الحق اقول لكم اننى حين استلمت بالبريد الالكتروني مقالة الكاتبة اميرة بت شموئيل "علماء ام عملاء" تطلب نشرها في موقع السيدة العراقية اصبت بشئ من الحزن والاسى وكنت اتمنى ان لا اقرأ ابدا في اى من مواقع الانترنيت حول هذا الموضوع الشائك والمعقد وان يمتنع البعض عن النظر اليه بهذه السهولة التى تصل الى حد الفجاجة والتنكيل بفئة من شريحة المجتمع العراقي.
لكنى تجاوزت مشاعرى الشخصية ونشرت المقالة عملا بحرية النشر لاى كاتبة عراقية مع ملاحظة واحدة بانها مقالة عاطفية وغير علمية لم تنظر الى الموضوع نظرة واقعية. ومع عدم اتفاقى مع وجهة نظر الكاتبة فقد منحتها العذر لانها ليست من شريحة العلماء الذين عانوا الامرين خلال 35 عاما. وتحديدا منذ عام 1970 حين اصبح صدام حسين وكان انذاك نائب لما يسمى مجلس قيادة الثورة المسؤول الاول عن مجموعة من مراكز البحث العلمي ومن ضمنها مؤسسة الطاقة الذرية حيث تم اخضاع كافة رجال البحث العلمى للفرز والاستدعاء والمراقبة السرية الدقيقة ولا اود ذكر اسماء ذلك الرعيل الاول الذى اودع مديرية الامن العامة ليتم استجوابه على يد ناظم كزار .
والحقيقة التى غابت عن بال الكاتبة الفاضلة ان اشد الذين يعانون تحت الانظمة الديكتاتورية او الارهابية هم رجال العلم والادب والفن بالدرجة الاولى فهولاء يختلفون عن غيرهم وهم يختلفون فيما بينهم ايضا . اختلافهم عن غيرهم هو حاجتهم الى البيئة التى تساعدهم على مواصلة الابداع والعطاء فهم ليسوا مثل شريحة التجار او الموظفين العادين او رجال الجيش لان عطاءهم يكون عطاء للجميع قد يتداوله الجميع ويعمل به فهم يختلفون عن الطبيب الذى يعالج مريضا او عدد من المرضى وهم يختلفون عن مقاول البناء الذى قد يشيد دارا او عشرة وهم يختلفون عن معلم يدرس مجموعة طلاب في صف دراسى.
فقد يكون لاختراع عالم نتائج سلبية او ايجابية على مجموعة اكبر من البشر وقد يكون لمقال او قصة او قصيدة لشاعر اثرا كبيرا في سلوك العديد من الناس ورد فعل عنيف ضد السلطة او ضد مشاعر الناس وكذلك يكون وقع اغنية لفنان تلامس عقول او ارواح مجموعة اكبر .
ويختلفون فيما بينهم فكم من عالم ومهندس تستطيع السلطة اى كانت من تغيبه وراء المجهول ولا مواطن يعرف ذلك وقد تتردد السلطة في اجراءتها ازاء اديب مشهور او مطرب معروف . واذا ابعد موظف من عمله فقد يستطيع العمل سائق سيارة او صاحب محل او مهنة ما ولكن ماذا يفعل الفنان او الاديب والعالم؟ هل يستطيع عالم فيزياء ان يفتح مختبرا له بعد ابعاده من عمله ؟؟ ان ادق تشبيه للعلماء والعاملين معهم انهم مثل السمك في الماء حالما تبعده عن محيطه يبدا بالاختناق والموت لان طاقة الموهبة العلمية هي طاقة داخلية متوهجة تبحث عن الجديد والمنطقي والمثبت.
ولهذا في عصر صدام اصاب العلماء والادباء الفقر المادي في حين اعتاش بعض مرتزقة الفن والطرب على فتات النظام ومشاركته الاعمال التجارية. ووضع العلماء في مجمعات سكنية معزولة عن اقرب اقرباءهم.
لست مع موجة الكتاب الذين راحوا يهاجمون كل جانب من جوانب العراقيين فبعد ان شتموا المعارضين السياسين والاميركيين والفرنسيين والالمان والروس استداروا لشتم الفنانين والادباء والعلماء العراقيين والرياضيين ان هذا التوجه يعنى اننا لن نميز بين امور كثيرة واننا نخلط الاوراق بشكل بائس ولا حاجة لان يدلوا كل بدلوه في كل قضية بعيدة عن اختصاصه ومعرفته وامانته العلمية والتاريخية للحقائق والوقائع معا لهذا احرقت مرتزقة صدام المبانى والوثائق والسجلات لطمس الكثير من الادلة والشواهد.
لو اننا حرضنا وهاجمنا كل اديب وعالم وفنان غافلين الحقيقة ان غالبية الشعب العراقي هي ضحية مباشرة وغير مباشرة لتعسف النظام في عصر صدام المخلوع فالنظام كما يقول الاستاذ عزيز الحاج ليس في شخص صدام فقط انما هي كل الوسائل التى استخدمها النظام الجائر لاختراق عقل المواطن وروحه وسلبه حقه وادواته في التعبير عما في ضميره ووعيه وطاقاته الابداعية الا فيما يتعلق بخدمة اهداف ذلك النظام البغيض.
ان احترام الثروات الوطنية من طاقات وابداعات والحرص على اعادة استثمارها بالشكل الامثل مهمة عسيرة لكنها مطلوبة وينبغى ان نكون حريصين عليها كما نحرص على دولارات النفط المفقودة رغم ان هذه يمكن تعويضها خلال فترة زمنية لكننا سوف نحتاج الى زمن اطول لتنشئة واعداد جيل من العلماء والادباء والفنانين وان نردم الفجوة الى احدثتها الحروب والاعدامات والتهجير والا فان افراغ المجتمع من هذه الشرائح تحت مختلف الاسباب والذرائع معناه تسليم عقولنا للاجانب وجعلهم السادة المطلقين في التخطيط والبناء والتفكير بدلا منا وهذا منطق خطير ينبغى ان لا نسير له ولا نجعل الاخرين يدفعوننا للوصول اليه.
وخلال عهد صدام جرى التركيز على فئة العلماء العسكريين حين سيق للخدمة العسكرية في سنوات الحرب بين النظامين الصدامى والخميني خيرة الطاقات الهندسية الشابة لترسل بعد ذلك الى مشاريع التصنيع العسكري لاستثمار طاقتها بحجة الحفاظ على حياتها وارغموا للعمل وفق عقود مجحفة لسنات طويلة حتى بعد انتهاء الخدمة العسكرية الالزامية او الاحتياط. ولم يكن امامهم خيارات اخرى تحت مظلة حكم ارهابى تعسفي كلنا نعلم مدي بشاعته وقسوته.
فهل ننظر لهم الان بشماتة وسخرية حتى على مستوى اسوء النماذج مثل هدى عماش ورحاب طه اللتان سخرهما النظام لخدمة مأربه في بعض البحوث في مجال السلاح العسكري وهل نغفل وجود بعض العناصر المستفيدة ماديا او المحاصرة في داخل حلقة ضيقة ؟وهل ينبغى ان تعتبرهم من جنود الشيطان ام انهم مثل اغلبية العراقيين ضحايا للنظام ايضا وقعوا فريسة لسيطرة النظام الظالم وهل كان بامكان الجميع الهرب الى خارج العراق او رفض الاوامر ؟ولنا في قصة سجن العالم حسين الشهرستانى خير مثال على ماقوله بل اننى شخصيا تم نقلى من العمل كباحث علمى في فيزياء الانواء الجوية الى احدي شركات البناء حين رفضت العمل في منظمة الطاقة الذرية قبل 30 عاما؟ ومُنعت من مواصلة الدراسة العليا خارج القطر.
الولايات المتحدة لا تعتبرهؤلاء العلماء مجرمين مثل اعتبارهم لصدام وزمرته لكنها طالبت بالقبض عليهم لانه تريد ان تصل الى حقيقة الاسلحة المحرمة لتبرير خطوة الحرب التى اقدمت عليها فقد اختلفت الاسباب التى ادعتها بشان الحرب وكل متابع ومراقب يعرف هذه الادعاءات والمبررات المختلفة لتمرير مشروع الاحتلال حتى ولو كان لاجل مسمى ثم لتغيير الخارطة السياسية في العراق وتجيريها لصالح الجانب الامريكى .
وحتى لو ثبت ان هؤلاء العلماء ساهموا بتصنيع اسلحة محرمة فالولايات المتحدة لا تملك الحق القانوني بمقاضاتهم فهل تستطيع الولايات المتحدة ان تطالب بتسليم ومقاضاة العلماء الهنود او الباكستانيين الذين ساهموا بامتلاك دوليتهما للسلاح النووى؟؟
اعجب كيف ان البعض يطالب بالقاء القبض عليهم او نعتهم بشتى النعوت غير المقبولة وهل نبغى ان نكون ملكييين اكثر من الملك نفسه؟؟؟
اعتقد ان الدوافع الانسانية وروح البحث العلمي لخدمة العراق هى التى كانت في اعماقنا جميعا ولكن النظام استطاع السيطرة على هذا القطاع بوسائل الاغراءات والتهديدات والتعسف وسرق هذه النخبة لكي تعمل لصالح اهدافه العدوانية كما سيطر على كافة المجالات الاخرى وعاث فيها تخريبا وتدميرا.
انا لا اطالب بان نقيم لهم تماثيلا لكن يجب انصافهم بالعدل الذى ينبغى ان يسود العراق كله وبلا العدل ودستوره فسوف يستمر التخبط لسنوات اخرى طويلة. كما لا اعتقد ان من حق احد ان يكتب حول هذه القضية ان لم يكن مطلعا على جوانب كافية منها اما محاولة التطرق لها بسطحية وانفعال انماهى محاولة لصب الزيت على نار هذه القضية وموشرا على التشجيع على روح الانتقام .
مع التحيات للجميع
عصام البغدادي-مدير تحرير موقع السيدة العراقية