|
قراءة في كتاب -الديمقراطية- للمؤلف تشارلز تيللي
صلاح الدين ياسين
باحث
(Salaheddine Yassine)
الحوار المتمدن-العدد: 7416 - 2022 / 10 / 29 - 18:19
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
يُعد هذا الكتاب من تأليف "تشارلز تيللي" (1929-2008)، البروفيسور الأمريكي، والباحث في العلوم الاجتماعية. يبدو المؤلف مقتنعا بجدوى وفاعلية النظام الديمقراطي، لكونه يحمي الأفراد من خطر الطغيان، ويكفل لهم ظروف عيش أفضل، إذ يرى الديمقراطية بوصفها شرطا ضروريا للتنمية والرفاه الاجتماعي. وعليه يسهب المؤلف في إبراز معايير الديمقراطية ومتطلباتها، فضلا عن كيفية الإطاحة بها، والصلة المحتمَلة بين قدرة أو مدى الدولة وإقامة النظام الديمقراطي، وهو ما سنحاول إجماله فيما يلي:
جوهر الديمقراطية وأساسها في البداية، يورد المؤلف تعريفا للديمقراطية بما هي "النظام الذي تتحقق فيه مشاورات واسعة، ومتساوية، ومَحمية، وذات التزام متبادل". إن تلك العناصر الأربعة المستمدة من التعريف (= الاتساع، المساواة، الحماية، الالتزام المتبادل) هي بمثابة معايير فعلية للديمقراطية. ففي حالة انتفاء عنصر واحد فقط منها، يستعصي علينا وصف نظام حكم ما بأنه ديمقراطي. وبالنسبة لعنصر الاتساع، فهو يحيل إلى نطاق عدد الأشخاص الذين يتمتعون بحقوق المواطنة الكاملة، من حيث الاتساع أو الضيق. أما فيما يخص المساواة، فهي تفيد إقرار الحقوق المدنية والسياسية على أساس المواطنة، لا من منطلق الانتماءات الأخرى (الدين، العرق، الجنس، الإثنية... إلخ). مرورا بالعنصر الثالث الذي يشير إلى مدى تَمَتع المواطنين بالحماية من تعسف وشطط عملاء الحكومة مما يعني، حتما، ضرورة إنفاذ الدولة لحكم القانون الذي يسري على الجميع. وصولا إلى الالتزام المتبادل، الذي يتوقف على مقدار تَوَفر الصبغة الإلزامية لتلك المشاوَرات، والتقيد بها بصفة متبادلة، أيْ بين الحكام والمحكومين على السواء. ولتوضيح المعايير السالفة، من طريق ربطها بأمثلة عملية، يعرج الكاتب على تجارب تاريخية غالبا ما توصف ب "الديمقراطية"، من أبرزها نموذج الدولة المدينة باليونان، وتحديدا في أثينا (بدءا من القرن السادس ق.م، وانتهاء بغزو روما لليونان)، دون إغفال نموذج المدن التجارية بإيطاليا قبل توحيدها (= فلورنسا، فينيسيا...)، بحيث يخلص المؤلف إلى أن تلك التجارب جميعها لا يصح وصفها بالديمقراطية، استنادا إلى التعريف السابق الذي أوردناه، بالنظر إلى أن حقوق المواطنة كانت تقتصر على الذكور البالغين الأحرار، مما يعني استبعاد فئات واسعة من السكان من نطاقها (النساء، العبيد، الأجانب... إلخ). ومن هنا يشدد تشارلز تيللي على أن الديمقراطية بمفهومها الحديث، لم تنشأ إلا خلال القرن العشرين بأوروبا الغربية وأمريكا، بفعل التوسع في حقوق المواطنة، وإقرار الاقتراع العام، ليشمل النساء وكافة المواطنين. العمليات الضرورية لإقامة الديمقراطية يورد المؤلف ثلاث عمليات ضرورية لإقامة الديمقراطية على المدى القريب أو المتوسط، على النحو التالي: إدماج شبكات الثقة في السياسة العامة، إبعاد السياسة العامة عن اللامساواة، تفكيك أو تحييد مراكز القوى المستقلة والمتمتعة بقوة الإكراه والقمع. وقبل تناول كل عملية على حدة، لا بد من الإشارة إلى أن مفهوم السياسة العامة يغطي قائمة واسعة من الأنشطة، من قبيل الترشح والمشاركة في الانتخابات، والخدمة العسكرية الإلزامية، ناهيك بدفع الضرائب، دون إغفال الأنشطة التشريعية. وفيما يتعلق بشبكات الثقة (Trust Networks)، فهي تشير إلى مجموعات مترابطة ومنظمة من الأشخاص، الذين تجمع بينهم مصالح مادية أو معنوية مشترَكة (= منظمات أرباب العمل، مُلاك الأراضي، الطوائف الدينية... إلخ). فحين تقرر تلك الشبكات التقوقع على ذاتها، والابتعاد عن السياسة العامة، فهي تقوم - ولو بدون وعي منها - بإعاقة نشوء الديمقراطية، خلافا لما يكون عليه الحال حين تندمج في السياسة العامة، لتشكل بذلك ثقلا مضادا لأنظمة الحكم، الشيء الذي يجبر الأخيرة على تقديم تنازلات، وإطلاق مشاورات تتصف بالاتساع، والمساواة، والحماية، والالتزام المتبادل. أما بخصوص إبعاد السياسة العامة عن اللامساواة أو التفاوت الطبقي، فذلك لا يعني بحسب الكاتب ضرورة تَوَفر المساواة المطلقة بين المواطنين، بقدر ما يفيد ألا يكون التفاوت وترسيخ اللامساواة سياسة عامة ممنهجة ترعاها السلطة الحاكمة، على غرار نظام الفصل العنصري بجنوب أفريقيا سابقا، وإسرائيل حاليا. وتبعا لذلك، يتوجب على نظام الحكم الديمقراطي أن يُحدث آليات لإبعاد التفاوت الطبقي عن السياسة العامة، ناهيك بإقرار الحد الأدنى والمقبول من المساواة بين مختلف طبقات وفئات المجتمع. وعطفا على ذلك، فإن إقامة الديمقراطية تقتضي حل أو تحييد مراكز القوى ذات الحكم الذاتي، والمتمتعة بقوة الإكراه والقمع (= قوات الجيش، الشرطة، أمراء الحرب، العصابات الإجرامية، رجال الأعمال، مُلاك رؤوس الأموال... إلخ). وهكذا فإن القيام بمشاورات واسعة، ومتساوية، ومحمية، وذات التزام متبادل، تستلزم إخضاع تلك القوى لحكم القانون وسيطرة السلطات المدنية المنتخَبة، الأمر الذي يتيح زيادة النفوذ الشعبي على السياسة العامة. وماذا عن الإطاحة بالديمقراطية؟ بمنطق المقايسة، تحصل الإطاحة بالديمقراطية في حالة انتكاس إحدى العمليات الثلاث المشار إليها آنفا. وبالاستناد إلى تجارب تاريخية مقارنة، يخلص الكاتب إلى أن إطاحة الديمقراطية تتم بوتيرة أسرع من إقامتها. فإذا كان إحلال الديمقراطية يتطلب التعبئة الشعبية المتواصلة، والنضال المستمر، والمساومة بين النظام الحاكم وقوى المجتمع، فإن إطاحة الديمقراطية لا تُعزى إلى تذمر الفئات الشعبية من مآل الحكم الديمقراطي فحسب، بل أيضا إلى حدوث انشقاقات في ائتلاف النخبة الحاكمة، حين يدرك جناح معين من النخب (نخبة عسكرية، اقتصادية... إلخ) أن مصالحه قد تضررت من جراء إقامة النظام الديمقراطي. وتأسيسا على ذلك، يمكن اعتبار الانشقاقات التي تَحدث داخل ائتلافات النخب القوية، العامل الأساسي وراء الإطاحة بالديمقراطية. وتتميز النخب عن الناس العاديين (العمال، الفلاحون... إلخ) بكونها عبارة عن شبكات مترابطة من الناس، تملك السيطرة على وسائل الثروة والنفوذ. هذا دون إغفال مسببات أخرى للإطاحة بالديمقراطية، من قبيل الغزو الأجنبي، والأزمات الاقتصادية الحادة التي تفضي إلى شح موارد الدولة، وبالتالي عدم وفاء الأخيرة بالتزاماتها تجاه المواطنين. العلاقة بين قدرة الدولة والديمقراطية يُعنى بقدرة الدولة مدى تَوَفر القدرة لها لفرض وتنفيذ قراراتها السياسية، وحماية مواطنيها من تعسف عملائها، من طريق إنفاذ حكم القانون. وتتوقف قدرة الدولة على مدى حاجة النظام السياسي للدخول في مساومات مع المواطنين، من أجل التزود بالموارد الأساسية (كجباية الضرائب...)، ففي هذه الحالة يصبح نظام الحكم أكثر قابلية للدمقرطة، خلافا للحالة التي يسيطر فيها النظام الحاكم مباشرة على الموارد، حيث يصبح أقل قابلية للتحول إلى الديمقراطية، كالدول المنتجة والمُصَدرة للنفط. وبرأي المؤلف، فإن الدول ذات القدرة المتدنية بدورها، يتضاءل فيها احتمال الانتقال الديمقراطي، لكونها الأكثر عرضة للصراعات والحروب الأهلية، وبذلك فهي تعجز عن إخضاع مراكز القوى ذات قوة الإكراه، والمنفلتة من سيطرة الحكومة، ناهيك بأنها تُعتبر أقل قدرة على دمج شبكات الثقة في السياسة العامة، وتأمين المساواة أمام القانون لمواطنيها. وعليه لا بد من إيجاد موقع وسط بين النمطين (= أيْ الدولة الضعيفة والمتدنية القدرة من جهة، والدولة ذات القوة المفرطة من جهة ثانية)، والمتمثل في نمط الدولة المعتدلة من حيث القوة والقدرة.
#صلاح_الدين_ياسين (هاشتاغ)
Salaheddine_Yassine#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كتاب -الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخل
...
-
كتاب -الحرب الهادئة: مستقبل التنافس العالمي- لصاحبه نوح فيلد
...
-
قراءة في كتاب -الانتفاضات العربية على ضوء فلسفة التاريخ- لها
...
-
الفكر السياسي عند فلاسفة اليونان
-
هل القوة القهرية هي الضامن الوحيد لبقاء الأنظمة السياسية أم
...
-
قراءة في كتاب الديمقراطية والتحول الديمقراطي – غيورغ سوزنسن
-
دليلك لمعرفة دلالة مفهوم -الميتافيزيقا-
-
قراءة في كتاب -علم النفس السياسي- لصاحبه دايفيد هوتون
-
كتاب مدخل إلى الأيديولوجيات السياسية ل -أندرو هيود-: دليلك ل
...
-
كتاب -اسبينوزا- لفؤاد زكريا: إضاءة على أهم أفكار فيلسوف التن
...
المزيد.....
-
تساؤلات وتكهنات حول توجهات الحكومة الانتقالية السورية الجديد
...
-
بعد ثلاثة أشهر من الجفاف.. سيريف الجزائرية ترتدي حلتها البيض
...
-
حزب البعث في سوريا يعلق نشاطاته حتى إشعار آخر
-
نشطاء يقاطعون خطاب بلينكن في الكونغرس ويصفونه بـ -جزار غزة-
...
-
بيان مصري حول استهداف إسرائيل لسوريا ومقدراتها العسكرية
-
بوتين: الذكاء الاصطناعي في روسيا سيصبح المورد الأكثر أهمية ل
...
-
وزارة الصحة اللبنانية: مقتل 5 أشخاص بغارات إسرائيلية على جنو
...
-
الخارجية الروسية: بوغدانوف بحث مع سفراء السعودية والإمارات ف
...
-
السلطات السورية الانتقالية تسرع نشر دوريات لضمان الأمن
-
هل نحن بحاجة فعلًا إلى شرب ثمانية أكواب من الماء يوميا أم أن
...
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|