أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - الطاهر المعز - تونس- تَبَعِيّة اقتصادية مُسْتَمِرّة















المزيد.....


تونس- تَبَعِيّة اقتصادية مُسْتَمِرّة


الطاهر المعز

الحوار المتمدن-العدد: 7211 - 2022 / 4 / 5 - 03:13
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


تونس، نموذج التّبَعية الغذائية

لمّا حكم الإخوان المسلمون (حزب النّهضة) البلاد، بعد انتفاضةٍ لم يُشاركوا بها، بل قاطَعُوها، أَظْهَرُوا لهفةً استثنائية وتكالُبًا على السُّلْطة، وتجاوبًا كبيرًا مع الصهيونية (تصريحات ومواقف راشد الغنوشي في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى - تشرين الثاني/نوفمبر 2011 ) ومع القوى الإمبريالية التي واصَلت نهب ثروات البلاد، وحصَل الإخوان المسلمون على نصيبهم من الشركات والمُؤسّسات التي تمت مُصادَرَتُها من المُقرّبين من سُلطة زين العابدين بن علي، واستخدمت حُكُوماتهم المتتالية مختلف أساليب القَمع في سليانة (الرّشّ، أو حٌبيْبات الرصاص) ورذاذ الفلفل وقَمعوا بوحشية نادرة احتجاجات ذوي الشهداء ومُصابي الإنتفاضة (التاسع من نيسان/ابريل 2012 في ذكرى عيد الشُّهَداء) وقَمَعوا النقابيين وهاجموا وخَرَّبُوا المحلاّت النّقابية واتّهموا النقابيين بالعمالة وبالخيانة، وهيمنوا على أجهزة الأمن والقضاء ونَشَرُوا وشَرْعَنُوا الفساد والرّشْوَة (قانون إعفاء الفاسدين واللصوص من الملاحقة القضائية ومن العقاب)، كما أغرقوا البلاد بالدّيُون التي نهبوا جزءًا هامًّا منها، بعنوان "تعويضات" على ما فاتهم خلال فترة الحُكْم السابقة للإنتفاضة، وتشغيل من لا كفاءة لهم في الوظيفة العمومية، وتواصلت عمليات خَصْخَصَة القطاع العام التي بدأت قبل أربعة عُقُود، وما إلى ذلك من الأسباب التي جعلت آلاف المُواطنين يُعَبِّرُون عن سُرُورِهم عند إزاحة الإخوان المسلمين وائتلافهم الحاكم، من السُّلْطة التنفيذية والتّشريعية، يوم 25 تموز/يوليو 2021، وعبّر آلاف المواطنين عن تفاؤلِهم وأملهم بحدوث تغييرات جوهرية بالبلاد، في مجالات السياسة والإقتصاد والتّعليم والقضاء وفي حياة المواطنين.
ما الحصيلة؟

لقطات من مسار 2011/ 2022
بعد أكثر من عشر سنوات من الإنتفاضة، ومن حُكم ائتلاف الإخوان المسلمين والدّساترة ( اتباع بورقيبة وبن علي) ورجال الأعمال، بقي التّغْيير سَطْحِيًّا وشكليا ولم تتغير المنظومة الإقتصادية والإجتماعية، بل زاد غضب المواطنين الكادحين والأُجَراء والفُقراء الذين يتتحمّلون العبء الأكبر من الأزمة التي فاقمتها الدُّيُون الخارجية، فالحكومات المتتالية تلهث وراء الدّائنين للحصول على العملات الأجنبية، ليس من أجل استثمارها في مشاريع مُنتجة، بل من أجل تسديد الدُّيُون السابقة، وسدّ عجز الميزانية، إذ يمثل الاقتصاد تحديًا جديدًا للسلطات التونسية، التي اتبعت نفس السياسة الاقتصادية النيوليبرالية منذ العام 1970، وخصوصًا منذ 1985، فبقيت البلاد في "حالة طوارئ اقتصادية" مستمرة، مع عجز كبير في الميزان التجاري، وعجز عام ما انفكّ يتزايد، كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، بالتوازي مع ارتفاع معدل البطالة من سنة إلى أُخرى، ما يُهَدّد بالإنفجار الإجتماعي، واستمرار أسباب الإنتفاضة التي انطلقت بنهاية سنة 2010، من مناطق محرومة وبمطالب اقتصادية واجتماعية، وبعد مرور أكثر من عِقْد على الإنتفاضة، لا يتجاوز الأجر الأدنى 150 دولارا، مقابل 48 ساعة عمل أُسْبُوعيأ، بعد الانخفاض الحاد في قيمة الدينار التونسي، مما يُهدّد، ب"انتفاضة خبز جديدة"، مماثلة لتلك التي حدثت انطلاقا من الجنوب الغربي بنهاية سنة 1983 وبلغت العاصمة بداية سنة 1984، لمّا اعترض السكان بعنف على الزيادة في أسعار الخبز والمواد الغذائية، التي أمر بها صندوق النقد الدولي...
اعتبر الإخوان المسلمون، منذ 2012، ثروة البلاد غنيمة يتقاسمونها مع حلفائهم، ووظفت جماعة الإخوان المسلمين ما يقرب من 75 ألفًا من مناضليها وأنصارها، ومن أفراد عائلاتهم أو أقاربهم، في الوظيفة العمومية، دون احترام اللوائح والشُّرُوط القانونية، كالسن، والمستوى التعليمي، والمؤهلات واجتياز المناظرات الوطنية إلخ، فزاد عدد موظفي القطاع العام (الوظائف الحكومية ومؤسسات القطاع العام) بما يقرب من 190 ألف في أقل من خمس سنوات، في حين أن قروض صندوق النقد الدولي مشروطة بتخفيض عدد موظفي القطاع العام بنحو عشرة آلاف سنويا، وعدم تعويض المُتقاعدين، مع تجميد الرواتب، بل وخفْضِ حجمها في العديد من القطاعات (باستثناء وظائف القَمْع كالشرطة والجيش)، وتُقر الوثائق الحكومية للتحالف الحاكم (الدّساترة من مخلفات الحكم السابق والإخوان المسلمون ورجال الأعمال الفاسدين) بأن 18% فقط من السكان (الأُجراء) يتحملون مجموع الإيرادات الجبائية للدولة، أما أصحاب المهن الحرة (الأطباء، والمحامون، والمهندسون العاملون لحسابهم الخاص، والتجار، وأصحاب مكاتب الإستشارات والمُحاسبة، وما إلى ذلك) فيستفيدون من نظام الضريبة التّقديرية الذي يسمح لهم بدفع ضريبة ثابتة على المبيعات أو على الإيرادات يُقدّرُونها بأنفُسِهم (بدون أي رقابة أو متابعة) والإعفاء من ضريبة الدخل، ما يُعْتَبَرُ تهربا ضريبيا قانونيا وعَلَنِيّا، وبالتالي، فإن ثلثي المحامين وأطباء القطاع الخاص لا يدفعون أي مبلغ من الضرائب، رغم العقارات والسيارات الفخمة التي يمتلكونها ورغم مُستوى إنفاقهم المُرتفع، بحسب جمعيات الدفاع عن الخدمة العامة، في حين يعاني الفقراء من حيْف الضرائب غير المباشرة، مثل ضريبة القيمة المضافة أو ضرائب الخدمات، والطوابع الضريبية (استخراج الوثائق الرّسمية)، وما إلى ذلك. دفعت البطالة عشرات آلاف من الأشخاص إلى العمل في القطاع غير الرسمي، الذي تقدر قيمته بنحو 40% من الناتج المحلي الإجمالي لتونس، وهو قطاع "مُعْفَى من الضرائب"، بما أنه اقتصاد الظّل، وغير مُصَرّح به، حيث يُعاني العاملون به من فساد أعوان الدّولة (الشرطة خصوصًا) ومطالبتهم بتسديد رشاوى وعُمولات، وهم محرومون من التأمين المهني والإجتماعي، ومن الرعاية الصحية ومن التّقاعد...
أقَرَّ أعضاء البرلمان التونسي جميع التدابير التي طلبها صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، والدّائنون، مثل الشراكة بين القطاعين العام والخاص (إسناد مهام الخدمة العامة إلى الشركات الخاصة)، و"إصلاح" القطاع المالي والمصرفي أو مراجعة مجلة الاستثمار بحجة "تشجيع مناخ الأعمال" و "تبسيط الإجراءات الإدارية للمستثمرين ".
نصّت خطة التنمية 2016-2020 على حوالي خمسين مشروعًا رئيسيًا للأعمال العامة أو الخاصة أو المختلطة، مثل توسيع ميناء رادس، ما يُكلّف حوالي 120 مليار دينار (52 مليار دولار، عند إقرار خطة التنمية)، تُمَوِّلُ ميزانية الدّولة 40% منها، ويُمَوّل القطاع الخاص 60%، وهي خطّة غير واقعية، فضلا عن المكانة الكبيرة التي أولَتْها هذه المُخَطَّطات للقطاع الخاص الذي لا يهتم سوى بارتفاع مُستوى الأرباح، وتَتَأَكّدُ عدم واقعية الخطة بمُغادرة نحو ستمائة شركة أجنبية البلاد، بين نهاية 2010 و 2016، ما يُؤشِّرُ على استهتار الإخوان المسلمين بشؤون البلاد، وعلى عَدَم جِدِّيّة مخططات الإخوان المسلمين وحلفائهم من الدستوريين ورجال الأعمال الفاسدين.
أرْسَت جماعة الإخوان المسلمين (حزب النّهضة)، بمساعدة التكنوقراطيين الدّستوريين، منظومة فساد إداري، يسمح بتحويل وجهة الأموال المخصصة للمشاريع، وأَوْرَدَ النقابيون في قطاع الصحة العمومية مثالاً واحدًا يتمثل في حصول وزارة الصّحّة من الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي (FADES) على قرضَ بقيمة مليونَيْ دولار، سنة 2012، لشراء سيارات إسعاف تحتاجها إحدى المناطق الفقيرة بالبلاد، فغابت الأموال ولم يتم، شراء سيارات الإسعاف، بعد انقضاء ثماني سنوات، رغم الحاجة إليها.
يرفض نواب ووزراء الإخوان المسلمين وحلفاؤهم، الذين يُشكّلون الأغلبية في البرلمان، تعزيز الترسانة القانونية لاقتلاع وتجريم ومعاقبة الفساد وتهريب الأموال والتهرب الضريبي، بل لا يوجد حتى تعريف قانوني للفساد، ما يُعْتَبَرُ تحريضا على السرقة والفساد، بل خفضت الحكومات المتعاقبة نصيب الأثرياء والقطاع الخاص، وزادت نصيب الموظفين والمستهلكين من الإيرادات الضريبية للدولة، التي لجأت إلى الاقتراض الخارجي في عدة مناسبات، مما أدى إلى زيادة الدَّيْن العام من نسبة تقل عن 40% سنة 2010 إلى 63%، بعد خمس سنوات وإلى 91% بعد عشر سنوات من الإنتفاضة، وقد تَفُوُق قريبًا نسبة 100% من الناتج الإجمالي المَحَلِّي.

اتفاقية "أليكا"، تكريس للتبعية الغذائية
"أليكا" هي الأحرف الأولى (باللاتينية) لاتفاقية الشراكة الشاملة والمُعَمَّقَة بين تونس والإتحاد الأوروبي، وهي مُشابهة لاتفاقيات أوروبا مع الجزائر (التي رفضت بعض بنودها) والمغرب وبلدان عربية أخرى، وتُشكل هذه الإتفاقية تكريسا للتبعية وللسياسات الإستعمارية الأوروبية، وتُهدّد الشركات الصغيرة، كما تُهَدّد حياة صغار العاملين بالزراعة الذين يُمثلون نحو ثمانين بالمائة من المُنتجين الفِلاحيين بتونس، ومن المخاطر الهامة، يمكن ذِكْر المعايير التي يفرضها الإتحاد الأوروبي والتي تستجيب لشروط الإنتاج في أوروبا، ويعسُرُ تطبيقها من قِبَل صغار المُزارعين ومُرَبِّي الحيوانات ومُنتجي الألبان ومُشتقاتها في تونس، ما يجعل تصدير الإنتاج التونسي إلى أوروبا أمرًا شبه مُستحيل، وما يجعل من تونس أو المغرب أو مصر أو الأردن، سوقًا مفتوحة لإنتاج الشركات الأوروبية العابرة للقارات ولكبار المنتجين وملاك الأراضي المَحَلِّيِّين الذين يتحولون إلى وُكَلاء للشركات الأوروبية التي يدعمها الإتحاد الأوروبي، في حين تَحْظر الإتفاقيات ويحظر الدّائنون دعم المزارعين والإنتاج الفلاحي في تونس...
لهذه الأسباب، أثارت المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي (التي بدأت منذ 1995) لإنشاء منطقة تجارة حرة في ما سُمِّي بالتبادل المُعَمَّق والشّامل، مخاوف بشأن مستقبل تونس الاقتصادي للبلاد، ولا بشأن مستقبل الفلاحة وصغار المزارعين، دعامة السيادة الغذائية، ولا يتردّد العديد من المُواطنين في وصف مشروع الإتفاقية بإحد مظاهر السياسات الإستعمارية الجديدة، لأن محتوى الإتفاقية يُجْبِرُ البلاد على فتح أسواقها أمام مُنتجين من كبار الرأسماليين المدعومين من الإتحاد الأوروبي، والقادرين على المنافسة، بل والقضاء على الإنتاج المَحَلِّي...

مُؤَشِّرات الوضع بتونس
إن إزاحة الإخوان المُسلمين من السّلطة لم تَضَعْ حَدًّا لنفوذهم الذي بدأُوا بناء أُسُسِهُ منذ عُقُود، وبالأخص خلال فترة حُكْمهم للبلاد، من 2012 إلى 2021، ولم تَضَعْ حَدًّا للهيمنة الإمبريالية، الأمريكية والأوروبية، على ثروات البلاد وعلى قراراتها السياسية وتوجُّهاتها الإقتصادية، وتجلّت التّبَعِيّة من خلال قانون الميزانية لسنة 2022، الذي تَضَمّن تطبيقًا حَرْفِيًّا لشروط (أوامر؟) صندوق النّقد الدّولي والدّائنين الآخرين، من تجميد الرواتب، رغم زيادة الأسعار المُقَرَّرَة، وإلغاء دعم السلع والخدمات الأساسية وخصخصة ما تَبَقّى من القطاع العام، وما إلى ذلك من مظاهر سياسات التّبَعِية التي انتهجها النّظام التونسي، وبالأخص منذ خمسة عُقُود...
بعد قُرابة تسعة أشْهُرٍ من إزاحة الإخوان المسلمين، وبعد أكثر من إحدى عشر سنة من انتفاضة 2010/2011، يتواصل تَدَهْوُرُ سعر صرف العُمْلَة (الدّينار)، ما رَفَعَ أسعار السّلع المُسْتَوْرَدَة، وما رفَعَ نسبة التّضخّم إلى 7,6% بنهاية شهر كانون الثاني/يناير 2022، بحسب المعهد الوطني للإحصاء، وهو رقم لا يعكس حقيقة الأسعار، لأنه يُهْمل أسعار العديد من السلع الأكثر استهلاكًا، وفي الفترة التي تلت انطلاق الحرب الروسية/الأوكرانية، اشتكى بعض أصحاب المخابز من نقص الطّحين (الدّقيق)، وأغلقت بعض المخابز، وتداول بعض التونسيين مقاطع مُصَوّرة من ارتفاع أسعار السّلع الغذائية الأساسية، أو فقدانها من المتاجر (الأرز والزيت والسّكّر والطّحين...)، وأَثَارَ اختفاء (أو شُحّ) بعض السلع الغذائية الأساسية، قبل حلول شهر رمضان، مخاوف المواطنين، رغم الخطاب الحُكُومي المُطَمْئِن، والذي يَدّعِي وجودَ مخزونات كافية لفترة ثلاثة أشْهُر، ويُلْقِي بالمسؤولية على المُحْتَكِرِين والمُضارِبين، لكن أقَرّت بعض المؤسسات الرسمية، منها المعهد الوطني للإحصاء، بارتفاع أسعار الإنتاج المحلي، بنسب كبيرة، قبل إعلان الحرب، فارتفعت أسعار البيض بنسبة 24,2% وأسعار لحم الدواجن بنسبة 21,5% وأسعار زيت الزيتون بنسبة 21,7% وأسعار الفواكه بنسبة 17,9% وأسعار الأسماك الطازجة بنسبة 9,2%، وهي سلع محلّية، يكثر استهلاكها (إلى جانب الحليب وبعض السلع الأخرى) خلال شهر رمضان...
لم تعمل الأنظمة العربية، ومن ضمنها تونس، على تكامل اقتصادها، ولا على تحقيق الأمن الغذائي، فضلا عن السيادة الغذائية، بل كبّل النظامُ الحاكمُ في تونس ( بما في ذلك حكومة ما بعد 25 تموز/يوليو 2021) البلادَ بالدّيون وزادت خُطُورة التبعية الغذائية للخارج، ففي مصر والمغرب وتونس، على سبيل المثال، أصبح القطاع الفلاحي مُرتبطًا بالسوق العالمية، وباعت الحكومة التونسية، منذ عقد الثمانينيات من القرن العشرين، الأراضي الزراعية أو منحتها للأثرياء المُقرّبين من السّلطة، وفرضت الحكومة التونسية (وكذلك المغربية)، منذ قرابة خمسة عُقُود، على الفلاّحين إنتاج المحاصيل المُوجّهة إلى التّصدير (التّمور وزيت الزيتون والحمضيات وبعض الفواكه والخُضار المُنْتَجَة خارج فُصُولها المُعْتادة...)، لتلبية طلب السّوق الأوروبية، بدل تلبية حاجيات المواطنين، وفرضت زراعة محاصيل أخرى تنهك التّربة وتستهلك الكثير من المياه، ما أدّى إلى القضاء على البُذُور والزراعات التقليدية المحلية، ويتعجب التونسيون (وهم على صواب) من زراعة الفراولة والطماطم (وهي كثيرة الإستهلاك للمياه)، بالمناطق الصحراوية، في فصل الشتاء، في دفئيات بلاستيكية، لاستغلال الشمس المُشرقة بشكل مُستَمِرّ، تلبيةً لِطَلَبِ المُستهلكين الأوروبيين، بتشجيع من صندوق النقد الدّولي والبنك العالمي، وإهمال زراعة الحبوب والبقول ومنتجات أساسية أخرى يستهلكها أصحاب البلاد...
شهدت البلاد، منذ بداية سنة 2019، احتجاجات صغار الفلاحين، من مُزارعين ومُرَبِّي الحيوانات، ومُنتِجِي الحليب، بسبب إهمال الدّولة لقطاع الفلاحة، ورعايتها للإحتكاريين، وخفض الدّعم للإنتاج، وارتفاع سعر البُذُور والأسمدة والأعلاف، ويأتي الإهمال استجابةً لأوامر صندوق النقد الدولي والدّائنين الأوروبيين، ونتيجة لذلك تشهد البلاد، منذ بداية العام 2022، نقصًا غير مسبوق في المنتجات الغذائية الأساسية وزيادة في الأسعار مع اقتراب شهر رمضان، فارتفعت أسعار الخبز غير المدعوم بنسبة 25% في المتوسط، وقد يصبح الوضع متفجرًا مع نقص منتجات القمح، بسبب الحرب في أوكرانيا.
في نهاية شهر آذار/مارس 2022، قبل حلول شهر رمضان، كانت بعض أرفف المحلاّت التجارية (سوبر ماركت) فارغة، فهناك نقص في الدقيق والأرز والسميد والسكر والبيض، وكذلك الخُبز الذي يُشكّل أساسًا للنظام الغذائي للتونسيين، وخاصة الفُقراء منهم، لكن أصبح العثور على الخبز المدعوم عسيرًا، وامتدت طوابير الانتظار أمام المخابز، في وضع يُشبه البلدان التي تعيش حالة حرب (سوريا ، اليمن ، ليبيا ، إلخ)، ويُعلّل الخَبّازون ذلك بانخفاض كميات الطّحين التي يحصلون عليها، بنسبة 50% من الكمية المطلوبة من الدقيق المدعوم، ما جعل كميات الخُبز تنفذ في الساعة التاسعة صباحًا، وتداولت مواقع التواصل "الإجتماعي" مقاطع من أشرطة فيديو لمشاهد تدافُع وعراك أمام المخابز، ومشاهد نهب شاحنات مُحَمَّلَة بالطحين أو السميد...
يعتمد النظام الغذائي بتونس على الإستيراد، ما يجعله ينطوي على مخاطر هيكلية، ومع ندرة الغذاء، ترتفع الأسعار، إذ تستورد البلاد نصف احتياجاتها من القمح القاسي (الصّلب) لإنتاج المكرونة والسميد وغيرها من المنتجات المصنعة وتستورد ما يقرب من 97% من احتياجاتها من القمح اللّيّن لصنع الخبز، نصفها مستورد من أوكرانيا، وفقًا للأرقام الصادرة عن الديوان التونسي للحبوب، ما زاد من المشاكل الاقتصادية والمالية للدولة التونسية وللشعب التونسي، وقد يؤدي الوضع إلى أزمة غذائية وإلى تفجّر المناخ الاجتماعي، وفقًا للاتحاد العام التونسي للشغل، ولا يختلف هذا الموقف كثيرًا عن توقُّعات برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة ...
منذ كانون الأول/ديسمبر 2019، وبسبب افتقار الحكومة إلى المصداقية المالية، اضطرت الدولة التونسية إلى الدفع نقدًا لكل وارداتها، ولم يعد بإمكانها الاستفادة من شروط الدفع المُؤَجّل، وأدّى شُحّ السيولة إلى تأجيل عملية تفريغ البضائع في الموانئ، بالتزامن مع ارتفاع أسعار القمح بنسبة 40% بين 15 شباط/فبراير و 7 آذار/مارس 2022 في الأسواق العالمية، واضطر ديوان الحبوب إلى التفاوض مع المصارف الخاصة للحصول على قروض بمعدلات فائدة مرتفعة للغاية، لتفريغ القمح الذي تنقله السّفن، والذي يمكن أن يبقى من خمسة إلى ستة أسابيع في البحر، ما يُؤَدِّي إلى زيادة التكاليف بنحو عشرين ألف دولارا في اليوم الواحد، بالإضافة إلى مخاطر فساد السّلع وانتهاء صلاحية المواد الغذائية قبل تفريغها، مما يشكل خسارة إضافية، وفشل ديوان الحبوب في الحادي عشر من آذار/مارس 2022، في إتمام صفقة عطاءات (مُناقَصَة) لاستيراد القمح في أيار/مايو 2022، بسبب نقص الموارد المالية، لأن المُوَرِّدِين يَشْتَرِطون الدفع الفوري، بدون تأجيل...
من جهتها، أعلنت الحكومة أن لديها احتياطيات كافية من القمح والسكر والشاي والأرز حتى شهر أيار/مايو أو حزيران/يونيو 2022، لكن لاحظ المواطنون أن المتاجر الكبرى تقنِّنُ المبيعات، منذ أسابيع عديدة، بما لا يزيد عن 2 كيلوغرام من السكر والأرز والدقيق لكل زبون، كما بدأت المخابز في تقنين الخبز، ويمكن أن يستمر هذا التقنين لفترة طويلة، ما جعل وزارة الصحة تستأنف نصائحها "الغذائية-السياسية"، لتشجيع السكان على الحد من استهلاك السكر والملح والأطعمة المقلية، لأنها سامة ... ". هذه "النصيحة" مُوَجَّهَة إلى ملايين التونسيين الذين يجدون صعوبات متزايدة في توفير الغذاء لهم ولأُسَرِهِم، وموجّهة إلى غالبية التونسيين الذين يجدون صعوبة في شراء اللحوم والأسماك، وتريد الحكومة حرمانهم من الخبز والسكر والأرز.

خاتمة:
أُعَدّت وزارة المالية التونسية ميزانية 2022، قبل ارتفاع أسعار المحروقات وأسعار الشّحن وأسعار الحبوب والمواد الغذائية، ومع ذلك تميزت هذه الميزانية بعجز حَتّمَ على الحكومة البحث عن موارد إضافية لتغطية ذلك العجز، ولجأت إلى الحل التقليدي، والإقتراض من صندوق النقد الدّولي، والأسواق المالية، لكن الأوضاع المالية زادت تأزُّمًا، خلال سنة 2022، قبل وبعد انطلاق الحرب الروسية الأوكرانية، وأصبحت البلاد مُهَدّدة بالعجز عن الوفاء بالتزاماتها المالية للدّائنين، فضلاً عن توفير الغذاء والدّواء والطّاقة للمواطنين، وتُعاني الحكومة الحالية من آثار السياسات التي انتهجها الإخوان المسلمون وحلفاؤهم، منها توظيف عشرات الآلاف من أفراد تنظيم الإخوان المسلمين وأُسَرِهم وأنصارهم، وإنفاق مبالغ القُروض على رواتبهم، وعلى "التعويضات" المُشِطّة التي حصلوا عليها، بدل الإنفاق على برامج التنمية والتّشغيل... لكن الحكومة الحالية مَسْؤُولة بنفس الدّرَجَة، فهي لم تُقدّم أي برنامج أو أي بدائل أو أي مشاريع بديلة لسياسات التّبَعِيّة السّائدة منذ قرابة سبعة عُقُود، ما لن يُؤَدِّيَ سوى إلى مزيد من التّرَدِّي الإقتصادي.
يمكن العمل على تغيير العادات الغذائية، والتخفيض من استهلاك القمح اللَّيِّن، المُسْتَوْرَد (من أوكرانيا، مثلاً) بالعملات الأجنبية، لصُنع الخُبز "الأبيض"، وتشجيع استهلاك الغذاء الذي يُسْتَخْرَجُ من القمح الصلب من إنتاج مَحَلِّي، لكن لم تُظْهر الحكومات السابقة ولا الحكومة الحالية أي اتّجاه نحو الإستقلالية الإقتصادية والغذائية، أو الاستثمار في تصنيع الأدوية، أو في الطاقة الشمسية لإنتاج الكهرباء، بدل توريد النفط، أو البحث عن حُلُول لمسائل أساسية مثل ارتفاع نسبة البطالة والفَقْر ورداءة برامج التّعليم، أو التخطيط لمستقبل البلاد والأجيال اللاحقة...
تعمل السلطات التونسية، قبل وبعد انتفاضة 2010/2011، على إقصاء المُزارعين والمواطنين من النقاش بشأن مُستقبل الفلاحة وقضايا الغذاء والمياه والرّعي وما إلى ذلك من قضايا أساسية تتعلق بحياة وغذاء المواطن وبحياة وغذاء الأجيال اللاحقة، ولم تُبْدِ الحكومة الحالية (قَيْس سعَيِّد) أي استعداد لمراجعة السياسات القائمة على الإقتراض الخارجي وعلى التّبَعِيّة للقوى الإمبريالية، وتتصرف الحكومة الحالية كما تصرفت حكومة "الهادي نويرة" (من 1970 إلى 1980) التي عَمّقت تبعية الإقتصاد التونسي، وبدأت إغراق البلاد بالدُّيُون والقضاء على القطاعات المنتجة، مقابل توجيه الإنتاج نحو التصدير، وفتح البلاد على مصراعيها للسياحة الرخيصة والمُدَمِّرة لموارد البلاد، وقد تُؤَدّي سياسات الحكومة الحالية إلى نفس النتائج وإلى التصادم مع الطبقة العاملة، ومع الإتحاد العام التونسي للشغل (اتحاد نقابات الأُجَراء) والعديد من فئات المُجتمع، وما الإضرابات الأخيرة لأُجَراء بعض القطاعات سوى أحد مؤشّرات تَوَتُّر المناخ الإجتماعي، وافتقاد الحكومة الحالية لبديل تقدّمي يخدم مصلحة الأغلبية، ويُلَبِّي مطالب المُنتَفِضِين في كانون الأول/ديسمبر 2010 و كانون الثاني/يناير 2011...
كانت السياسة الزراعية كارثية لأكثر من خمسين عامًا، ولا تزال هذه السياسية متواصلة، حيث فقدت البلاد، بين عامي 2021 و 2022، حوالي أربعمائة ألف هكتار من الأراضي المخصصة لزراعة الحبوب، أو نحو 28% من المساحة الإجمالية، وفاقم الدّائنون، ومنهم صندوق النقد الدولي هذه الكارثة، بسبب القروض مشروطة بإلغاء دعم السلع الغذائية الأساسية، بينما تقتضي الضّرُورَةُ دعم صغار المنتجين الذين ينظمون أنفسهم في تعاونيات للإنتاج والتّسْويق، بهدف التفكيك التّدريجي للمجموعات (الكارتيلات) التي تحتكر قطاع الأغذية في البلاد، وسيكون من الضروري توزيع الأرض المملوكة للدّولة، أو المُهْمَلَة، على صغار المنتجين الزراعيين، وتشجيعهم على المحافظة على البذور المحلية وتحسينها، وتدريبهم على استخدام المياه والموارد الطبيعية بشكل أفضل، بهدف تحسين النظام الغذائي للمواطنين، ولتحقيق السيادة الغذائية والاستقلال الاقتصادي، فمن دور الدولة تشجيع الإنتاج المحلي لتحقيق السيادة الغذائية، لأن الدولة المعتمدة على توريد الغذاء من الخارج هي دولة فاقدة لسيادتها السياسية والاقتصادية.
يتمثل مفهوم السيادة الغذائية في تحقيق الاستقلالية تُجاه أسواق الغذاء العالمية، ومن ثم الحاجة إلى إنتاج مواد غذائية أساسية صحية وكافية وذات نوعية جيدة للأسواق المحلية، مع حماية الموارد الطبيعية، وحقوق الأجيال القادمة، وفقًا لتعريف منظمة "Via Campesina"، وهي منظمة فلاحية تدافع عن مبدأ وضع الأرض والمياه وجميع الموارد الطبيعية في خدمة السكان وليس في خدمة الرأسماليين الذين يحولون الطبيعة إلى استثمار تجاري.



#الطاهر_المعز (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رأس المال مُضِرٌّ بالصّحّة
- ثلاثة عُقُود من الحُرُوب الأمريكية المثستمرة
- السجون الأمريكية، اضطهاد عرقي واستغلال طبقي
- أسعار الغذاء المُلتهبة
- الهيمنة عبر الإقتصاد- نموذج فلسطين
- الحرب مُتعدّدة الأشكال
- السيادة الغذائية العربية على ضوء حرب أوكرانيا
- السياق التاريخي لحرب أوكرانيا
- ضرورة المطالبة بإلغاء الدّيون
- مجموعة مقالات عن الحرب الروسية الأوكرانية
- عن الحرب في أوكرانيا
- دروس وعِبَر من أمريكا الجنوبية
- نَبْشٌ في الذّاكرة
- السيادة الغذائية، خطوة على طريق الإستقلال الحقيقي
- الدُّيُون العُمُومية أغلال تُكبل الوطن والمواطن
- احتكار إنتاج الغذاء
- الديمقراطية الأمريكية، من محاربة الشيوعية إلى -مكافحة الإرها ...
- تونس، بعيدًا عن الحَماسة والردود العاطفية
- طبول الحرب في أوراسيا
- بعض المحطات في مسار الحركة النسائية


المزيد.....




- اختيار أعضاء هيئة المحلفين في محاكمة ترامب في نيويورك
- الاتحاد الأوروبي يعاقب برشلونة بسبب تصرفات -عنصرية- من جماهي ...
- الهند وانتخابات المليار: مودي يعزز مكانه بدعمه المطلق للقومي ...
- حداد وطني في كينيا إثر مقتل قائد جيش البلاد في حادث تحطم مرو ...
- جهود لا تنضب من أجل مساعدة أوكرانيا داخل حلف الأطلسي
- تأهل ليفركوزن وأتالانتا وروما ومارسيليا لنصف نهائي يوروبا لي ...
- الولايات المتحدة تفرض قيودا على تنقل وزير الخارجية الإيراني ...
- محتال يشتري بيتزا للجنود الإسرائيليين ويجمع تبرعات مالية بنص ...
- نيبينزيا: باستخدامها للفيتو واشنطن أظهرت موقفها الحقيقي تجاه ...
- نتنياهو لكبار مسؤولي الموساد والشاباك: الخلاف الداخلي يجب يخ ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - الطاهر المعز - تونس- تَبَعِيّة اقتصادية مُسْتَمِرّة