيعة والأشياء . وأجد في ذلك كنزاً عظيماً وحكمة.

• • هل تعتبر نفسك تعبر عن جيل من شعراء الحداثة، أم أن نمر سعدي نسيج خاص؟

بل أجد نفسي في آن واحد أعبرُّ عن جيل من شعراء الحداثة ابتدأ بالسيّاب والبياتي ونازك الملائكة وأمل دنقل وحجازي وقباني واستمرَّ حتى شوقي بزيع وعبد العزيز المقالح ومحمود درويش وحسب الشيخ جعفر وأدونيس . وأحاول من جهة ثانية صنع نسيج خاص بتجربة منفصلة تنمو رويدا رويدا وعلى حدة .
• • وجدنا بعض قصائدك العمودية الكلاسيكية قد كتبت بشكل شعر تفعيلة ما السبب ؟

لا يوجد أهمية عندي لتقسيم وتوزيع القصيدة . التوزيع التفعيلي للقصيدة العمودية نجده عند شعراء كثر مثل محمد الفيتوري ونزار قباني وشوقي بزيع وعلي جعفر العلاّق والبياتي وهذا أمر يعدُّ ثانويا في كتابة الشعر . ربما هذا نوع من التجديد في العمود الشعري على مستوى الشكل . كل شاعر حرٌّ بتقطيع قصيدته ما دامت سليمة من الكسر في وزنها .وكل قارئ ذكي يكتشف لعبة التقطيع تلك من السطر الأول .عدا أن هذا الأمر لا يضير القصيدة شيئا بل يقوم بتحديثها وتقديمها بصورة مفاجئة ومغايرة تتناسب مع الراهن أكثر . وهناك قصائد كثيرة لعلي جعفر العلاّق موزعة توزيعاً تفعيلياً وهي قصائد عمودية بالأساس .


حب بلا امرأة يغلف نومَه
المرئي بالكلمات تقطرُ من
دموع النورس البريِّ
.. كان غناؤها المائيُّ
يجرحهُ كزقزقة العصافير
الغريبة عن سماء الله
كانَ معبّأً بالبرق من أعلاهُ
حتى أخمص القدمينِ
يبحثُ في خلايا الأرضِ
عن منفى ومفردةٍ بلا ماضٍ
يؤنثها يُعيد بها تفاصيل
الرواية أو يدقُّ بها
على الروحِ التي نامت على وجع الترابِ
بلا مراودةٍ ويحتضنُ الفضاءَ
بلا يدين وقبلتينِ
من السرابِ الهشِّ
ينظرُ دونما شفق
بعين غزالةٍ مذبوحةٍ
بهلال شهوتهِ/ مرايا للغيابْ



• • هل قرأت لشعراء سوريين وهل تعتبر الحركة الشعرية السورية مؤثرة في الأدب العربي ... طبعا في الفترة الراهنة ؟

قرأت لكثيرين منهم أدونيس ومحمد الماغوط ومحمد منير خلف
وياسر الأطرش ونوري الجراح ونزيه أبو عفش ومحمد الصالح الحسين وبهيجة مصري وغالية خوجة . كلهم كبار ويستحقون القراءة . وأعتبر الحركة الشعرية في سوريا من أقوى الحركات التي تحتضن المشهد الشعري في العالم العربي . وهي مؤثرة ومتطوّرة بشكل مذهل . وقد قمت بالإطلاع على الدواوين التي يصدرها اتحاد الكتاب عندكم فأصبت بالذهول من نضوج التجارب الشعرية وغناها بالمقارنة بما يجري في فلسطين .
أنتم تتفوقون علينا أضعافا مضاعفة .

• • غزة ...؟؟؟ أنت في قلب الحدث نتاجك الشعري الذي وصل لم يتناول ما يستجد من أحداث على أرض فلسطين ؟

منذ شغفي الأوّل بالشعر وأنا أحاول أن أتخلّص من شعر الحدث والمناسبات الذي رحل زمنه مع أن مصيبة غزة ليست مناسبة .
أحاول أن أصوغ مأساة غزة في كل ما أكتب من شعر ممزقّ بين الواقع والخيال والحرية والظلم ولكني قلت شعرا كثيراً لفلسطين كلها ولا أريد أن أجزأها فهي حاضرة في كل ما كتبت وما سأكتب حتى لو كان شعرا بسيطا أو شعرا يعبرُّ عن قضايا كبرى . يجب على الشعر أن يعبّر عن الحدث بصورة غير مباشرة ومن هنا تنبع قوته وحدته . الشعر عندي ليس شعارا ولا تقريراً يومياً. أنا أعبرُّ عمّا يحدث في كل بقعة موبوءة بالظلم في العالم بصورة مغايرة وجماعية أكثر .

• • نلاحظ انك تنشر الكثير من موادك في زمان الوصل فهل من الممكن شرح السبب ؟

لا لغير أنه يحتفي بنصوصي دائما وينشرها . وأود أن أتمنى له دوام الإستمرار والنجاح .

• • نمر سعدي ... تفضل النشر الالكتروني أم الورقي ... السبب ؟

أفضلُّ النشر الورقي بالصفة الأولى والألكتروني بالصفة الثانية .
وقد يكملُّ أحدهما الآخر. اليوم بالذات النشر الألكتروني مهم لأنه يتيح المجال أكثر لإنتشار النص الأدبي .ويشرع تحدِّ آخر أمام الكاتب ليتقن أدواته ويبدع ويجاري غيره . ولكنني أظن أن في النص المنشور ورقياً حميمية خاصا تربطه بصاحب.
**********






الشاعر الفلسطيني نمر سعدي:
الكتابة غواية محفوفة بالمكر

انديرا مطر- كاتبة من لبنان

يعدُّ الشاعر نمر سعدي واحداً من الأصوات الجديدة في الساحة الشعرية الفلسطينية.. صدرَت له الدواوين الشعرية التالية: عذابات وضَّاح آخر (2005)، الناصرة، موسيقى مرئية (2008) الناصرة، كأني سواي (2009)، حيفا، يوتوبيا أنثى (2010)، رام الله، ماء معذَّب (2011)، الناصرة، وقتٌ لأنسنةِ الذئب (2014) القاهرة، تشبكُ شَعرها بيمامةٍ عطشى، القاهرة، وصايا العاشق (2014)القاهرة.
القصيدة المشتهاة
تنصتُ أشعارُ سعدي لهموم التجربة الحياتية وتزخمُ بالموسيقى الهادئة. يتميز شعره بقدرة على التعبير اللغوي، والتصوير الفني على حد سواء، متكئًا، في هذا وذاك، على خيال جامح منفتح على الاتجاهات كافة. موضوعات شعره إنسانية ووجودية وعاطفية لكن قصيدته المشتهاة هي تلك التي تمزج هموم ذاتية وإنسانية وجمالية وفلسفية حتى قصيدة الحب التي يكتبها قد تعبِّر عن عاطفة إنسانية أو مشكلة فلسفية في إطار جمالي معرفي ملبسة بلبوس الشغف الجسدي، "أعتقد كل شعر أكتبه يدور في فلك الشغف الجسدي كما تدور شمس في سماء حزيران الزرقاء. أوائل قصائدي كلها مرتبطة بشكل أو بآخر بأواخر الشغف الجسدي الذي أعنيه".
قصيدة التفعيلة والسياب
كتب سعدي قصيدة التفعلية ولم يتعصب لها، الى جانب العمودية وقصيدة النثر "بما أنني أعتبر نفسي كائن موسيقي أو بالأحرى إيقاعي لم أستطع التخلص من تحرش الأوزان والبحور الشعرية بناي في القلب.. وبذلك أراني مشدوداً إلى قصيدة التفعيلة أكثر من غيرها.. طبعا من غير انتقاص للقصيدة العمودية المكتوبة بروح جديدة وقلق حديث أو للقصيدة النثرية المكونة من جزئيات صغيرة متناهية الصغر والمفتوحة على احتمالات اليومي والعابر ودقائق الأشياء".
قصيدة التفعلية تستحضر تلقائياً معلمه الأول وأحد الآباء الشعريين العظام بدر شاكر السياب، "لا أظن أن شاعرا عربيا أثار الجدل خلال أكثر من نصف قرن كما فعل هذا الشاعر الفذ".
درويش والاعجاز
ماذا عن مواطنه الشاعر محمود درويش الذي قلما نجا شاعر فلسطيني من تأثيره؟ يعتبر نمر سعدي أن درويش على مستوى التفعيلة قدَّم معجزاً فذَّاً شكَّل سقفاً عاليةً للتجارب اللاحقة وكان صاحب طاقة شعرية هائلة واستثنائية. "طوَّر قصيدة التفعيلة وبثَّ فيها مياه جديدة وطاقة نورانية فيها طعم القلق الفلسفي الوجودي. ذلك لأنه يرتكز بقوة على التراث الموسيقي العربي ويدرك أخفى دقائق علم العروض والبحور الشعرية، أيضاً لأنهُ منفتحٌ على الشعريَّات العالمية المتنوعة والمختلفة. قصيدته أقرب إلى النفس من قصائد غيره لأنها تمتلك ثقافة واسعة وبُعداً مجازياً خاصاً وشحنةً عظيمةً من السلاسة والانسيابية والنبرة الجرسية وكأنها مارش عسكري، قصيدةُ درويش تحاورُ النفس وتسائلها بعمقٍ ثرٍّ وشغفٍ حقيقي".
أدونيس وازدحام الأفكار
المتعة التي يقرأ بها نمر سعدي درويش أو شوقي بزيع أو سعدي يوسف يقرأ بها أيضاً شاعراً إشكالياً ومختلفاً كأدونيس ولكن بذائقة أكثر حذراً "أجد أدونيس أحيانا يثقل القصيدة بالأفكار الذهنية وأحيانا أخرى بلغة فلسفية صعبة وبصور بعيدة عن الجمالية التي ينشدها المتلقي ويبحث عنها في لغة الشعر. ولكنهُ في بضعة دواوين لهُ كتبها في المرحلة الأخيرة يحلِّقُ عالياً مثل ديوانيهِ (أوَّلُ الجسد آخرُ البحر) و(تاريخ يتمزَّق في جسدِ امرأة)، وظيفةُ الشاعر أن يحوِّل لغة ومنطق الحديد والنحاس إلى ذهب كما يقول السياب في أحد حواراته وأن يخلقَ الشعري من اللا شعري ويبثَّ الروحَ في الجماد".
البداية مع الشعر الجاهلي
مجموعة من الشعراء العرب والأجانب تركوا بصماتهم في مسارهِ الشعري. وشكل الشعر اللبناني خصوصا الجنوبي منه رافدا جماليا. في الرابعة عشر من عمره قرأ نمر سعدي الشعر الجاهلي الذي يعتبره أغنى ما أنجز العرب في مجال الشعر. فيما بعد تعرف على تجارب الشعراء العباسيين وأحب أبا نواس والبحتري وأبا تمام وبشار بن برد. لكنه تماهى حتى الثمالة مع أشعار أبي الطيب المتنبي. "من الصعب الإلمام بتأثير الشعراء العرب القدامى عليَّ. ربما لم أقرأ كل الذين ذكرتهم قراءة شاملة ولكن تأثرت بعدد قصائد لا بأس به لهم".
لسعدي نظرته الخاصة في ما يتعلق بالشعر المترجم، لاسيما الترجمات التي تتم عن لغة وسيطة ولا تنقل النص الأصلي بأمانة،كأن يترجم شاعر لوركا عن الفرنسية فيبتعد عن النار الكامنة في النص الأصلي ويأتي النص ركيكا وفي أحيان كثيرة لا يؤدي الفكرة بأمانة." لم تترك الكتب الكثيرة التي قرأها، شعراً عربياً وأجنبياً ودراسات ومسرح ونقد ورواية وغيرها، إلا ضباباً أبيضَ في ذهنه، يشبهُ حفيفَ القطن الغيمي بغضِّ النظر عن استفادتهِ منها أو نفورهِ المطلق من عوالمها".
صعوبة الكتابة
الانسيابية الشعرية ليست متاحة للشعراء على الدوام والكتابة تبلغ أحياناً ألم المخاض. يقول سعدي انها ممارسة صعبة، بل صعبة جداً، وغواية محفوفة بالمكر لم تخلِّصه ولو للحظة واحدة من فداحة شعوره بتفاهة ما يكتب. القراءة والكتابة ليستا سوى وسيلة لتزجية هذه الحياةِ بحلوها ومرِّها. "منذ صيف 2008 وأنا أكتب بصعوبة بالغةٍ أحياناً وهذا ما لمسته خلال كتابتي مجموعتي الشعرية (كأني سواي) .أقصد أنني أعجز عن لمس البرقِ الأخضَر الطالع من سديم الضباب الأبيض. أشعرُ دائماً أنَّ كلّ قصيدة أتهيَّأُ لكتابتها هي الأولى لي."
لعلَّ هذا النص أبلغ تعبير عن حالة الصمت المدوي التي يعيشها: "عندما لا أجدُ ما أقولهُ أغلقُ فمي على زهرةِ صَوَّانٍ كبيرةٍ.. بيدَ أني لستُ جلجامشَ، أو أمارسُ طقوسَ المشيِ في الهواءٍ الصلبِ كالفلاسفةِ المشَّائينَ وأنا أصبُّ ماءَ قلبي على جمر الثرثرةِ المهتاجِ بفرحٍ، أعيشُ قليلاً في حضرةِ إغراءِ الصمتِ.. ليسَ صمتَ رمبو ، أكملُ أحلامَ غالب هلسا غير المدوَّنةِ أو أحيل بقايا قصيدة إلى شاعرٍ صُعلوكٍ غيري يحملُ مأساتهُ على كتفيهِ ويذرعُ شوارعَ مدنٍ على كواكبَ أخرى.."

الفيسبوك الفاضح
علاقة الشاعر نمر سعدي بالفيسبوك علاقة ملتبسة. يكتب ويحذف ويشعر أحيانا انه اقترف ذنبا كتابيا ما. ربما لأن القصيدة تتسع للمداراة والمراوغة بخلاف النثر الفيسبوكي وليد اللحظة الممسوس بشغف الطفرة الوجدانية "كم من بوستات حذفتها بعدما استنزفت جهداً كبيراً في كتابتها لأنني وجدتها من صنف النثر الفاضح الذي لا يفصله خيط رفيع عن أعماق نفسي. أحيانا كثيرة أكتب هذيانات وأنشرها وكأنه لن يرى ما أكتب سواي. وانا أعرف جيدا أنني نشرتها توَّا على الملأ".
***















نمر سعدي: الشعراء فوضويون وقصائدهم رسائل شخصية

يكتب الشاعر رسالته في شعره؛ تلك الكلمات التي تحفظها القصائد تكون بمثابة عصارة لروحه ورسالته في الحياة التي عاشها، فرغم الحياة الفوضوية التي قد يعيشها الكثير من الشعراء إلا أن الإبداع الحقيقي الذي يقدمونه هو رسالتهم الحقيقية، فالشاعر يسير في خطين متوازيين؛ أحدهما التحرر من قيود التابوهات والأفكار المُسبقة لتقديم إبداع حقيقي، والآخر هو رسالته في أن يكون أداة للثورة على السائد والرتيب. “العرب” التقت الشاعر نمر سعدي في حديث عن آفاق الشعر ومحركاته ودوره.

حنان عقيل: كاتبة من مصر


تعد تجربة الشاعر نمر سعدي من أكثر التجارب الشعرية الفلسطينية ثراء إذ يكتب في أشكال شعرية مختلفة سواء العمودي أو التفعيلة أو غيرهما، يسعى في قصيدته لأن يُصوّر البيئة العربية الجليلية، نسبة إلى قريته الواقعة في ضواحي حيفا، والتي لا تخلو من مسحة تميل إلى البداوة تتقلص في شعره لصالح هموم وقضايا إنسانية، متكئا على حمولات معرفية عدة يستقي منها تناصات مستندة إلى موروثات ثقافية وأخرى رمزية وأسطورية، وعبْر موسيقى شعره الهادئة تنساب الأفكار والرؤى والأحاسيس الشفافة. صدرَ للشاعر عدد من الدواوين الشعرية منها “موسيقى مرئية”، “كأني سواي”، “وقتٌ لأنسنةِ الذئب”، “تشبكُ شَعرها بيمامة عطشى”، “تقاسيم على مقامِ الندم”.
كتب سعدي لسنوات عدة في صحف ومجلات محليَّة، وكانت انطلاقته في صحيفة الإتحاد الحيفاوية، فيما بعد نشر في صحيفتين تصدران في الناصرة هما صحيفة "كل العرب" و"الأخبار"، ليتجه بعدها للكتابة في أهم الصحف والمواقع الالكترونية العربية كالقدس العربي والنهار اللبنانية وعكاظ السعودية والخليج الاماراتية وغيرها من الصحف العربيَّة الرائدة.

يتحدث نمر سعدي عن بدايات اتجاهه صوب الكتابة الشعرية قائلا “الشعر بالنسبة إلي كان ذلك الحلم الأعزل الذي طالما ظننتُ أنه سيغيِّر شيئا جوهريا في حياتي، ولذلك لم أتردد في إشهارهِ في وجه اللحظات القاسية التي كانت تطلُّ عليّ من وراء حجاب لتمهرَ قصيدتي برماد الفجيعة. في بداياتي كنتُ واقعا تحت تأثير شعراء لم يكن الافلات من سطوتهم أمرًا يسيرًا، كامرئ القيس والمتنبي وأبو نواس وابن الرومي والمعري، تكوّنت شبه صداقة متينة بيني وبين نصوصهم التي أراها تتعدَّى حدود الزمان والمكان وتتبنَّى كثيرًا من أفكار الحداثة وما بعدها، بالإضافة إلى انحيازي النفسي المطلق إلى شعراء عرب كانت حساسيتهم الموسيقية عالية".
ويتابع "لا أخفي أنني في البدايات تأثرت كثيرا بالشاعر المصري أحمد شوقي الذي سيطر على مزاجي الشعري زمنا ليسَ قصيرا ربما غطَّى فترة مراهقتي كلها إلى أن اكتشفت عوالم جديدة في تجارب شعراء الحداثة العرب كالسياب ومحمود درويش وسعدي يوسف والبياتي وغيرهم، ويحضرني هنا أن أشير أيضا إلى أن محمود درويش والسياب كانا مشدودين الى الشاعر المصري الكبير أحمد شوقي ويعتبرانه من أهمِّ شعراء العربية على مرِّ العصور. وذلك يرجع بنظري الى اللغة الموسيقية التي كان يتقنها شوقي بمهارة فذّة".
قلق الشاعر
يرى سعدي أن القلق هو المحرك الأساسي للإبداع؛ فالقلق الذي كان يلازم شاعرا مثل فيرناندو بيسوا برأيه هو الحافز الأهم لكتابة القصيدة الجديدة، موضحا “لا أتخيَّل نفسي أكتب من غير أن أكون مدفوعاً بهذا القلق الروحي، الذي كان المحرِّك الأساسي لتجارب شعرية عظيمة عربية وغربية. الطمأنينة هي ما يقتل النص أو يجعله يبهت، ومن النماذج العالية لأجمل الكتابات التي تعبِّر عن القلق الحديث أحلام كافكا السوداوية، وكتابات الشاعر البرتغالي بيسوا خصوصا كتابه اللاطمأنينة."

ويتابع “شغفي بالكتابة لم ينكسر. كانت الكتابة تلك الفسحة الجميلة التي أداوي بها جراحا خفيَّة ترفض أن تشفى، كانت المعادل الموضوعي لمعنى حياتي التي لم تكن مفروشة بالورود وبالحرير، كلما عشت أكثر كلما انفتحت قصيدتي على أبعاد قصيَّة وتفتَّحت وردة روحي على جمرة المطلق على عكس ما كنت أظن في الماضي بأنه ستخف حدة هذا الشغف أو الرغبة مع مرور الزمن، وكلَّما قرأت أيضا كلَّما امتلأتُ بقلق الصعاليك وحكمة الصوفيين، أراهن على الشعر الصافي لا يهم إن كان تفعيلة أو نثرا أو عموديا، الشعر الذي تحس وأنت تقرأه أن الفراشات تدغدغ بطنك وأن قلبك يتأهب للطيران."
وانتقالا للحديث عن شعر التفعيلة الذي يصفه ضيفنا بأنه الوريث الشرعي الوحيد للشعر العربي، يُبين سعدي “مع أنني لست ضد أي شكل من الأشكال الأدبية ولا أتعصَّب لقصيدة معيَّنة، ولكنني في فترة ما كنت أعتبر التفعيلة الوريثة الشرعية الأجدر بالاهتمام من غيرها، لأنَّ قصيدة النثر لم تستطع أن تخلق تلك الحساسية الإيقاعية التي يحتاجها الشِعر حتى الآن، ولم تطرح ذلك الإشكال النقدي الذي قدَّمته التفعيلة، بعض النقاد أيضا اعتبر قصيدة النثر وافدة علينا من الشعر الغربي، هذا رأي غير صحيح، فمنجز النفري والصوفيين يفيض بالنثر الشعري، أيضا لأن من يكتبون قصيدة النثر والذين يتمتعون بموهبة قادرة على تحويل النثر إلى شعر قليلون جدا، نادرا ما نستطيع أن نميِّز بين موهبة كبيرة وأخرى مازالت تتعثَّر في بداياتها. افتقار قصيدة النثر للوزن يضعها في امتحان صعب لا يجتازه إلا أصحاب القامات الشعرية العالية والمواهب الحقيقية."
وفي ما يتعلق بالقصيدة الرقمية وما حققته من انتشار يقول سعدي “أعتقد أن هناك حالة من فوضى النشر، نلاحظ اختلاط الشعري باللاشعري في نصوص كثيرة. قبل حمى النشر الرقمي كان هناك محررون أدبيون صارمون في الصحف، التحرير الأدبي الصارم في الماضي كان بمثابة مصفاة من المستحيل أن يجتازها نص لا يرقى إلى الذوق العام أو يفتقر إلى مقوِّمات الكتابة الجيِّدة."
خيمياء الإبداع
نتطرق مع الشاعر إلى الحديث عن مصادره الشعرية والمعرفية في الكتابة ليشدد على أنه قارئ بالدرجة الأولى، به شغف حقيقي للأدب الجميل الذي تشكِّل علاقته به شبه خيمياء حيوية. يتابع “هناك كتب لم أستطع إكمالها وتركتها في المنتصف، ولكن بالمقابل قرأت كتبا وودت لو أنها لم تنته لروعتها وقيمتها الجمالية، لم يسحرني كاتب أو شاعر عربي أو أجنبي ولم أقرأ له كتابا واحدا على الأقل. شُغفت بمنجز الشعر العربي القديم إضافة إلى شعر الحداثة بكل ما يحمله من فتوحات وتخييلات ورؤى وأحببت أدب أميركا اللاتينية خصوصا بورخيس وماركيز ويوسا”.
هموم وقضايا إنسانية
أما في ما يتعلق بنوعية القارئ الذي يكتب له يوضح سعدي أن هناك من القراء من اعتبره شاعر حريَّة وهناك من اعتبره شاعر حب إنساني، وفي الأخير هو لا يضع نفسه ضمن توصيفات معيَّنة أو بين قوسين، فهو في النهاية يكتب لنفسه، صحيح أن زمن الشاعر الفرد انتهى، فالشاعر أصبح صوتا من مجموعة أصوات لا نهائية تشكل الكورس الجماعي للحالة الإبداعية الإنسانية، ولكن الاهتمام النقدي بتجربة معيَّنة كثيرا ما يتأتى بعد اكتمال هذه التجربة أو رحيل صاحبها.
ويستطرد “تجربة بدر شاكر السياب الشاعر العراقي العظيم لم تكتسب أهميتها إلا بعد رحيل بدر بسنوات، وأعتقد أن أهم الدراسات التي سلَّطت الضوء العربي عليه كانت دراسة الناقد الفلسطيني الكبير إحسان عباس والمنشورة في 1969 بينما عاش بدر شاعرا شبه مجهول عربيا وتحت وطأة المرض والفقر، وهناك إحصائيات تشير إلى أن الدراسات التي أُنجزت حول أدبه عربيا وعالميا قد تتجاوز الألف دراسة”.

وفي ما يتعلق بالزمن في تجربته الشعرية يقول سعدي “تجربتي هي حصيلة ما عشته، أي أنني أستند على سماء منخفضة من الذكريات وأعيش حالة نوستالجيا عميقة بيني وبين الزمن”. ومن ناحية أخرى يُبيّن سعدي أن لكل شاعر رسالة شخصية تحملها قصيدته؛ فهناك شعراء عاشوا حياتهم بصورة فوضوية ولكن التاريخ حفظ لهم منجزهم الإبداعي وأيضا شعراء عاشوا في ظلال حكومات طاغية في الماضي ولكنهم قدَّموا إبداعاً عصيا على المحو، كما يقول، إذ يرى أنه على الشاعر أن يؤمن برسالة ما ولكن في الوقت ذاته عليه أن يكتب نفسه بحريَّة تامة وبانفلات واضح من قيود التابوهات والمسلّمات والأفكار المسبقة.
ويوضح “تشارلز بوكوفسكي كان شاعرا بوهيميا وسكِّيرا من وجهة نظر اجتماعية ولكنه قدَّم أدبا صادقا وحقيقيا، يعبِّر عنه هو نفسه ولا يعبِّر عن أي شخص آخر، كانت قصيدته لصيقة به، أيضا عزرا باوند الشاعر الأميركي الكبير لم تخل بعض مواقفه من التطرف، فبالرغم من مواقفه التي كانت كثيرا ما تقف مع الدكتاتوريات ضد الشعوب المقموعة إلا أنه احتفظ بهالته كأحد أهم الأصوات التي شكلت ظاهرة الشعر الأميركي الجديد. لكن رأيي أن الشاعر عليه أن يكون مع الضحية الذي يرزح تحت سوط الطاغية، ما دام يؤمن بالحرية وبالخير المطلق. فالشعر أداة تغيير قبل كل شيء، وأداة انقلاب وبوق للثورة على السائد الرتيب."
***

















عن الكاتب


نمر أحمد سعدي شاعر وكاتب فلسطيني.. بدأ بنشر بواكير أشعاره، بعد اختمار التجربة ونضوجها، جنبًا إلى جنب الموهبة والثقافة، في صحيفة "الاتحاد" الحيفاوية، وكذلك في صحيفتي "كل العرب" و"الأخبار" الناصريتين منذ عام 1999. يتميز شعر نمر سعدي بقدرة على التعبير اللغوي، والتصوير الفني على حد سواء، متكئًا، في هذا وذاك، على خيال جامح منفتح على الاتجاهات كافة. يمتح من تناصات ذات حمولات متعددة: موروثات ثقافية، وإشارات إيحائية، وأخرى رمزية وأسطورية، منها الخاصة: عربية وشرقية، ومنها العامة: أجنبية وغربية، تحيل إلى دلالات متعددة، قد تنأى عن كل ما هو نمطي أو متعارف عليه، أي وفق المنظور الحداثي. ولا يعدم القارئ في ثنايا شعره: فكرًا وذوقًا وإحساسًا ومعرفة ورؤيا. تنصتُ أشعارُهُ لهموم التجربة الحياتية وتزخمُ بالموسيقى الهادئة.
يُعدُّ الشاعر نمر سعدي واحداً من أصحاب الأصوات الجديدة في الساحة الشعرية الفلسطينية، لما يمتاز شعره به من: طاقة إبداعية، وغزارة في النتاج، ومخزون ثرّ من الموضوعات المتعددة. وهو يكتب قصيدة التفعيلة، ومن حين لآخر، أيضًا القصيدة العمودية. وقصيدةَ النثر. كما أنه ناشط في الحراك الأدبي، ومتابع لنشاطات الحركة الأدبية المحلية. كرَّمته مؤسَّسة الأسوار في عكا عام 2007.
صدرَت له الدواوين الشعرية التالية:
عذابات وضَّاح آخر 2005 مطبعة فينوس/ الناصرة
موسيقى مرئية 2008 منشورات مجلة مواقف/ الناصرة
كأني سواي 2009 ( ديوان في ثلاثة أبواب ) منشورات دائرة الثقافة العربية / دار نشر الوادي / حيفا
يوتوبيا أنثى 2010 منشورات مركز أوغاريت للترجمة والنشر / رام الله
ماء معذَّب 2011 منشورات مجلة مواقف / الناصرة
وقتٌ لأنسنةِ الذئب 2014 دار النسيم للنشر والتوزيع/ القاهرة
تشبكُ شَعرها بيمامةٍ عطشى 2015 دار النسيم للنشر والتوزيع / القاهرة
وصايا العاشق 2015 دار النسيم للنشر والتوزيع / القاهرة
موسيقى مرئية / طبعة ثانية / 2015 / دار سؤال/ بيروت / لبنان
رمادُ الغواية 2017 دار الانتشار العربي / لبنان / ونادي الباحة الأدبي / المملكة العربيَّة السعوديَّة
استعارات جسديَّة 2018 دار العماد للنشر والتوزيع ومركز عماد قطري للإبداع والتنمية الثقافية / جمهوريَّة مصر العربية


تُرجمت له عدة قصائد الى اللغات الانجليزية والرومانية والصينية والعبرية، ونشر قصائده ومقالاته في الكثير من المواقع الأدبية والثقافية على الشبكة العنكبوتية مثل كيكا والندوة العربيَّة والحوار المتمدِّن والمثقَّف وديوان العرب وجماليا ومركز النور، وفي المجلات والصحف المحلية مثل الشرق ومواقف والإتحاد وكل العرب والأخبار وفصل المقال والحياة الجديدة بالإضافة إلى نشرهِ في مجلات وصحف العالم العربي المرموقة مثل الدوحة القطرية والنهضة السورية والأهرام المصرية والقدس العربي وعكاظ السعودية والخليج الاماراتية والعرب اللندنية والعربي الجديد والنهار اللبنانية وغيرها.
كما أنَّ لمجلة الكلمة الالكترونية التي تصدر في لندن ويحرِّرها الناقد المصري الكبير الدكتور صبري حافظ دوراً هاماً في التعريف بتجربة نمر سعدي الشعريَّة من خلال نشرها لقصائدهِ ونصوصه النثرية ودواوينه.



#نمر_سعدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هل تأتي القصيدةُ في الشتاء؟
- علي الدميني.. الرعويُّ الأجمل الذي حرسَ ليلَ القصيدة
- سعدي يوسف.. تلميذ السيَّاب الأنجب ومتمِّمُ قصيدته
- ديوان -نساء يرتِّبنَ فوضى النهار- منشورات وزارة الثقافة الفل ...
- محنة التجارب الجديدة في الشِعر الفلسطيني
- القصيدةُ أنوثةٌ غامضة
- شبابيكُ عشيقاتٍ منسيَّات
- لاعب النرد والكلمات
- أعيش كنهر وحيد
- تأملات جماليَّة في قصيدة الشاعر فرحات فرحات
- يرصدُ تحوُّلات العاشق بأسلوب مشبع بالدلالات
- ديوان (استعارات جسديَّة) الصادر في عام 2018 عن دار العماد لل ...
- ايقاعات رعوية
- مطرُ الغريب(قصائد عن ليلِ المعنى)
- حنينٌ يستيقظ في الظهيرة
- لو تأخَّرتِ قليلاً عن غوايتي
- وردٌ على رمادِ القصيدةِ (مرايا نثرية 9)
- استعارات جسديَّة
- عن الشعر والأنوثة وأوَّل المطر/ مرايا نثرية(8)
- أربع قصائد


المزيد.....




- مصر.. الفنان محمد عادل إمام يعلق على قرار إعادة عرض فيلم - ...
- أولاد رزق 3.. قائمة أفلام عيد الأضحى المبارك 2024 و نجاح فيل ...
- مصر.. ما حقيقة إصابة الفنان القدير لطفي لبيب بشلل نصفي؟
- دور السينما بمصر والخليج تُعيد عرض فيلم -زهايمر- احتفالا بمي ...
- بعد فوزه بالأوسكار عن -الكتاب الأخضر-.. فاريلي يعود للكوميدي ...
- رواية -أمي وأعرفها- لأحمد طملية.. صور بليغة من سرديات المخيم ...
- إلغاء مسرحية وجدي معوض في بيروت: اتهامات بالتطبيع تقصي عملا ...
- أفلام كرتون على مدار اليوم …. تردد قناة توم وجيري الجديد 202 ...
- الفيديو الإعلاني لجهاز -آي باد برو- اللوحي الجديد يثير سخط ا ...
- متحف -مسرح الدمى- في إسبانيا.. رحلة بطعم خاص عبر ثقافات العا ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نمر سعدي - كتاب (كحل الفراشة) - ايقاعات نثريَّة - الصادر في عام 2019 عن دار روافد للنشر والتوزيع / القاهرة