أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبير خالد يحيي - هاجس الغربة والحنين للوطن في نصوص الشاعرة عبير خالد يحيى دراسة نقدية ذرائعية لمجموعتها الشعرية (قصيدة لم تكتمل) بقلم : الناقد الذرائعي هيثم محسن الجاسم















المزيد.....



هاجس الغربة والحنين للوطن في نصوص الشاعرة عبير خالد يحيى دراسة نقدية ذرائعية لمجموعتها الشعرية (قصيدة لم تكتمل) بقلم : الناقد الذرائعي هيثم محسن الجاسم


عبير خالد يحيي

الحوار المتمدن-العدد: 7389 - 2022 / 10 / 2 - 10:46
المحور: الادب والفن
    


تمهيد:
شهد القرن الحادي والعشرين صفة علمية لم تحملها القرون السابقة, وهي الهوس في التقدّم التكنولوجي الذي أصاب العلوم والظواهر, ونقلها نقلة خيالية في البيت والشارع, فصار كل شيء يأتي إليك بسهولة ويسر, المتعة والحركة والتصرّف والسفر, حيث ملأ التقدّم التكنولوجي كل زوايا الحياة ومكوّناتها، فأصبح الحاسوب والمحمول ساحة لواقع الحياة العلمي والأدبي، وبضغطة واحدة على جهاز المحمول تستطيع أن ترى جهة الكرة الأرضية الثانية بكل سكانها....
انحسرت القراءة, وصار الستالايت والتلفزيون موضة قديمة, واختفى التلفون من البيوت, وأمسى النقل والاتصال الحي لعبة سهلة مسحت الغربة من الوجود, وصار تطبيق ال (جي بي أس) دليلًا مخلصًا للسائح, فقد أعطت تلك الأتمتة التكنولوجية كل طاقتها لخدمة إنسان هذا العصر، حتى طال هذا التغيير لغته التواصلية، فنتج عن هذا التطورالتقني ظهور (تكنولوجيا اللغة)، حين انحسرت القراءة السابقة التي كنا نمارسها لتقوية الجانب الثقافي في القرون السابقة، فأضحى الجاهل حين يتعرّض لسؤال، يغنيه (كوكل) والمنصات الإلكترونية الأخرى عن حرج الإجابة، فتنفّس التخلّف والجهل, وتصدّرا المشهد ليتظاهرا بالمعرفة من ثنايا تلك المنصّات التواصلية، واتسعت الساحة الأدبية لتستقطب الأدب الطارئ حتى فقد الأدب الرصين سمته الأدبية على أيادي الأدباء التقنيين، واختلط الحابل بالنابل, وبرز العطش في الساحة الأدبية لفلترة الوضع المزري هذا، وإعادة التوازن بين التخلّف والوعي الأدبي, وبدأت النخبة الأدبية في مدينة( الناصرية) تستشعر هذا الهجوم العكسي والتصدّي له من خلال (النقد)، ولكن حالة النقد نفسها شكّلت الطامة الكبرى، التي ساعدت هذا التيار السلبي على التوسع والانتشار باعتماديتها المطلقة على النقد الثقافي والانطباعي الذي شوّه النص العربي ولوى رقبته, لتقبل المناهج الغربية التي لا تقبل النص العربي ولا تعترف به مثل منهج التفكيك ...
والذي جعل السفينة الأدبية تنوء بحملها وتتجه نحو أعماق محيط الإسفاف هو غياب النقد العلمي من تلك الساحة العطشى، فكانت الذرائعية، الحل الأمثل لكونها رؤية نقدية عربية تطبيقية مستندة على أطر ومداخل علمية لكل شيء يذكر من خلالها، ولا تتيح خرمًا للإنشاء الفارغ والكفيف، وغير المستند على قواعد نقدية رصينة، فهي مثقلة بنظريات نفسية وفلسفية وعلوم بحتة تساعد المتلقي والناقد بالدخول إلى أعماق النص بشكل ذرائعي علمي، وباعتمادية إدراكية واعية بالتحليل العميق لعناصر العمل الأدبي المتقن, بشكل دقيق ومدروس مستل من منهج عربي الأصل أُشير إليه بالتداول اللساني، يساعد الناقد على الغوص في مكونات النص باحترام وحرفية عميقة، ولا تقوم الذرائعية بتخريب قشرة العمل الأدبي الخارجية الجمالية, كما تفعل بقية النظريات النقدية الأجنبية، بل تهتم بالشكل والمضمون بشكل متوازٍ و باحترام واتزان نقدي متباين، ولا تعمل كالنظريات النقدية المادية، التي لا تنظر إلى أي نص بتكامل، حتى وإن كان في كتاب مقدس.(Alghalibi, 2017)
إذًا, ما الفرق بين النقد العلمي المحكم والنقد الثقافي والانطباعي المشخصن؟
الفرق هو إن الأول خاضع لمنهج ونظرية تعمل داخل عناصر النص وتدرس مكوّنات النص من الداخل بإسناد علمي من جميع العلوم التي يحتويها المنهج الذرائعي، والتي تحيط بالأدب والعلوم الأخرى التي تساعد في إجرائيانها المنطق والواقع والخيال والإيحاء ....أما الثاني -أقصد النقد الثقافي والإنطباعي- فهو يدرس النص من الخارج بشكل مقالي إنشائي مشخصن برأي وانطباع الدارس, فهو لا يخصّ النص ولا يدرسه، لا من قريب ولا من بعيد، بل هوعبارة عن مقالة سردية إنشائية يستخدم فيها الكاتب رأيه باستشهادات لأشخاص وفلاسفة أجانب، يمدح أو يهجو فيها النص وصاحب النص حسب مزاجه دون ذرائع علمية يستند عليها بآرائه تلك، لذلك يحاول البعض، من هذا النوع، لوي رقبة النص لإخضاعه لسلطته الإنشائية الكاذبة, ويسمي ما يكتبه بقراءة نقدية...وتظلّ الساحة عطشى لعلم النقد الحقيقي الذي يطلق المصطلحات النقدية ويصيغ القرارات بتسيّد الجنس الفلاني على الآخر, ويدرس النصوص من خلال نصّيتها ومنبعها النفسي والفلسفي والتكويني بذرائع علمية مسنودة بعلوم....

المقدمة:
للغربة والحنين جذور تاريخية عميقة عند أبناء بلاد الشام, تجسّدت بالهجرات المتعاقبة، فردية وجماعية لأسباب عديدة، سياسية واقتصادية ونفسية, أشدها إبان الاستعمار الغربي ( الفرنسي) لبلاد الشام في مطلع القرن العشرين, وخاصة سوريا ولبنان, ونزوحهم إلى العالم الجديد وظهور الأدب المهجري الذي اعتبر أهم صفحة في التراث الأدبي العربي. وما كتبته شاعرتنا (الدكتورة عبير خالد يحيى) في مجموعتها الشعرية (قصيدة لم تكتمل) من قصيد موجع بالألم والفراق والحنين للوطن، إلّا بدافع الحب الوجداني للمكان وطبيعته المتجذّرة في النفس الإنسانية عن الطفولة والصبا والحبيب والأهل. ( فالحنين إلى الوطن طبيعة في الَّنفس البشرية, ولم يقتصر الحنين على البشر بل يشمل الحيوان والنبات )الشاعرة د. عبير خالد يحيي طبيبة سورية ولدت في 3/2/1967 في مدينة طرطوس في سوريا وتنتمي بجذورها الأبوية إلى جزيرة أرواد, وحاليًا هي تسكن (الإسكندرية) في جمهورية مصر العربية.... لنرى تأثير غربتها في الدلالة التالية(إبراهيم, 1 973):
"وتغسلُ أشعتُها شوارعَ طرطوسْ...؟
يعلوهُ شحوبٌ لفراقِ أنترادوسْ
تمدُّ سموحةُ يدَها لتصافحَ
يدَ أروادْ"(ع. خ. يحيى, 2019)
أما في مجال الأدب: فهي ناقدة ذرائعية فذّة وقاصّة وشاعرة, تحمل العضويات الأدبية :عضو اتحاد الكتاب المصريين. عضو شرف في مؤسسة الكرمة للتنمية الثقافية والاجتماعية في مصر. عضو اتحاد الأدباء الدولي (المركز العام أمريكا).عضو اتحاد الكتاب والمثقفين العرب .مدير رابطة الأدباء والنقاد والمترجمين العرب .عضو مؤسس في حركة التصحيح والتجديد والابتكار في الأدب العربي. صدر لها مجاميع شعرية وقصصية قصيرة: لملمات ــ مجموعة قصص مكثفة (منشورة في موقع أمازون ككتاب الكتروني),عطايا ــ مجموعة شعرية, شعر معاصر, رسائل من ماض مهجور / مجموعة قصص قصيرة, ليلة نام فيها الأرق/ مجموعة قصصية 2018, قصيدة لم تكتمل/ مجموعة شعرية , رواية / بين حياتَين/ دار المفكر العربي 2020, همس النوارس بعدة أجزاء/ ديوان شعر مشترك, مقهورات عربيات / مجموعة قصصية مشتركة, قهر الرجال /مجموعة قصصية مشتركة, كليب .. / مجموعة قصصية مشتركة, مرايا قصصية/ مع عدد من الأديبات من مختلف أقطار الوطن العربي(إبراهيم, 1973) ودراسات :السياب يموت غدًا/ دراسة ذرائعية لقصائد للشاعر العراقي عبد الجبار الفياض, موسوعة الذرائعية مع المنظر العراقي عبد الرزاق عوده الغالبي, وهي عبارة عن ثلاثة مجلدات (مشترك مع الأستاذ عبد الرزاق عوده الغالبي), الذرائعية اللغوية بين المفهوم الفلسفي واللغوي, الذرائعية وسيادة الأجناس الأدبية, الذرائعية في التطبيق (آلية نقدية عربية), أدب الرحلات المعاصرة بمنظور ذرائعي, قصيدة النثر العربية بمنظور ذرائعي, وكلاهما عن دار الحكمة للنشر والتوزيع2021, أدب الفانتازيا والخيال العلمي بمنظور ذرائعي عن دار المفكر العربي 2020, وأخيرًا الأدب النسوي االعربي المعاصر بمنظور ذرائعي عن دار المفكر العربي 2022 .
العمل الأدبي "قصيدة لم تكتمل" ينتمي لجنس الشعر الحديث, ويحتوي الكتاب على نصوص شعرية جسّدت معاناة وحرقة الكاتبة على الوطن في غربتها القهرية, ولوعة العيش بعيدًا عن بيئة الطفولة والشباب, وتعالقها بالأشياء التي تمثّل جسور الحياة في وطن كان يمنح الدفء والأمان, وبات اليوم جريحًا مقطّع الأوصال بشفرات سيوف الخيانة والتآمر مع العدوان الامبريالي والصهيوني المقيت....وهذا هو شعور الشاعرة تلخّصه بالدلالة الشعرية التالية:
" ماذا أذكرْ ..
وماذا أنسى
بلدي قدْ ضاعَ"
ونصوص أخرى, تناولت حياتها كامرأة تخوض غمار الصراع الأزلي لإثبات الوجود الإنساني في عالم ذكوري مستبد, يتسيّد ذكوره بما يسلبونه من عالم المرأة لتبقى أسيرة التقاليد والأعراف البالية "
جرّدْني مِنْ كلِّ حرّياتي,
وأطلقْ عليَّ رصاصةَ الرحمة!
كلاهُما اعتقال..".
إن مجموعة "قصيدة لم تكتمل" الشعرية تضمنت نصوصًا ثرية تصوّر عواطف الحنين للوطن في غربة نفسية تختلف عن الغربة المكانية, فكان موضوع دراستنا النقدية الذرائعية, للوقوف على محرّكات الغربة التي فجّرت مشاعر الحنين, وغذّت الشاعرة بعاطفة متوقّدة لتخلق من آلامها ومعاناتها شعرًا يعبّر عن إحساسها ومشاعرها الأصيلة اتجاه الوطن, وتجعل من الأحداث, التي لها صدى عميق في قلبها مما مرّ على وطنها, تعبيرًا أوسع عن أحاسيس شعبها الذين توقّدوا بنار الاغتراب.
المستوى البصري:
إن المشهد الشكلي لنصوص المجموعة مرتّب بجمل شعرية وأعمدة وتنسيقات بصرية ملائمة, الألفاظ والسياقات الشعرية, إضافة لأدوات النقيط الفاصلة والموحية التي منحت النصوص شكلها المتميز كجنس ينتمي للشعر, ومختلف عن بقية الأجناس الأدبية من حيث الشكل والبناء والمضمون .
وساعدنا ذلك على معرفة أن شاعرتنا عبير تميل للتحرّر من قيود الوزن والقافية, وتميل لكتابة قصيدة النثر أو التفعيلة في عموم المجموعة " قصيدة لم تكتمل".
"تهدف دراسة النص الأدبي إلى الوقوف على إبداعات الأدباء في نصوصهم وما تحتويه من جماليات وانفعالات تؤثّر في روح القارئ, والسمات الفنية الأدبية, واحتوائها على قيم موضوعية ترتقي بالإنسان, والحصول على المعرفة والمعلومات الحقيقية, وذلك لفهم الثقافة, والأدب, وحركة الإنسان وكفاحه اليومي...." (تأليف عبد الرزاق عودة الغالبي وتطبيق عبير خالد يحيى, n.d. )
الغلاف
الوجه الأول من الغلاف صورة لأوراق الشاعرة ودفاترتها المتناثرة وفنجان قهوة, تجسّد طقس الكتابة لها آناء الليل, وكانت خلفية لاسمها المجرد من صفتها الإبداعية, فقط ( دكتور عبير خالد) أعطتنا انطباعًا أن كل متغرب عن دياره, شاعرًا كان أو ساردًا, يتجرّد عن صفته الإبداعية عندما يعرض لما جرى بالوطن من دمار وخراب, وأغرق الغلاف بضباب لوني باهت يجسد حمرة الفجر أو الغروب وذاك وقت يميل الأديب فيه لكتابة إرهاصاته بهدوء عائمًا في بحر أفكاره ومشاعره, وربّما التقطت شاعرتنا جواهر إبداعها من أعماقها المشعّة لتصنع قلادة من نصوص اكتملت في مجموعتها الشعرية موضوع الدراسة الذرائعية .
أما الوجه الثاني, فقد سطعت صورة الشاعرة مشرقة بابتسامة التصبّر والجلد في مخاض الغربة, كقولها في إحدى القصائد "مباركة أنا في أرض الصبر وشهيد ثماري محلاة بالحمد والشكر ..!" .
العنوان :
اختارت عنوانًا لمجموعتها الشعرية إحدى قصائدها " قصيدة لم تكتمل" بإيحاء إلى حياة المثقف العربي سواء أكان شاعرًا أو ساردًا أو أي صفة كتابية أخرى, وهو يكبت ويصادر حقه بحرية التعبير بصدق, وهنا تصف الشاعرة حالتها في ظل القمع السلطوي المستبد فكريًّا, ويفرض على المثقف أن يكون بوقًا له لنشر أيدولوجيته الفردية التي آلت لضياع الوطن, وأن استقلاليتها مهدّدة بخطوط حمر, ولم تحقّق أحلامها وأهدافها في وطنها, فبقيت مثل قصيدة لم تكتمل
أمّا بقية العناوين الفرعية, والتي تخصّ كل قصيدة, فقد سارت بخطّين متوازيين بين غربة الوطن وأوجاعه وصراع المرأة مع الرجل للاعتراف بوجودها الأخلاقي مناصفة جندرية عادلة في مجتمع يجب أن ينعم بالعدالة والمساواة.
الإهداء:
من شطرين .. الشطر الأول: إلى الأحبة والأهل والناس الذين فارقتهم بعد هجرتها القسرية من الوطن بسبب الحرب المشتعلة في عموم وطنها, وتفرّقهم في العديد من البلاد العربية والأجنبية, أو الذين استشهدوا أو فقدوا في أتون الحرب, وفي الشطر الثاني إلى من لجأت إليهم وعاشت في دفء محبتهم من الشعب المصري الذين منحوها الأمان والاستقرار والسلام.

الموسيقى الشعرية :
يتميز الشعر عن السرد بموسيقاه الداخلية والخارجية, مما يضفي على النص الشعري جمالًا ورونقًا أخّاذًا, ويختلف ذلك من شاعر لآخر, ويمايزه بالعزف المبدع بالكلمات, أو الرسم بها, لإنتاج أجمل اللوحات والأنغام الإيقاعية, إضافة للصورة الشعرية, واشتراك البناء الفني شكلًا مع الأطر الإبداعية التي ألقت فيها شاعرتنا أحاسيسها التي امتزجت مع اللغة في جذب انتباه المتلقي لبؤرة النص الثابتة, هاجس الغربة والحنين للوطن وصراع المرأة الازلي من أجل عدالة قضيتها الإنسانية. وساهمت في استشفاف روحها الشعرية الممتدة في خفايا النص بدرجات من العمق والانزياح نحو الخيال والرمز, والدالة على الذوق العالي والتمكّن اللغوي, وسعة الثقافة للشاعرة عبير خالد يحيى. (Alghalibi, 2017)
المستوى اللساني والدلالي والجمالي :
1- سيمانتيكية النص واختيار الكلمة:
ونعني بهذا المصطلح علم اللغة, لأن علم اللغة ينقسم بشكل حجمي إلى عناصرتشكّل علومًا حديثة وهي – علم فونولوجية phonologyاللغة, وهذا العلم يختصّ بأصغر عنصر بنائي للغة يسمى بالفونيم phoneme , وعندما تجتمع الفونيمات بتكوين واحد يعطينا علمًا آخر هو morphology علم المرفولوجي الذي يشكّل مرتكزًا لعلم الكلمة في اللغة وهو المورفيم morpheme، والمورفيم إذا أعطى معنى يسمى بالكلمة word وهنا يفتح لنا بوابة واسعة لعلم المعنى meaning وعلم النظم syntax الذي يبرز إدراكية اللغة من حيث تكوين الجملية الإدراكية, وبعد ذلك يكون هذا التكوين عرضة للتأثيرات الخارجية outer situationsالتي تسمى بالسياق context . ومن ذلك نرى كيف حدث التكوين السيمانتيكي الدلالي, عندما تعاونت العناصرالإجرائية اللغوية في تكوين دلالات نصفها واقعي سيمانتيكي, ونصفها الآخر إيحائي ذرائعي, والذي نبحث عنه في العقل البشري وهو الايحاء implicature كما في دلالات قصيدتها الأولى (نزيف الشمس) والدلالات التي تأتي تباعًا والتي تناقش فيها قضايا إنسانية مهمة. سننظر فيها من خلال الاقتباسات الدلالية التالية طبقًا للمبدأ القضوي للفيلسوف اللساني سيريل:
القضية الأولى:الغربة:
• (هل فعلًا شمسُ بلادي
تشرقُ في الأنفوشي
وتغسلُ أشعتُها شوارعَ طرطوسْ...؟)ص7
تساؤل الشاعرة على فراقها لبلدها ومدينتها الجميلة طرطوس وهجرتها لبلد آخر, وكانت تتمنى أن يكون كلا البلدين ينضويان في وحدة لتكامل الروابط والأسباب, لكن في عقلية الشاعرة الوطن لا يُعوّض بآخر, وقد ثبت ذلك بأبياتها التالية :
وينامُ الليلُ
بأحضانِ البحرِ
وعيونُ الأطفالِ
تعزفُ ألحانَ السِحْرِ
وأحاديثُ الحبِّ
تداعبُ أهدابَ القلبِ
........................)ص7
وجاء جواب تساؤلها في آخر بيت من القصيدة :
(هلْ تشرقُ شمسُ بلادي في الأنفوشي يومًا
وتغطي أشعتُها شوارعَ طرطوسْ...؟
أمْ هو حلمٌ في ليلةِ صيفٍ
يحكيهِ عريسٌ لعروسْ....؟)ص11
فهنا نرى سيطرة الشاعرة على اختيار كلماتها المحملة بالإيحاءات السيمانتيكية التي يكمل معناها الإيحائي ذرائعيًّا, لتكتمل الوحدة اللغوية, لتعطي الوضع اللغوي المناسب, كما نرى الوضع اللغوي الساخر بطريقة تهكمية من نهاية قصيدتها التي انتهت بكلمات متوافقة صوتيًّا (عريس لعروس )وهذه الدلالة تشير إلى حالة الابتسام والضحك على موقف يحدث في حالة ووضع العرس مفهوم اجتماعيًّا ونفسيًّا .
القضية الثانية:الرفض للظلم والتعسف:
• (أرادوني بوقًا في حناجرِهمْ
فتجمّدَ صوتي صقيعًا
وأسرَّ في أذني : لا تَبعْني ..) ص20
دلالة عميقة تشير إلى حقبة من حياة الشاعرة قبل وبعد هجرتها, كان وجودها سلبيًّا في رأيها المعارض لنظام الحكم المستبد الذي يقمع الأحرار ويصادر حرية الرأي والتعبير, ويضغط لأدلجة المجتمع وتحويل الكتاب والإعلاميين لأبواق لسياسته وأفكاره الشمولية . وهاجرت لأنها رفضت أن تكون بوقًا, ولو فعلت لباعت قضيتها ووطنها فامتنعت كما في قولها ( لا تخفْ ..)ص20
في هذه القصيدة, وعبر حوار بينها وبين الوطن, تقول له أنها لاتبيعه مطلقًا .
وتستمر في حديثها مع الوطن فتستعرض معاناتها وآلامها والظلم الذي تعرّضت له بسبب حبها له وإخلاصها, وأنها اختارت الهجرة لأن الطغيان وحش تفلّت بالشارع, يستل أرواح الأبرياء والوطنيين الأحرار :
يسكنُ الشارعَ وحشٌ من ضجيجٍ وانهيارْ)ص22 .
نشاهد في هذه الدلالة أول تقنية بلاغية تظهر لنا وهي (تقنية التشخيص), وهذه التقنية انتشرت في مدلولات دلالتها الإيحائية, فهي تستخدم آلة بسيطة ( البوق) بمدلولات عميقة, كما نلاحظ في تلك الدلالة بأنها شخصّت الوطن بشريًّا, وتخاطبت معه, ثم همس بإذنها (لاتخف) وهذا المدلول أكبر من الدلالة مورفولوجيًّا لأنه أعطى قيمة الوطن عندها وحرصها الكبير عليه .
القضية الثالثة:المعالجة النفسية لغربتها بالرمز المغلق:
وهذه قضية عانى منها الأدباء قديمًا من الظلم بالكتابة عنه بالرمز خوفًا من تعسف السلطة كسلطة الكنيسة قديمًا (بومالي, 2018): لنفحص الدلالة التالية عن تلك القضية المهمة:
• (ذاكَ الذي ألقاهُ فوقَ سحابةٍ
لا تتزَحزَحْ
يُرابطُ على حدودِ ذاكرتي
) ص24
الرمز نوعان
1- الرمز العادي symbol
2- الرمز التقني allegory
والفرق بينهما, أن الأول رمز يختاره الشاعر لشيء لا يودّ البوح به, ويترك ذلك لعقلية المتلقي, ليضع له احتمالات معينه يدركها من دلالات القصيدة (Alghaliby, 2021).
والثاني الرمز العام الظاهر الذي نراه ممثلًا للمؤسسات كرمز الثعبان للصحة, والأسد للقوة .
وهنا, الشاعرة استعملت رمزًا خاصًّا مغلقًا أرادت بإغلاقه أن تختبر إمكانية واحتمالية فهم المتلقي والمحلل . ولأني حاولت أن أفكّ طلاسم هذا الرمز بالاستعانة بالإنجازات القضوية للفيلسوف اللساني سيرل للدلالات المتسلسلة وتابعتها من أول القصيدة لآخرها ووجدت أن الشاعرة تنتقل بالرمز من مغلق لمغلق آخر, وكأنها تعيش في سجن تريد أن تحكم إقفاله فجعلته بعدّة أقفال. لكني من خلال استراتيجيتها وردني من دلالاتها المحملة بالإنجازات القضوية بأنها تدمج بين الوطن والحبيب .
ولكي أكون غير متعسفٍ ولا ظالمٍ لإحكام أقفالها, ربّما النص يتناول صراع المرأة مع الرجل لإثبات وجودها الكوني وتحقيق العدالة الجندرية في المجتمع المتمدن, والتسليم لاحتمالات التأويل قضية ترافق خبث التأويل وتعاليه على معاندة التفسير حتى يقف المفهوم بينهما ليحلّ هذا الإشكال. وهذه تقنية أخرى تقوم بها الشاعرة, ببناء قصيدتها على اسم إشارة غير معلن, أو كلمة مبهمة غير معلنة وتنتقل من إشارة إلى إشارة مستمرة في الإغلاق لتعطينا رسالة بأنها تكتب النص الرمزي المغلق بمهارة لاختبار عقلية المتلقي في زمن الإيحاء والتكنولوجيا والأحلام البعدية (البعد الرابع )(Amiche, n.d.).
القضية الرابعة:معالجة سجنها في الغرية فلسفيًّا:
كما في الدلالة التالية:
• (و لأنني تواريتُ في جزيرةٍ نائية
في مجاهلِ خباياكْ
يومَ تنشّقتَني في غفلةٍ من اتزاني
على شَفا قُبلَةٍ من تَوقْ )ص34 (
بعد حلّ الطلاسم الفلسفية للقصيدة اتضح أن الشاعرة محبوسة وسجينة الغربة, لكنها تحلم بسجن الوطن لتنتظر اليوم المشهود والتحرّر ولو كلّفها الانتظار عمرًا طويلًا من السجن والصبر حتى لو انتهى بالموت(ن. ا. علي, n.d.) .)
أرادت بهذه القصيدة أن تشير إلى إنسان توقّفت حركته وإجرائيته وتفكيره وأدائه اليومي إلى يوم الممات, وهذا تعبير عن يأس قاتل تنفخ ناره رياح الغربة. ومن تلك الدلالات نستلهم قوة التعبير الانزياحي لدلالات الشاعرة عبير العميقة التي تفصل الدلالة إلى قسمين: القسم الثابت في العالم الخارجي, والقسم المتحرك في عالمها الداخلي, وهذا يعبّر لنا عن أوار نار العذاب الكامن في دواخلها السيكولوجية, ولو رأيتها شكلًا لظننت أنها ربوتًا (سليمي et al., 2012).)

القضية الخامسة:نقد للحكام العرب عن الخنوع وظلم شعوبهم :

انظر الدلالة التالية:
• (تبحثْ في البيتِ الأخيرْ
عن الحياءِ والضميرْ!)ص39
في عنوان القصيدة رمز يشير للإنسان العربي الحر, أكان مثقفًا أو أديبًا, وتحمل قضيتين حسب الفعل الإنجازي؛ الأولى كتابة القصيدة وصفاتها ,والثانية الإقناع بالعطر .وحسب البند القضوي الإنجازي للفيلسوف اللساني سيريل في القضية الأولى, ترمز الشاعرة لنفسها بقصيدة مجبرة أن تكون إنسانًا يقبل الوضع العربي المهزوز, وتتصوّره كأنه عذاب أليم, يشبه حالة سجين يُعذّب بقلع أظفاره كما تقلع حياة الإنسان العربي الحر من قبل الأنظمة العربية المتسلطة التي تأمره أن تكون رموشه كالسيوف تلعب في مقلها الحتوف, وهو الوضع المليء بالحسرات التي تحيط به وتتساقط كالمطر. وتعود الشاعرة لرفض كتابة تلك القصيدة لأن ضميرها يرفض, فلو كتبتها ستكون قصيدة حمقاء تشعرها بوجع السنين وضياع عمرها والحنين ( پ. ش. علي & حسين, n.d.).)
أما في القضية الثانية, فإن الشاعرة تشعر أن المأزق هذا يقنعها بأن عطرها لازال عالقًا في وجودها الأول والثاني وحتى الأخير . في هذا الوطن الجريح حتى لو احتبس المطر فإن مقل الشاعرة تستجدي المزيد, وتنتظر صرخات الوليد في طيات الخطر, وتقصد التحرّر والحرّية, ولآخر عمرها تبقى تبحث عن الحياء والضمير .
القضية السادسة:أحزان الشاعرة:
• (تَغفو أحزاني
في مهدِ ابتسامة
تُهدْهِدُ الخوفَ
لِيَخْمَدْ..
لِيَستكينْ
)ص43
تضع الشاعرة حزنها بأطار يتميّز فيه الحزين بكبت حزنه خلف ابتسامة يرسلها للناس لمعادلة طغيانه والحدّ من قدرة تحطيمه الإرادة, وكذلك منح الصبر فرصة لترميم الفوضى الخارجية, وليس هناك أكثر من حزن الغربة ووحشتها ووجع الحنين للوطن كالذي أحست به الشاعرة, بتصوير سعادتها الوهمية بعد ضياعه وتمزّقه بالصراعات الداخلية وتآكل سنين عمرها التي نهشتها مخالب الزمن بلا رجعة وبات جمر الغربة ميزانًا تقيس فيه سنوات خريف العمر المهرولة نحوها, بعدما نحرت أحلامها من طول فراق الوطن الحبيب........
أمّا في قصيدة (أهل العويل) التي تبدأ في بيت شعري إعلاني بانتهاء زمن العويل, وتنتهي به وكأننا أمام قصة شعرية لشعب أو أمّة كُتب عليها العذاب والظلم والأحزان دفعة واحدة، حتى صاروا يلقبون ب(آل موت) بعدما انتفى الفرح عن حياتهم, ولم يبقَ إلا العويل والصراخ . وفي هذه القصيدة تخاطب الشاعرة العالم بأدب جم وأخلاقي رفيع (ياسادة ياكرام) وبمفردة الجمع "نحن ",وهنا نشعر بلحن حزين يخرج من بين أوتار القصيدة عندما تلامسها أنامل الشاعرة:
(انتهى زمنُ العويلْ..
فَلْنبدأِ البكاءْ!
نحنُ يا سادة يا كرامْ
آلُ موتٍ تبرّأ منهمُ الفرحْ!
لا نذكرُ منهُ إلّا الصُّراخْ
)ص40
في قصيدة (تجوال) تبرز الموسيقى ملازمة لحرف النون بصوت أنثى تئن من وجع خفي, حبٍّ أو فراق أو خيانة, وكأنه أنين موجوعة بلا انقطاع . وحرف الدال بصوت ذكر يحب ولكن فقد بريقه وخبا بسحابة الأحزان .وفي مقطع يزحف للخاتمة تكشف شاعرتنا عن كنزها الذي يستحق كل القصائد والمعاني بعتاب الفراق "ياوطني " وهي تترنّح ضائعة في غربتها .
(يا مَنْ يغيبُ فيكَ زماني
ويتيهُ فيكَ مكاني
كيفَ تنساني؟
وتسألُني إنْ كنتُ عطشى كما وطني؟
)ص72
(أيا مهوى الفؤادِ
ومهبِطَ دنيَتي
تريدينَ أنساكِ ؟
فينتحرُ الودادُ
وأتِيهُ في غابرِ الأيامِ دهرًا
أُصارعُ هَمّي
في الوهادِ؟
)ص73
. أما في الدلالة التالية قصيدة (نقطة انعطاف ) :تبرز:
القضية السابعة: العدالة المفقودة عند حكام العرب:
• (جرّدْني مِنْ كلِّ حرّياتي,
وأطلقْ عليَّ رصاصةَ الرحمة!
كلاهُما اعتقال..
سَرْبلْني بقيودِ صَلَفِك
وانتشي ..
و توهّمْ أنّكَ شمشوم, أو شهريار ..
)ص47
تشعر الشاعرة أن العدالة والمساواة بين الرجل والمرأة مغيّبة في البيئة العربية, لوجود تراكم تعسّفي متواتر بسبب طبيعة المجتمع. وتشير إلى تجريد المرأة من حقوقها كلها بالحياة الإنسانية. وهنا, الشاعرة أما تعاتب بوعي الرجل كمعادل للوطن كون الحكومات الاستبدادية لم تفعل شيئًا للمرأة, بل كرّست العنف والتعسف بحقها, من خلال قوانين شرّعتها لإبقاء حالة اللا توازن بين قطبي الأسرة بصورة من التخلف الحضاري عن الأمم المتقدمة . في هذه القصيدة تجري حوارًا ذاتيًّا مع من ارتبطت به بتهكّم واضح وتعده بأن استمرار علاقتهما تبقى فاترة وباردة وخالية من الإحساس بالسعادة الزوجية . وهذه تذكّرني بغرض الهجاء بالقصائد الخليلية لولا موازاتها لتكنولوجية الكلمة ودخولها بعصرنه الشعر, فلا نستطيع, أو يمنعنا ذلك, من استخدام مصطلح الهجاء, فهي تهجو من ظلمها هجوًا معصرنًا .
القضية الثامنة :الحنين إلى الوطن:
• (أيا كلَّ القصائدِ والمعاني
تغادرني.. وأنتَ الروحُ
يا وطني؟
)ص75
تستخدم الشاعرة تقنية الحوار ممزوجة بشخصنة الوطن وكأنها تعاتبه مرّة أو تناجيه حبًّا أو تعزّز الوصال بإثراء ساحة مشاعرها بدفق عميق من الحنين والهيام به . بتتبع نصوصها والسياحة في ترتيبها كما تريد الشاعرة نكتشف تصاعدًا دراميًّا عميقًا في تأكيد آلام الغربة والفراق وعصف الحنين باستحالة مغادرة الوطن قرين روحها .
وفي دلالة من قصيدة (إن بعض الشيء عشق) كما في الاقتباس التالي :
• (هل تُراني .. أنّه فعلًا كَسَاني
طيفُ جُنٍّ في كياني
سَلَبَ الوجدانَ منّي
)ص77
في هذه الدلالة تصف الشاعرة حالتها الوجدانية بأوصاف لاتليق إلّا بالوطن (الجن, الحمق, السقم , الموت) وهي تساؤلات تجيب عليها بوصف حالتها في غربتها وحنينها للوطن الذي طال فراقه بسبب تتابع الأحداث فيه وتصاعدها لدرجة التمزّق والانهيار, مما يجعل العودة بعيدة المنال, وربما لاتتحقّق بينما العمر يتقدم ويختتم بالموت . وتجتمع تلك الأوصاف بإجابتها الواضحة بأن العشق أبدي في وجدان الشاعرة .
وهنا دلالة الهيام في قصيدة سكين الأحلام كما في الاقتباس التالي :
القضية التاسعة : الهيام والانصهار بحب الوطن:
• (أظلُّ أذوبُ ببهائك
ليلَ نهارْ
وأدمي قلبي بهواكِ
حتى ينهارْ
)ص82
الذوبان في حب الوطن من طول الفراق وبعد اللقاء, ترجمتها الشاعرة بلغة الخطاب لتعزية نفسها بشعور الوطن بحالها وبؤسها, وراح يبادلها نفس الشعور بالفقد والفراق في خيال متألق تجسّد بالحالة الشاعرية السامية للشاعرة . وأخرجت مكنوناتها الدفينة المترعة بالوجد والهيام بحب الوطن بما يعنيه لها من أسباب الوجود والبقاء رغم بعد الشقة بينهما, فهو مكتمل الصورة بنقاء السريرة وحسن النية بالولاء المطلق ليكملوا المشوار . هنا استخدمت الشاعرة تقنية جديدة وهي مناجاة الوطن المفقود, مازال الوطن ملصقًا برأس قلمها في كل حرف من حروفها الشعرية .
وفي دلالة اليقين بالحنين في قصيدة انصهار كما في الاقتباس التالي :
• (يقيني أنتَ يا قَدَري
... يقيني أنَّكَ عمري
... يقيني أنَّكَ أملي... وفي الأعماقِ ..
يُبْقيني)ص97
تصل الشاعرة بأحاسيها ومشاعرها ووجدانها إلى حالة اليقين والاطمئنان التام بأن علاقتها بالوطن ارتقت لمرتبة القدسية بانصهارها وذوبانها الروحي فيه وامتزاجهما الأبدي, وأيقنت أن هذا قدرها المكتوب, أن تفارقه وهو الحبيب الساكن في قلبها وأن تماديها ب (غادريني) إجحاف منها بحقه وسيأخذها إلى الأعماق لتحقيق حلمها باللقاء .
2.الاستنتاجات اللسانية واللغوية والجمالية الناتجة
من التحليلات السابقة:
بعد الخوض بعلم اللغة والتحليلات اللغوية طبقًا لعناصر اللغة واللسان, والتي أفاضت علينا دلالاتها بجماليات ليس لها حدود, نستنتج من كل ذلك الأوعية التي صُبّ فيها الكلام الشعري وتحليلاته الجمالية لنجدها في الأواني العلمية التالية :
1- اختيار الكلمة wording :
وهذا المصطلح الجمالي يشير بإصبعه الغليظ نحو ذكاء الشاعرة عبير خالد يحيى, إنها تستل كلماتها برأس قلمها السحري بعفوية سيكلوجية ومهنية عالية لتعطينا تكوينًا شعريًّا سحريًّا في قصائدها السابقة وكما شاهدنا في الدلالات التالية :
(آهٍ يا جُرحَ القدسِ
وحزنَ الأهرامِ
ودموعَ الثكلى
وبكاءَ أبي الهولْ )ص8
(وأنا..
لا زلتُ في صَومَعتي
أسمعُ ما يروي
لا أَطرُفْ و لا..
أتنحنحْ.)ص28
(الكفنُ سِلعةٌ غالية, يحوزُها أهلُ التَّرفْ
والقبرُ أبدًا ما استوى فيهِ الغنيُّ والشهيدْ
)ص41
(لا تنسَ أنْ ترتدي ضحكتَك الصفراء!
وانتعلْ صوتَك الجهوَريُّ كالأسيادْ!
)ص48
2- التوافق الجملي في الإنجاز اللغوي : Agreement :
وهذا المصطلح شاهدنا استخدامه من قبل الشاعرة بشكل راقي, حيث استطاعت أن توافق وتزاوج بين الكلمات, حيث تجعل الكلمة السابقة متوافقة ومتحدة اتحادًا وثيقًا بالكلمات اللاحقة لتعطي جملًا ذات معنى تعبيري متفوق بانزياح عالي الدرجة وإنجاز إيحائي عالي المستوى كما في الدلالات التالية :
(أنا لا أتقنُ العدْ
لا أتقنُ وأدَ المعدودْ
ولا جدولةَ الخيباتْ!
أنا رقمٌ حائرْ..
يحاولُ الالتصاقَ على جبينِ الزمنْ!
) ص53
(أيامُنا المحروقة على صفيحٍ ساخنْ..
ترقصُ الزومبا بأمرِ الألمْ!
)ص57
(بقيَتْ حُنْجرتي مِنْ غيرِ حارسْ..
يهزُّ شباكَها شهيقٌ وَزفيرْ
)ص61
(ثمَّةَ طفلةٌ في طرَفِ ذاكرتي الآخرْ
تقُصُّ جديلتَها بحُنْقْ!
)ص63
(يومَ عاقبتْني أميّ وشدّتْ جديلتي
قصَصْتُ شعري بطولِ أصبعْ!
)ص67
3- الاقتصاد اللغوي Language Economy :
وهذا العنصر الجمالي استخدمته الكاتبة بشكل معصرن, أرادت به تجريد كلماتها المختارة وتنظيف جملها من الحشو اللغوي, فعندما ترى التشابك في المعنى في جملٍ ينساب لعقلك إحساس بأن الكلمات متعشّقة مع بعضها, فإذا حذفت واحدة منها كسرت القصيدة بشكل كامل كما في الدلالات التالية :
(يفصلُني عنّي وعنّي
عشرونَ عامًا ونَيّفْ
الفرقُ بَيني وَبَيني
خمسونَ إصبعًا ونيّفْ
)ص85
(حاولتُ أنْ أهاجرَ عنكِ
لأرضٍ ليسَ فيها
فُراقْ
هلْ لي بوصلٍ منكِ
فيه عناقْ؟
)ص82
(وحينَ أدركَ وجداني
أنكِ ساكنةٌ فيهْ
جعلكِ
فلَكَهُ و المدارْ )ص83
(شحَذتُ نفسي
لأذبحَ بها
كلَّ الأحلامْ )ص80
(يا وطني؟
أعيشُ فيكِ سنينًا
فقدتْ أيامَها
ساعاتِها
دقائقَها
والثواني)ص75

4- السبك الجمالي اللغوي Cohesion
وهذا العنصر هو أهم صفة النص بشكل عام, حيث لا يُسمى النص الأدبي نصًّا مالم يكن مسبوكًا بتلك الصفة, أي تتعاون كلماته بشكل متضافر في الإخبار والإنجاز حسب مبدأ التعاون للعالم اللساني (غرايس) لإعطاء دلالات ومدلولات إيحائية, ومفاهيم متطابقة مع المدلولات ودالّاتها كما في الدلالات التالية:
(يا مَنْ يغيبُ فيكَ زماني
ويتيهُ فيكَ مكاني
كيفَ تنساني؟)ص72
(قصتي..
في مجاهلِ غُربتي..
مَلّتْ مُكوثَها في دَربِ الانتظار...!
)ص63
(حتمًا سألتقيكَ
صار عمري أرجوحةً
تنوسُ بمرابطِ نجدَيكَ
تتشعّبُ أحلاميَ الخجلى
بمفرِقِ تاجِكَ
)ص14
(حتمًا سألتقيكِ
صار عمري خيطًا
يتدلّى
من حاجبَيكِ
تتسابقُ أيامي
ودقائقُ أهلّتي
بينَ شَعرِ رأسكِ
وأخمصِ قدمَيكِ
)ص13
(ستهبُّ جيوشُ النخلِ
تغطّي هضابَ
كنانةَ و السهلِ)ص10
5- التماسك الدلالي coherence :
وهو إشارة إلى الوظائف التي تتشكّل من خلالها مكوّنات عالم النص, أو يدرس به مكوّنات هذا العالم الحي وتشكيله بالمفاهيم التي يستند إليها ظاهر النص, كالروابط اللغوية التي تعطف جملة على أخرى بشكل إيجابي أو سلبي أو تناقضي كما في الدلالات التالية :
(لقيطةٌ على بابِ مسجدٍ لا تعبُرِ العتباتْ
والأغلبُ أنّها مُرّة
بمرارةِ قهوتي المرّة!
)ص57
(مأسورونَ عندَ سجونِ المُتعَبين ...
تَتكسَّرُ حَيَواتُنا بين أعرَاضٍ وَأمراضْ
محظوظونَ إذْما تخَطَّونا..
)ص58
(وكنتُ قد رأيتك مرّةً أولى عند الناصية ..
يومها غَشِيَتْني الدهشة!
بعثرْتَني في عوالمي المتكسّرة ..
كالشهقةِ الأولى في أبجديةِ الخَلق,
)ص102
6- القصدية Intentionality :
وهي تعبيرعن هدف النص واستراتيجية الكاتب في كتابته, فهي تؤلّف مجموعة من الوقائع لنص مترابط ومتماسك ذا نفع عملي في تحقيق مقاصده الإنسانية في نشر معرفة أو علم أو أخلاق لبلوغ هدف منشود أقر مسبقًا بقصد كما في الدلالات التالية :
(ظلَّ قابيلُ يجاريهِ النَّدَمْ
وغرابٌ مستمرٌ يحفرُ موجاتِ الأدَمْ
)ص23
( دعْ رِضا الناسِ عنكَ
فلم يَرضَوا عن أفعال النّبيّينِ)ص96
(هلْ تشرقُ شمسُ بلادي في الأنفوشي يومًا
وتغطي أشعتُها شوارعَ طرطوسْ...؟
أمْ هو حلمٌ في ليلةِ صيفٍ
يحكيهِ عريسٌ لعروسْ....؟
)ص11
7- المقبولية الجمالية للنص Acceptability :
تتعلّق بموقف المتلقي الذي يقرّ بأن منطوقات النص ومكوناته الواردة إليه تشكّل نصًّا متماسكًا مقبولًا لديه اجتماعيًّا وأخلاقيًّا ولغويًّا وأدبيًّا كما في الدلالات الالية :
(أرادوني بوقًا في حناجرِهمْ
فتجمّدَ صوتي صقيعًا
)ص20
(كيف يمشي طفلي مبتورَ القَدَمْ ؟
نحوَ صفٍ من زهورٍ وحروفْ
)ص21
(يتهجّدُ فيها رِعديدٌ
بأوقاتِ الصلاة
يركعُ فيها..
ويسجدْ
يمجُّهُ الطُهرُ
يؤمُّ القومَ
و بدينِ الله
يَلحَدْ.
)ص33
(الكفنُ سِلعةٌ غالية, يحوزُها أهلُ التَّرفْ
والقبرُ أبدًا ما استوى فيهِ الغنيُّ والشهيدْ
و تراتيلُ الجنازة.. لنْ تُبْهِجَ مَنْ في الأرضِ رَقَدْ
سَنُحشَرُ حفاةً عراة
)ص41
8- إخبارية النص الجمالية Informativity :
تتعلّق بتحديد سردية النص لأحداث ومعلومات مقسّمة بين الإخبار والإنجاز حسب رأي الفلاسفة (جون أوستن وسيريل وغرايس) أصحاب نظرية الإنجاز اللساني الذي أقرّ مبدأ الإنجاز القضوي, والفيلسوف غرايس الذي أقرّ مبدأ التعاون, وتلك المبادىء تفرض على النصّاص أن يكتب مزيجًا من لغة إخبارية وأدبية انزياحية بنسب معقولة جماليًّا كما في الدلالات التالية :
( هل فعلًا شمسُ بلادي
تشرقُ في الأنفوشي
وتغسلُ أشعتُها شوارعَ طرطوسْ...؟
) ص7
(وما أقسى
بكاءُكِ يا سيناءْ
فكوكُ الشيطانِ
تلوكُ بلحمي
وتبعثرُ أشلاءَ النيلِ
تحتَ بَساطيلِ الغرباءْ
)ص9
(جرّدْني مِنْ كلِّ حرّياتي,
وأطلقْ عليَّ رصاصةَ الرحمة!
كلاهُما اعتقال..
سَرْبلْني بقيودِ صَلَفِك
وانتشي ..
و توهّمْ أنّكَ شمشوم, أو شهريار ..
)ص47
(أيا كلَّ القصائدِ والمعاني
تغادرني.. وأنتَ الروحُ
يا وطني؟
)ص75

9- الموقفية Situationality :
تتعلّق هذه الصفة بمناسبة النص الموقفَ الأدبي المتوافق مع المجتمع وأخلاقه, وموقفَ الأديب منه بأن لا يتعرّض بقلمه إلى حالات سلبية تخصّ المجتمع, كأن يكتب عن الطائفية أو العرقية أو المذهبية بشكل هدّام وسلبي كما في الدلالات التالية :
(أظلُّ أذوبُ ببهائك
ليلَ نهارْ
وأدمي قلبي بهواكِ
حتى ينهارْ
)ص82
(رأيتُ الكواكبَ تُصْعَقْ
بنيازكِ جبروتٍ انهمرْ
وأطفالٌ كلَّلَ الأبيضَ رؤوسَهمْ
كالشبحْ
وأُخَيَّاتُ الشرفْ
انحنَينَ على بطنٍ تكوّر
وانتفخْ..!
هلْ هيَ حقًّا جنَّةُ الخُلدْ
أمْ مَسُّ سَقَرْ؟!
)ص91
10- الإغناء والتناص Intertextuality :
وتختصّ هذه الصفة الجمالية بإغناء النصّ بمتوازيات أخرى متشابهة لتوسّع بها مدراك النص والمتلقي على حدّ سواء طبقًا لنظرية التلقي, ليكون النصّ مقبولًا لديه, ليزيد درجة التشويق في مقبولية النص وهنا يحق للناقد أن يخرج من دواخل النص للعالم الخارجي ليجلب إغناءاته ليرصفها في دواخل النص بمبدأ التناص أو التوازي السردي كما في الدلالات التالية( ميرقادري et al., 2011) ):
(أهزُّ إليَّ بجذعِ القصيدة
تُساقِطُ عليَّ حروفًا وفيّة
أُرمّمُ بها فجواتِ عمري, و أرتقُ مُزَقي
أرتدي نضارةَ زليخة في عامِها الخمسين
)ص35
(على فوضى مُناغاةٍ..
رقصتْ حروفي
رقصةً عَجَزَ عنها زوربا)ص44
(سَرْبلْني بقيودِ صَلَفِك
وانتشي ..
و توهّمْ أنّكَ شمشوم, أو شهريار ..
وخُذْ آخِرَ أنفاسي..
)ص47
(وما أقسى
بكاءُكِ يا سيناءْ
فكوكُ الشيطانِ
تلوكُ بلحمي
وتبعثرُ أشلاءَ النيلِ
تحتَ بَساطيلِ الغرباءْ
)ص9 وهنا لديها تناص مع جميع شعراء المهجر والأرض السليبة(عبيد & إبراهيم,2013 ): وفي القصيدة التالية أهل العويل:
(انتهى زمنُ العويل
فلتبدأِ المسابقة
قصائدَ الرثاءِ وهطلَ النحيب
ما لَنا فيه باااااعٌ طويل!
انتهى زمن العويل
)ص38- 39


3. مورفولجية النص والبنية الموسيقية (Elkhatib, n.d.)

(إن عملية إنتاج الكلام تبدأ من أعضاء الكلام, وتحكم بالنظام التركيبي والسياق اللغوي, وتمرّ تلك العملية في ثلاث مراحل حسب الرؤية الذرائعية ( التكوين والتفسير والتواصل الذرائعي) أي أن كل تحليل أو تفكيك أو تشريح أو تفسير لغوي يحدث في أي لغة من لغات العالم أو أي منهج نقدي يمرّ من خلال تلك المراحل التحليلية الثلاث, وبذلك تكون الذرائعية المصدر الوحيد للتحليل اللغوي النقدي والأدبي من أصغر عنصر لغوي وهو الفونيم إلى الجملة في السياق اللغوي، لأنها تنفرد في إدراك وتحليل واستيراد واختزان المعنى المجتمعي حتى تصديرها كمخرجات تواصلية.) (Alghaliby, 2021)
في قصيدة نزيف الشمس المكونة من 61 بيتًا أو شطرًا نجد أنها تبدأ بتفعيلة ارتكازية طويلة على حرف (السين) كمورفيم رئيسي, ثمّ مورفيمات ثانوية بحروف الراء والباء في ثنائية متناسقة الإيقاع الموسيقي, تضمّ بين جنباتها جميع حروف الأبجدية العربية, لتعطي للشاعر المساحة الكافية لاختيار المعنى على أي حرف من حروف الأبجدية, وهذا اعتبره بعض الباحثين والنقاد حرية في الشعر, لكن الذرائعية لها رأي خاص في ذلك, حيث تعتبر هذا الخروج عن القيد الخليلي هو خروج خجل لأنه خروج جزئي وليس متكاملًا, وكأن الشاعر خرج من قيد الخليلي ووقع في قيد التفعيلة, لكون جميع النهايات في قصيدة الشعر التفعيلة لاتزال محتفظة بالقافية الموسيقية مع تنوّعها, ثمّ تعود الشاعرة لمورفيم السين الرئيسي ما يمنح القصيدة موسيقى إيقاعية داخلية . ثم تتوالى المورفيمات الثانوية بالهمزة واللام, لنعود لحرف السين أيضًا وهكذا.. لتنتهي القصيدة بحرف السين في عملية تدوير موسيقي شفاف . العلاقة الموسيقية بين المورفيم والفونيم هي علاقة الصوت الأخير الذي ترتكز عليه موسيقى النهايات الشعرية المسماة بالقافية .
كما في الاقتباس التالي:
(وتغسلُ أشعتُها شوارعَ طرطوسْ...؟...morph مورفيم رئيسي
وينامُ الليلُ m
بأحضانِ البحرِm …….....مورفيم ثنائي
وعيونُ الأطفالِm
تعزفُ ألحانَ السِحْرِm
وأحاديثُ الحبِّ m
تداعبُ أهدابَ القلبِm
وتلاعبُ أغصانَ شجيراتِ الفِرْدَوسْ M…..مورفيم
)ص7
وفي قصيدة (تلتقيني) استخدمت تفعيلة ارتكازية واحدة على حرف الكاف, ولم تستخدم تفعيلات ثانوية وهذا يعني أن شاعر التفعيلة يلتزم التزامًا كاملًا بموسيقى النهايات .كما في الاقتباس التالي :
1
حتمًا سألتقيكِ.....M مورفيم رئيسي
صار عمري خيطًا
يتدلّى
من حاجبَيكِ
تتسابقُ أيامي
ودقائقُ أهلّتي
بينَ شَعرِ رأسكِ
وأخمصِ قدمَيكِ
حتمًا سألتقيكِ ) ص12

المستوى النفسي :
القراءة النفسية للنص الأدبي تقع ضمن منظومات القراءات المتعدّدة التي جربت أدواتها النقدية في دراسة، بل اشتركت بتداخلات مهمة حصلت بين مكوّنات النص وأصوله النفسية، وهي ليست معزولة عن غيرها في تلك القراءات، ومن منطلق أن الأدب سلوك إنساني راق، يسلك الناقد هذا المسلك النفسي بعناصره، المحفز)stimulus)والاستجابة)response)أو الفعل)action )ورد الفعل )reaction )أو السؤال والجواب، لكي يتوصل إلى أعماق الأديب، من خلال نصه، وهي حالة من التداعي والاندماج بين شخصية الأديب والمتلقي أو المحلل ...(Alghalibi, 2019)...
هنا .. لدينا محورين أساسيين في مجموعة قصيدة لم تكتمل للشاعرة عبير خالد أولهما :
أ.محور الغربة والحنين للوطن وسايكولوجية الشاعر:
وهذا عامل نفسي بحت تسوقه الانفعالات والإرهاصات النفسية التي يمرّ بها الفرد، فنحن إذًا، أمام شاعرة تنزف ألمًا ووجعًا من دواخلها النفسية، فقدت وطنًا وقد ضاع منها في فوضى الخيانة السياسية والظلم وصراع الأضداد, واستطاعت أن تحمّل الكلمات بكثافة انزياحاتها نحو الرمز والخيال عبر صور شعرية متناسقة بأعمدة نثرية مموسقة في أعماق نفسيّتها لتلقي في قلب المتلقي كتلًا من الهمّ والحنين لماضٍ عاشته في دفء بلدتها الممتدة من البحر إلى البر في طبيعة خلابة وجذابة, واشتياقها للعودة بقطع سفر الغربة الذي أثخن جراحها وملأ قلبها قيحًا من طول الفراق والفقدان، وأملها بأن تهبّ جيوش العرب لإنقاذ وطنها عبر مناشدة الأحرار في عموم الوطن العربي الكبير . وتستعيد من ذاكرة التاريخ أمجاد وبطولات ومواقف وطنها سوريا من خلال التضامن العربي والوحدة العربية لتحرير المقدسات الإسلامية والعربية, كما ترى نفسها ووطنها في القصيدة التالية:
" بينَ فكوكِ الأبناءْ
فأرى قمرَ الشامِ حزينًا
يعلوهُ شحوبٌ لفراقِ أنترادوسْ
مِنْ نزفِ كنانةَ
لطُوْفانِ دماءِ التأريخْ
آهٍ يا جُرحَ القدسِ
وحزنَ الأهرامِ
ودموعَ الثكلى
وبكاءَ أبي الهولْ
ونشيجَ الدلتا
وسكاكينَ التجريح...
ماذا أذكرْ ...
وماذا أنسى
بلدي قدْ ضاعَ
"ص9
وتنوح بالدلالة التالية عن ألم الفقد:
(يا مَنْ يغيبُ فيكَ زماني
ويتيهُ فيكَ مكاني
كيفَ تنساني؟
وتسألُني إنْ كنتُ عطشى كما وطني؟
جفّتْ .. تشقّقتْ
تُربَتي
دمًا.. كفاني
وحبُّكَ في قلبي خريفٌ
بسيلِ نزيفهِ القاني) ص72

ب.محور المرأة وحقوقها الضائعة:
الذي استحوذ على اهتمام الشاعرة (عبير خالد يحيى ), وأخذ حيزًا كبيرًا من نصوص المجموعة, هو مالاقته من تعسف واضطهاد خلّف أثرًا عميقًا في حياتها وانعكس على سلوكها وطبيعتها النفسية وموقفها من الرجل, وهو بنفس الوقت نموذجٌ لحياة المرأة العربية تحت وطأة التقاليد والأعراف المتوارثة في بيئتها الجلفاء التي مارست أشد وأقسى أنواع الظلم بحق المرأة العربية . كما أفاضت بمشاعرها وأحاسيسها بغياب العدل والمساواة في المجتمع المدني بين الرجل والمرأة شرعيًّا وقانونيًّا كما نرى في الدلالة التالية من شكواها:
(جرّدْني مِنْ كلِّ حرّياتي,
وأطلقْ عليَّ رصاصةَ الرحمة!
كلاهُما اعتقال..
سَرْبلْني بقيودِ صَلَفِك
وانتشي ..
و توهّمْ أنّكَ شمشوم, أو شهريار ..
)ص47

وعادت وأجملت كل تلك المعاناة في انزياحات رمزية وخيالية عالية, محملة الكلمات المنتقاة بدقّة لقدرتها اللغوية والبلاغية في خلق صور شعرية أنيقة كما في أنينها في الدلالة التالية:
(لا تنسَ أنْ ترتدي ضحكتَك الصفراء!
وانتعلْ صوتَك الجهوَريُّ كالأسيادْ!
آهٍ .. حَسنًا, لا تنسَ أن تترنّحْ
من كأسين من خَمرِك المعتّقْ,
)ص50
وكان الشعر وسيلتها السامية في التعبير عما يعلتج في نفسها من نيران, أحرقتها عبر سفر حياتها وهي ترى أن العدالة لا أمل بتحقّقها عاجلًا ولا آجلًا, وأن كابوس التعسف والعنف باق فوق رؤوس النساء, وستبقى ظلاله معرّشة كالليل السرمدي أمام بزوغ شمس تنازع نفسها خلف ركام متوارث كغيوم عاصفة سود في طبيعة متصحّرة جرداء من برعم زهرة أو قطرة ماء .ونعود لمعاناتها بالمقارنة التالية:
(لم تكن يومًا تربتي بورًا كشاسعات قفارك
وسمائي مزدانة بنجيمات الصيف في كل الفصول
كما هي شمس قحطك !) ص50

المستوى الديناميكي :
نتصفح في هذا المستوى المتحرك تقنيات الشاعرة في مدّ جسور الإيحاء لعقل المتلقي لتجعله ينصهر معها في بوتقة نارها المستعرة من الظلم والفوضى, وقد نجحت في هذا المسعى إلى حدّ كبير:
 تقنيات الشاعرة :
1- تساؤل وتعطي جواب كما في القصيدة نزيف الشمس
(هلْ تشرقُ شمسُ بلادي في الأنفوشي يومًا
وتغطي أشعتُها شوارعَ طرطوسْ...؟
أمْ هو حلمٌ في ليلةِ صيفٍ
يحكيهِ عريسٌ لعروسْ....؟)ص11
2- تشخيص مرفق بحديث وبعد الحديث تذكر المعاناة كما في قصيدة أين نحن ؟
(أرادوني بوقًا في حناجرِهمْ
فتجمّدَ صوتي صقيعًا
وأسرَّ في أذني : لا تَبعْني ..
)ص22
3- استخدام الفلسفة لتحويل القضايا المخبوءة إلى حقائق منطقية, ثم تحلّلها شعريًّا, كما فعلت في قصيدة خلود, حيث حلّلت القصيدة شعريًّا بجانبين: محفّز واستجابة, متكلّم ومخاطب لتسلّم الناقد والمتلقي المثقف بساطة التحليل حسب مبدأ التعاون للفيلسوف غرايس بعد أن تحوّلت جملها الفلسفية إلى استتباعات لغوية, ثم جمعتها لتعطي صفحة واحدة وهي حالة الشاعرة في تلك القصيدة .
(و لأنني تواريتُ في جزيرةٍ نائية
في مجاهلِ خباياكْ
يومَ تنشّقتَني في غفلةٍ من اتزاني
على شَفا قُبلَةٍ من تَوقْ
أرْدَتني في دَرَكٍ لا يطالُهُ زفيرْ
حبيسةُ خوفٍ غيرَ مُعلَنْ
كَضجيجِ ثورةٍ محشورةٍ في حُنجرةِ القَهرْ
)ص34
4- تقنية مناجات الوطن المفقود وكأنه شخص عزيز من أفراد عائلتها كما في القصيدة التالية:
(قصتي..
في مجاهلِ غُربتي..
مَلّتْ مُكوثَها في دَربِ الانتظار...!
تُدنْدِنُ أغنيةً..
تهزُّ أنغامُها..
عوالِمَ المجهولْ
)ص63
المستوى الأخلاقي
بعد تحليل النص والغوص في أعماقه, انكشفت لنا القيم الأخلاقية التي تؤمن بها الشاعرة عبير خالد يحيى, وتوجُّه سلوكها المجتمعي والإبداعي , فبرزت قوة أخلاقها مجسّدة في نصوصها التي سقتها برحيق ثقافتها الوطنية والإنسانية لتسيل عسل المشاعر النبيلة اتجاه الناس والوطن . كانت أفكارها توسم نصوصها:
- بروز بنظرتها الإنسانية نحو المجتمع والعالم عبر كلمات مؤدّبة ومنضبطة تنضوي تحت مبدأ التعويض الأخلاقي العالمي ومنظومة القيم الأخلاقية البعيدة عن خدش الحياء الإنساني أو الدعاية المغرضة للطائفية والعنصرية والعدوان .
- كما أثرت مجموعتها بأعمدة شعرية معبّأة بمتون رسائل وقضايا إنسانية عما يعانيه المغترب من قسوة ووجع النزوح القسري عن وطنه واحتراقه في بوتقة الغربة.
- وتحييد المرأة عن دورها في بناء الأسرة والمجتمع المتمدن .
- التزمت شاعرتنا عبير كأديبة بمبدأ القواعد الأخلاقية والمثل الإنسانية العليا في المنظومة الأخلاقية العالمية في كل ما كتبت من سرد وشعر وبحوث, فكانت نموذجًا متميزًا للأدباء والكتاب العرب .
ملاحظة:
فالكمال لله وحدة....أعتذر عن الهنّات والأخطاء وعدم الإحاطة فيما كتبت في تلك الدراسة بأفكار الشاعرة عبير خالد يحيى, وعذري من قرّائي فإني مسؤول عن الأمور والقضايا التي كتبتها حسب المنهج الذرائعي والتوفيق من عند الله







المصادر
Alghalibi, ِa. A. (2017). الذرائعية في التطبيق (ت. ع. ا. ع. ا. و. ع. خ. يحيى (ed.) الطبعة الأ). دار شطة الإبداع - مصر. [email protected]
Alghalibi, ِa. A. (2019). الذرائعية وسيادة الأجناس الأدبية (ت. ع. ا. ع. ا. و. ا. للنا (ed.) الطبعة الأ). دار النابغة للنشر والتوزيع-طنطا -سبرباي مصر. [email protected]
Alghaliby, A. O. (2021). Pragmatics and the Human Mind (first edit). The General -union- Of the writers of Iraq.
Amiche, A. (n.d.). اشتغال الرمز ضمن إسلامية النص.
Elkhatib, A. S. (n.d.). المصطلح LINGUISTICS وفروعه في أهم المعاجم العربية والإنجليزية المتخصصة في علم اللغة* 1–تقـــديم.
إبراهيم, ح. م. (1973). الحنين إلى الوطن في الأدب العربي حتى نهاية العصر الأموي.
بومالي. (2018). التشخيص وفتنة التلقي في شعر أمل دنقل.
تأليف عبد الرزاق عودة الغالبي وتطبيق عبير خالد يحيى. (n.d.). الذرائعية وسيادة الأجناس الأدبيةfile:///C:/Users/max/Downloads/أحمد-الجديل-1-1.docx.
سليمي, علي, & کياني. (2012). الانزياح ودلالاته الخيالية في شعر مهدي أخوان ثالث وسعدي يوسف (دراسة مقارنة في الصور الشعرية المحوّلة لدي الشاعرين. بحوث في اللغة العربية, 4(7), 59–75.
عبيد, & إبراهيم, ف. ي. (2013). شعر المهجر قضاياه ومميزاته: دراسـة أدبية نقدية. جامعة الجزيرة.
علي, پ. ش., & حسين, غ. ي. آ. ع. (n.d.). عنوان عربي: الشکوي من الشقاء و الفقر و الظلم و الدهر في شعر حافظ إبراهيم (عنوان فارسي: شکوه از شقاوت و فقر و ظلم و روزگار در شعر حافظ إبراهيم).
علي, ن. ا. (n.d.). تراسل الحواس وأشکاله في شعر عبدالمعطي حجازي.
ميرقادري, الله, س. ف., کياني, & حسين. (2011). نظرية التلقي في ضوء الادب القارن. مجلة الجمعية الإيرانية للغة العربية وآدابها، فصلية علمية محکمة, 7(18).
يحيى, ع. خ. (2019). قصيدة لم تكتمل (الطبعة الأ,). مؤسسة الشريف للكتاب.



#عبير_خالد_يحيي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ظواهر أسلوبية في ديوان (قصيدة لم تكتمل) للشاعرة د. عبير يحيى ...
- رواية (مدينة الحظ ) للأديب العراقي عبد الجبار الحمدي انفلات ...
- -الأدب النّسويّ- يتألّق في دراسات نقديّة ذرائعيّة للدّكتورة ...
- إشهار كتاب نقدي ( الدب النسوي العربي المعاصر بمنظور ذرائعي)
- إشهار كتاب
- مسرحة الأسطورة في ملحمة الحبّ الخالدة - سيّدة الأسرار عشتار ...
- تعدد الساردين في رواية( بين حياتين) للكاتبة عبير خالديحيي بق ...
- تجذير الإشكالية العدمية في رواية / سيرة العدم/ للأديب المصري ...
- حول تيار الوعي والنسوية في رواية (بين حياتين ) للأديبة السور ...
- الشعر الحر وتمثّلات الدعوة لأغراض شعرية جديدة دراسة ذرائعية ...
- تائهة
- التوازي في الدلالات السردية - دراسة ذرائعية باستراتيجية الاس ...
- جولة في أروقة النفس في رواية ( ست أرواح تكفي للهو ) للكاتبة ...
- التاريخ والبعد الرابع ومناقشة القول في التناص - دراسة ذرائعي ...
- إضاءة ذرائعية على كتاب ( أدب الطفل وقيم البناء) للباحث والأد ...
- ارحموا نصّكم العربي ... إنه سيد النصوص...! عبد الرزاق عوده ا ...
- البناء السيكولوجي للشخصية البطلة بين السيكوباتية والنرجسية ف ...
- جرأة التجريب ولعبة الميتاسرد في رواية ( لو لم أعشقها) للأديب ...
- أدب الغزو من منظور ذرائعي
- إشهار كتاب ( تحليل نقدي في أدب الفانتازيا والخيال العلمي)


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبير خالد يحيي - هاجس الغربة والحنين للوطن في نصوص الشاعرة عبير خالد يحيى دراسة نقدية ذرائعية لمجموعتها الشعرية (قصيدة لم تكتمل) بقلم : الناقد الذرائعي هيثم محسن الجاسم