أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبد المجيد حمدان - تقاطعات بين الأديان 24 إشكاليات الرسل والأنبياء 9 موسى















المزيد.....



تقاطعات بين الأديان 24 إشكاليات الرسل والأنبياء 9 موسى


عبد المجيد حمدان

الحوار المتمدن-العدد: 7405 - 2022 / 10 / 18 - 06:32
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


تقاطعات بين الأديان
24
إشكاليات الرسل والأنبياء
9
موسى

فاتحة
حظيت سيرة موسى بِاحتفاء في الكتابين المقدسين لم يقاربه فيه أحد من الرسل والأنبياء الذين سبق وتناولنا سيرهم في الحلقات السابقة . ففي القرآن جاء ذكره بالاسم 136 مرة في 36 سورة ، فيما جاء قص قصته في ثلاث عشرة سورة ، وفي أكثر من موقع في السورة الواحدة ، وبمجموع آيات يتجاوز كثيرا أل 400 آية .
التوراة ، من جهتها ، تفوقت على القرآن في هذا الاحتفاء . فيها احتلت سيرته ، أو قصة رسالته ، أربعة أسفار هي : الخروج ، بأربعين إِصحاحا ، اللاويين بسبعة وعشرين إِصحاحا ، العدد بستة وثلاثين إِصحاحا ، والتثنية بأربعة وثلاثين إِصحاحا ، بمجموع آيات يزيد على الأربعة آلاف آية .
والآن ، بإعادة القول ، كما حدث مع حلقات الرسل السابقين ، لو كان بالإمكان النظر لِلروايتين من زاوية الأسطورة ، كما يؤكد كبار علماء الآثار في دراساتهم وقراءاتهم الحديثة ، لهان الأمر ، لاسترحنا وأرحنا ، ولما اضطررنا للتوقف والتمعن ورؤية ما تَضج به الروايتان من تناقضات ، وما تَزخر به سيرة موسى من إشكاليات ، ولكن..
ولكن لأن أتباع الديانات السماوية يؤمنون إيمانا عميقا ومطلقا ، ومن ثم يصرون على تاريخية الأحداث ، وبالتالي على حقيقية وواقعية الشخصيات ، فإننا مضطرون لإخضاع النصوص للقراءة النقدية من جهة ، والمقارنة بين الروايتين من جهة أخرى . قراءة أول ما تسمح لنا بقوله أن الإشكاليات التي رافقت وأحاطت بالرسول والرسالة تَناسبت وتتناسب طرديا مع هذا الاحتفاء . كيف ؟
في محاولة الإجابة تُلزِمنا ضخامة المادة ، تعدد الموضوعات ، تنوع القضايا ، وتشعب المواقف ، بتقسيمها وتقديمها على حلقات ، بادئين بِ:
الحلقة الأولى
1
من أين نبدأ ؟
الجواب بسيط : مع القرآن ومن طفولة موسى .
تطالعنا سورة طه بالتالي : { قال قد أوتيت سؤلك يا موسى 36 ولقد مننا عليك مرة أخرى 37 إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى 38 أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبة مني ولِتُصنع على عيني 39 إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن …..40 }
وتعاود سورة القصص سرد الحكاية بتفصيل يفك بعض غموض الآيات السابقة ، وعلى النحو التالي : { وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين 7 فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين 8 وقالت امرأة فرعون قرة عين لي لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون 9 وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين 10 وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون 11 وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون 12 فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون 13 ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين 14 } .
لا تنبئنا هذه الآيات ، في السورتين ، بشيء عن الأسباب التي دعت أم موسى لكل هذا الخوف على حياة مولودها . خوف دفع بها لوضعه في تابوت - سفط مطلي بالقار لمنع تسرب الماء داخله - وإلقاء هذا التابوت في فرع من فروع النيل - كان للنيل خمسة فروع تشكل الدلتا آنذاك - . أيضا لا تحكي الآيات شيئا عن حقيقة الخطر ، أسبابه ، مبرراته ، ومصدره .
صحيح أن آيات سورة القصص تسبقها آيات تتحدث عن طغيان فرعون وأنه يستضعف طائفة من قومها ، يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم - الآيات 4 ، 5 ، 6 ، وأن التفسير والأدبيات الإسلامية تحكي الكثير ، لكن القارئ المدقق يلاحظ أن الآيات لا تفض الغموض ، وأن ما يوصف بالإسرائيليات ، أو التوراة ، تشكل المرجع المعتمد لكل من التفسير والروايات ، الأمر الذي ظل لا يدعوني إلى الاسترشاد بها أو العودة إليها ، ولكن …
ولكن ، وقبل العودة إلى الأصل ، أي إلى التوراة ، يفرض علينا النص الانتباه إلى أن الرب اختار موسى نبيا ورسولا قبل ولادته ، وربما قبل الحمل به ، كما تقول الآية 7 من سورة القصص ، أي بعيدا عن الصفات ، القيم والأخلاق التي سَينشأ ويتربى عليها ، وإن كان من المفترض أن تأتي بالغة الكمال . أيضا لا تعرفنا الآيات على أصل موسى ؛ من هو أبوه ؟ ما اسم أمه ؟ من هي أخته التي كلفت بمتابعة مصير الصفط - التابوت - ، وما إذا كانت له أسرة أم لا .
إذاً ، إلى التوراة .
2
في التوراة يطالعنا الإصحاح الأول من سفر الخروج وبدءا من الآية 15 بالتالي : [ وكلم ملك مصر قابلتي العبرانيات اللتين اسم إحداهما شِفرة واسم الأخرى فوعة 15 وقال حينما تُوَلِّدان العبرانيات وتنظرانهن على الكراسي ، إن كان ابنا فاقتلاه وإن كان بنتا فتحيا 16 ولكن القابلتين خافتا الله ولم تفعلا كما كلمهما ملك مصر بل استحيتا الأولاد 17 فدعا ملك مصر القابلتين وقال لهما لماذا فعلتما هذا الأمر واستحييتما الأولاد 18 فقالت القابلتان لفرعون إن النساء العبرانيات لسن كالمصريات . فإنهن قويات يلدن قبل أن تأتيهن القابلة 19 فأحسن الله إلى القابلتين ونما الشعب وكثر جدا 20 وكان إذ خافت القابلتان الله أنه صنع لهما بيوتا 21 ثم أمر فرعون جميع شعبه قائلا كل ابنٍ يولد تطرحونه في النهر لكن كل بنت تَستحيونها 22 ] .
توضح لنا الآيات أن ملك مصر ، في لحظة من الزمن ، كان قد أصدر قرارا بوقف نمو جماعة العبرانيين بالخلاص من مواليدهم الذكور ، وأنه كلف القابلات المصريات بالتنفيذ . وكان أن وقع عبء إفشال القرار على الأمهات العبرانيات ، لعدم قدرة الآباء الذين يرسفون تحت نير العبودية على ذلك . كان على الأمهات إذن اللجوء إلى التحايل على القرار والحفاظ على حيوات فلذات أكبادهن . ولكن ..
ولكن القراءة المتمعنة للآيات تكشف عددا من المتناقضات والإشكاليات ، أصغرها أن القابلتين المُكلفتين بالتنفيذ عَصيتا أمر الفرعون ، وبالرغم من سذاجة تَبريرهما لهذا العصيان ، نَجتا من غضبه . أما أكبرها فيتعلق بحجم طائفة العبرانيين العبيد ، والخطر الذي تشكله على المملكة واستدعى قرار قتل المواليد الذكور .
تشير مسألة تكليف القابلتين بالمهمة إلى أن الطائفة كلها كانت تسكن مدينة الملك ، والتي تقول التوراة أن اسمها رعمسيس ، فيما تشير طاقة وقدرة قابلتين على توليد كل نساء الطائفة ، إلى أن هذه الطائفة صغيرة الحجم من جهة ، ولا تشكل الخطر الذي زعمه الملك من جهة أخرى . ولكن مرة أخرى .
لكن سفر الخروج ذاته ، وكذلك سفر العدد ، يقدم لنا معطيات أخرى سنعود إليها لاحقا ، تفيد بأن تعداد بني إسرائيل تجاوز بضعة ملايين ، ولأن ذلك الزمان لم يعرف المدينة المليونية فإن سكن بني إسرائيل بالتالي لا بد أن يكون تجاوز حدود العاصمة رعمسيس ، كما تزعم العديد من الآيات الساردة لوقائع لاحقة ، إلى الانتشار في مساحة واسعة من مصر ، الأمر الذي يعني أن تطبيق قرار قتل المواليد الذكور على العاصمة كان لا يحقق الهدف المرجو ، إلا إذا كان القرار قد بني على نبوءة عرافة ، أو كاهنة ، عن مولود للعبرانيين الساكنين في مدينة الفرعون ، سيشكل خطرا مستقبليا على عرش هذا الفرعون .
وعلى أي حال فإن ما يعنينا هنا أن الآيات السابقة فشلت في تبرير ما يوصف بقرار قتل المواليد الذكور لبني إسرائيل كلهم ، كما في تصديق المعجزات الربانية بإنقاذهم ، بدليل نجاة موسى وشقيقه هارون الذي يكبره بثلاث سنوات فقط . كيف ؟
3
يطالعنا الإصحاح الثاني من سفر الخروج بالتالي : [ وذهب رجل من بيت لاوي وأخذ بنت لاوي 1 فحبلت المرأة وولدت ابناً ولما رأته أنه حسن خبأته ثلاثة أشهر 2 ولما لم يمكنها أن تخبئه بعد أخذت له سفطا من البردي وطلته بالحُمَر والزفت ووضعت الولد فيه ووضعته بين الحلفاء على حافة النهر 3 ووقفت أخته من بعيد لتعرف ماذا يُفْعل به 4 فنزلت ابنة فرعون إلى النهر لتغتسل وكانت جواريها ماشيات على جانب النهر فرأت السفط بين الحلفاء فأرسلت أمتها وأخذته 5 وَلما فتحته رأت الولد وإذا هو صبي يبكي فرقت له وقالت هذا من أولاد العبرانيين 6 فقالت أخته لِإبنة فرعون هل أذهب وأدعو لك امرأة مرضعة من العبرانيات لترضع لك الولد 7 فقالت لها ابنة فرعون اذهبي . فذهبت الفتاة ودعت أم الولد 8 فقالت لها ابنة فرعون اذهبي بهذا الولد وَأرضعيه لي وأنا أعطي أجرتك . فأخذت المرأة الولد وأرضعته 9 ولما كبر الولد جاءت به إلى ابنة فرعون فصار لها ابنا . ودعت اسمه موسى وقالت إني انتشلته من الماء 10 ] .
أول ما تُنبئنا به هذه الآيات أن الأم في حرصها على حياة ابنها لم تختر له اسما ، بالرغم من تخبئتها له ثلاثة أشهر ، وأنها قبلت بالاسم المصري ، غير العبراني ، موسى الذي اختارته له ابنة الفرعون . كما أنها في حرصها وضعت السفط الذي حَصنته ضد تسرب الماء بين الحلفاء على جانب النهر - لم تلقه في اليم - تحوطا من جرف تيار النهر له ، وأكثر بعثت أخته - التي لم يعرفنا النص على اسمها ، وسنعرف فيما بعد أنه مريم ، وأن لها أخ أكبر من موسى بثلاث سنوات لم يقتله الفرعون اسمه هارون - كي تستطلع ما يحدث له . ويوضح لنا النص أن الفرعون ، بالرغم من جبروته وإصراره على استئصال العبرانيين ، خَضع لرغبات ابنته بأن استثنى موسى من القتل ، بالرغم من تيقنه من أنه من أبناء العبرانيين ، كما نزل عند رغبة الابنة في استئجار المرضعة ، العبدة العبرانية ، والتي لم يعرف لا هو ولا ابنته أنها أم الولد . ولكن …
لكن ، كل ذلك لا يبدو مهما . المهم أن الأم ، فيما بدا تنفيذا للاتفاق ، أعادت الولد بعد أن كبر ، أي بعد فطامه ، إلى ابنة الفرعون التي اتخذته ابنا . والأهم أن النص بعد ذلك يسكت عن فترة طفولته ، صِباه ، وبلوغه ، لِيفاجئنا بأن موسى ظل عبرانيا بالرغم من تربيته المصرية ، وأين ؟ في قصر الفرعون إِبنا لاِبنة الفرعون ، أي ليس واحدا من الحاشية وإنما فردا من الأسرة الملكية ذاتها : [ وحدث في تلك الأيام لما كبر موسى أنه خرج إلى إخوته لينظر في أثقالهم فرأى رجلا مصريا يضرب رجلا عبرانيا من إخوته 11]
هذه الآية توجب السؤال : متى وكيف عرف موسى أنه عبراني ؟ وكيف تعلم الانحياز لقومه على حساب تربيته وتأهيله المصري ؟ ومتى وكيف وأين تعلم لغة وديانة قومه ؟
نعرف من الآيات أن الأم ، المرضعة ، سلمته لِابنة الفرعون بعد الفطام ، أي بعمر سنتين وربما ثلاثة في أحسن الأحوال . وبديهي أن يكون من غير الممكن أن تكون الأم غرست فيه كل ذلك ؛الانتماء ، اللغة ، والدين في عمر الطفولة القصير هذا . خصوصا وأن الآيات اللاحقة لا تحدثنا عن اتصالها به فيما بعد ، بافتراض أن الأم المتبنية ، ابنة الفرعون ، كانت ستسمح لها بذلك . كما وأن الآيات لا تشير أنه عرفها كأم . ثم وبافتراض أنها تمكنت من اللقاء به في القصر ، ولو بِاشتغالها فيه خادمة ، كان من غير المعقول ، عملا بقوانين حقب العبودية ، وهي المحكومة بحالة العبودية لقومها ، أن تنفرد به أوقاتا كافية لِتشريبه عادات وقيم وأخلاقيات وديانة قومه .
وعلى عكس كل ذلك ، يكون بديهيا أن اتخاذ ابنة الفرعون موسى ابنا لها يوجب ، وبكل بساطة ، ليس فقط تنشئته على اللغة المصرية وآدابها ، وعلى قيم الملكية وأعرافها ، وإنما في المقام الأول تعليمه الانتماء لمصريته تربية ، لغة ، قيما وأخلاقا ، عادات وتقاليد ، وقبل كل ذلك ديانة ، ناهيك عن التربية العسكرية . إذاً ، وفي حال تصديق والاقتناع بما جاء في الآيات ، يكون احتمال معرفة أصله ودينه عائد لِاضطرار ابنة الفرعون ، نتيجة لفعل أو أفعال ، صدرت وتصدر منه ، لا تقبلها ، مجابهته بأصله كلقيط عبراني ، وطرده من فردوس القصر الملكي ،ومن ثم اضطراره للبحث عن عائلته ، وتعبئته بالكره لِ ، والحقد على كل ما هو مصري .
ونظرا لاستبعاد هذا الاحتمال ، كونه لا يتنافر فقط وإنما يتضاد مع منظومة القيم والأخلاق الواجبة لكل رسول ، نخلص إلى استخلاص أن قصة أُخُوَّته العبرانية ، وانحيازه لقومه على حساب تربيته المصرية وأبهة ومكاسب الملكية ، بدعة خيال لزوم حبكة الأحداث التالية لا غير .
4
وإذاً، ومحاولة لاستجلاء الأمر ، تعالوا نطالع روايتي الكتابين المقدسين لحدث انحياز موسى لأخُوَّته العبرانية ؟
تروي لنا سورة القصص الحدث بالتالي : { ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين 14 ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين 15 قال ربِ إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم 16 قال ربِ بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين 17 فأصبح في المدينة خائفا يترقب فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه قال له موسى إنك لغوي مبين 18 فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين 19 وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين 20 }
والآن ، لا تقف هذه الآيات عند رواية حدث ارتكاب موسى لجريمة قتل ، إذ تتعداه لتعريفنا بما سبق وحدث له . الآيات ، خاصة الآية 15 تشي بصحة تَخميننا عن طرده من القصر ، وامتلاء نفسه بِالكُره للمصريين وتحولهم عنده إلى أعداء . كيف ؟
الآية تقول أنه دخل المدينة على حين غفلة من أهلها ، أي بلغة حاضرنا دخلها متسللا . لقي رجلين يقتتلان . أحدهما عبراني ، من شيعته ، والآخر مصري من أعدائه . العبارة هذه على بساطتها تطرح أكثر من سؤال : إذا لم يكن مطرودا من القصر فمن أين أتى ؟ ولماذا، وكيف دخل المدينة على حين غفلة من أهلها ؟ وكيف عرف العبراني أن موسى من شيعته كي يستنجد به ؟ ولماذا اعتبر موسى المصري عدوا له ؟ وهل صحيح أن الرجلين كانا يقتتلان ، والحال يقول أن أحدهما ؛ العبراني من جماعة العبيد ، والآخر المصري من جماعة الأحرار ؟ ألم تكن قوانين العبودية السارية في كل عصور العبودية ، في مشارق الأرض ومغاربها ، تجيز للحر تعنيف وتأديب العبد متى وكيف شاء ، وتمنع العبد من مجرد رفع اليد دفاعا عن نفسه ؟ مختصر الكلام أن موسى انتصر لِعبد على حر وارتكب جريمة كبرى بقتل الحر ، ولكن ..
ولكن الآية حاولت التخفيف من ضخامة الجرم - فوكزه موسى - ، أي قتله بدون قصد . لكن موسى أدرك ، وعى فداحة الجرم ، بِرده فعل القتل إلى الشيطان ، وأنه ظلم نفسه ،وطلب المغفرة من الرب الذي سارع لصرف المغفرة . وفوق هذا تعهد في الآية 17 بعدم مظاهرة المجرمين . إلا أن الآيات التالية أوضحت أنه لم يتعظ ، كما لم يلتزم بعهده ، إذ كاد أن يكرر الجريمة ثانية بالرغم من تيقنه من أن ابن شيعته هو واحد من هؤلاء المجرمين . كيف ؟
تقول الآية 18 ، أن موسى الخائف المترقب من عواقب جريمته ، فوجئ في اليوم التالي بذات الشخص العبراني الذي استنصره بالأمس ، يستصرخه ضد حر مصري آخر . وبالرغم من أن موسى عرف المستنصر، وَواجهه بحقيقته ، أنه غوي مبين ، إلا أنه ، أي موسى ، اندفع للبطش بالحر المصري . لكن المصري واجه موسى سائلا : أتريد أن تقتلني كما قتلت الرجل الآخر بالأمس ؟ وتابع كاشفا حقيقته : أنت لا تريد إصلاحا كما تدعي ، ولكنك تريد أن تكون فُتوة - جبارا في الأرض - لا غير .
موسى هنا أدرك مجددا الخطورة التي انتهى إليها حاله . وزاد الأمر وضوحا من جاء يبلغه أن الملأ - قصر الفرعون - يأتمرون على القصاص منه لقتله الحر المصري . ذلك لأن القانون المصري آنذاك ، كما كشفت لنا البرديات ، لا يحابي أهل القصر ، ويتم تطبيق قواعد العدالة على الفرعون ذاته قبل الفرد العادي . بسبب ذلك قبل موسى النصيحة بالهرب إلى سيناء ، بادئا فصلا جديدا من حياته .
5
ولأن هذه كانت رواية القرآن فماذا عن رواية التوراة ؟
يروي الإصحاح الثاني من سفر الخروج ما يلي : [ وحدث في تلك الأيام لما كبر موسى أنه خرج إلى إخوته لينظر في أثقالهم فرأى رجلا مصريا يضرب رجلا عبرانيا من إخوته 11 فالتفت إلى هنا وهناك ورأى أن ليس أحد فقتل المصري وطمره في الرمل 12 ثم خرج في اليوم الثاني وإذا رجلان عبرانيان يتخاصمان فقال للمذنب لماذا تضرب صاحبك 13 فقال من جعلك رئيسا وقاضيا علينا . أَمفتكر أنت بقتلي كما قتلت المصري . فخاف موسى وقال حقا قد عرف الأمر 14 فسمع فرعون هذا الأمر فطلب أن يقتل موسى . فهرب موسى من وجه فرعون وسكن في أرض مديان وجلس عند البئر 15 ] .
والآن ، تعالوا نضع تناقض هذه الرواية الصارخ مع رواية القرآن جانبا ، وننهض إلى تحليلها . أول ما يلفت الانتباه الإشارة الصريحة بأن موسى كان ما زال من أهل قصر فرعون . وثانيها أنه خرج ليتفقد مظالم العبودية - أثقال العبرانيين - ، بمبادرة منه وفي تعارض مع سياسة القصر . موسى وجد مصريا - حرا - يعاقب عبده العبراني ، منسجما مع القوانين والأعراف السائدة . موسى التفت يتفقد الوضع حوله ، ولما تأكد من خلو المكان من الشهود ، قتل المصري وأخفى الجثة بأن طمرها في الرمل . ذلك يعني أنه ارتكب جريمة عن سابق عمد وتربص . وفي يوم تال ، وفي محاولة تفقد ثانية ، رأى رجلين عبرانيين يتقاتلان . حاول الإصلاح بينهما من خلال تعنيف المعتدي كلاميا ، فما كان من هذا المعتدي إلا أن رد عليه رافضا تدخله من جهة ، ومذكرا إياه بجريمة قتله للمصري الحر من جهة أخرى . هنا أدرك موسى أن جريمته افتضحت ، كما عرف أن فرعون ، وتطبيقاً للقوانين التي يعرفها موسى ، أمر بقتله عقابا له على جريمة القتل التي ارتكبها . موسى ، وهو يعرف أن جريمته تمت عن عمد وإصرار ، لم يجد مفرا من تلافي العقاب إلا الهرب من وجه القانون ، وهكذا هرب إلى سيناء ، أرض مديان كما كانت تسمى ، فَفصل آخر من قصته .
6
تسرد سورة القصص قصة هرب موسى إلى سيناء بالتالي : { فخرج منها خائفا يترقب قال ربِِ نجني من القوم الظالمين 21 ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل 22 ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمَّة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يُصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير 23 فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال ربِ إني لِما أنزلت إلي من خير فقير 24 فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك ما سقيت لنا فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين 25 قالت إحداهما يا أبتِ استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين 26 قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين 27 قال ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل 28 فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا ……..29 }
لا تحتاج الآيات شرحا وإنما التوضيح لبعض العبارات منعا للبس في الفهم . منها أن مدين ليست قرية ، أو مدينة ، أو مضارب قبيلة . مدين آنذاك هي أرض شبه جزيرة سيناء وما يواجهها من البر على الشاطئ الآخر لخليج العقبة . في أحد المواقع ، حيث يعيش كاهن مدين الكبير يثرون ، التقى موسى على مصدر ماء - عين وربما بئر - بابنتي الكاهن ، وساعدهما في سقاية غَنمهما . الأهم أن الآيتين 27 و28 توضحان أن موسى بتربيته المصرية ، كان على غير معرفة بتقاليد وعادات قومه العبرانيين . التقاليد والعادات التي لا تسمح للعبراني بالزواج من غير العبرانية ، وفي حال أن فعل ذلك يتم إما نبذهُ من الجماعة ، وإما عدم الاعتراف بأبنائه في الجماعة . وبسبب عدم معرفته بالتقاليد سارع موسى إلى القبول بعرض كاهن مديان ، يثرون ، تزويجه إحدى ابنتيه مقابل خدمته ثماني سنوات ، وسنتين إضافيتين إن طابت نفسه بذلك .
7
ونعود إلى التوراة :
وقد سبق وأوردنا الآية 15 من الإصحاح الثاني ، بداية قصة هروب موسى إلى سيناء - أرض مديان - نعيد نصها لنكمل : [ فسمع فرعون هذا الأمر فطلب أن يقتل موسى . فهرب موسى من وجه فرعون وسكن في أرض مديان وجلس عند البئر 15 وكان لكاهن مديان سبع بنات . فَأتين وَاستقين وَملأن الأجران ليسقين غنم أبيهن 16 فأتى الرعاة وَطردوهن . فنهض موسى وَأنجدهن وسقى غنمهن 17 فلما أتين إلى رعوئيل أبيهن قال ما بالكن أَسرعتن في المجيء اليوم 18 فقلن رجل مصري أنقذنا من أيدي الرعاة وإنه استقى لنا وسقى الغنم 19 فقال لبناته وأين هو . لماذا تركتن الرجل . أُدعونه لِيأكل طعاما 20 فَارتضى موسى أن يسكن مع الرجل .فأعطى موسى صَفُّورة ابنته 21 فولدت له ابنا فدعا اسمه جرشوم . لأنه قال كنت نزيلا في أرض غريبة 22] .
لا يلفت النظر هنا أن هذه الآيات ، وهي تحكي ذات القصة القرآنية ، ذلك التعارض الخفيف بين الروايتين القرآنية والتوراتية ، أو أن التوراتية أكثر صراحة ، كما أكثر وضوحا من تاليتها القرآنية . ما يلفت النظر تكرار تأكيد النص التوراتي على مصرية موسى . بنات كاهن مديان ، ومديان ممر شعوب المنطقة من وإلى مصر ، عرفنه مصريا من لغته المصرية التي ، وهو الهارب وطالب التخفي ، تحدث معهن بها . كما اللافت أن الكاهن ، كما في القرآن ، بعد أن عرف قصته ، لم يطمئنه ويُجِره فقط ، وإنما ضمه إلى أسرته بأن زوجه من ابنته . وأيضا التأكيد على عدم معرفة موسى بعادات وتقاليد قومه بِإسراعه القبول بعروض حَميه ، ولكن …
لكن لم يكتف كاهن مديان ، كما سنرى لاحقا ، بإسداء هذا الجميل لموسى ، والذي يفترض الخلق القويم لإنسان عادي ، وليس لِنبي ورسول ، رده بأحسن منه ، بل وأمده بالكثير من النصح والمعرفة التي يحتاجها ليس في غربته فقط وإنما في إنجاح رسالته . أما المفاجئ والمثير للألم قبل الدهشة أن رد الجميل من هذا النبي الرسول لم يكن بأحسن منه . كان ذبح وإبادة المديانيين كما سنرى في حينه .
8
وغير ذلك ، وبعيدا عن ذلك ، كان اللافت لي كقارئ آيات ختام الإصحاح ، بعد ختام قصة الهروب إلى سيناء ، وهي : [ وحدث في تلك الأيام الكثيرة أن ملك مصر مات . وتنهد بنو إسرائيل من العبودية وصرخوا . فصعد صراخهم إلى الله من أجل العبودية 23 فسمع الله أَنينهم فتذكر الله ميثاقه مع إبراهيم وإسحق ويعقوب 24 ونظر الله بني إسرائيل وعلم الله 25 ] .
في ظني ليس المهم هنا هذا التأكيد على نسيان الله ميثاقه مع آباء بني إسرائيل ، وبالتالي غض بصره وسمعه عن شقاء عبوديتهم هذا المدى الزمني الطويل ، بالرغم من اِصطفائهم شعبا له وَتفضيلهم على العالمين . المهم أن الآيات جاءت بمثابة مقدمة لرسالة موسى التي تتمحور بالأساس على إنقاذ قومه ، بني إسرائيل ، من العبودية ، وخلق محنة ، ترتقي إلى إبادة شعب آخر هو أهل فلسطين .
وإذاً ، وَللابحار في لجج هذا الموضوع يتوجب البدء بمحاولة الإجابة على السؤال : لماذا ، كيف ، ومتى سقط بنو تحت نير العبودية ؟
9
لا يعتني القرآن بِ ، ومن ثم لا يسعفنا بمعلومات عن الأسباب ، الكيفية ، وزمن سقوط بني إسرائيل في ربقة العبودية . فقط يشير لها - العبودية - كحقيقة ثابتة وعلى النحو التالي :
في سورة الدخان جاء { ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين 30 من فرعون إنه كان عالياً من المسرفين 31 ولقد اخترناهم على علم على العالمين 32 وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء عظيم 32 }
وفي سورة إبراهيم : { ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بآيات الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور 5 وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويُذَبِّحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلك بلاء من ربكم عظيم 6 }.
وفي سورة الأعراف : { قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها لمن يشاء من عباده والعاقبة للمتقين 128 قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون 129 } .
و { وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يُقَتِّلون أبناءكم ويستحلون نساءكم وفي ذلك بلاء من ربكم عظيم 141 } .
وفي سورة البقرة : { يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين 47 واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون 48 وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يُذَبِّحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء عظيم 49 } . و { يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين 122 واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون 123 } .
وإذاً ، وبالرغم من تكرار الآيات بصورة لا تسعف القارئ لإدراك مبررات وحكمة التكرار ، فإنها لا تفيد بما يعين على إجابة السؤال : لماذا ، كيف ، ومتى سقط بنو إسرائيل في ربقة العبودية ، وهم من تَكَرر القول بِتفضيلهم على العالمين ؟ وإذاً ..
10
في الحلقة السابقة الخاصة بيوسف أشرنا قرب النهاية إلى استقبال الفرعون لأهل يوسف ، وعددهم سبعون شخصا ، إلى إكرامهم وَإسكانهم في الجزء الأكثر خصوبة من أرض جاسان الواقعة بين الفرع الشرقي للنيل في الدلتا ، وبين خط قناة السويس الحالية . وأكثر منحهم حرية الرعي ، الحركة والتملك ، ولكن ..
لكن ، وبعد أن يخبرنا الإصحاح الأول بأن بني إسرائيل رتعوا في ذلك العز الذي أغدقهُ عليهم فرعون يوسف [ أَثمروا وَتوالدوا ونموا وكثروا كثيرا جدا وامتلأت الأرض منهم 7 ] ، فقد أضاف التالي :
[ ثم قام ملك جديد على مصر لم يكن يعرف يوسف 8 فقال لشعبه هوذا بني إسرائيل أكثر وأعظم منا 9 هلم نحتال لهم لئلا ينموا فيكون إذا حدثت حرب أنهم ينضمون إلى أعدائنا وَيحاربوننا ويصعدون من الأرض 10 فجعلوا عليهم رؤساء تسخير لكي يذلوهم بأثقالهم . فبنوا لفرعون مدينتي مخازن فيثوم ورعمسيس 11 ولكن بحسبما أذلوهم نموا وامتدوا فَاختشوا من بني إسرائيل 12 فَاستعبد المصريون بني إسرائيل بعنف 13 وَمرروا حياتهم بعبودية قاسية في الطين واللبِن وفي كل عمل في الحقل . كل عملهم الذي عملوه بواسطتهم عنفا 14] .
الآيات هذه تجيب على السؤالين لماذا وكيف تم واستقام نير العبودية على أكتاف بني إسرائيل ، ولكنها لا تجيب على متى حدث ذلك ؟ الآيات تقول أنهم بعد إِثمارهم ، تَوالدهم ، نُموهم وتكاثرهم كثيرا جدا ، وهذا لا يحدث في زمن قصير - عشرات السنين - جاء ملك لا يعرف يوسف فَفرض عليهم العبودية ، وَلتبقينا في متاهة التخمين : هل حدث هذا بعد مائة سنة ؟ مائتي سنة ؟ ثلاثمائة سنة من الحرية والبرطعة في أرض وخيرات مصر ، أم في أكثر أو أقل من ذلك ؟ ثم يبرز سؤال جديد : كم من السنين أَو القرون استمر عصر العبودية ذاك ؟
الآيتان 40 و41 من الإصحاح الثاني عشر من سفر الخروج تجيبان : [ وأما إقامة بني إسرائيل التي أقاموها في مصر فكانت أربع مئة وثلاثين سنة 40 وكان عند نهاية أربع مِئة وثلاثين سنة في ذلك اليوم عينه أن جميع أجناد الرب خرجت من أرض مصر 41] . ومن نافل القول التذكير بأن النص يعود في سفر تثنية إلى التأكيد على صحة هذه المدة ، أي 430 سنة .
11
والآن نعاود طرح السؤال : ما السر في أن الرب نسي بني إسرائيل كل تلك المدة التي حملوا فيها نير العبودية ، لم يسمع صراخهم ، لم يلتفت لِأنينهم ، لم يهتم لمرارة عيشهم .. الخ ؟
هذا السر كان قد طالعنا في عرض مطول من الإصحاح الخامس عشر من سفر التكوين ، تدبيرا مسبقا من لدن خبير عليم . أما لماذا هذا التدبير ، فلأن [ …ذنب الأموريين ليس إلى الآن كاملا 16] .
وقبل أن يباغتنا قارئ عجول بالقول معترضا : وهل الله الذي أراد شيئا أن يقول له كن فيكون يحتاج مبررا لفعل أراده ، أو لتنفيذ عهد التزم به ، نقول تعالوا نتجاوز حوار الرب مع إبراهيم الذي كان حينها بلا وريث حول الوعد بمنح نسله أرض غربته ، ونطالع : [ ولما صارت الشمس إلى المغيب وقع على أبرام سبات وإذا رعبة مظلمة عظيمة واقعة عليه 12 فقال لِأبرام اعلم يقينا أنَّ نسلك سيكون غريبا في أرض ليست لهم ويستعبدون لهم فيذلونهم أربعمائة سنة 13 ثم الأمة التي يستعبدون لها أنا أدينها وبعد ذلك يخرجون بأملاك جزيلة 14 وأما أنت فتمضي إلى آبائك بسلام وتدفن بشيبة صالحة 15 وفي الجيل الرابع يرجعون إلى ههنا لأن ذنب الأموريين ليس إلى الآن كاملا 16 ] . وتقول الآيات التالية أنه بعد أن صحا أبرام من حلمه هذا قطع له الرب ميثاقا بإعطائه أرض غربته من نهر مصر - النيل - إلى النهر الكبير نهر الفرات .
في كتابي الصادر في كانون ثاني / يناير العام 93 تحت عنوان " الوعد في التوراة "، وتعليقا على تبرير الرب لتدبير إسقاط شعبه المختار في ربقة العبودية ، فإدانة شعب مصر ، و انتظار اكتمال ذنوب الشعوب الساكنة لأرض الوعد كي يبدأ عمليات إبادتها ، ص 117 كتبت :" وإذاً ، فإن حكم الإبادة على أهالي فلسطين ليستطيع بنو إسرائيل الحلول محلهم ليس بسبب أنهم ارتكبوا معاصي ، أو لأنهم عائفون وَعرافون وَمرتكبو أرجاس - الآيات السابقة أسبغت هذه الأوصاف عليهم - . الرب الرحيم أسقط بني إسرائيل - شعبه المختار - لأن ذنب الأموريين لم يكن كاملا آنذاك . وكان عليه هو الرب أن ينتظر دون أن يحرك ساكنا ، إزاء شعب هو خلقه ، حتى يشتط في ارتكاب الذنوب ، وحتى يصبح ذنبه كاملا فيستحق عقاب الإبادة ." وأضفت :
" حقيقة لم أدر ما أفعل إزاء حكم كهذا . وكل ما في الأمر تساءلت : هل هو حكم الرب فعلا أم هو تبرير ، بكل هذا السقم الذي يحتويه ، من موسى لأنه تورط ووصم الرب بآفة النسيان ، والتي نجم عنها كل هذا الجور بشعب اختاره وحباه بمحبته من دون سائر الشعوب ؟! " .
وأضيف اليوم أن تسمية أرض الوعد ، أرض كنعان ، بفلسطين وتسمية أهلها بالفلسطينيين ، تكررت في أسفار الخروج ، العدد والتثنية عدة مرات ، وبناء عليه أتساءل : كيف يمكن لفلسطيني راشد وعاقل أن يؤمن بِ ، وأن يعبد ربا كهذا ، مهما أُغدق عليه من صفات العدل ،الرحمة ، الحكمة ، القدرة ، والمغفرة ؟
ثم ملاحظة تعريف بِالأموريين : الأموريون هم الشعوب التي سكنت الأرض الممتدة بين ضفة نهر الفرات الغربية والبحر الأبيض المتوسط ، ومنها الكنعانيون أصحاب أرض فلسطين . وهم أيضا مجموعة قبائل سكنت فلسطين واحتفظت باسم الأصل ، الأموريين . ليثور السؤال : أي من هؤلاء قصدت آيات انتظار الرب اكتمال ذنوبهم كي يبدأ في إبادتهم ؟
12
والآن ، قد آن أن نختم الحلقة بالآتي :
في الفقرة 9 ، وَمن القرآن في سورة البقرة طالعتنا الآية :{ يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين 47 } . وعادت سورة البقرة ذاتها تكرر الآية وبذات النص ، وبدون زيادة أو نقصان حرف واحد في الآية 122 . ولم نسأل لِمَ وما الحكمة من هذا التكرار ، أو ما المقصود بلفظ العالمين ؟ وفي ظني ، ومقدار وحجم معرفتي ، لا يجيبنا القرآن على أي من السؤالين . لكن التوراة تفعل ذلك . كيف؟
يبدأ الإصحاح السابع من سفر التثنية بسرد الوصايا ، والتوجيهات الخاصة بكيفية الاستيلاء على أرض فلسطين وإبادة وطرد أهلها والتعامل مع الناجين منهم ؛ الحثيين والجرجانيين والأموريين والكنعانيين والفرزيين والحويين واليبوسيين ، سبعة شعوب كما يصفهم ، لينتقل إلى توضيح أسباب ومبررات تمكين بني إسرائيل من فعل ذلك وبدءا من الآية 6 بالتالي : [ لأنك أنت شعب مقدس للرب إلهك ، إياك اختار الرب إلهك لتكون له شعبا أخص من جميع الشعوب الذين على وجه الأرض 6 ليس من كونكم أكثر من سائر الشعوب التصق الرب بكم واختاركم لأنكم أقل من سائر الشعوب 7 بل من محبة الرب إياكم وحفظه القسم الذي أقسم لآبائكم أخرجكم الرب بيد شديدة وفداكم من بيت العبودية من يد فرعون ملك مصر 8 ] .
لكن ، ولأن الصورة ما زالت ناقصة ، وَلإعطائها مزيدا من التوضيح يطالعنا الإصحاح التاسع بالتالي :[ لا تقل في قلبك حين ينفيهم الرب إلهك من أمامك قائلا لأجل بِرِّي أدخلني الرب لأمتلك هذه الأرض . ولأجل إثم هؤلاء الشعوب يطردهم الرب من أمامك 4 ليس لأجل بِرِّك وعدالة قلبك تدخل لتمتلك أرضهم بل لأجل إثم هؤلاء الشعوب يطردهم الرب إلهك من أمامك ولكي يفي بالكلام الذي أقسم الرب عليه لآبائك إبراهيم وإسحق ويعقوب 5 فاعلم أنه ليس لأجل بِرِّك يعطيك الرب إلهك هذه الأرض الجيدة لتمتلكها لأنك شعب صلب الرقبة 6 ] . وَصلب الرقبة تعني شديد العِند في قبول الرب إلها له وفي قبول الدين الذي آتى به موسى .
ويكمل الإصحاح العاشر الصورةَ بِالأية 15 [ ولكن الرب إنما التصق بِآبائك لِيحبهم فاختار من بعدهم نسلهم الذي هو أنتم فوق جميع الشعوب كما في هذا اليوم ] .
وبعيدا عن تصنيف كلام الرب هذا ، وما إذا كان من الممكن أن يصدر عن شخص سوي وعاقل ، أقول أن اختيار موسى نبيا ، رسولا ، وصاحب ديانة جديدة ، غير ديانة آبائه ، هذا الاختيار تم بذات المنهج السالف ، وسار على ذات النحو ، حذو القذة بالقذة كما سنبين ونرى في الحلقة القادمة .



#عبد_المجيد_حمدان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تقاطعات بين الأديان 23 إشكاليات الرسل والأنبياء 7 يوسف
- تقاطعات بين الأديان 22 إشكاليات الرسل والأنبياء 7 الأسباط
- تقاطعات بين الأديان 21 إشكاليات الرسل والأنبياء 6 يعقوب
- تقاطعات بين الأديان 20 غشكاليات الرسل والأنبياء 5 إسحق
- تقاطعات بين الأديان 19 إشكاليات الرسل والأنبياء 4 لوط
- تقاطعات بين الأديان 18 ، إشكاليات الرسل والأنبياء 3 إبراهيم
- تقاطعات بين الأديان 17 إشكاليات الرسل والأنبياء 2
- تقاطعات بين الأديان 16 إشكاليات الرسل والأنبياء 1
- يا مثقفي التنوير اتحدوا
- تقاطعات بين الأديان 15 الحكمة والحكماء
- تقاطعات بين الأديان 14العادل المعذب ....صبر أيوب
- تقاطعات بين الأديان 13 الصعود إلى السماء
- تقاطعات بين الأديان 12 الروح والموت
- تقاطعات بين الأديان 11 المرأة في روايات الخلق
- تقاطعات بين الأديان 10 غايات الآلهة من خلق الإنسان
- تقاطعات بين الأديان 9 خلق الإنسان
- تقاطعات بين الأديان 8 قراءة في رواية حلق الكون القرآنية
- حدود الدولة
- تقاطعات بين الأديان 7 قراءة في روايات خلق الكون
- تقاطعات بين الأديان 6 نظرية الخلق 1 خلق الكون


المزيد.....




- قطر.. استمرار ضجة تصريحات عيسى النصر عن اليهود و-قتل الأنبيا ...
- العجل الذهبي و-سفر الخروج- من الصهيونية.. هل تكتب نعومي كلاي ...
- مجلس الأوقاف بالقدس يحذر من تعاظم المخاوف تجاه المسجد الأقصى ...
- مصلون يهود عند حائط البراق في ثالث أيام عيد الفصح
- الإحتلال يغلق الحرم الابراهيمي بوجه الفلسطينيين بمناسبة عيد ...
- لبنان: المقاومة الإسلامية تستهدف ثكنة ‏زبدين في مزارع شبعا ...
- تزامنًا مع اقتحامات باحات المسجد الأقصى.. آلاف اليهود يؤدون ...
- “عيد مجيد سعيد” .. موعد عيد القيامة 2024 ومظاهر احتفال المسي ...
- شاهد..المستوطنين يقتحمون الأقصى في ثالث أيام عيد -الفصح اليه ...
- الأردن يدين سماح شرطة الاحتلال الإسرائيلي للمستوطنين باقتحام ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبد المجيد حمدان - تقاطعات بين الأديان 24 إشكاليات الرسل والأنبياء 9 موسى