أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أسامة غانم - السرد المؤسطر بين الواقعي والمتخيّل















المزيد.....


السرد المؤسطر بين الواقعي والمتخيّل


أسامة غانم
ناقد

(Osama Ghanim)


الحوار المتمدن-العدد: 7266 - 2022 / 6 / 1 - 02:19
المحور: الادب والفن
    



الموت يصنع التاريخ
والتاريخ يصنع الموت .
جون كيتس
تستمد رواية " زقاق الجُمجٌم "* للروائي بيات مرعي نسغها من جوهر الوقائع التاريخية – السياسية – السوسيولوجية ، وهي تعمل على تحويل المشاهد الواقعية الى مشاهد اسطورية ، عبر مزاوجتها في سياقات تخيلية موحدة ، وهكذا فإن الواقع المرسوم في السرد المتخيل ما هو الا عبارة عن سرد يستوحي المتخيل المرسوم في الواقع للشخصيات والأحداث ، فاللجوء الى المتخيل يكون من اجل خلق عوالم مغايرة ، أو اختراع عوالم بديلة تكون نقطة الشروع في مزاوجة الواقع بالمتخيل ، لأن هذا الواقع قد انهك الاشخاص ، كونه مؤلم جداً لاحتوائه على معاناة عميقة غير خاضعة لحدود ، لذا احياناً يجدوه معقداً ولا يعرفوا ماذا يفعلوا ، واحياناً اخرى يكون لا معقول بالنسبة لهم أو غير مفهوم بتاتا ، فالإنسان يقف " عاجزاً أمام أسئلة الوجود وأسئلة الواقع فيلجأ إلى المتخيل ليجد أجوبة لم تمنح له ، أي أن المتخيل لا ينبع عن اختراع أعلى بل عن سؤال لم يشبع العقل " 1 . عند ذلك يتقبل هذا الواقع االمأساوي، الشخصيات والأحداث والامكنة المؤسطرة ، لأنه في " عالم يتقبل العناصر المؤسطرة بصورة مبهمة لحياته اليومية "2 .
تمثل الاسطورة بالنسبة للكتّاب دعماً ابداعياً جمالياً ، اما في النقد فتعتبر الاسطورة مفتاحا ًتفسيرياً ، ولكن ماهي الاسطورة اليوم بالمفهوم الحديث ، يقول بارت " سأعطي مباشرةً جواباً بسيطاً يتفق تماما مع علم الاشتقاق : الأسطورة كلام.. أن الأسطورة عبارةً عن منظومة اتصال . إنها رسالة . إنها صيغة من صيغ الدلالة "3 . وهذا ما نعثر عليه بكثافة عالية في نص رواية " زقاق الجمجم " ، فأن اللغة فيه حاملة للدلالات ، يعني الكلام المشتق من اللغة كذلك ، وهو في الوقت ذاته منظومة اتصال ، مع كل الخطابات ، أذن من الممكن أن يصبح كل شيء أسطورة " لأن العالم معينً لا ينضب من الإيحاءات " 4 .وعلينا أن لا ننسى أن الأسطورة هنا في النص موظفة كأداة تفسيرية . وهذا ما جعل الروائي المعاصر أن يقوم بتوظيف العنصر الاسطوري في روايته ، كما في رواية " زقاق الجمجم " ، عندما قام الروائي بتوظيف العناصر اليومية الاعتيادية من خلال لغة الاسطورة الى عناصر اسطورية ، فاللغة قد تحولت من اعتيادية الى مؤسطرة .
إن رواية " زقاق الجمجم " مُتشْكلة من حكايات متعددة ، متناسلة من بعضها ، متداخلة متشابكة في بعضها ، ليس ذلك فحسب ، بل حتى الأزمنة فيها متداخلة بقوة ، بحيث تتيه على القارىء غير المْركزْ في السرد عن أي زمن يتكلم النص ، ولو لم يضع الروائي بعض التواريخ في متن النص أو كتابته لبعض الاشارات العابرة لأصبح الزمان في النص مفقود بالنسبة للقارئ ، بل ومبهم وغامض .
تبدأ الرواية بإهداء محمل بسخرية مبطنة ، ولا معقوليته ، مع الاشارة الى نساء زقاق الجمجم الخمسة والحبيبة غير المعروفة : " إلى ضحايا الحرب العالميّة السّابعة نساء الجمجم وحبيبتي " ص7 ، وقد يتسأل المتلقي افتراضيا: لماذا حشر المؤلف في الاهداء مع نساء الزقاق ،الحبيبة (غموض)؟ وماهي الغاية المقصودة بالحرب العالمية السابعة (عدم الحدوث)؟ هنا من حق المتلقي أن يلجأ الى التأويل ، لأن التأويل متعدد الأوجه بالنسبة للنص وبالنسبة للمتلقي ، فالنص هو فضاء مستقل للمعنى " لأن حدث النصّ ليس حدثاً من إنشاء المؤلف ، وليس معنىّ لمعنى المؤلف . وكلَ من الحدث والمعنى في متناول التأويل أو التفسير "5 ، وبما أن المتلقي يؤسس المعنى ، فاذا المعنى يتأسس في قراءة النصّ .
وعند الحفر في عنوان الرواية تتوضح لنا دلالة المعنى ، جمجم السرّ في صدره: أخفاه . جَمْجَمَ عدّوه : أهلكّه . جمجَمَ كلامه :لم يبينه . الجمجُم : المداس ، ومن خلال التمعن في معاني المفردات ، يرى المتلقي أن انسب واقرب مفردة للعنوان هي " الاخفاء " ليكون : زقاق الاخفاء/الموت ، بالرغم من أن العنوان فيه من المجاز الايحائي الكثير متماشياً مع النصّ والذي يتوافق معه تماماً : زقاق الأرامل – زقاق الموت . بحيث اصبح زقاق الجمجم (جغرافيا و ورمزاً) من شخصيات الرواية الرئيسة بالإضافة الى الشخصيات الأخرى : الأرامل الاربع . أن رواية " زقاق الجمجم " كمكان يحمل من الرموز والدلالات الكثير ، كما أنه يكشف لنا عن قوة وارادة الإنسان رغم مأساوية الظروف وقساوتها ، ليظهر لنا قدرته على عدم الاستسلام واليأس امام الصعاب ، كما يبين زقاق الجمجم / المكان بواطن الإنسان الداخلية بكل ما يختلج فيها من صراع على المستوى : السايكولوجي – والايدولوجي – والسوسيولوجي ، وبين كل شخصية وقرينتها من شخصيات الرواية ، بل وبين شخصيات الرواية جميعها ، فيكشف المكان لنا الغطاء عن مأساة هذه الشخصيات في صراعها مع نفسها ومع العالم المحيط بها ، أن الذي يدفع بيات مرعي لـ هكذا عمل روائي هو أن الشخصية الرئيسة في الرواية ليس الارامل الاربع فقط ، بل كذلك الزقاق نفسه ، لأن اشتغاله على المكان كان بمثابة اشتغال على شخصية حية ، وباعتقادي أن زقاق الجمجم هو يرمز لمكان أخر اوسع الذي هو " العراق " والذي ابتلى بالحروب وبالاحتلال الامريكي ، وما زقاق الجمجم الا نتيجة حتمية لتلك الحروب وللاحتلال الامريكي . حيث اصبح المكان نفسه هنا تعاقباً متخيّلاً لا يشبه حضوره في الجغرافيا اذا كان موجوداً فعلاً .
تبدأ الرواية بعنوان " ما بعد 1980م " وهو العنوان الذي سيكون الوحيد للأخير، وهو الذي سيضعنا في مواجهة الحرب العراقية – الايرانية : " السّاعة الواحدة بعد منتصف الليل ، كانت سيارة الـ ( O.M ) روسيّة الصّنع – هكذا أسماها الأصدقاء – قد جاءت بنا من مدينة الديوانية في وسط البلاد الى مدينة البصرة في اقصى جنوب العراق ، هكذا هي الحياة " ص9 ، هكذا هي حياة الحروب المؤدية الى الموت المجاني المتعدد الانواع ، ولكن صوت من نسمع ؟ اهو صوت المؤلف أم صوت الراوي/ البطل ؟ لا يمكن أن يصبح المؤلف – الإنسان خارج الصورة ،خارج النص ، فهو يظهر في الجانب الشكلي من الصورة ، وهذا يجعله بكل سهولة يتطابق مع الراوي/ البطل ، عندئذ تكون صورة المؤلف ممزوجة بصورة الإنسان الحقيقي في الواقع ، لأنه حاصل تطابق وعي المؤلف مع وعي الراوي / البطل وعالمه " يحاول المؤلف أن يبرز كل تفصيل من تفاصيل البطل بهذا المعنى ، كل خاصية له ، كل حدث من حياته ، كل تصرفاته : افكاره وأحاسيسه ، وكأننا نتعامل في الحياة من الناحية القيمية مع كل انعكاس يصدر عن الناس المحيطين "6 ، وليس ذلك فحسب بل " يتوجب علينا أن نعطي تعريفاً أكثر عمومية للمؤلف والبطل كجوانب مترابطة نسبياً من الكل الفني للعمل ، ومن ثم إعطاء قانون عام لعلاقتهما المتبادلة ، ويخضع هذا للتباين والعمق "7 .
ومنذ السطور الاولى ، وكما بْيّن لنا الراوي وصولهم للمدينة في الليل / الظلام ، أي يريد أن يقول للقارىء أو يحسسه بأن الحرب ماهي الا ظلام ، انها جحيم دانتي ، وبأن فيها الاف الحكايا عن جثث اناس نزعت هوياتهم بفعل الموت واندرجوا تحت مسمى مجهول الهوية " ففي مدينةٍ كالتي اقتادونا اليها وغرسونا فيها كما تُغرَس الأشجار في الأرض ألفُ حكاية وحكاية عن جثث لا هويّة لها ، تركَتْها عجلة الحرب خلفها " ص12 .
ثم نتعرف على الراوي وعلاقته بزقاق الجمجم ، حينما يعود بنا بذكرته للطفولة مع مسح شامل للزقاق ومن هم ساكنيه مع اوصافهم :
" إحدى أسعد ذكرياتي حين كنا نجلس تحت شجرة فحل التوت الكبيرة وسط حوش بيتنا العتيق وثرثرات نساء زقاق الجمجم الملاصق لبيتنا تخترق خلوتنا "ص26 .
" زقاق ضيق مبلط بالحجارة ، تنبعث منه روائح كأن أحداً يحرق دهن العود وعرف الصّندل لتهبّ رائحة على جناح طائر تجعل الروح تنتشي ، ربّما كان ذلك لكثرة ما تتعطر نساء الزقاق بشتّى أنواع العطور " ص 22 .
" فجدار منزلنا الجنوبيّ يطلّ على الزّقاق بنافذته الواسعة التي طالما كنت اجلس في حوضها منذ الفجر، وأراقب الأحداث نزولاً عند رغبة أمّي " ص 22
" ( زقاق الجمجم ) الذي لا يُعَرف عنه اليوم سوى أنّ أربعةً من مساكنه الخمسة تقطنها أربع أرامل جمعتهن الصّدفة ، في كلّ بيتٍ أرملة ، شاء القدر أن يُسكنَ أربعة نساء أرامل ومعهنّ فتحيّة بنت المدير التي تتمتّع بالعيش مع زوجها الحاج يونس " 37 .
" فهن نساءُ تجاوزت أعمارهنَ الخمسين واثقلت اجسادهن الترهلات واكتسحت التجاعيد وجوههنّ وكأنهن جئن ضيفات من كوكب احرقته البراكين " ص 39 .
" النساء اللواتي نشفت أروحهنّ ويبَست ارحامهنّ " ص 40 .
الأرامل الاربع ، هن نتيجة تحصيل حاصل للحروب العبثية التي حدثت في العراق : الحرب العراقية – الايرانية ، الضربة الدولية عام 1991 للقطعات العسكرية العراقية عند انسحابها من الكويت المسماة " عاصفة الصحراء " ، الاحتلال الامريكي – البريطاني عام 2003 ، فهن لم يخضنّ الحرب ولكنهن تحملن نتائجها الكارثية ، روحاً وجسداً ، تحملن المعاناة والوجع والألم والحزن المشبوب بالحاجة في انصاف الليالي لجسد يدفيّ الجسد ،فإن الجسد ليس مكتملاً ذاتياً ، لأنه لا يستطيع تلبية حاجاته الذاتية ، لذا يحتاج إلى الآخر والى نشاطه وفعله، والذي يؤدي الى ممارسة الجنس ليصبحا جسدا واحدا ، وهذا ما نشاهده يحصل في اجساد الأرامل الاربع من التهاب الرغبة في اجسادهن عندما لا تلبى الحاجة من الآخر الغائب ، انهن محكومات بـ كابوس ابدي من قبل الحروب والطبيعة ، فهن أرامل / الحياة – بلا اولاد/ الزينة – بلا مال / السعادة :
" في داخل كلّ منهنّ شيء يشبه البركان ، تحرقهنّ حممه في وحدتهن ، كل واحدة تتمنّى أن تقفز المعجزات كي تخفف عنها هذه اللّوعة وهذا الشّوق المحرِق ، لكنهن يعرفن أن رداً بارداً سيصدر من حولهنّ ويجمد تلك الحمم ، فمن المستحيل أن تتحقّق تلك الأحلام " ص49 .
فعند الحاجة نوفة يكون قطها الاسود هو زورق نجاتها عند لحظة الشبق في الليالي الحالكة عوضاً عن زوجها عبد الرحمن الفحام ، الذي غادرها يوم الاثنين من عام 1985م للالتحاق بالجبهة ، ولم يعد لها نهائيا ، ثم قطها الأسود يخرج ولم يعد :
" لقد غاب دون سابق انذار ليضيّعني في منتصف الطريق ، رحل واودعني في ثلاجة الموتى وبين بقايا حطام ، بقيتُ جسداً تلسعه لفحات الوحدة المُرّة ، جسداً حذِراً مترقباً مكفَناً بالصمت "ص51 .
" وقد اعتادت أن لا تنام إلا بعد ان يضرب ذلك الأسود بذيله الأملس ساقيها المنتفختين فتخرس روحها وهي تنظر الى عينيه المشعتين ، ويكاد مواؤه يكون همساً يثير فيها كلَ غرائزها المدفونة ، فتنام بعد أن يفيض تعرُقها " ص 46 .
إما ما كان يثير الأرملة الثانية مديحة الخياطة ، وفي ذات اللحظة يثير حنقها ، وتدخل في حالة نفسية ذات بعدين متعاكسين ، أثارة / اشمئزاز ، عندما تقوم بتحميم اخيها عبود الذي جن أثر اصابته بشظية طائشة والذي يعثر على جثته منتفخة خارج المدينة ، واما زوجها سعيد بن مجيد الحلاق فقد قتل في حرب عاصفة الصحراء عام 1991م اثر سقوط صاروخ :
" ظل سريرها ساعاتٍ يُصدر صوت زقزقاته وهي تحاول أن تهرب من فكرة تطاردها ، وقد اعتادت أن تراودها عن نفسها وهي في قمّة أزمة حرمانها الجنسي كلما دخلت مع عبّود لتساعده في الاستحمام ، الرجُل الذي تحضر فيه كلّ معالم الرجولة إلا العقل " ص88 .
إما الأرملة الثالثة صبيحة بنت العربنجي ، والتي قتل زوجها صالح وهو ابن عمها بـ قذيفة هاون ، التي تبقى تعدّ الساعات في ليلها ، الا بعد .. :
" كانت تحاول ان تمسك لجام حصان أبيها الذي رحل منذ زمن بعيد ،ولجام صبرها وانتظارها في وحدتها ، فحصان روحها لا يثبط عزيمته الفارسُ الطّائش الوحيد الذي يحضر في حلمها كل ليلة بسبب نذير أمرٍ لا مفرّ منه ، يتسلل عنيداً وغامضاً الى مضمار جسدها ليبلل وحدتها ، فتهرب منكسرة لتٌمضي نصف الليل في صناعة سروج الخيل ، تلك المهنة التي ورثتها عن أبيها ، فهي مصدر عيشها " ص 89 .
إما الأرملة الرابعة مهدية ام عيون ، ذات الجمال الفاتن والأنوثة الطاغية ، زوجة حسن الحجار الذي فُقْد في الحرب ، مجهول المصير ، تموت هي وزوجها الثاني ابراهيم الحمال ، بعد أن تحملت الاهوال :
" تُمضي وقتا طويلاً أمام المرآة في غرفة نومها وهي تستعرض قامتها بثوبها الشفاف ، وفي احيان كثيرة تمنح جسدها حرّيّته المطلقة ، فتتعرى كطفل وليد بعد أن تُسدل ستائر نافذة غرفتها ، ثم تطرح جسدها على فراشها مَرّةً وتتقلّب كسمكة ابتلعت الزّهر ، أو تقف أمام المرآة مرة أخرى ، تريد أن تطفي تلك الغريزة الثائرة بين ضلوعها " ص 90 .
كما شاهدنا أن السمة الجوهرية في رواية "زقاق الجمجم " هي سيطرة الموت على كافة محاورها " للموت وجوه متعددة منها : مجازي – رمزي – ايحائي – طبيعي )، وفي خضم هذا الموت العبثي الذي تنتجه الحروب أو الموت بالصدفة أو الذي تنتجه الطبيعة كنتيجة حتمية للإنسان ، يبقى الموت لغزاً يستعصي فك شفراته وابعاده : الفلسفية – السوسيولوجية – والميتافيزيقية ، لذا استثمر الروائي في السرد هذه الابعاد الثلاثية جمالياً لكتابة روايته التي تحتوي على الكثير من الدلالات والانزيحات ، للوصول الى غاية معينة تدفع بدهشة الموت نحو ارتداء عباءة الجمالية .
كما نعرف أن الرواية عموما هي إعادة تشكيل العالم باللغة ، أما هنا هي إعادة تشكيل العالم الروائي بالموت ، من خلال توظيف لعبة الموت ، وبما أن الحياة هي نقيض الموت ، فالرواية إذا هي تشكيل للحياة ، رغم حضور الموت في هذا التشكيل ، أي أن ثنائية الحياة / الموت يكونا متقابلين فيها ، كوجهي العملة المعدنية ، " إنّ اللعب يكون قادراً على تخلل كل أبعاد حياتنا الاجتماعية عبر كل الطبقات ، والأجناس ، والحظوظ المتباينة من الثقافة ،لأنّ الأشكال من اللعب هي أشكال من حريتنا "8 ، وكما يوجد لعبة للموت هنالك لعبة للحياة ، وخير من يمثل ذلك ملحمة جلجامش وانكيدو، عندما اراد جلجامش الخلود وبحثه عن عشبة الخلود ، ولكن حالما حصل عليها فقدها ، و رأى موت صديقه وخله انكيدو أمامه ، عندئذ عرف الحقيقة ، رغم أنه من الخمسة الملوك – الالهة في مملكة اوروك .
جميع شخصيات الرواية الرئيسة يموتوا أو يصابوا بمرض لا شفاء منه مثل فتحية زوجة الحاجّ يونس ، أما الأرامل الاربع رحلوا الى العالم الأخر باستثناء "مديحة الخياطة " التي غادرت العراق الى تركيا مصابة بمرض الارتعاش العصبي .
من حكايات زقاق الجمجم المهمة والتي تحمل في طياتها رمزية – تأويلية هي حكاية البحث عن كنز مخبّأ تحت أحد الجدران العتيقة ،ولا أحد يعرف تفاصيل الحكاية التي " تسربت من مصدر مجهول ، مفادها أن تحت أحد البيوت الخمسة ، أو في زاوية من زواياه يوجد كنز عظيم للخديوي العثماني .. إلا أنّ الحاجّ يونس لم يُبدِ أي اهتمام بهذه الشائعات ، وهو الرّجل الوحيد في زقاق الجمجم ، وربما كان بيته معنياً بهذا الأمر " ص37 ، اشاعة لا وجود لها من الصحة ، إلا عندما ظهر رجل قصير عراقي يبحث عن الأخوين التوأم حميد ومجيد ثخينة ، وعندما التقى بـ حميد ثخينة بدأ يسأله أسئلة حول زقاق الجمجم وانه سوف يمنحه ضعف أجره اليومي عشرة اضعافه ، هنا بدأ " يتسأل حميد : من هذا الرّجل ؟ وماذا وراءه ؟ ولماذا يسأل عن زقاق الجمجم ؟ " 71 ، وفي صباح اليوم الثاني كان الرجل العراقي القصير والرجل الأشقر الانكليزي قد اعدا للأخوين موتة لا يحلمان بها أبداً ، عندما انجزا مهمتهما بمساعدة الخرائط التي جلبها معهما والكتب التي عثرا عليها داخل الغرفة المستطيلة التي نزلوا اليها عبر فتحتين من السرداب العائد للحاجّ يونس الساعاتي ، الاولى ارتفاعها حوالي ثلاثة امتار والثانية ارتفاعها حوالي اربعة امتار، وفي أحد زوايا الغرفة يظهر لهم " باب كبير محصَن بمسامير حديدية قد اضفت على مظهره متانةً كبيرة ، منقوش ومزخرف ، يوحي الى من يراه بالكثير من الجمال والابداع كأنه باب قصر ملّكي " ص98 ، وعند الاقتحام للباب يعثرا على " نساء ورجال وحيوانات وعربات صغيرة من الطين المفخور، وهناك ألواح خشبية منقوشة ، مدعومة برسومات مختلفة ،وألواح صلصال عليها نصوص كٌتبت بالكتابة المسمارية ، وأوانٍ فخّارية وحليّ من الذهب ، وزجاجيات وأسلحة وأدوات برونزية وقطع نقود قديمة جداً ، قطع مختلفة بأحجام متعددة "ص 106 .
فالحيلة التي اعدها العميل العراقي والرجل الانكليزي هي أن اغلقا على الأخوين ثخينة باب أحد الحجرات الموجودة في الدهليز المتعفن ليتركاهما للموت البطيء نتيجة الطمع لكسب دنانير قليلة وسذاجتهما وجهلهما ، لكن المفارقة التي وقعت للرجلين كما اسماها الراوي " لعنة المكان " أن الانكليزي عندما سحب الحبل الذي نزلوا به نكاية بالأخوين كان هو طريق العودة الوحيد . ولكنه كان يعتقد بأن هنالك منفذ أخر للخروج ، ولتظل صرخة القصير مكتومة لا أحد يسمعها سوى يهوذا .
تنتهي الرواية صباح الثامن عشر من ديسمبر عام 2011 م باعلان المحتل الامريكي انسحابه من العراق تاركاً قواعد عسكرية متفرقة فيه .
استخدم الروائي أسلوب السرد المتداخل " المتقطع" بحيث يجعل القارىء ينتقل من حكاية الى حكاية ثانية دون أي فجوة أو أحساس بالانقطاع ، كون هذا التداخل سلس واحياناً مكملاً لحكاية سابقة ، فالسرد المتداخل " المتقطع" يقوم على عدم الالتزام بالتتبع المنطقي فيختلف زمن الحكاية عن زمن السرد ، اذ يقوم السارد بتقديم الحكاية من آخر حدث عرفته ، معتمداً في ذلك على تقنية الاسترجاع والوصف والحذف ، وكذلك قام باستخدام تقنية أخرى تلجأ اليها الرواية الممسرحة في ايجاد نوع من العلاقة البنائية ما بين الواقع بوصفه وثيقة والمتخيل بوصفه نوعا منضبط ، بل تكون اقرب الى أنتاج لقطة سينمائية متكاملة ، يمثل ذلك هذه الاسطر ( المشاهد المتداخلة ) :
" أصبحت مهدية أملاً جديداً فتح الباب على مصراعيه لأحلام جاراتها الأرامل المتعطشات الى رائحة عرق الرّجال .. انهى الأشقر وصاحبه القصير عملهما بنجاح وقد تحايلا على الليل ، وقبل أن يضعا خطة للهرب كان هناك أمر يدور في رأسيهما ، وهو أن يتخلصا من الأخوين "ص142 .
" منذ اليوم الاول لعودة المقهى للحياة علق خلدون صورة كبيرة لعمه الراحل توسطت عمق المقهى . رحل الحاجّ قاسم بهدوء تام تاركاً صوت التلفاز يصدح بأخبار الوطن ..صور التجاوزات الامريكية في سجن ابو غريب تثير عاصفة غضب عالمية ، مفتش امريكي مَعنيّ بالأسلحة يعجز عن التوصل الى ادلّة حول إنتاج الحكومة السابقة أسلحة دمار شامل " ص194 .





الهوامش والإحالات
*بيات مرعي – زقاق الجمجم " رواية " ، الآن ناشرون وموزعون ، عمان / الاردن ، 2021م .
1- ليلى احمياني – صورة المتخيل في السرد العربي : البناء والدلالة ، رؤية للنشر والتوزيع ، القاهرة / مصر ، 2016م ، ص 43 .
2- وليم رايتر – الاسطورة والأدب ، ترجمة صبار سعدون السعدون ، دار الشؤون الثقافية ، بغداد / العراق ، 1991م ، ص 12 .
3- رولان بارت – اسطوريات : أساطير الحياة اليومية ، ترجمة : د. قاسم المقداد ، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع ، دمشق / سوريا ، 2012م ، ص 225 .
4- م ن ، ص 226 .
5- ج. هيو سلفرمان – نصيات : بين الرمينوطيقا ، ترجمة : حسن ناظم و علي حاكم صالح ، المركز العربي الثقافي ، الدار البيضاء / المغرب ، بيروت / لبنان ، 2002م ، ص 54.
6- ميخائيل باختين - النَظرية الجمالية : المؤلف والبطل في الفعل الجمالي ، ترجمة : عقبة زيدان ، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع ، دمشق / سوريا ، 2017م ، ص 59 .
7- م . ن ، ص 67 .
8- هانس جورج غادامير – تجلي الجميل ، ترجمة ودراسة وشرح : د . سعيد توفيق ، المشروع القومي للترجمة ، القاهرة / مصر ،1997م ، ص 208 .



#أسامة_غانم (هاشتاغ)       Osama_Ghanim#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مابين فوبيا الاكتشاف والتجاوز
- تمثلات الحفر السردي في المتخيل التاريخي
- الصور السردية المتشظية في النص المتجمع
- المأساة بين الواقع والخيال قراءة نصية سوسيولوجية لرواية ظلال ...
- النص المختلف في حفريات الموروث الديني والذاكرة المستفزة - لو ...
- اللعبة السردية في متخيلة المتلقي والنص
- شعرية الحياة في شفرات استعارة اللحظة
- قرائية الواقع بين الوهم والمتخيل
- عراب المتاهات وخْيَال الهاوية
- حوارية عين العنقاء : قراءة في المجموعة الشعرية - اغنية الغبا ...
- الدلالة اليومية في الصورة الشعرية
- تأريخية السيرة الذاتية في سردية المتخييل المؤول
- المثقف بين حلم التغيير والواقع المحبط
- قراءة التحولات في الرواية العراقية مابعد التغيير ؟
- هذيانات المخيلة في اكتشاف الجسد
- هوية الجسد خارج حكاية زهرة / الانثى
- جدلية الرمز المحتجب والواقع المكشوف
- جدلية الذاكرة والوعي في مجموعة - اقاليم قصية - ل غازي العباد ...
- المثقف بين الانتماء والاغتراب
- القصةوالرواية : ايديولوجيا وجمالية


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أسامة غانم - السرد المؤسطر بين الواقعي والمتخيّل