أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبير خالد يحيي - مسرحة الأسطورة في ملحمة الحبّ الخالدة - سيّدة الأسرار عشتار - للأديبة التونسية حياة الرايس دراسة نقدية بقلم الناقدة الذرائعية السورية د. عبير خالد يحيي















المزيد.....



مسرحة الأسطورة في ملحمة الحبّ الخالدة - سيّدة الأسرار عشتار - للأديبة التونسية حياة الرايس دراسة نقدية بقلم الناقدة الذرائعية السورية د. عبير خالد يحيي


عبير خالد يحيي

الحوار المتمدن-العدد: 7228 - 2022 / 4 / 24 - 17:42
المحور: الادب والفن
    


مقدمة إغنائية :
المسرحية
تعرّف المسرحية بأنّها : نصٌّ قصصي حواري، يصاحبه مناظر ومؤثّرات فنية مختلفة.
ويراعى في المسرحية جانبان: جانب النص المكتوب، وجانب التمثيل الذي ينقل النص إلى المشاهدين حيًّا، وتتّفق المسرحية مع القصة في بعض الجوانب, وتختلف عنها في جوانب أخرى، فالعناصر المشتركة بين المسرحية والقصة تتمثّل في: الحدث، والشخوص، والفكرة، والزمان والمكان، في حين أن العناصر المميّزة للمسرحية تنحصر في: البناء، والحوار، والصراع وأدوات العرض المرئي ....

"والمسرح فن خالص لا يقتنع بغير الإيحاء, ومن هنا كانت الكتابة للمسرح عملية خلق لا عملية تعبير , فالتعبير نقل لما هو موجود بالفعل, أما الخلق فعملية تحويل ما هو موجود إلى كائن جديد"
ومن هذا المنطلق, نجد الكاتبة ( حياة الرايس) تكشف لنا مداركها لهذا المفهوم المعرفي للمسرح, عبر تحويلها المتن الحكّائي المعروف لهذه الأسطورة _ أسطورة عشتار وتموز_ إلى بنى حكائية قامت بإعمارها بطريقة تخصّها هي كحياة الرايس, وتأكيدها لمفهوم الخلق وليس التعبير, عبر شهادة عن سرّ كتابة نصّها المسرحي ( عشتار), الشهادة ألقتها في مؤتمر الرواية بالقاهرة في العام 2015 تحت عنوان : (الأسطورة المخاتلة للخلود), تقول فيها :
".... وبدأت لعبة استدعاء واستحضار رموز وشخوص الأساطير الغابرة الموغلة في القدم, وعملية بعثها وإحيائها وإخراجها على خشبة مسرح الحياة من جديد, والتفنّن في إكسائها حللًا طقوسية مناسبة لأدوارها الجديدة"
استطاعت الكاتبة أن تكتشف أن عشتار, كرمز ميثولوجي, تتقاطع فيها كل رموز الأنوثة والخصب في كل الحضارات, مهما تنوّعت الأسماء, إلّا أنها القاسم المشترك بين تلك الرموز مجتمعة, فاختارتها, وأوكلت إليها وظيفة أو مهمة حمل الرسالة الأخلاقية والأدبية والفكرية لنصّها المسرحي الحداثي, تقول:
" كل هذا يجعل عشتار أكثر الآلهة انتشارًا, رمزًا مشتركًا بين كل الحضارات تقريبًا. وهي حاملة رسالة جماعية تجعلها حقلًا معاصرًا لأفكار حديثة تمتد على كافة الأقطار ... وهذا ما ساعدني على بعثها من جديد, من خلال تجميع شتاتها المبعثر في عدّة حكايات, ثمّ تفكيكها وإعادة تركيبها وكتابتها من جديد... دون إهمال اختيار الشخصيات الحافة بالأسطورة وتوظيفها, وإعطائها أدوارًا جديدة أيضًا... لتدفع بدماء معاصرة للأسطورة الأم, وتعطيها رموزًا أخرى تتماشى مع معالجتها البشرية وإحالاتها على عوالم الأنثى اليوم. "
إن من يكتب هذه الشهادة هو ناقد يمتلك كل أدواته النقدية بحرفية, لقد كان الشعراء قديمًا ينقدون شعرهم إن لم يجدوا من ينقدهم, وهي كاتبة تتلبّس أو تتقمّص روح الناقد بكل المستويات النقدية التحليلية التي ينبغي للناقد الغوص بها, وأعجب فعلًا من تمكّنها من فعل ذلك, حيث اعتدنا أن يتقمّص الناقد روح الكاتب, لا العكس.
هي كاتبة تكتب بوعي الناقد الحصيف, ولا وعي الكاتب المبدع, تدرك أنها تكتب نصًّا مسرحيًّا ملحميًّا, بكل خصائص المسرح الملحمي, والذي سأتكلّم عنه بالتفصيل, حتى يتسنّى لنا وضع هذه المسرحية على طاولة نقد المسرح الملحمي.
لقد اخترت أن تكون مادتي الإغنائية عن المسرح الملحمي.
المسرح الملحمي :
أو المسرح البريختي أو التغريبي, هو اتجاه مسرحي يولي الأهمية القصوى للمضمون أي للرسالة, ويعتبره أهم بكثير من الشكل, كما أنه يعتبر الحقيقة أهم من الإيهام المسرحي والمجاز , وينسب هذا الاتجاه في المسرح إلى الكاتب الألماني برتولد بريخت الذي كان يؤمن أن بإمكان المسرح أن يغيّر المجتمع نحو الأفضل... والمسرح الملحمي باتجاهه وأفكاره وحرفيته يعارض المسرح التقليدي أو الدرامي أو الأرسطي كما يسميه بريخت. ويعتمد المسرح الملحمي أساسًا على سرد الأحداث لا تجربتها على خشبة المسرح تجربة درامية، بمعنى أنه مسرح قائم على الحكي _ سرد الأحداث_ لا على تمثيلها فعليًا, كما يعتمد على جعل المتفرج مشاهد واعٍ يقظ الفاعلية، وعلى مواجهته بقضية تحمله على اتخاذ موقف ثوري ضدّها بعد دراسته وتأملها عقلانيًّا ....وإذا كانت المسرحية الملحمية البريختية مفكّكة المشاهد، وسردية الطابع فإن خطرها يكمن في مطالبةالمتفرّج بتغيير الوضع الاجتماعي والاقتصادي القائم.
مفهوم التغريب: في المسرح الملحمي أو البريختي.
- التغريب على مستوى المتلقي أو المشاهد :
المقصود به جعل الأحداث العادية واليومية غريبة ومثيرة للدهشة, وباعثة على التفكير والتأمّل. أمّا بالنسبة للممثل فمعناه أن الدور يكون على مبعدة عنه, غريب عنه, يؤدي دور الشخصية من غير أن يندمج فيها, وبالتالي المتفرّج لن يندمج ولن يعلق في دائرة الوهم, ويظلّ محتفظًا بوعيه وعقله, يقف وينقد ويحكم ويغيّر.
عناصر التغريب على مستوى النص:
- على مستوى الحدث:
لجأ بريخت إلى الماضي, فأخذ من التاريخ والتراث والأساطير حتى يحقق التأريخية والتغريب .
والتأريخية: هي الأخذ من التاريخ لنتأمّل الحاضر ,بمعنى أن بريخت يقدّم لنا أحداثًا تشبه أحداث الحاضر, لكنها حدثت في الماضي, قضايا تمّ حلّها, عن طريق حلول أشبه بحلول قدّمتها الاشتراكية, فيتمّ التأمّل لنصل إلى نتيجة: أن لا شيء يعصى على التغيير, ولا شيء مستحيل, وهناك كثير من الظواهر غير العادلة حصلت على مرّ التاريخ, لكنها ظاهر عابرة انتهت بانتهاء الأسباب المؤدية إليها, وأن مشاكلنا الحاضرة ستُحَل كما حُلّت بالماضي .
حياة الرايس : قدّمت لنا حكاية بدأت منذ الأزل, ولم تنتهِ إلى الآن, منفتحة على الممكن وتحلّق لبلوغ المستحيل, كما جاء في شهادتها, هي ذات الحكاية المكرورة التي تتناوب عليها النساء عبر الأزمان, حول الحب والكره, الإخلاص والخيانة, الموت والحياة, العقم والولادة, كلّها مجتمعة تحت خيمة الخوف في صحراء تضجّ بالحكي, تقول الكاتبة :
" لعلني بتجديد كتابة " عشتار" بلغة "عشتار" أردت أن أعطي مشروعية لنصّي أصلًا, وهو عدم اكتمال الحكاية وانفتاحها الدائم على الممكن وهو يحلق لبلوغ المستحيل... وكأنّنا أمام حكاية واحدة مستحيلة النهاية, تتناوب على روايتها النساء عبر العصور... من ناحية ولخطورة الحكي من ناحية أخرى, بصفته صائد أرواح, فنحن نموت دون أن تكتمل الحكاية, نموت في عزّ الحكاية ليضمن فنّ التشويق بقاءه في بداية حكاية وحتمية أخرى.
شهرزاد لا تموت أبدًا بل تتجدّد بتجدّد دورة الحياة عبر العصور, وفي كلّ مكان, تبوح بالقليل, وتغصّ في استهلال الحكاية, كيف ستنهي الكاتبة معاناتها؟ تعطيها ليلة ثانية بعد الواحدة والألف, عليها أن تغتنمها لتخرج قيح معاناتها, ومكبوت قلبها, فيوضاتِ خلاص لا تنتهي إلا بالتخلية التامة, تقول الكاتبة :
" ولعلني بذلك أيضَا أعطي الكلمة للمرأة , في الليلة الثانية بعد الألف, المرأة التي تختنق بغصّة الكلمات.. أردت أن أعطيها فرصة البوح وإخراج ما بباطنها من مكبوت ومن كلام غير مباح, في المجتمعات المنغلقة على قيمها المسدودة....."
وحياة الرايس, أصّلت لمسرحيتها, وأرستها على ركائز فلسفية وجودية, تؤمن بتجدّد الخلق, وتجعله في طرف الحياة, وتقصي مفهوم العدم, وتجعله في طرف الموت, وما بينهما تتأرجح الولادات, لم تفصل ذاتها الكاتبة عن ذاتها الحكّاءة, بل ربطتهما معًا بحبل أنوثتها, فهي خصبة بتجدّد ذاتها الكاتبة, وهي ولّادة بإبداع حكّائيّتها, وهذا ما حقق لها الديمومة, بولادات وحيوات عديدة, تقول:
" لعلي أيضًا بإعادة كتابة عشتار كصلة موصولة بالعلاقة الوجودية بتجديد عملية الخلق التي أدافع بها على أنوثتي بالخصب بتجديد الكتابة نفسها بالولادة الإبداعية أدافع عن حب الحياة عشقًا لديمومة الكاتبة بالكتابة التي هي الحياة الأخرى للذات الكاتبة, لعل هذه العلاقة بين الولادة والإبداع هي التي حدّدت معنى هذا الاختيار وهذا التميّز بين ولادة وولادة, بين حياة وموت, بين بقاء وخلود وفناء, بين الحياة والإنجاب, والحياة والإبداع, لمدّ شعرة الاتصال بين بذرة الحياة والخصوبة, وبذرة الموت والعدم..."
- على مستوى الشخصيات :
أشخاص لا يشبهوننا, ولا هو الواقع الذي نعيش فيه, والأحداث غريبة عنا , فلا نندمج فيها, ويبقى العقل حاضرًا ويقظً, يفكر فيها وينقدها. لجوء بريخت للتاريخ والأساطير لم يكن اعتباطيًّا, وإنما كان يختار منها قصصًا بعينها, ويقوم بإفراغها من محتواها الحقيقي, ويضع فيها بدلًا عنه المضمون السياسي الذي يريد طرحه. بريخت كان مقاومًا للنزعة النازية- حينها- التي عانت منها أوروبًا, ومتأثرًا بالفكر الاشتراكي الماركسي.
حياة الرايس:اختارت أبطالها شخصيات غرائبية,من الآلهة وأنصاف الآلهة, ثم قامت بأنسنتهم, دون أن تجعلنا نغرق في استيعابهم وقبولهم, بل كانت تذكّرنا دائمًا بأنهم آلهة كلّما حاولت أنسنتهم والنزول بهم من عليائهم ليشبهوا الناس. واختيارها لأسطورة عشتار وقصتها مع تموز كان مقصودًا للأسباب التي استعرضناها سابقًا, ولأنها أرادت أن تجعل أحداث الأسطورة مرآة لجمهور المشاهدين, تنعكس عليها ذواتهم, شرورهم وفضائلهم, كما يتجسّد فيها عصرهم ومجتمعهم, لدراسة العلاقة التبادلية التأثرية بين المجتمع والأفراد.
حياة الرايس اختلفت عن بريخت فيما يخصّ المضمون, هي أرادت أن تضع المضمون الاجتماعي وليس المضمون السياسي, ولعلها كانت, في مضمون هذا العمل المسرحي وشكله, أقرب إلى الملحميات الإغريقية الطقوسية ذات المضامين المأساوية, مثل سوفوكليس بمسرحياته المأساوية ( أوديب الملك- وأنتيجون). لكنها لم تنهِ ملحمتها بنهاية مأساوية, ولم تقترب من المضمون السياسي إلّا فيما يخصّ قضية الاستلاب والعبودية.
اختارت الكاتبة عشتار بالتحديد, واستدعتها كرمز ميثولوجي بنت عليه عملها المسرحي بالحلّة القشيبة التي أسبغتها عليها بوعي تام, واضعة نصب عينيها المضمون الهدف ( مضمون اجتماعي) الذي تنوي ملئه بالفكرة, بعد عملية التخلية للمضمون الأساس( الحب والخصب والأنوثة) التي قامت بها أيضًا بحضور ذهني وعقلي واعٍ ويقظ جدًّا, تقول عن سبب اختيارها هذا الرمز الميثولوجي, ومحتوى فعل التخلية الذي قامت بإفراغه:
" تمثُّل عبادة الربّة الأم نموذجًا لتقديس روح الخصوبة الذي انتقل به العقل الرافدي من تربة الأرض إلى ملكوت السماء, فعملية الولادة قد مثّلت بالنسبة للإنسان في بدايته الفكرية حدثًا عجيبًا تختصّ به المرأة وحدها....
المستوى البصري:
هذا النص المسرحي مكتوب بشكل مغاير للشكل المعهود لأي نص سردي, قد يخطئ المتلقي للوهلة الأولى التي يقع فيها نظره عليه, فيظنه قصيدة نثرية, غير منتظمة الكثافة على السطور, على شكل عمود يضيق ويتّسع, تقلّ فيها علامات الترقيم, لكن الحقيقة هي أن الكاتبة قصدت أن تضعها في هذا القالب الذي يشبه ( الرُّقم), يشبه انتظام الكتابات التي وجدناها على الألواح القديمة المكتشفة, يمكن أن نتذكّر حجر الرشيد مثلًا وغيره, هي محاكاة بصرية أرادت بها الكاتبة إيهام المتلقي بصريًّا.
حياة الرايس : جعلت نصها المسرحي على ستة فصول, كل فصل مشهد متكامل, ترتبط المشاهد مع بعضها بتراتبية الأحداث التي تسند الفكرة.
عنونت الفصول أو المشاهد بالحدث الرئيس في كل مشهد:
الفصل الأول: قصة البوح
الفصل الثاني: مراسم الزواج المقدس
الفصل الثالث: النزول إلى العالم الأسفل
الفصل الرابع: موكب العفاريت
الفصل الخامس: طقوس مأتم تموز
الفصل السادس: صرخة عشتار.
المستوى اللساني:
قلت عن حياة الرايس في دراسة نقدية سابقة عن عمل روائي, أنها: "كاتبة مفتونة باللغة العربية, ممسوسة بسحر البيان والبلاغة", وهي حقيقة أجزم بصحّتها, تتجذّر كلّما قرأت لها عملًا أدبيًا كبيرًا, أو حتى مقالًا أو تعليقًا, ضلوعها بعلوم الفلسفة ملموس ومعكوس بكل ما تكتب, تجذّر كل شيء, تجذيرًا دلاليًّا يعكس الكثير من ثقافتها العالية ومعرفتها الدقيقة بالأجناس الأدبية, وهو ما أكدته فعلًا في شهادتها أيضًا:
" كنت معنية بتجديد الملحمة, وتجديد الحكايات التراثية فيها, وتجديد أفق النظر إلى بناء اللغة في بنيات دلالة النص في أنساقه المتماسكة, وإعادة قراءة كل الأبعاد الموجودة سلفًا في النصوص السابقة عن زمن الكتابة, ليتخذ زمن التجديد بفعل هذه العلاقة الجديدة أبعاده المحتملة مع احتمالية إنتاج العلامات والرموز الخالدة التي نفخت فيه من روح العصر, ومن روحي في هيكل الشخصيات لأنطقها بمعاني العصر في لغة الدهر لتواصل الأسطورة دورها في عصرنا الحاضر...".
تعمّدت الكاتبة استخدام الألفاظ والتراكيب البسيطة, بل والساذجة أيضًا في بعض الفقرات, والسبب أيضَا هو المحاكاة, وكأننا نقرأ النص الأصلي للأسطورة, لكن الكاتبة تمارس على المتلقي لعبة التغريب, ففي الوقت الذي تتوقع فيه استغراق المتلقي في الحالة اللغوية القديمة , تنتشله بصورة مباغتة لتعيده إلى لغته المعاصرة , العكس يحصل أيضَا, مثلًا :
في الفصل الثاني تستذكر عشتار مراسم الزواج الإلهي المقدس, المقام في مدينة إيريك أكبر مدن سومر , وهو طقس إلهي فيه محاكاة لتراث البشر ,لقوم سومر في ذلك الوقت, وهي طقوس تراثية لا تختلف كثيرًا عن طقوس الزفاف الشرقي في الكثير من بلداننا في الوطن العربي, مشرقه ومغربه, في الوقت الحالي, كتقدّم العريس لخطبة عروسه من ذويها, وأخذ موافقتهم كأولياء عن العروس, ومحاولة العروس التماس الموافقة المبدئية من الأم, وقدوم العريس محملًا بالهدايا كعربون محبة وتقدير لأم العروس, تقول عشتار :
قبل أن ندخل طقس العرس الإلهي , المقدس
إلى بيت أمي كان يجب أن
يأتي العريس لخطبتي
إلى أمّي – ننجال- سبقته ألتمس
النصح والموافقة
قرع _ تموز – باب أمّي, حاملًا
معه هدايا اللبن والقشدة والجعة
ملتمسًا منها القبول.
هنا, تغرّبنا حياة الرايس فجأة نحو اللّا مألوف, جعلت للأم ( الأنثى)الربة ( ننجال) أولوية عن الأب(سن) في هذا الطقس من طقوس الزفاف, بخلاف الواقع البشري الحاضر الذي يعطي للأب ( الذكر) الدور الأساسي البارز للبثّ فيه, التماس الموافقة من الأب كان برسالة, تحقّق فيها حياة الرايس تداخل الأجناس الأدبية, تكرار عبارة ( لم أنسَ أبي سن ), رغم سذاجتها, ما هو إلا نوع من التأكيد على عدم التجاهل, بل هو خجل الابنة من أبيها, واعتباره على مسافة رسمية, تقتضي التعامل معه بتكلّف, خلافًا للأم التي يكون التعامل معها عفويًّا, لذلك تخاطبه برسالة تناديه بها ب ( بيتي _ بيتي) أي (أبي _ أبي) :
لم أنس ـ سن ـ
كنت فخورة بأبي ـ سن ـ
إله القمر العظيم في مدينة ـ أور-
لم أنس أبي ـ سن ـ كنت أشعر
بحاجة أن ألتمس موافقته قبل أن أهب نفسي لعاشقي.
إليه أرسلت رسالة أنبئه فيها بنيّتي
التزوّج من الرّاعي تموز.
كتبت له:
"بيتي، بيتي
الناس سوف يقيمون فراشي المثمر
سوف يغطونه بشجيرات حجر اللازورد ـ الدوروـ
سوف آخذ إلى هنالك تموز
سوف يضع يده في يدي
ويضم قلبه إلى قلبي

استخدمت الكاتبة ثقافتها التراثية, ومعلوماتها عن طقوس التحضيرات السابقة لحفل الزواج في ذلك الزمن, نلاحظ ألفاظ( طست- العنبر – الكحل...) :
إلى العرس المقدس أمي كانت قد أعدّتني
إلى لقاء تموز , زوجي الموعود, أعدّتني
بما يليق بملكة سومرية .
بماء الإبر يق المقدس استحممت,
بالصابون دلكت جسدي,
في الطست الأبيض اغتسلت,
بالعنبر طليت ثغري
بالكحل كحّلت عينيّ
بالحجارة الكريمة والمجوهرات والحلي
زيّنت أمي مختلف أنحاء جسدي .

المستوى المتحرّك:
ندرس فيه البناء الفني للنص المسرحي :
- على مستوى البناء الدرامي أو الفني :
العتبات النصية : التي أغنت بها حياة الرايس نصها المسرحي منذ البداية :
- العنوان : " سيّدة الأسرار "
عشتار
هكذا اختارت العنوان, بهذا الشكل البصري, " سيدة الأسرار" مستخدمة علامة التنصيص " " , وعلامة التنصيص أو المزدوجان يوضعان في أو ل الكلام المنقول, وآخره, بنصّه حرفيًّا, سواء أكان جملة أم فقرة, وكأنّ الكاتبة تهمس في أذن المتلقي بقول نصّي تؤكّد فيه دقّة النقل, من هذا المكوّن النصّي المحصور بين علامتي التنصيص بدأت الكاتبة بإعداد مرابط خيوط التشويق, ثم فجأة تنتقل الكاتبة من الهمس إلى نبرة الصوت العادي, مصرّحة باسم علم, عشتار .
العنوان كمكوّن نصي مجمل صفة وموصوف, " سيّدة الأسرار" صفة تحيل إحالة مباشرة إلى سلطة, وبوح داخلي ساكت, ينتظر الخروج على لسان سيّدة شهرزادية تجيد إخراج الكلام المكبوت من أغوار السكوت إلى فضاءات البوح والحكي المعلن والصريح, ونتساءل : هل كانت عشتار حكّاءة؟! وإن كان الجواب نعم, فكيف تكون سيّدة الأسرار؟! و هل عندها من الأسرار غير ما هو معلن بمخطوطات التاريخ؟! إن عشتار حياة الرايس حكّاءة محنّكة, ولديها فعلًا الكثير من المسكوت عنه أخذت على عاتقها مهمة كشفه, ستكشفه حدّ التعرّي ولن تخجل من عرّيها, وفي سبيل ذلك نزعت حياة الرايس عن عشتار رداء الألوهية, وجرّدتها من سلطاتها, أنسنتها, ثم تركتها تعيش الشقاء الإنساني في رحلة الحياة بين الولادة والموت, إذًا عشتار حياة الرايس هي شخصية أرضية متحوّلة, عن شخصية أسطورية ( إلاهة ) سماوية مشهورة.


الإهداء:
إهداءان:
الأول: السلَف, شهرزادها الأولى, جدّتها التي لامستها, وهدهدتها فنقلت لها عدوى الحكي, فنامت, وماتت قبل نهاية الحكاية:
إهداء أول:
إلى جدتي التي بدأت لي حكاية وهي تهدهدني لأنام, فأخذها النوم وهي في عزّ الحكاية... ولكنها لم تفق بعدها...
إليها أواصل بقية الحكاية التي لن تنتهي لأني سأنام مثلها في عزّ الحكاية ...
الثاني: إلى الخلَف, ابنها الوحيد, إهداء وطلب غفران لأنها لم تنجب له أخوة يشدّ بهم عضده, بل أنجبت له كتبًا, تركت له ميراث العلماء...
إهداء ثان:
إلى ابني الوحيد أوس: علّه يغفر لي:
أنني أنجبتُ له كتبًا بدأ أن أنجب له أخوة .


عناصر بناء النص المسرحي:
1- الفكرة :
الفكرة الأساسية التي انطلقت منها وقامت عليها المسرحية هي: (الحب والتضحية ضرورة لديمومة الحياة )

حياة الرايس امرأة تفتخر بأنوثتها, وتباهي بكل النساء, وتدعوهن إلى بذل الحب, وإلى التطهّر بالحب, وإلى التداوي بالحب, وإلى استعادة الحب بالحب, ليس بمفهوم التطهير الأرسطي القائم على تلقّي الحدث المسرحي الدرامي, ذو الانزياحات الفلسفية والجمالية, بالتأثّر الانفعالي, كإثارة الشفقة والخوف والرعب في نفس المتلقي, وإنما هو ذاك التطهير القائم على المحاكاة العقلية الواعية التي تجعل المتلقي ينقد التراجيديا المقدَّمة له بكامل وعيه, مساهمًا في عملية الفهم, لا في عملية الإبداع, كما أراده أرسطو, متجاوزًا الجماليات والفنيات, إلى محاولة تغيير النمط الاجتماعي السائد, وشحذ الوعي والتبصير بالواقع القائم على الاستلاب والعبودية, ولا شيء غير الفن المسرحي أقدر على فعل ذلك, شرط أن يكون ناطقًا بلسان عصره, يقول بريخت في كتابه ( الأرغانون الصغير):
" إننا نحتاج نوعًا من المسرح يطلق لا المشاعر أو ومضات الإدراك أو الدوافع الممكنة بداخل مجال الإطار التاريخي الخاص بالعلاقات البشرية التي تدور فيها الأحداث فحسب , بل مسرحًا يستخدم ويشجّع الأفكار التي تساعد على تغيير المجال نفسه"
ثم يضيف:
" يجب على المسرح أن يتحدّث بصورة قاطعة بلسان عصره"
وفي ذلك القول إحالة إلى الالتزام التاريخي والاجتماعي للفن المسرحي على اعتباره مغيّرًا للواقع, لا محاكيًا له, بعد كشف وفضح تناقضاته. فهدف المسرح الملحمي تغيير المجتمع نحو الأفضل.
2- الموضوع :
بالنتيجة, موضوع النص هو الأنثى العشتارية بسلطاتها وتحكّمها المطلق الذي لا يعرف المستحيل, فهي الحكي والفعل, هي الفاعل والمؤثر التي توجّه سير الأحداث وصيرورتها, هي التي تأمر وتنفّذ, وهي الرغبة والأنوثة, وهي التي تمنح الحب والعرش للرجل التيموزي, وهي التي تضحي لإنقاذه حين يرديه الموت والنوائب, تتخلّى عن عليائها, وتنزل إلى أسفل العالمين لإنقاذ واستعادة تموزها.
وعشتار اليوم, هي عشتار الحضارات الغابرة, مسروقة منها سلطاتها, ملجوم لسانها, مغيّبة في ظلمات التجهيل والقتل والاغتصاب, ضحية من ضحايا الحروب التي شهدت قتل أطفالها, وآبائها, وأخوانها, حاميها هو حراميها, جهالة وظلامية متدثرة بأردية الدين والحداثة وبهلوانية التفاهة, استطاعت حياة الرايس أن تقتنص اللحظة الراهنة بكاميرا الوعي والجرأة, وأن تحلّل تفصيلاتها, وحيثياتها بدقة عالية, وتربط بين ما كان وما هو حاضر, بعقل واعٍ, تحرص أن تعمّم اليقظة على عقول كل جماهير العرض, رغم أنها تأخذهم على جناح الخيال, خيالها الأسطوري الذي ينقلنا إلى عالم الآلهة وأنصاف الآلهة, إلى عالم الحكي الشهرزادي, و مرض الطغيان الشهرياري, والجحود التيموزي, والعلاج بالحب...

3- الحبكة الفنية :
وهي التنظيم العام لأجزاء المسرحية ككائن حيّ متوحد قائم بذاته، وكل مسرحية, حتى ولو كانت تنتمي لتيار العبث لا تخلو من حبكة، وهى ببساطة ترتيب الأجزاء التي تتكون منها المسرحية ( بداية – عرض – نهاية).
بريخت رفض البناء الأرسطي التقليدي ( بداية _ وسط_ نهاية ), واستبدله بلوحات منفصلة أو مشاهد مستقلة تربطها الفكرة, حتى يحقق عملية كسر للإيهام, حتى لا يندمج المتلقي في تسلسل منطقي واحد. كما لجأ بريخت لكسر سير الأحداث عن طريق: راوي- جوقة- أغنية, لمنع إيهام المتلقي واندماجه في سياق درامي متتابع.
بينما التزمت حياة الرايس بتراتبية الحبكة المسرحية (بداية_ عرض – نهاية) , إلا أنها استخدمت تقنية الخطف خلفَا flashback , لتحكي أحداثًا منجزة, كما استخدمت تقنية التدوير , حيث قامت بتدوير النهاية على البداية.

الحيل البنائية للحبكة:
- الاستهلال الدرامي للعرض:
قدّمت الكاتبة فيه معلومات عن مكان وزمان الحدث:
في معبد من المعابد القديمة لمدينة سومر
ووصفت البطلة:
تستوي عشتار ملكة على عرشها
يشعّ من محيّاها الألق والبهاء
بعدما وضعت على رأسها تاج السهول,
لفّت جسدها بطيلسان السلطة,
قبضت بيدها على الصولجان اللازوردي
ومسكت الختم.
ثم وصفت علاقات الشخصيات بعضها ببعض :
تطوف بها عذارى المعبد مسدلات غلالاتهن الشفافة على وجوههن, لابسات حللهن الطقوسية, هائمات حبًّا, فانيات تعبّدًا, وسط غيمات البخور واللبان المحروق, يرقصن على إيقاعات نقر يعلو ويخفت, ينبعث من طبلين كبيرين أمام وصيفتين تجلسان في مقدمة الخشبة واحدة جهة اليمين وأخرى جهة اليسار.
ثمّ تصف الخلفية الاجتماعية:
رعيّة من الصيادين والتجار والفلاحين, يؤدّون طقوس العبادة للربة عشتار المجسّدة في شخص الملكة:
والزوار يسكبون عطر الناردين أمام الإلاهة عشتار المجسّدة في شخص الملكة, يرشون زيت الزنبق عند قدميها ويحرقون العنبر البحري.
يتوافدون محملين بسلال عنب التلال وتفاح البساتين ومشمش الجنائن وبرتقال السهول .
- نقطة الانطلاق:
اللحظة التي تبدأ فيها الأحداث :
بما أن العرض بدأ باستهلال حركي حيوي, فإن لحظة الانطلاق كانت النقيض, توقّف وسكون :
وبإشارة من الإلاهة عشتار: تتوقّف كلّ حركة, تخرّ العذارى ساجدات.
ثم يعقب ذلك حركة تقوم بها الوزيرة ننشبور, لتبدأ حدثً الانطلاق, وهو حدث تمهيدي, خطاب مباشر موجّه فعليًّا للجمهور:
تتقدّم وزيرة الإلاهة إلى مقدمة الخشبة :
- " اليوم يتوقّف كلّ شاك عن الشكوى وكلّ داع عن الدعاء وكلّ ناذر عن النذر وكلّ متضرع عن أي ضراعة, اليوم تنقلب الأدوار وتتبدّل المواقع من أجل سماع قصة عشتار:
مأساة بحجم الآلهة.
من قال إن الآلهة لا تحتاج إلى لحظة بوح؟
ومن قال إن قصص الآلهة أقل مأساوية من قصص البشر؟

- الحدث الصاعد:
سلسلة متتابعة من الأحداث تتولّد على محور التوليد نتيجة اشتباك محور التكوين الحامل للشخصيات البطلة مع شخصيات محور المعارضة, وتبدأ عشتار بسرد الأحداث, بصرخة مدويّة تعقب صمتًا طويلًا, تعرّف الجمهور عليها, وتحدّد جنسها ( امرأة مثلكن أنا), ثم سلالتها ( من سلالة الآلهة), وانتمائها ( من نسل النساء ), وتتكرّر أمام كل اعتراف أنها ( امرأة):
عشتار تخرج عن صمتها :
" امرأة مثلكن أنا
امرأة من سلالة الآلهة
وامرأة من نسل النساء
أحببت
فتألقت وتوهجت نيزكًا في الظلام
ثم في العالم الأسفل سقطت .......
تسترسل عشتار في الفصل الأول بالحديث عن العشق الذي جمع بينها وبين تموز:
على تموز وقعت عيني
في أقصى جنوب سومر _ في أكاد-
أقدس المدن السومرية
انجذب بولع أحدنا إلى الآخر
واتحدنا اتحادًا رقيقًا
في عناق انتشائي لم ينفصم
طوال أشهر الشتاء الطويلة
ثم تبدأ عشتار بتقديم تموّزها بأبعاده الاجتماعية :
كان تموز يرعى في ظل شجرة " الأريدا"
في حقول غير دنيوية
قطيعًا لا يراه بنو البشر
كان الإله الشاب يحمي حيوانات
السماء وحيوانات الأرض
يدرأ عنها أخطار أشعة شمس
الظهيرة المحرقة ..
بعدها تقدّم نفسها بطريقة تمثيلية, تستعرض سلطاتها, تبدأ بسلطة الإغواء :
" طيلسان السلطة", ارتديت
وقد عرفت كيف أحمل –بإغواء كبير-
تموز على الاستجابة لدعوتي
كما عرفت كيف أحمل البيت
والحرم الممتلئين بالنشيد
على الابتهاج معي
ثم سلطة الرّبوبيّة, خضوع البشر للربّة عشتار, الرّبوبيّة التي تستدعي منهم استجداءها والدعاء والتضرّع إليها لتحقيق الرغبات الدنيويّة والجنسيّة ومباركتهم, الأمر الذي حرّك الأحداث باتجاه اتخاذ قرار الزواج:
كان سكان سومر يتوجّهون لي بالدعاء
من أجل أن :" افتح أرحام النساء"
فقرّرت وتموز أن نقيم مراسم
الزواج المقدس
في مدينة سومر
وكان على جميع النساء الاقتداء بإلاهتهن
أن يتهيّأن لعرض
مباهجهن _ عن رضا- لأنظار
الرجال لإيقاظ غريزتهم وحثهم
على التمتع بأجسادهن
وكان على جميع الرجال أن يحتذوا
حذو تموز إله نمو النبات
وتكاثر الحيوان
الذي يخضع لإغواء إنانا
وسحرها .
من أجل نساء سومر ورجالها
أقمنا مراسم الزواج المقدس.
تحوّل تموز من إله ليتجسّد في شخص ملك متوّج في مملكة البشر -سيكون ملك إيريك_ هو حدث صاعد أيضًا:
وفي وسط القصر أقيمت المنصة الملكية
واجتمع الناس ذوو الرؤوس السود
تموز كان مجسّدًا في شخص الملك
ملك – إيريك- العظيم وقد بدّل
بملابسه ملابس الطقس المقدّس,
واعتمر الجمّة تاج الملوك,
فتلألأ نوره مشعًّا في القصر
عشتار, في تلك اللحظة, كانت ما تزال متسلّحة بكل سلطاتها الربوبية التي أضافتها أردية فوق زينتها:
أمّا أنا فلمّا أكملت زينتي واتخذت
زخرفي أمسكت الختم بيدي
ولففتُ طيلسان السلطة حول جسدي .
الملاحظ هنا أن عشتار الإلاهة قدّمت امتيازاتها الأنثوية وزينتها الجسدية على سلطة الحكم, بل جعلت سلطة الحكم رداءً محكم حول جسدها, فالجسد له الأولوية, والحكم ثوبه. هكذا هي الأنثى الملكة.
ثم, تسرد حدث الزفاف, تحدّد زمكانيّته, كساردة محترفة :
بلاط القصر الملكي- بيت الحياة- في "إيريك " إحدى كبريات مدن سومر , ليلة لرأس السنة :
في بلاط القصر الملكي
الذي يشرف على شؤون كل البلاد, بيت ملك جميع العباد - بيت الحياة- ليلة رأس السنة في " إيريك " إحدى كبريات مدن سومر اخترنا أن يكون الزواج المقدس.
ثم, حدث المباركة الربّة عشتار لتموز الملك, وقسم العهد :
ضمّني إلى صدره وقبّلني فباركته بدعائي المعهود:
" أيها الثور البري, يا عين البلاد
_سوف آتي بالحياة إلى أهلها
سوف ألبي جميع حاجات البلاد
وأحمل أهلها على إقامة العدل,
في البيت الفخم
وأجعل بذرها ينطق كلمات
العدل في البلاط"
ثم , حدث اللقاء الجسدي الحميمي على سرير الزوجية, وهو حدث تعمّدت الكاتبة أن يكون سرده أيروتيكيًّا نوعًا ما, فعشتار رمز الإغراء والإغواء والخصوبة, و ما عندها موجود عن كل النساء, لكن مرفوع عنها الحياء, ومتاح لها البوح, جسدها مفخرتها, وحقل أنوثتها, تهبه لمن يزرع فيه بذور الحياة, مقابل أن تمنحه الخلود :
.... ثم احتوى براحته خاصرتي ليلاطف
بالحب الحضن القدسي ويمسّده باللبن
والقشدة
مفتونًا بهبات ثديي,
توّاقًا إلى الخلود
بالالتحام الجسدي معي
اتحدنا وتعاشرنا وفاض " ماء القلب"
فشاعت الخضرة في كل ما حولنا
الزرع طلع عاليًا بجانبه
والبساتين أزهرت خصبًا بجانبه"
الجنس, كما قدّمته حياة الرايس, في هذه المسرحية, لم يكن الجنس المادي المقتصر على الاستجابة لغريزة الجنس, وإشباع شهوة الجسد, وإنما كان مكتملًا بالحب, ممتلئًا بالشغف, اللّذان تتوهّج بهما أجساد وقلوب قطبي الخصوبة, الرجل والمرأة, في إطار وشرع الزواج, وهي دعوة لاكتفاء الواحد بالواحد, واكتمالهما معًا, الزوج والزوجة, والجسد والقلب, تقول عشتار , شارحة هذه الحيثية بالتفصيل المباشر:
قبل لقائي بتموز
كنت منحتُ جسدي
الشهواني, العطش أبدًا
جميعَ ذكور الأحياء فوق الأرض
أمّا الآن, فلم أعد راغبة إلّا
في الرجل الوحيد الذي عرفت
الحب في أحضانه
وعرفت ذلك الإحساس ( الجديد علي)
بالامتلاء والكمال السعيدين لأناي الخاص
ذلك الإحساس الذي لا يمنح إلا
للرجل والمرأة اللذين لم يخلق
أحدهما إلا للآخر
هذا الاشتهاء للواحد المفرد
جعل الإلاهة التي – تفتح أرحام النساء_
مثالًا تحتذيه جميع النساء
فليس بكاف أن تشبع لذة الاتحاد الجسدي
الحواس فقط
بل عليها أن تروي القلب أيضًا .
وهنا, تتولّد رغبة الامتلاك, التي أكثر من نجدها عند المرأة, مدفوعة بشغفها وشدّة ولهها برجلها الوحيد:
وأصبحت تسيطر علي رغبة واحدة
هي وحدها صاحبة الشأن والتحكّم بي
رغبة امتلاك الرجل الوحيد الذي أحب
والسعادة كل السعادة في البحث عنه
والفوز به والاستسلام له.
وكانت هذه هي الرغبة الطارئة التي أسّست للسلوك الطارئ الذي ينتظر الحدث الطارئ ليخرج إلى حيّز الوجود. وهي رغبة لا تتوفر إلا عند أنثى البشر, دونًا عن الآلهة , ودونًا عن كل الإناث في الممالك الأحيائية الأخرى, لذا كان الحدث الصاعد الكبير هو تحوّل عشتار من إلاهة إلى بشر, امرأة من جنس البشر . وتحوّل تموز من إله إلى رجل من البشر, تجري عليهما معًا منظومة القوانين والنظم التي نحكم البشر , فيموت تموز بحكم حتمية الموت على البشر, بعد أن كان محكومًا بالخلود الإلهي, وتتجرّد عشتار من رداء الرّبوبيّة, لتحلّ فيها خصائص البشر, بثنائياتها المفارقة( البارادوكسية), حبّ وكره, فرح وحزن, غضب ورضا, بوح وغيرة...وهذا هو الانقلاب الكبير الذي يطرأ على الشخصيات المحورية.
أمّا الانقلاب الذي أحدثته الكاتبة حياة الرايس في المتن الحكّائي لأصل الأسطورة فهو ( أنسنة الآلهة), وهو حدث لم يُذكر ولم يحدث في الأسطورة المعروفة, ولم يسبقها إلى ذلك أحد ممن تناولوا تلك الأسطورة, بل كان إضافة من الكاتبة وهي تقوم بتشييد المعمار الفني لنصّها, بأن شكّلت بنية حكائية طارئة على أصل الأسطورة, وبنت عليها الصراع الدرامي للعمل المسرحي.
في الفصل الثالث المعنون ب( النزول إلى العالم الأسفل), تبدأه الكاتبة بوصف مكان غرائبي هو العالم الأسفل:
عالم مظلم من القبور والأشباح
شموع ترتعد: تشتعل وتنطفئ
تلوح_ أريشكيجال- ملكة العالم الأسفل
مستوية على عرشها
يحيط بها- الأنونا-: القضاة السبعة"
ثم تنتقل إلى سرد الحدث الطارئ سردًا مباشرًا , وتقدّم مبرراته بشكل مباشر أيضًا, فتموز غدا رجلًا, لأن عشتار أيقظت فيه الرجولة بمداعباتها الشهوانية, وشهيّة جسدها, وتموز الرّجل أراد أن يبرهن لعشتار عن خصائصه الرّجولية في الصيد والقنص كما برهن عليها في الفراش, وبما أنه غدا رجلًا من البشر , يتمكّن منه خنزير بري ويصيبه بجرح يتسبب بموته.
وكرد فعل, تقابل فيه عشتار البرهان بالبرهان, تتحوّل إلى امرأة من البشر, لكي تبرهن (للناس ) عن حبّها لتموز كامرأة عاشقة مضحيّة إلى أبعد حدّ للفوز بالرجل الذي تحبه ( كإنسانة) ولو قاربت الموت, هنا كانت عشتار تعلّم النساء العاشقات التضحية بأغلى ما تملك للحفاظ على رجلها, واستنقاذه من كل ما يمكن أن يخطفه, حتى من الموت تقول:
كنت أحبّ تموز
وكنت مستعدة لكل المخاطر من أجله
لكي أبرهن للناس
أن على المرأة العاشقة
أن تقبل كل التضحيات
لكي تفوز بالرجل الحبيب وتحتفظ به
وعليها بدافع الحبّ ألا تتراجع
أمام المخاطر مهما بلغت
ولو كان الموت نفسه.
ثمّ, تجابه الموت بالموت, وبعد أن توصي وزيرتها ننشبور بالطواف على الآلهة والطلب إليهم أن ينقذوها ويعيدوها إلى الحياة ثانية, بعد أن قرّرت النزول إلى العالم الأسفل وهي تدرك الموت الذي ينتظرها على يد أختها اللدودة أرشيكيجال ملكة العالم الأسفل, وكانت بتلك الوصيّة تريد أن تطمئن إلى تجدّد حياتها وبقائها حية مهما اشتدّت عليها الأخطار.
كيف ستنزل عشتار إلى العالم السفلي؟ ستنزل كإلاهة, بكامل أرديتها السلطوية, وزينتها, لكنها ستُفاجأ بأنها لن تلج العالم الأسفل إلا عارية, وهذا حال كل الأموات, عراة, تركوا أثوابهم وأموالهم وزينتهم تركات لورثتهم, ستنزل إلى العالم السفلي إلاهة, لكنها ستدخله كبشر :
.... وفق ما جاء في الشرائع القديمة
إذ كان عليّ أن ألج عارية مملكة العالم السفلي
وهنا نصل إلى:
- التعقيد:
وهو وقوع ما يعرقل سير الأحداث, كاصطدام البطل بمعارض يدفعه إلى التصارع معه, ما يؤثر في سير الأحداث وتغيير مجراه, اللقاء بأريشكيجال عرقل مسيرة عشتار في سعيها لاستعادة تموز من عالم الموت, ونتيجة هذا التعقيد كان الوصول إلى:
- لحظة التأزّم :
الحكم على عشتار بالموت :
ضربت أريشكيجال على فخذها وقرصته:
ليس ثمة إلا مخرج واحد:
يجب أن تموت " إنانا"
لكن هذه لن يصيبها شيء
إلا إذا نزع عنها طيلسانها
وجواهرها وزينتها وصولجانها .
- التنبؤ أو التلميح :
وهو تقديم كلمة أو إشارة أو تلميح, أو فعل يهيئ الذهن لما يمكن أن يقع في المستقبل :
مثال : لقد تنبأت عشتار بأن أريشكيجال ستقتلها لجرأتها على اقتحام عرشها, كما لمّحت وأشارت إلى احتمالية أن يخذلها أبوها ( إنليل) كبير الآلهة, كما توقعت أن تخذلها الآلهة الأخرى, فأوصت وزيرتها بالذهاب إلى الإله ( إنكي) رب الحكمة, وكانت على ثقة من أنه سيعيدها إلى الحياة ثانية:
( إن لم يقف "إنليل" إلى جانبك في هذا الأمر
طوفي بالآلهة الأخرى
إن لم يستجيبوا لك
اذهبي إلى الإله " إنكي" ... انتحبي أمامه...
فالأب "إنكي" رب الحكمة الذي
يعلم " طعام الحياة" ويعلم " ماء الحياة"
لا بدّ, أن يعيدني ثانية إلى الحياة .
- الاكتشافات :
وهو اكتشاف أشياء لم تكن معروفة من قبل, قد تزحزح الذروة:
إذ بعد أن أصدرت أريشكيجال حكمها بموت عشتار, وأثناء تعريتها, وظهور جسد عشتار المبهر واضحًا للعيان , تستيقظ الغيرة في نفس أريشكيجال فتغيّر الحكم من الموت إلى الضرب والسجن:
أنتم تعرفون جمال جسدي العاري
لقد أثار غيرة سيدة العالم الأسفل أريشكيجال
أوعزت للمحكمة _ محكمة العالم الأسفل- بإصدار عقابها بالضرب والسجن
سجنتني في غرفة من غرف قصرها ليذبل جمالي وتذهب كل الأمراض الممكنة بحسني وبهائي.
لقد أطلقت أريشكيجال ضدي ستين علّة....
أذعنت لكل ذلك بدافع حبي لتموز .
الاكتشافات الأخرى, أن تلك المصائب التي منيت بها عشتار انعكست على مظاهر الحياة في الأرض والسماء:
إذ توقفت كل مظاهر الحياة فوق الأرض
فامتنع الإنسان والحيوان عن التزاوج
والاقتران: ما من رجل يطارد الفتيات
ولا ثور يقفز على بقرة
ولا جحش يحمّل أتانًا .....
والنساء يضطجعن وحيدات.. وكل الأفراح الجنسية انطفأت
وفي السماء تناقص البدر تدريجيًّا في كل ليلة
إذ وافقت درجات الموت السبع
التي خلعت عندها زينتي جزءًا جزءًا
الأيام الأخيرة من الشهر
القمري حيث فقد القمر بوضوح
أجزاءه حتى غاب تمامًا
عندما أُرديتُ جثة هامدة
حينها حزن الناس فوق الأرض
ثم, نصل إلى :
- الذروة:
وهو وصول الأحداث إلى شكل معقّد على قمّة ذات نقطة حاسمة تحتاج إلى تفجير. عشتار ميتة وحبيسة عند أريشكيجال:
وننشبور هي من فجّرت تلك الذروة, فهرولت بين الآلهة مستنجدة كما أوصتها عشتار , بدأت بالأب _ إنليل_ بكت في حضرته :
"لا تدع ابنتك تموت في العالم الأسفل .....
لا تدع العذراء إنانا تموت في العالم الأسفل"
لم تجد منه أذنًا صاغية, كما توقعت عشتار تمامًا, فعشتار في نظره قد عبثت بناموس الآلهة , ولم تكتفِ بحكم " الأعلى العظيم" بل طمعت بحكم " الأسفل العظيم" , كما أنه يستخفّ بتضحيتها من أجل تموز, وكان لكل الآلهة الموقف نفسه, إلا الأب " أنكي إله الماء العذب الذي يسرع إلى نجدة الإلاهة الميتة خوفًا من احتمال زوال البشرية, ومع " أنكي" و"ننشبور" يبدأ :
- الحدث الهابط: نتأكّد فيه من سوء حظ البطل أو نجاحه السّار .
يبدأ " إنكي" صاحب الدهاء الكبير , الذي يسكن الأعماق المائية, بوضع خطّة للوصول إلى أريشكيجال وكسب ثقتها والحصول منها على وعد, يعمد إنكي إلى خلق كائنين اثنين لا جنس لهما من طين أظافره _ كوجارو_ وكلاتور, أعطى لكوجارو طعام الحياة, وأعطى ل كلاتور ماء الحياة, وأمرهما بالنزول إلى العالم الأسفل, والتعاطف مع أريشكيجال المريضة وهي تشكو آلامها, وهو يعوّل على علمه بنفسيتها وردّة فعلها اتجاه إلى إشارة تعاطف, يطلب منهما أن يرفضا أي عرض منها, سوى وعدها " بإعطاء الجثة المعلّقة على المسمار " :
نفّذ المخلوقان تعليمات " إنكي" بكل حذافيرها
تأوّها مع أريشكيجال كما لو كانت آلامها
قد مسّتهما عميقًا
تأثّرت أريشكيجال بمشاركتهما آلامها
وقرّرت أن تنفّذ لهما طلبهما
قدّمت لهما جثّتي : جثّة إنانا المقدسة
لما رأيا الجثة المشدودة إلى وترها , وجّها أشعة
النار ورشّا عليها من ماء الحياة ستين مرة
ومن طعام الحياة ستين مرة
وما إن مسّني ماء الحياة وطعام الحياة
حتى عادت إلي الحياة,
نهضت.
إذًا, كان الحدث حدثًا سارًّا, نجحت فيه البطلة عشتار وعادت للحياة بعد موت مريع, لكن هذا الحدث لم يحسم هدفها في استعادة حبيبها تموز من عالم الأموات, فلزم أن يتبع هذا الحدث أحداثًا أخرى توجّه السيرورة باتجاه الهدف الأساسي:
تمكّن المخلوقان من إعادتي
إلى الحياة
كنت على وشك الخروج
لولا تلك العقبة التي يبدو أن " إنكي" الحكيم قد
فاتته ملاحظتها والتحسب لها .
ناموس سماوي رسم منذ أقدم الأيام:
أن ما من أحد حتى لو كان إلاهًا يستطيع أن يغادر
العالم الأسفل سالمًا
إلا أن يحلّ محلّه آخر
وشاءت الكاتبة أن تعرقل مثلث الانحسار الدرامي بتعقيد وعقبات لا تقلّ أهمية عن التشابك الدرامي في مثلث الصراع الدرامي الأول, العقبة الأولى, أطلقتها أريشكيجال, بخصوص تموز, الشخصية المتصارع عليها ولأجلها, وهو الحدث المفاجأة الذي سيغيّر اتجاه الانفراج, حيث سقط الهدف الذي من أجله حدثت كل الأحداث, ولن يعود تموز محورًا تدور حوله أحداث النهاية إلا بالقدر الذي ستنهيه الكاتبة عند لحظة التنوير:
لقد أعلمتني أريشكيجال أنها أطلقت سراح تموز
حبيبي, قصدًا, عندما كنت جثة هامدة
أطلقت سراحه ليرتع في المروج ويعزف الناي
لامرأة غيري.
العقبة الأخرى التي ستغدو الهدف الأساسي الذي ينبغي حلّه في مثلث الانحسار الدرامي هذا هو البحث عن بديل, تقدّمه " إنانا" ليكون رهينة بدلًا عنها, وإلا فإن عفاريت " الجلا" التي لا تعرف الشفقة والتي أوكل إليها مهمة مرافقة عشتار لجرّ البديل إلى عام الظلام, أو يعيدو ها إلى العالم الأسفل, إذا لم تفِ بوعدها.
في الفصل الرابع, المعنون ب : موكب العفاريت, ستبدأ الكاتبة بحل الأزمة الأساسية, وتصفية حساباتها, لتتفرّغ للأزمة الفرعية المنبثقة عن الحدث الهابط الذي لم يتجه باتجاه الانفراج والنهاية السعيدة المتوقعة.
لذلك, عشتار لم تضحِّ ب"ننشبور" وزيرتها المخلصة, ولا بابنها " لولال" حينما تكالبت عليهما العفاريت بالتعاقب, كما لم أنها لم تضحِّ بأي واحد من حاشيتها, لأنها كانت تجد لكل واحد صنيعًا يشفع له, وهنا تكرّس عشتار قيمة الوفاء والإحسان لكل من يقدّم معروفًا, أو صنيعًا حسنًا, وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ هذا قانون ومبدأ من مبادئ العدل الإلهي, وخلق من أخلاق الإنسانية, تقول:
خاب أمل العفاريت في المسعى الأول مع
"ننشبور"
وخابوا في المسعى الثاني
مع ابني " لولال " وكانوا كلما التقوا
بواحد من حاشيتي عرضوا علي خطفه فداء لي
فكنت أجد لكل واحد صنيعًا يشفع له .
وميزان العدل, بكفتيه, يزن الخير والشر, كلّ بمكافئيه, كيف سيكون عدل عشتار مع الشرّ وأهله؟, والجزاء من نوع العمل, إن كان التضحية مكافئة للحب, فإن التخلّي والعقاب مكافئًا للخيانة,
هناك وجدت زوجي "تموز " مرتديًا
حلّة فاخرة جالسًا فوق عرشه الرفيع,
ينفخ نايه لامرأة غيري
لا يبكي ولا ينتحب ولا يعفّر
وجهه بالتراب حزنًا على زوجته
التي يحطّم القلب منظرها
وهي محاطة بالعفاريت والغيلان,
وهنا يحدث انقلاب آخر - سجّلته الكاتبة-في الشخصية البطلة, وهو الغضب من فعل الإثم, فتصرخ عشتار صرختها الثانية ( صرخة التأثيم), وهنا تستخدم عشتار سلطاتها الرّبوبية, من بعد صرخة ( الألم) في حدث البداية :
خلعني الغضب
سلّطت عليه عيني: عين الموت
نطقت الكلمة بحقّه: كلمة الغضب
أطلقت صيحة في وجهه: صيحة التأثيم
التفتُّ إلى – الجلا- :
" أما هذا.. فخذوه"
" تموز " لم يعد من الأحياء
وحظيرته قد راحت نهبًا للرياح.
في نظريتنا الذرائعية لا نقرّ الموت حدث نهاية, فالموت ليس حلًّا في مخطط التشابك السردي, لذلك لم أستغرب استئناف الكاتبة لعملها المسرحي في فصلين تاليين- وإن كان حدث النهاية في الأسطورة الأصل يقف عند موت تموز_ لأنها لم تنته من طرح كامل مواضيع قضيتها النسوية, فمازال أمام عشتار الكثير من العقبات والاتهامات التي سيوجّهها لها المجتمع عبر العصور منتصرًا ومنحازًا للذكورية, وإن طغت وتجبّرت:
عيّرني عشيقي القديم جلجامش
_ البطل الشمسي_ بكل عنجهيّته الذكورية
متحدّيًا مقام الآلهة, يذكرني
بمسؤوليتي عن مصير تموز:
" أي حبيب أخلصتِ له الحبّ إلى الأبد؟
وأي راعٍ أفلح في إرضائك على مرّ الزمان.
على تموز زوجك الشاب
قضيت بالبكاء عامًا إثر عام"
مجتمع ذكوري لا ينتصر للعدل, بل يلعب على وتر الضعف والعاطفة عند أناثيه, وعشتار أنثى, محكومة بالحداد على زوجها إن مات, وإن كان خائنًا, وما أسهل قلب الحقائق, وما أسهل أن ينصّب لأيٍّ كان نصبًا يوتوبيًّا في أذهان العامة, بتجييش من أتباع الذكورة, تقول عشتار:
ناح الحصّادون " تموز " في حقول الربيع وتمثّلوا
ميتته القاسية وعذاباته وآلامه
وحمّلني العامة والخاصة إثم موت
تموز ووزره.
ونسوا كيف نزلتُ عالم اللّا عودة من أجله
ونسوا الحلّة الفاخرة التي كان يلبسها
والعرش الفاخر الذي كان يعتليه
بينما كنت خرقة مرمية في العالم الأسفل .
لم يكتفِ العباد بالإبقاء على تموز ضحية مسكينة
في قلوبهم
بل حوّلوه إلى بطل
وطرفٍ مهمّ في ملحمة الفداء
يمضي إلى الموت ببطولة لينجز دوره .
تستسلم عشتار الأنثى لدورها المرسوم بالنواح على فقيدها تموز, تبعًا لطقوس الحزن المفروضة على الأرملة الصالحة :
ولأكفّر عن ذنبي :
خدشتُ وجنتيّ, مزّقت فمي
نظرت إلى خاصرتي, شققت ثوبي
صدر عني نواح مرّ على السيّد المعذّب
وبكيت كل سنة وعبادي على تموز القتيل .
وكنا نقيم أيامًا مخصوصة للمناحات
إحياء لذكرى " تموز" كلّ سنة في مختلف المدائن السومرية
نؤدي الطقوس ومراسم الحزن المنصبة على موته
وكنت أبقى وحيدة إلى مرقد تموز حينما تنام الندابات
تعبًا.
- الحل:
وهو نهاية الحدث الهابط .
إذًا, هو مشهد النهاية, أو هو حدث النهاية, والذي ينبغي أن يسند الفكرة- الحب أولًا وآخرًا- هذا المشهد أيضًا هو مجموعة من الأحداث المتوالية والسريعة التي توجّه مثلث صراع الانحسار باتجاه النهاية, يبدأ من قرار , إعادة الأمور كما كانت, الرجوع إلى الألوهية, واستعادة تموز الميت :
غير أن النواح لا يعيد الإله الميت
كان لابدّ من قيام الإلاهة نفسها
بتخليصه من ربقة الموت .
القرار يجب أن يقترن بالفعل ليُصنع الحل :
لم يكن هناك حلّ سوى النزول
بنفسي إلى العالم السّفلي مرّة أخرى
واستعادته من أريشكيجال
حدث قدري مفاجئ, يقوّي عزيمة عشتار الإنسانة للمضي في تنفيذ قرارها, ويؤكّد لها صحّة ورجاحة تفكيرها, حدث الحمل, وصرخة الجنين الذي يثنيها عن النزول للعالم الأسفل, رأفة به وبها وبالبشر والأرض, لكنها تزداد إصرارًا على المضي إلى هدفها, كيف لا وقد تصبح أمًا لطفل يحتاج أباه:
رقصت عشتار فرحًا
لما علمت بما يتحرّك في بطنها
ثم ناحت ألمًا على فراق تموز
ودّت لو زفّته بنفسها الخبر
ثم صرخت :
" كل ألوهيتي وعزّتي وجاهي
لا يساووا شيئًا
إذا لم يكن تموز بجانبي
يعزف الناي من أجلي
ويسمعني لحن الحب"
هنا تغيّر صوت السارد, لم يكن السرد على لسان عشتار, وإنما على لسان سارد عليم مجهول, لكنني أسمع صوت حياة الرايس بوضوح, هي من أرادت أن تسرد أحداث النهاية التي وضعتها بذاتها, مغايرة للأحداث الأصلية المسطورة في الأسطورة, لأنها أرادت أن يكون حدث النهاية هو لحظة التنوير , ورسالتها إلى نساء الألفية الثالثة اللواتي جارت عليهن الذكورة حتى ضاقت بهن نفوسهن فاستوحشن دفاعًا عنها, وربما فكرن بالثأر لها, اعتمادهن واستقلالهن ماديًا واقتصاديًا أتاح لهن الابتعاد عن شرور الذكورة, لكن ماذا ستكون النتيجة؟ عزوف عن الزواج, وكبت لغريزة الجنس, أو شذوذ, وحدّ للتكاثر البشري. عزلة كاملة, سيكون هناك خلل كبير في ناموس الكون, والعزلة لا تعالج قضية, وإنما تأخذها باتجاه الهاوية.
صرخة عشتار الثالثة تدوي في العالم السفلي, تأمر أريشكيجال وزيرها " نمتار" بإرداء عشتار جثة هامدة, ورميها بعيدًا, وتغسيل تموز بماء طهور وإلباسه عباءة ودعوته ليعزف على نايه اللازوردي أمام الكاهنات اللواتي يهدئن من خواطره, ليحدث مشهدالنهاية المحكي كما نخمّن على لسان حياة الرايس:
يصل تموز بحلّته الطقوسية في موكب
تحيط به عذراوات المعبد
بأيديهن الشموع وسط غيمات " البخور"
تصيح أريشكيجال
" أفسحوا له طريقًا إلى العالم الأعلى
لقد أصبح طليقًا "
- تموز يرفض الخروج بمفرده
يتجه نحو عشتار
يمسك بيدها
يلتفت إلى أريشكيجال
" لن أخرج إلا مع عشتار"
تنتفض أريشكيجال غيظًا
تصيح في – الأنانوكي-...
لكن تموز وعشتار
كانا قد خرجا.
نهاية سعيدة وضعتها الكاتبة حياة الرايس, مغايرة للنهاية في الأسطورة الأصل, نهاية موظفة لخدمة الفكرة التي أرادتها, وهي إيمانها بأن الحبّ كفيل بحل كل الآفات النفسية و القضاء على كل الشرور الإنسانية, الحب كقيمة جامعة لكل القيم الفضيلة, كالتضحية والتسامح, والصفح, والعفو عند المقدرة, والألفة وقبول الآخر, الحب الذي يتكاثر به البشر, والحب الذي يؤمن بالجمع وينأى بنا عن الوحدة, الوحدة اغتراب وشتات, والحب اقتراب وتواصل واندماج روحي وجسدي, الفكرة التي وضعتها الكاتبة في قالب أسطوري, متّخذة موضوعها بالكامل من أسطورة عشتار وتموز خلا النهاية, متن حكائي كامل قامت الكاتبة بإعادة بنائها وفق بنيات حكائية أبرزت مقدرتها الهائلة على هيكلة الحكاية كما يمليه عليها فكرها النيّر وخيالها الخصب ولغتها المطواعة.
على مستوى الحوار الدرامي:
الحوار عند بريخت قائم على عاملين أساسيين :1- الديالكتيك ( الجدل _ الحوارات جدلية عقلية طويلة هدفها التغيير والتنوير) , 2- والخطاب المباشر إلى الجمهور: الشخصية الدرامية تكسر الحاجز أو الجدار الوهمي الرابع بينها وبين الجمهور وتدخل معه بحوار , كأن تلقي عليه أسئلة أو توجه له اتهامات وتحذيرات أو خطاب تثويري ....
أما عند حياة الرايس فهو لا يشبه أي نوع من الحوارات المسرحيّة الخارجيّة المعهودة¸ هو حوار مباشر من الشخصية الساردة إلى الجمهور المتلقي, من القرّاء أو المشاهدين, سواء كان هذا الحوار خارجي( بين شخصيتين أو أكثر) أو داخلي ( المونولوج_ المناجاة_ الحوار الجانبي).
الحوارات الخارجية هي حوارات تكثر في النص المسرحي, لكنها كانت قليلة في هذا النص, لم تخرج من إطار الحوارات المباشرة المنقولة على لسان الشخصية الساردة ( عشتار), مثلًا , عشتار تحاور الجمهور مباشرة , وتنقل له حوارها مع تموز, تاركة للحوار القيام بوظائفه العديدة, منها الكشف عن الأبعاد النفسية والاجتماعية للشخصيات, أيضًا وظيفة سرد وتلخيص أحداث ماضية:
لم أكن أعرف ما أقول لأمّي
ناديته: "تعال الآن أيها الثور البرّي
خلّصني، يجب أن أذهب إلى البيت
ماذا عساي أن أقول لكي أخادع
أمّي ننجال؟"
لكنّي كنت سعيدة حين جاءني جوابه،
أنا المعروفة بالمكر والخداع:
"فلأخبرك، فلأخبرك
أي "إنانا" يا أكثر النّساء خداعا، فلأخبرك
قولي إن صديقتي اصطحبتني معها إلى السّاحة العامة
حيث سلّتني بالموسيقى والرقص،
وغنت لي أغنياتها الحلوة،
في الابتهاج الحلو قتلت الوقت هناك،
بذلك تواجهين أمّك، في خداع
بينما نحن كنا على ضوء القمر ننغمس في شهوتنا
سأعدّ لك فراشًا طهورًا، حلوًا، نبيلا،
سوف أقضّي معك وقتًا حلوًا في فرح غامر"
كما نستطيع أن نرصد بعض الحوارات الخارجية المقتضبة, بين عشتار وبوّاب العالم الأسفل, كان للحوار وظيفة الكشف عن امتيازات وقدرات الشخصية البطلة( البعد الاجتماعي), و تقديم معلومات ( عن العالم الأسفل), وأيضًا تقديم الشخصية المعارضة (أريشكيجال) :
بعد ذلك توجهت إلى بلاط العالم الأسفل
و انتصبت جريئة أمام بوّابته:
ــ"افتح يا حارس البوابة، افتح البيت
افتح البيت يا ناتي، بمفردي أريد الدخول"
فجاءني صوته متسائلا:
"رجاء، من أنت؟"
أجبته باعتزاز:
"أنا ملكة السماء، المكان الذي تشرق منه الشمس"
لكن البوّاب يخامره ريب في أمري:
"إن كنت ملكة السماء حقا، المكان
الذي تشرق منه الشمس. فلماذا أتيت
رحماك إلى بلاد الّاعودة،
إلى الطريق
الذي من سافر إليه لا يعود أبدا،
كيف قادك إليه قلبك؟"

- على مستوى الشخصيات:
الشخصيات في المسرح الملحمي عبارة عن أفكار , وهي عند بريخت شخصيات تحمل إمّا الفكر الرأسمالي أو الفكر الاشتراكي, ولا يهتم بريخت إلا بالبعد الاجتماعي على حساب البعدين المادي والنفسي.
أمّا الشخصيات في ملحمة حياة الرّايس فهي شخصيّات قيميّة, والصراع بينها صراع قيم, وليس صراع أفكار, وقد اهتمت حياة الرايس بكل أبعادها, الاجتماعية والمادية والنفسية, على حدّ سواء.
نوّعت الكاتبة في شخصياتها المسرحية :
فكان هناك الشخصية المحورية ( عشتار) التي تدور حولها الأحداث, وهي فعلًا محوريّة في كل شيء, فهي الحكّاءة التي حملت مهمّة الحكي والسرد من البداية إلى ما قبل النهاية, لم تغب عن عرض المسرح أبدً, وهي الفاعل والمحرّك الأول للأحداث, والفاعل والمنفعل فيها, إضافة إلى أنها القيمة الأولى ( الحبّ والتضحيّة)التي حملت فكرة العمل المسرحي من البداية إلى النهاية, وكل الاشتقاقات القيميّة والرمزيّة الأخرى المنبثقة عنها, دخلت في الصراع الدرامي القيمي ( الحبّ والكره, الوفاء والغدر, التضحية والأنانية, الأنوثة والجنس, الخصوبة والأمومة, السعادة والشقاء, القوة والضعف, السلطة المطلقة والعزل...)
إن أبرز ما يعتري الشخصيّة المحوريّة هو الانقلاب الرئيس الذي يطرأ على حياتها أو دورها ويقلبها عن الاستاتيكية باتجاه الديناميكية, وقد يُتبع هذا الانقلاب الرئيس بانقلابات ثانوية عديدة, الانقلاب الرئيس في شخصية عشتار كان قلب دورها من آلهة إلى بشر , وما تمخّض عنه من حلول خصائص مكان أخرى . حلول الموت مكان الخلود, والتجرّد من علياء الصمت الرّبوبي إلى صخب البوح بكل ما يعتري البشر من فرح وحزن وكره وحبّ وغضب وغيرة...
وهناك الشخصية المحرّكة للأحداث, التي ترمي الحجر في المياه الراكدة فتحرّك الأحداث باتجاه الصراع الدرامي, مثال( تموز – أريشكيجال_ ننشبور_ الأب إنكي....),
أيضًا هناك الشخصية الغائبة الحاضرة أو الشخصية الرمز : (الجنين) الذي تحرّك في رحم عشتار, شخصيّة لا تظهر على خشبة المسرح, لكنها حضرت بتأثيرها الدرامي, شخصيّة رمزية محمولة على فكرة الجيل الجديد, أو جيل المستقبل السوي المتمسّك بالحياة, المتطلّع إلى النور, المؤمن بسيادة الأنثى, المقرّ بأفضالها وترتيبها الأولي في كل ما تتنفس به الحياة, (شخصيّة تعيد فيها حياة الرايس بناء قصّة نزول آدم وحواء من السماء إلى الأرض, من جنّة السماء إلى شقاء الأرض, مع اعتبار الأرض هي الجنّة التي على الإنسان أن يعمرها), هذه الشخصية اقتصر ظهورها المادي على المسرح بصوتها فقط:
" لا تنزلي إلى العالم الأسفل
لا أريد ان أولد في الظلام
إذا نزلت من سيعمّر الأرض بعدك_؟
أنت الأم الأولى
أنت الأنثى وأنت الخصب
أنت الزرع وأنت الخصب
أنت الحياة وأنت الولادة التي لا تنضب
أنت الرحم الكوني
مصدر كل حيّ
تسحبين الإنسان من بطنك
التف حولك النساء والرجال
وتشكّلت أول وحدة إنسانية
هي الخلية العائلية
استقال منها الأب مبكرًا
واختار الكون الخارجي
كنت الطبيبة الأولى
كنت الكاهنة الأولى
والعرّافة الأولى
والساحرة الأولى
كنت المسؤولة الأولى
عن حياة الأطفال وما زلت
فكنت النسّاجة الأولى
تحيكين نسيج الحياة
وتغزلين خيط القدر
أيضًا , كانت هناك الشخصية الحاضرة الغائبة( الشخصية النمطية), وهي التي يستخدمها الكاتب المسرحي لتعميم قضية, قضية السلطة مثلًا وأدواتها القمعية, أو للتدليل عل الشخصيات المهمّشة دراميًّا, وغالبًا , هذه الشخصية, لا تأخذ مسمّى علم, وإنما رقم, مثل العفاريت الذين كبّلوا تموز وضربوه( العفريت الأول – العفريت الثاني _ الثالث_ الرابع) وبوّابو العالم السفلي.
اهتمت حياة الرايس كما قلنا بإظهار الأبعاد الثلاث للشخصيات, بالقدر الذي يخدم عملها المسرحي, فأظهرت الأبعاد الثلاث كاملة في الشخصية المحورية ( عشتار), بينما ركّزت على البعد النفسي عند أريكشيجال, والبعد الاجتماعي عند تموز, اي أنها اهتمت بالبعد الذي له تأثير على أحداث النص الدرامية.

- الموسيقى :
وهي عنصر يختصّ بالعرض المسرحي, لكني وجدت أثرها في هذا النص المسرحي المكتوب .
إن كان بريخت قد ألغى دورها في تعميق الحالة النفسية للشخصية المسرحية والموقف الدرامي, وجعلها تأتي مناقضة للحدث الدرامي لتغريبه وإثارة الدهشة, ليقودنا إلى التفكير فيه ونقده, كأن يأتي بموسيقى فرح في مشهد جنائزي مثلًا, ليكون دلالة على أن موت أحدهم مصدر فرح للغير كما فعل في مسرحية ( محاكمة لوكولوس) في مشهد موت طاغية رأسمالي ليدلّل على أن موته أسعد الفقراء, فإننا نجد حياة الرايس قد استعاضت عن موسيقى بريخت بترنيمات سومرية, مناسبة تمامًا للمشهد المسرحي, ولم تتحدّد بوضعها في نهاية المشهد, بل تضعها حيثما وجدت مكانًا مناسبًا لها, دونما إقحام, نظمتها بطريقة المحاكاة, مقلدة بساطة وسذاجة الترنيمات التراثية التي راجت في تلك الحقبة, والتي تعتمد على تكرار عبارات بعينها, وجمل مباشرة تحاول الانزياح نحو جمال التصوير والرمز, لكن بطريقة بدائية كبداءة الكتابة في تلك الحقبة, وتنوّه إليها بكلمة ( ترنيمة):
ترنيمة العريس :
والشعراء يتغنون على لسان تموز
الذي كان يتحرق اشتهاء إلى فراش الزفاف المقدس:
ترنيمة:
"يتشهاه، يتشهاه
يتشهى الفراش
الذي يُبهج القلب، يتشهى الفراش
الذي يحلو به الحضن، يتشهى الفراش
أنت يا من جعل الفراش حلوا
أن تجعل فراش الملك حلوا
أن تجعل الفراش الذي يحلو به الحضن حلوا
أن تجعل الفراش الذي يحلو به الحضن حلوا"
كان تموز قد أمر أن يُطهّر فراش
الليلة السعيدة بجرار مليئة بالعسل والأرز
ليكون عذبًا ومثمرًا.
وبكلمات تقطر عذوبة ورقة
ترنيمة العروس:
استقبلت عريسي بترنيمة العرس:
" أيها العريس...يا غاليا على قلبي
ما أروع جمالك، حلوا كالعسل
أيّها الأسد... يا غاليا على قلبي
ما أروع جمالك حلوا كالعسل
لقد هززتني... دعني أرتعش واقفة أمامك
أيها العريس... دعني أمنحك الحبّ
فحبّي شهيّ، أشهى من العسل
وفي المخدع الجميل...
دعنا نستمتع بجمالك الأخاذ.
ولأنك تحبّني، امنحني حبّك الممتع
يا سيّدي...وحامي ذماري
تلطف و امنحني حبك الممتع".

أو تنوّه بكلمة ( أنشودة) :
أنشودة التتويج:
"لعل الرّب الذي دعوته إلى قلبك،
الملك، زوجك الحبيب، يتمتع بأيام مديدة على حضنك الحلو، المقدس
امنحيه حكما عظيما مجيدا
امنحيه عرش الملك على أساس مكين
امنحيه القدرة على تدبير شؤون الناس: الصولجان و المحجن
امنحيه تاجا لا يبلى وإكليل نور على رأسه
من حيث تطلع الشمس إلى حيث تغرب الشمس
من الجنوب إلى الشمال
من البحر الأعلى إلى البحر الأسفل
لعلّ النهر يفيض
وفي الحقل يكثر الحَبّ
لعلّ الغياض تنتج عسلا ونبيذا
وفي دجلة والفرات يكون فيض الماء
وعلى الضفاف ينبت العشب عاليا ويملأ المروج
وملكة الخضرة المقدسة تجمع الحبّ أكواما وتلالا
أي مليكتنا ملكة السماء والأرض
لعله يستمتع بأيام مديدة على حضنك المقدس" .


الخاتمة :
إن حياة الرايس, في هذا العمل المسرحي الملحمي, قدّمت ملحمتها الخالدة بما تفتق عنه فكرها النيّر الذي تعذّى بعلوم المنطق والفلسفة وعلوم الأحياء وعلم النفس, وبما فاض من أخلاقها المحتكمة إلى الحبّ كقيمة عليا وزعها الله على عباده ليتراحموا بها, وإلى تطلعاتها الحرّة باتجاه الجسد الأنثوي الذي خلقه الله آية جمال لا ينبغي الخجل به ومنه, لكن ينبغي تحصينه من الأذى, والحفاظ على سلامته لأنه سيحمل الذريّة كما يحمل السعادة, الأنثى عند حياة الرايس كائن اجتماعي لا تطيق العيش وحيدة, بل تبحث عن أنسها وسكنها, كما يبحث الرجل.
سأختم بما كتبته حياة الرايس في شهادتها:
" حاولت في نصّي أن أتجاوز كلّ ذلك, لأجعل منه ملحمة لامرأة الألفية الثالثة, فلا فصل تعسفي بين عوالم ولدت مرتوقة, ولكن تفاعل وتواصل يتجاوز لغة الجنس إلى لغة الإنس, لغة الإنسان بعيدًا عن عقلية الثأر, للتخلّص من براثن القبيلة, اقترحت السّمو والصفح الذي يليق بالإلهة عشتار. وعشتار وإن كانت سلطة مطلقة في كامل الحكاية أو المسرحية, فإنها لا تريد أن تبقى وحيدة في هذا العالم...لأنّ الحبّ يجمع و لا يفرق كقيمة ثابتة. و أضيف على لسان عشتار و ذلك موقفي الشخصي ما ورد في آخر جمل النص كخير ما ختمت به المسرحيّة:
"كل ألوهيتي وعزّتي و جاهي لا يساوون شيئًا إذا لم يكن تموز بجانبي يعزف لي لحن الحبّ و لا يرى امرأة غيري"


#دعبيرخالديحيي الاسكندرية السبت 25 ديسمبر 2021

المراجع والمصادر

1-الذرائعية في التطبيق- طبعة مزيدة منقحة – تأليف / عبد الرزاق عودة الغالبي – تطبيق / د عبير خالد – دار النابغة للنشر والتوزيع – ص48
2- الدكتور رشاد رشدي- فن الكتابة المسرحية- الهيئة العامة للكتاب – ص 23
3- برتولود بريخت, " الأرجانون الصغير" , ترجمة فاروق عبد الوهاب , مركز الشارقة للإبداع الفكري, هلا للنشر والتوزيع, ص 43
4-المرجع السابق, ص 69
5-مسرحية " سيدة الأسرار " عشتار –حياة الرايس- الطبعة السابعة تونس 2016- دار نقوش عربية
6-الأسطورة المخاتلة للخلود- شهادة الكاتبة عن سر كتابة المسرحية – ملتقى الرواية بالقاهرة 2015



#عبير_خالد_يحيي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تعدد الساردين في رواية( بين حياتين) للكاتبة عبير خالديحيي بق ...
- تجذير الإشكالية العدمية في رواية / سيرة العدم/ للأديب المصري ...
- حول تيار الوعي والنسوية في رواية (بين حياتين ) للأديبة السور ...
- الشعر الحر وتمثّلات الدعوة لأغراض شعرية جديدة دراسة ذرائعية ...
- تائهة
- التوازي في الدلالات السردية - دراسة ذرائعية باستراتيجية الاس ...
- جولة في أروقة النفس في رواية ( ست أرواح تكفي للهو ) للكاتبة ...
- التاريخ والبعد الرابع ومناقشة القول في التناص - دراسة ذرائعي ...
- إضاءة ذرائعية على كتاب ( أدب الطفل وقيم البناء) للباحث والأد ...
- ارحموا نصّكم العربي ... إنه سيد النصوص...! عبد الرزاق عوده ا ...
- البناء السيكولوجي للشخصية البطلة بين السيكوباتية والنرجسية ف ...
- جرأة التجريب ولعبة الميتاسرد في رواية ( لو لم أعشقها) للأديب ...
- أدب الغزو من منظور ذرائعي
- إشهار كتاب ( تحليل نقدي في أدب الفانتازيا والخيال العلمي)
- عالمي
- قداسة المكان وتحليق الذات الملتهبة في ديوان - جوازًا تقديره ...
- إشهار الكتاب النقدي أدب الرحلات المعاصر بمنظور ذرائعي للناقد ...
- إشهار كتاب نقد أدبي
- تأثير وتأثّر الأدب الروسي في الأدب العربي
- مرآة الواقع ومتاهات الوهم في مجموعة ( ليلة نام فيها الأرق) ل ...


المزيد.....




- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبير خالد يحيي - مسرحة الأسطورة في ملحمة الحبّ الخالدة - سيّدة الأسرار عشتار - للأديبة التونسية حياة الرايس دراسة نقدية بقلم الناقدة الذرائعية السورية د. عبير خالد يحيي