أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث قانونية - قاسم علوان - ... محاكم التفتيش (الخاصة) في زمن (السيد الرئيس) بمناسبة محاكمةالطاغية بجرائم الأنفال ...















المزيد.....


... محاكم التفتيش (الخاصة) في زمن (السيد الرئيس) بمناسبة محاكمةالطاغية بجرائم الأنفال ...


قاسم علوان

الحوار المتمدن-العدد: 1672 - 2006 / 9 / 13 - 09:23
المحور: دراسات وابحاث قانونية
    


طيلة فترة حكم البعث البائد لم تشهد بلاد غير بلادنا غيابا كاملا لسيادة القانون كالذي شهدناه.. ولم يستطع ذلك النظام أن ينظم عمل أية محاكمة مدنية جنائية أو بتهمة سياسية كمحاكمة علنية حتى ولا مرة واحدة من عمره، ولم نشهد أو نسمع بمحاكمة سياسية (بغض النظر عن عدالتها) في ظروف قانونية طبيعية حتى لو كانت محاكمة سرية، فقد ساد وأنتشر مفهوم جديد في ثقافة (المحاكم...) العراقية بشكل عام وفي وقت مبكر جدا من عمر (الثورة) أسمه (المحاكم الحزبية الخاصة) و التي تتشكل بأمر من (مجلس قيادة الثورة) وبدون أية مرجعية قانونية أو دستورية... وهي أشبه ما تكون وكما يوحي أسمها بمحاكم طوارىء أن صح التعبير، وكما توحي أيضا بدلالة أسمها فهي بقصد تجاوز الإجراءات القانونية (الروتينية...) لمحاكم الجنايات والجنح أو حتى المحاكم الخاصة التي سنأتي عليها.. وبالتالي عدم خضوعها لقرارات محاكم الاستئناف أو محكمة التمييز... والتي تبدو بطيئة من وجهة نظر (الثورة) ومجلسها أو انسجاما مع الروح (الثورية) الجديدة، لذا يجب الإسراع بتشكيل تلك المحاكم من غير رجال القضاء والقانون المعروفين، أي من رجال (القيادة السياسية للحزب والثورة..) كما حدث في بادي الأمر، أولئك (الحزبيين) المعبئين بـ (العقيدة) والأحكام المسبقة.
في العهد الملكي الأسبق لم يكن هذا المفهوم ـ أي المحاكم الخاصة ـ معروفا أو متداولا، كان وقتها شائعا ما أصطلح عليه أيام الطوارئ والأزمات السياسية بـ (المحاكم العرفية) التي تشكلت في بداية الأمر في ضوء (مرسوم الإدارة العرفية) رقم 18 لسنة 1935 وهي محاكم عسكرية تتشكل من قادة عسكريين ذوي خبرة وشهادة في مجال القانون، وهي تتشكل في ظروف إعلان الأحكام العرفية عندما تفرض في أوقات (الاضطرابات وحوادث الشغب) أي الانتفاضات والثورات الشعبية، أو التحسب من انقلاب عسكري على وشك الوقوع مثلا، ولكن تلك المحاكم كانت علنية وأحكامها معلنة وتتشكل وفقا لبعض مواد الدستور الدائم، رغم أنها كانت ذريعة للقمع والاستبداد السياسي في ظل بعض حكومات ذلك العهد. وقد تميز ذلك العهد أيضا بأشهر محاكمة سياسية في تاريخ العراق الحديث، إن لم تكن في تاريخ الشرق كله ألا وهي محاكمة قيادة الحزب الشيوعي العراقي في عام 1948 وكانت محاكمة جنائية علنية ورغم أنها كانت بهدف سياسيّ غير معلن لكنه معروف، وإنها اجترأت على إصدار حكم الإعدام على أربعة من قيادة الحزب المعروفة آنذاك.. (فهد وحازم وصارم) ولم يعلن الحكم على الرابع لأنه يهودي (يهودا صديق) ولم ينفذ الحكم به معهم بل في اليوم التالي.. وحكمت على الآخرين بأحكام مختلفة مخففة. ونفذ الحكم في عام 1949، كما نشرت وثائق المحاكمة ووقائعها في الموسوعة الجنائية العراقية وقد تضمنت برنامج الحزب الشيوعي آنذاك ووثائقه الأخرى، فسحبت من الأسواق فيما بعد ذلك لإقبال الناس عليها. وقد كانت ضجة سياسية هائلة تحولت إلى محاكمة للنظام الملكي القائم في وقتها وتعرية رموز سلطته التنفيذية القمعية وكشفت مدى ارتباطهم بالإرادة الأجنبية.
وأما تجربة محكمة (الشعب) أو ما عرف بـ ( محكمة المهداوي) بعد 14 تموز 1958 وما تميزت به من استعراضات سياسية ساخرة من بعض المتهمين بسبب حضور جلساتها جمهور من العامة... وهي تقف فيه حدا فاصلا بين عهدين سياسيين مختلفين، لا تزال جلساتها طرية في الأذهان.. وكيف يمكن أن يظهر فيها متهما لبقا يمكن أن يحرج هيئة المحكمة...!! صحيح أن (محكمة الشعب) أسست لمفهوم (المحاكم الخاصة) من ناحية التسمية باعتبارها محكمة عسكرية خاصة لكنها تشكلت بقرار قانوني يستند إلى الدستور هو قانون رقم 7 لسنة 1958 القاضي بـ (معاقبة المتآمرين على سلامة الوطن..) وتألفت من حقوقيين عسكريين لمحاكمة رموز سياسية معروفة في العهد الملكي، ثم لمحاكمة العناصر العسكرية والمدنية التي تآمرت على الثورة فيما بعد. فقد كانت علنية ونقلت جلساتها كل وسائل الأعلام في وقتها كما نشرت في مجلدات متوفرة في الوقت الحاضر.. وكان المتهمين فيها يتمتعون بحق الدفاع عن أنفسهم بواسطة محام يختاره المتهم أو تختاره هيئة المحكمة له بموافقته، كما تمكن بعض المتهمين من رد التهم الموجهة أليه ودافع عن نفسه جيدا. كما أن أحكامها لم تكن أبدا بتلك القسوة والبطش التي ألفناهما في العهود التالية.
تلقف حزب (البعث العربي الاشتراكي) بعد أن أستلم السلطة عام 1968 ذلك الدرس بإتقان وإمعان شديدين ... ماذا يا ترى يمكن أن يفعل مع خصوم سياسيين متهمين منتظرين مثل أولئك..؟ هل سيتركهم يترافعون عن قضيتهم التي تزدحم بمفاهيم فكرية واجتماعية متقدمة عليه في الحرية والعدالة والإنسانية وما إلى ذلك من قاموسهم الغني بتلك المفردات ومرادفاتها والتي لا يمتلك مقابلا أو ندا لها...؟ أول شيء فعله هذا الحزب هو أن ألغى أي شكل لأي محكمة مدنية سياسية علنية مهما كان نوع تهم المتهمين.. وأقتصر على نوع من المحاكم (الخاصة) خاص به وبإطار جديد...!!
استهلت تلك المحاكم عملها مع بداية (الثورة) مباشرة عندما أطلق النار طالب جامعي بعثي متهور هو موسى عبد الحميد الدليمي في شهر تشرين الثاني من نفس سنة (الثورة) أي عام 1968 على رئيس جامعة البصرة الدكتور خليل محمد الطالب وأرداه قتيلا في مكتبه داخل الحرم الجامعي. فأمر (مجلس قيادة الثورة) بتشكيل محكمة (حزبية) خاصة برئاسة عزت مصطفى وزير الصحة آنذاك، وعقدت جلساتها في مدينة البصرة وحكمت بـ (الإعدام شنقا حتى الموت) على ذلك الطالب ونفذ الحكم فورا، وقد استثمرت (القيادة السياسية..) حينها الشعور الجمعي السائد لدى عامة الناس بتحقيق شيئا من العدالة كانوا ينتظرونها وكانوا قد افتقدوها على يد (البعث) في الانقلاب الدموي الشهير عام 1963.. استثمارا ناجحا وهذا ما منح بعض الشرعية ولو بشكل غير معلن لهذا النوع الفريد من المحاكم.. والتي ستهيمن بعد ذلك على حياة العراق السياسية والقانونية بشكل عام، حتى أن الرأي العام ـ إن كان لدينا رأي عام ـ تطامن إلى ذلك الاستثناء فأصبح قاعدة طيلة الخمس والثلاثين عاما من عمرنا. وهكذا أستمر عمل تلك المحاكم وبسرية مطلقة، فقط أحيانا تعلن نتائجها وكان ذلك في حالات معينة.. كانت أصلا أحداثها معلنة كما سنتعرف على ذلك فيما بعد.
بعد قضية ذلك الطالب أمر (مجلس قيادة الثورة) في شتاء عام 1969 بتشكيل محكمة هذه المرة (عسكرية خاصة) لمحاكمة ما عرف حينها بـ (شبكة التجسس لصالح العدو الصهيوني) والتي ألقي القبض على أفرادها قبل (17 ـ 30 تموز 1968) بعد أن كشفت خيوط تلك الشبكة في نهاية الحكم ألعارفي الثاني وأوقف أفرادها منذ ذلك الوقت.. فجاءت (الثورة) ووجدت كل شيء جاهزا.. التهمة ذات الصبغة القومية البراقة والتي تنسجم تمام الانسجام مع دعاوى الحزب.... والمتهمون من مشارب عرقية ودينية شتى من مدينة البصرة...!!! فيهم اليهودي والمسيحي والسني والشيعي وفيهم من ذوي الأصول الأجنبية (الإيرانية والباكستانية..) أي التنوع العرقي الذي يمثل المجتمع العراقي في تلك المدينة.. فأمرت (قيادة الثورة) بتشكيل تلك المحكمة برئاسة العقيد علي هادي وتوت والذي كان معروفا على (نطاق مدينته الحلة على الأقل) بأنه رجل معتوه إلى حد ما، وقد عقدت تلك المحكمة جلساتها بسرية تامة بعد أن أعلن عن تشكيلها. وعندما انتهت من أعمالها وأصدرت أحكامها النهائية الغير خاضعة للتميز بثت وقائع جلساتها من الإذاعة والتلفزيون في حينها على شكل حلقات يومية كان الجميع يحرص على متابعتها بدقة لأنها كانت مشوقة ومثيرة وعلى مدى ثلاثين يوما...!! ويجب أن نأخذ في الاعتبار غياب الدراما التمثيلية والمسلسلات التلفزيونية في ذلك الوقت من النوع الذي تزدحم به القنوات الفضائية العربية وغيرها الآن، إذ ارتبط عمل تلك المحكمة ونتائجها بالشعارات السياسية المعلنة والجذابة وقتها بالعداء (للكيان الصهيوني) ذلك الكيان الذي كان قد احتل توا في 5 حزيران 1967 جزءا كبيرا من الأراضي العربية المحيطة به. سمعنا وشاهدنا بعدها صدور الأحكام في الحلقة الأخيرة، وكانت جميعها بالإعدام شنقا حتى الموت باستثناء واحد من (الجواسيس..) فقد كان حكمه بالسجن المؤبد لأنه قد تعاون مع هيئة المحكمة، وكذلك شخصا آخر بالبراءة.. هو تاجر الدقيق.. كان قد قبض عليه خطأ.. فقد عفت عنه تلك المحكمة، وكان ذلك حدثا فريدا من نوعه غير مسبوق ولا ملحوق... إذ لا يصدق أن تقبض سلطات ذلك النظام على بريء وتطلق سراحه فيما بعد.. رغم تعرضه لشتى صنوف التعذيب أثناء التحقيق. وبعد نهاية الحلقة الأخيرة من بث تلك المحكمة علقت جثث المحكومين في ساحة التحرير ببغداد وفي ساحة أم البروم في البصرة. وخرجت (الجماهير) في عموم العراق تهتف (عاش قرار المحكمة بإعدام زلخة وجيته) وهؤلاء هم كل من التاجر اليهودي عزرا ناجي زلخة الذي رفض الإقرار بتهمة التجسس إلى آخر لحظة من المحكمة وأصرّ بأنه غير مذنب رغم آثار التعذيب القاسي الذي تعرض له والتي كانت بادية عليه للذين شاهدوه في التلفزيون في وقتها، والآخر هو التاجر البصري المعروف الباكستاني الأصل الحاج جيته. وكانت هذه المحكمة تمرينا (بعثيا) ناجحا لكيفية إدارة محكمة سياسية مضمونة النتائج، وكذلك التخلص من المداخلات والمرافعات السياسية المتوقعة والتي يمكن أن تتضمنها من قبل المحامين والمتهمين الذين أقروا بالتهمة المنسوبة أليهم (التجسس) بسرعة كبيرة.
أدرج في جدول عمل المحكمة نفسها بعد ذلك التمرين الناجح محاكمة شبكة تجسس جديدة...! وعلى أنها تعمل لصالح إيران الشاه هذه المرة، وابتدأت المحكمة عملها فعلا، ولكنها وبعد فترة وجيزة يبدو أنها ظهرت ليس بتلك الدرجة من التشويق والإثارة وكذلك المصداقية، وربما لأسباب (فنية) أخرى فتوقفت بشكل غير معلن، كما نقل رئيسها إلى وظيفة أخرى (محافظ لمدينة الديوانية) أحيل بعدها إلى التقاعد، ليعدم فيما بعد في ظروف غامضة.. وأطلق سراح المتهمين بعد أن أعلن عن أسمائهم وعرفهم الجميع قبل البدء بجلسات المحكمة. وكما تغير أيضا أسم تلك المحكمة فيما بعد إلى (محكمة الثورة) بعد أن تغير جزء من طاقمها وكان من اختصاصاتها بالإضافة إلى قضايا التجسس القضايا السياسية والتي أعلن صدام بعد وقت قصير أنه ليس لدينا جرائم أو قضايا سياسية تعرض أمام المحاكم أطلاقا فقط لدينا جرائم عادية ومجرمون عاديون. وبذلك شطب على أي محكمة مدنية ذات مضمون سياسي مستقبلا. وهكذا أصبح الخصوم المتهمون أو المعارضون السياسيون مجرمين عاديين في عرف القانون العراقي !!
وقد ترأس عزت الدوري المحكمة الحزبية الخاصة التي تشكلت على وجه السرعة لمحاكمة ناظم كزار ومجموعته في عام 1973 في المحاولة الانقلابية المعلنة آنذاك وكانت أيضا محاطة بسرية وكتمان شديدين فقط أعلنت تنفيذ أحكامها مباشرة بعد انتهاء أعمالها، وكانت بالإعدام طبعا كما تعودنا ذلك .
وفي عام 1974 أمر مجلس قيادة الثورة بتشكيل محكمة خاصة للمتهمين بقضايا (إثارة الشغب والتحريض عليه) بكربلاء في خان النص وما عرف بقضية (أبو كلل) وانتدب لها أيضا الدكتور عزت مصطفى والذي أعتذر فيما بعد عن تكملة المشوار بسبب التوصيات المسبقة بإصدار أحكام الإعدام على المتهمين كما أشيع ذلك سرّا، إذ نحيّ الرجل عن جميع مناصبه الحزبية والحكومية فيما بعد. وأستبدله بطه الجزراوي لكي يكمل تلك المهزلة وليكون المرشح الوحيد لإدارة هذا النوع من المحاكم في الأيام القادمة.
وعندما أعلن صدام حسين في عام 1979 عن وجود محاولة انقلابية (وبدون إعلان حالة طوارىء كما تبجح بذلك في وقتها) على نظام حكمه القائم بواسطة عملاء للقيادة السورية (العميلة..) آنذاك.. وحافظ الأسد تحديدا، بين صفوف رفاقه في (القيادة السياسية للحزب والثورة) بعد التقارب الوحدوي الاستعراضي مع (الشقيقة) سوريا واستبشار الكثيرين بإعلان (وحدة فورية) مع تلك (الشقيقة) الذي طال أمد انتظارنا له.. وتحقيق أول هدف من أهداف (حزب البعث العربي الاشتراكي) التي لم يتحقق منها إلى غاية ذلك التاريخ وما بعده شيئا. بعد تلك الإعلانات التي شغلت وسائل الأعلام في حينها ولأسابيع طويلة، وبشكل مفاجيء تم الإعلان عن تلك المؤامرة ومن ثم استعراض اعترافات أحد أولئك (المتهمين) هو (عضو القيادة القطرية للحزب) محي الدين المشهداني.. وسط هتافات المحرضين من مثل علي حسن المجيد الذي كان لا يعرفه أحد قبل ذلك التاريخ، بطريقة تلفزيونية بدت منذ بدايتها ملفقة بشكل لا يقبل الشك.. واتهام غير المرغوب فيهم من قيادات (الحزب) على جميع المستويات ممن حضروا ذلك الاجتماع (المرعب...) ومن ثم عرض ذلك الشريط على صفوف المنتمين للحزب فقط من درجة (نصير) وأعلى بواسطة أجهزة الفيديو حديثة الانتشار آنذاك... فصدرت أحكام الإعدام من محكمة خاصة أيضا برئاسة طه ياسين رمضان الجزراوي بحق رفاقه.. والتي طالت حتى من كان يقضي أيامه في السجن منهم كما هو الحال مع عبد الخالق السامرائي، كما كانت هناك أحكام أخرى ثقيلة وأخرى مخففة بحق آخرين منهم بحسب بعدهم وقربهم من دائرة السلطة حينذاك. ولم تكن تلك المحاكمة في حقيقتها لا أكثر من تصفية حسابات داخل (العائلة) الواحدة مثلما هو الحال في عوائل المافيا كما تبين ذلك في حينها .
وبجانب عمل (محكمة الثورة) الذي أحيط بسرية وكتمان شديدين أستمر عمل المحاكم الخاصة وبنفس الدرجة من الأهمية والسرية التي حاكمت مئات الآلاف من المواطنين ممن انتموا أو ممن يشتبه بانتمائهم أو تعاطفوا مع أحزاب عراقية أخرى غير حزب السلطة، فمن غير الممكن الاحاطة بها وحصرها أبدا فهي عديدة وواسعة ومتنوعة وتحتاج إلى موسوعة (جنائية) واسعة جدا، ورغم أن النظام أعتبرهم مجرمين بجرائم عادية وكما أعلن ذلك مرارا، ورغم ذلك وضعهم أمام محاكم خاصة وقد كانت أحكامها ليس أقل من حكم الإعدام إلا في حالات قليلة جدا. وقد تطور الأمر بعد ذلك بسرعة مذهلة إذ لم يكن هناك داع لتشكيل محاكم خاصة مؤقتة، فأمر (السيد رئيسنا) السابق عندما تسنم سدّة الرئاسة بأن تكون هناك محكمة خاصة في أي دائرة أمن من دوائر الأمن في أي محافظة من محافظات العراق، وكما أن تكون هناك محكمة خاصة بدائرة المخابرات (حاكمية المخابرات)، ناهيك عن المحاكم العسكرية الدائمية والمؤقتة وهي بعدد الفرق العسكرية التي كان يحارب بها صدام أعداءه في جميع أنحاء العراق وخارجه. وحتى من أتهم بجرائم أخرى غير سياسية كأن تكون اقتصادية أو اختلاس أو سرقة أموال دولة صاروا يحاكمون أمام تلك المحاكم أو (محكمة الثورة) الرهيبة، هذه الظاهرة (القانونية) هي التي سادت في السنوات الأخيرة، فهناك أجماع سواء من رجال القانون أو من ضحايا تلك المحاكم بأن أحكامها دائما مسبقة وقاسية وعشوائية ولا يمكن أن تستمع لأقوال المتهمين أو دفاعهم هذا إذا سنحت الفرصة للمتهم بأن يتكلم فأنه لا يجد من يصغي أليه من أعضاء تلك المحكمة....!! وحتى وأن كان هناك محامي مكلف بالدفاع عن ذلك المتهم فهو موظف في دائرة الأمن أو المخابرات أو من المتعاونين مع تلك الجهات، وأغلب الأحيان يدعو ذلك المحامي المتهم للاعتراف بالتهمة الموجهة أليه حتى لو كان بريئا منها لا لغرض إلا لكي يطلب له الرأفة والشفقة وهو يعرف مسبقا أن تلك الصفتين غير متوفرتين في تلك المحكمة، وفي بعض الأحيان يطالب ذلك المحامي بإيقاع أقصى العقوبات بموكله...!! وهذا ما حدث فعلا مع متهمين كثيرين. والجدير بالذكر أن أحكام هذه المحكمة قطعية لا يجوز الطعن فيها وتنفذ فور صدورها، بينما أحكام الإعدام تتطلب تصديق رئيس الجمهورية حسب نصوص الدستور.
وبذلك يكون (مجلس الثورة) وقيادته قد كشف عن ضيقه وعدم تقبله للإجراءات القانونية للمحاكم المدنية في القضايا ذات الصبغة السياسية وحتى غير السياسية فيما بعد وما يترتب عليها من مضيعة للوقت (من وجهة نظره) في التحقيق الابتدائي مثلا أو عمل قاضي التحقيق أو توكيل المحامين وجلسات المرافعات وما يمكن أن يحدث فيها. لذا أستنفذ كل ما يمكن أن تتمتع به تلك المحاكم الخاصة الدائمية منها والمؤقتة والأجهزة التحقيقية الملحقة بها وما يتمتع به رجالها من شراسة ووقاحة ولا إنسانية.. وكذلك أساليب فضيعة في كيفية نزع الاعترافات من المتهمين حتى وأن كانت غير حقيقية كما هو معروف عنها، وما في تلك المحاكم من طاقة قصوى على القمع والقتل المبرر قانونيا إلى الحد الذي يقتنع به هو على الأقل (أي رئيسنا) ولو بشكل غير ظاهر دائما. إذ أن هناك قضايا كثيرة فيها يكون المتهمين قد قتلوا إثناء التحقيق أي تحت التعذيب ومن ثم يصدر قرار حكم بأعدامهم...!! وكما موثق في المرسوم الجمهوري القاضي بتصديق أحكام الإعدام بالشهداء محمد جواد طعمة (أبو زيتون) ومجموعته التي يتضمن أسم القاص العراقي المعروف جليل المياح والمؤرخ في 5/9/1983 . كما أن أحكام تلك المحاكم أحيانا غير معلنة أيضا ويمكن المحافظة على سريتها المطلقة بفضل الأجهزة الأمنية المحيطة بها، مثلا فقد بذلت أسرة الفقيد الأخير جهودا كبيرة واستثنائية للحصول على قرار الحكم ذاك لأغراض تتعلق بتصفية ممتلكات الأسرة ولم تفلح في ذلك إطلاقا. كما تصدر تلك المحاكم أحكامها بحرية تامة بعيدة عن محاكم الاستئناف ومحكمة التمييز. وكل ذلك واضحا في ما تكشف لاحقا من وثائق ومقتبسات أحكام تلك المحاكم، تلك الوثائق التي تبعث على السخرية قبل أن تبعث على أي شيء آخر، وألا فما معنى أن يعتقل مجموعة من الفتيان الذين تقل أعمارهم عن ستة عشر عاما حينها (سنة اعتقالهم 1982) أي في بداية حربه مع إيران ثم ينفذ فيهم حكم الإعدام في أيلول من عام 1990 أي بعد دخوله الكويت كما هو مؤرخ في تلك الوثيقة، وكان ذلك بتهمة الانتماء لحزب الدعوة (العميل) كما يشير مقتبس الحكم...!! وكان كل أولئك الفتيان من حيّ سكنيّ واحد هو (حي حطين في المعقل/البصرة) أو قرار الإدانة الرقم 1431/ج/1983 في1/9/1983 الذي ينظر في الدعوة المحالة أليه من رئيس الجمهورية والذي يطلب فيه (أي رئيس الجمهورية...) محاكمة المتهمين وفق المادة156(خيانة الوطن...!!) ترى أي قاضي يمكن أن ينظر إلى تلك القضية وفق أي مادة أخرى غير التي يوجهها صدام أليها...؟ وبالتالي فأن الأحكام مسبقة وما على القاضي سوى التوقيع عليها...!! وإذا استرسلنا في قرار الإدانة هذا فسنجد المحكمة كانت لمجموعة من الشباب الشيوعيين يتهمهم قرار الإدانة بالعمل في صفوف حزب الدعوة...!! (العميل طبعا...!) من الطبيعي أن لا يتحرج أفراد ذلك النظام من هذه المفارقة لأنهم يتصورون أن الموضوع سيبقى في حدود هذه الأوراق فقط وسرية أجهزته المطلقة...!! وأنهم سيبقون مدى الحياة في ظل سلطة (السيد الرئيس) السابق. والشيء نفسه ينطبق على قرار الإدانة الرقم 29/ج/1983 في 18/5/1983 القاضي بإحالة مجموعة من الشيوعيين من رئيس الجمهورية إلى محكمة الثورة يطلب فيها محاكمتهم وفق المواد 175/2 و204/1 من ق.ع التي تقضي بالحكم بالإعدام.. لتحكم بعد ذلك المحكمة بالحكم نفسه على أولئك المغدورين الذي يطلبه (السيد الرئيس) في قرار الإحالة.. أما تهمهم المدونة في ذلك القرار فهي في حالة من الفوضى والالتباس غير المنطقي إلى درجة السخرية...!! فهي تتراوح بين (الإقرار الصريح للمتهمين بالانتماء للحزب الشيوعي العراقي (العميل..) وجمع الاشتراكات الشهرية له..) أو (رفع شعار إسقاط السلطة والتعاون مع أنظمة خائنة...!! وقوى رجعية مجوسية...!!) أية هيئة قانونية تستطيع أن تضع تلك التهم جنب بعضها لتخرج بنتيجة منطقية...؟ هذا هو الوضع القانوني الذي عاشه العراقيون طيلة الخمس والثلاثين سنة التي عاشوها تحت نظام (حزب البعث العربي الاشتراكي) ألا يستحق هذا الحال تهمة جديدة توجه للرئيس المخلوع ونظامه....؟



#قاسم_علوان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- زيارة الى إيران (5) أصفهان حديقة العالم ومدينة التنوع
- العاصمة الثقافية لإيران... أصفهان
- زيارة الى إيران (3) الى الشمال من طهران..
- زيارة الى إيران (2) طهران مدينة مفتوحة
- زيارة الى إيران.... (1) قبل الوصول الى طهران وميدان إنقلاب.. ...
- هل يصدق القاضي رءوف محمد رشيد كذبة برزان...؟
- قصة هذه الرواية
- التهجير الطائفي القسري...
- كيف تصرف مبلغ 200 مليون دينار عراقي في ثلاثة أيام بدون معلم. ...
- عندما أشتعلت الشرارة صبيحة ذلك اليوم الربيعي الجميل
- عاشت فلسطين حرة عربية
- بانتظار الحكومة المقبلة
- فاعلية الاستحقاق الانتخابي والضرورات الأخرى
- الشعر الشعبي العراقي... سيرة
- كافكا وأرسون ويلز في( المحاكمة) سلطة الأدب وسلطة الكتابة
- هل يوحد الأخوة الكورد (الأخوة) الفرقاء العرب...؟
- بونويل رائد السينما السريالية
- لوليتا... الرواية في السينما
- أسطورة شارلي شابلن
- السنما العراقية.. من اين الى أين...؟


المزيد.....




- الرئيسان التركي والألماني يبحثان بأنقرة وقف الحرب على غزة وت ...
- الأمم المتحدة تطالب بتحقيق مستقل حول المقابر الجماعية في مس ...
- مخيمات واحتجاجات واعتقالات.. ماذا يحدث بالجامعات الأميركية؟ ...
- ألمانيا تعتزم استئناف التعاون مع الأونروا
- -طيور الخير- الإماراتية تُنفذ الإسقاط الـ36 لإغاثة سكان غزة ...
- إيران.. حكم بإعدام مغن أيد احتاجات -مهسا أميني-
- نداء من -الأونروا- لجمع 1.2 مليار دولار لغزة والضفة الغربية ...
- متوسط 200 شاحنة يوميا.. الأونروا: تحسن في إيصال المساعدات لغ ...
- -القسام- تنشر فيديو لأسير إسرائيلي يندد بفشل نتنياهو بإستعاد ...
- إيطاليا.. الكشف عن تعرض قاصرين عرب للتعذيب في أحد السجون بمي ...


المزيد.....

- التنمر: من المهم التوقف عن التنمر مبكرًا حتى لا يعاني كل من ... / هيثم الفقى
- محاضرات في الترجمة القانونية / محمد عبد الكريم يوسف
- قراءة في آليات إعادة الإدماج الاجتماعي للمحبوسين وفق الأنظمة ... / سعيد زيوش
- قراءة في كتاب -الروبوتات: نظرة صارمة في ضوء العلوم القانونية ... / محمد أوبالاك
- الغول الاقتصادي المسمى -GAFA- أو الشركات العاملة على دعامات ... / محمد أوبالاك
- أثر الإتجاهات الفكرية في الحقوق السياسية و أصول نظام الحكم ف ... / نجم الدين فارس
- قرار محكمة الانفال - وثيقة قانونيه و تاريخيه و سياسيه / القاضي محمد عريبي والمحامي بهزاد علي ادم
- المعين القضائي في قضاء الأحداث العراقي / اكرم زاده الكوردي
- المعين القضائي في قضاء الأحداث العراقي / أكرم زاده الكوردي
- حكام الكفالة الجزائية دراسة مقارنة بين قانون الأصول المحاكما ... / اكرم زاده الكوردي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث قانونية - قاسم علوان - ... محاكم التفتيش (الخاصة) في زمن (السيد الرئيس) بمناسبة محاكمةالطاغية بجرائم الأنفال ...