أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - راتب شعبو - الشيخ إمام في عالمي المغاير














المزيد.....

الشيخ إمام في عالمي المغاير


راتب شعبو

الحوار المتمدن-العدد: 7110 - 2021 / 12 / 18 - 22:43
المحور: الادب والفن
    


وشيش الراديو لم يكن يعيق المتعة الغامضة التي كانت تحملها أغاني الشيخ إمام من بغداد، من "صوت فلسطين". كان لفلسطين صوتاً من بغداد يقتطع ساعة من وقت المساء كل يوم، وكانت ساعة فلسطين تلك تحمل صوت الشيخ إمام لدقائق قليلة تتخلل كلاماً بطولياً، سنكتشف لاحقاً كم كان غارقاً في الهزيمة. كنت حينها يافعاً يبحث عن عالم غير هذا العالم "الشائع"، وكانت أغاني الشيخ عنصراً من عالم مغاير غير واضح المعالم ولكنه جذاب لأنه مغاير. كان يزيد من جمال أغنيات الشيخ أنها غير شائعة، وأنك تستمع إليها كأنها بضاعة مهرَّبة، قطعة نادرة وتحمل آثار مشقات الطريق الصعب.
يتوقف كلام المذيع، ويضطرب القلب بانتظار الأغنية، هل تكون للشيخ إمام أم لغيره (لم يكن غيره يعني لي شيئاً)، وإذا كانت للشيخ إمام، فأي أغنية تكون. هل تكون "يا فلسطينية والبندقاني رماكو". لم أكن أعلم ماذا يعني "البندقاني"، ولا أعلم اليوم، فقط أعتقد أنها مشتقة، على طريقة أحمد فؤاد نجم، من البندوق أي ابن الحرام (والله أعلم). أم تكون "واه يا عبد الودود" بلهجتها الصعيدية التي تشعر معها ببداهة الرجولة والأمانة. أم تكون "الخط دا خطي والكلمة دي ليا"، أم "اتجمعو العشاق في الزنزانة"، أم "وهبت عمري للأمل ولا جاش" أم ... ؟
نقرات عود الشيخ إمام، ونحنحاته ونقاء صوته وخفة دمه في التقطيع وفي التلاعب باللحن، أشياء تنتمي إلى الأغنية بنفس درجة انتماء اللحن والكلمات، وكل هذا مجتمعاً ينتمي إلى عالمي الغامض القصي الجميل الذي رحت أبنيه وأختار عناصره وأزيّنه وافتن به.
صار لدي رغبة في معرفة كل شيء عن الشيخ إمام. ما اسمه؟ هل اسمه "الشيخ" وكنيته "إمام"، أم أن الشيخ مجرد لقب وإمام هو اسمه، إذن ما هي كنيته؟ ثم فوجئت حين سمعت من أحدهم إنه أعمى. لم أصدق. لا أدري لماذا استثقلت الأمر في البدء. بعد سنوات قليلة، حين تابعت دراستي الثانوية في مدينة اللاذقية، كانت المفاجأة أنني عثرت على شريط كاسيت للشيخ إمام في إحدى مكتبات السوق. اشتريت الشريط على الفور، رغم أنه لم يكن لدي "مسجلة" لأستمع إليه. على الشريط كانت صورة الشيخ إمام التي أراها للمرة الأولى. كان بنظارتين غامقتين ويبدو بالفعل أعمى وعلى رأسه غطاء يشبه غطاء الرأس الروسي، وفي حضنه العود. وكان اسمه على الشريط أيضاً "الشيخ إمام عيسى". هكذا إذن اكتملت معرفتي بشخص من سيصبح أحد المكونات الثابتة في عالمي المغاير المختار.
أما توسع معرفتي بأغاني الشيخ إمام، فلم يبدأ إلا حين أصبح عندي مسجلة تسمح لي بسماع ما أريد حين أريد. الشريط الأول الذي بدأ به هذا الجهاز حياته عندي كان للشيخ إمام، وكانت الأغنية الأولى فيه والتي صارت التمثيل الأبرز للشيخ في ذهني هي "قيدو شمعة يا أحبة ونوروني". في كلماتها ولحنها وفي أدائها ونقرات العود التي تتباعد ثم تكتظ مثل الرسم بقلم رصاص، كانت هذه الأغنية رفيقة أيامي الثقيلة وأنا وحيد في غرفتي المستأجرة، بعيد عن أهلي، أواجه السنة الدراسية الأهم في سوريا، سنة البكالوريا.
النساء اللواتي ينشرن الغسيل على البرندات، والآباء الذين يحملون مستلزمات البيت إلى بيوتهم، والأمهات اللواتي ينادين على أولادهن وهم يلعبون في الشارع، ورائحة الطبخ وأحاديث الجيران البعيدة، واشتعال الشموع حين تنقطع الكهرباء ... كل شيء كان يذكرني بوحدتي وبعدي عن أهلي. كانت تلك الأغنية بمثابة ملجأ، كنت أنتظر شمعة تنورني، شمعة من الأُلفة، وقد أخذت صوت الشيخ إمام إلى ذاتي وصار أليفي ومؤنسي وخيطاً يربطني بانتماء. لم تكن هذه الأغنية غرامية في مسمعي، لم يكن قد مال العشق بقلبي، كما تقول الأغنية. كان في الأغنية حيرة بالأحرى. "من هنا سكة سلامة / من هنا سكة ندامة / أمشي فين يا ناس قولولي/ قيدو شمعة ونوروني"، وفيها شكوى: "بحر بيني وبين هواي / موجه يشبه موج ظنوني". كلمات لم تكن تنعكس في نفسي كشكوى حبيب، بل كشكوى حالم.
إلى اليوم تعيدني هذه الأغنية إلى غرفتي تلك في "حارة الزين" في اللاذقية، إلى أثاثها البسيط، إلى السرير الذي كنت أستثقل ترتيبه لأنه سوف يتلخبط بعد قليل، إلى صوت ثواني ساعة المنبه الذي كان يقلقني برتابته اللانهائية، ولكي أحذفه من جو الغرفة وقت الدراسة، لم تكن لي وسيلة سوى أن أضع المنبه في البراد الذي كان رغم قدمه، مفخرة أثاث غرفتي.
يعيدني صوت الشيخ إلى تفاصيل تلك المرحلة التي رافقني فيها كملاذ سمعيّ من الوحدة المترافقة بهمّ أن لا تخذل أهلك الذين يقطعون عن أنفسهم كي يفتحوا لك، ما استطاعوا، سبيلاً للنجاح. كانت قضايا أغانيه تعينني على "قضيتي"، وكانت علاقتي بأغانيه تتجاوز الموسيقى والجمال، كان فيها شيء يلامس حس الانتماء والهوية.
ثم بدأ عالم الشيخ إمام يتصالح مع العالم العادي والشائع. هكذا صار يمكن أن تسمع الشيخ عبر إذاعة رسمية، مثل إذاعة دمشق. أغان مثل "أنا توب عن حبك" أو "يا ولدي"، صار يسمعها ويرددها أناس كثر، بمن فيهم من يعادي عالمه المغاير الذي جعلك تحب الشيخ إمام. أنت تدخل عالمه وتواجه، فيما هو يخرج من ذاك العالم ويتكيف.
مضى وقت طويل قبل أن يتحرر في نفسي الشيخ إمام من قضاياه، وأصغي إليه وإلى موسيقاه وعوده، كما أصغي إلى مغنٍ لا إلى خيط انتماء، فتغدو موسيقاه موسيقى تكتسب جمالها من ذاتها لا من ارتباطها بشيء ليس من جنسها، وكذا الكلمات والأداء. لكن، مع ذلك، لا يمكنك أن تحرر نفسك من الذكريات، من ترابطات ختم عليها الزمن ولاتزال تملي عليك ظلالها حين تسمع نحنحة الشيخ ونقرات عوده الصافية.



#راتب_شعبو (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تيار يميني يثير ذعر الفرنسيين
- إشكالية -الجيش السياسي- في السودان وغيره
- بمناسبة الحديث عن مجلس عسكري سوري
- العالقون على حدود بولونيا، أي درس؟
- أسرار الحديقة
- الدولة العميقة والمسارات المستورة للسلطة
- الانقلاب في السودان، عن المعجبين بحكم القوة
- السودان: يا سلطة مدنية، يا ثورة أبدية
- السلطة وركائزها النفسية
- بين إريك زيمور وقيس سعيد
- نقد المعارضة الجذرية
- على ضوء الحاضر السوري الكئيب
- بين سجنين، أبطال في أمة مفككة
- ضرورة التمييز ومعرفة الفروق
- درعا، قليل مما يمكن قوله
- الحديقة في المنفى
- أصوات سورية تعلو بالخيبة
- أفغانستان وظاهرة التنكر الوطني
- موت البرامج السياسية
- انقسام جديد بين السوريين


المزيد.....




- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- ناجٍ من الهجوم على حفل نوفا في 7 أكتوبر يكشف أمام الكنيست: 5 ...
- افتتاح أسبوع السينما الروسية في بكين
- -لحظة التجلي-.. مخرج -تاج- يتحدث عن أسرار المشهد الأخير المؤ ...
- تونس تحتضن فعاليات منتدى Terra Rusistica لمعلمي اللغة والآدا ...
- فنانون يتدربون لحفل إيقاد شعلة أولمبياد باريس 2024
- الحبس 18 شهرا للمشرفة على الأسلحة في فيلم أليك بالدوين -راست ...
- من هي إيتيل عدنان التي يحتفل بها محرك البحث غوغل؟
- شاهد: فنانون أميركيون يرسمون لوحة في بوتشا الأوكرانية تخليدً ...
- حضور فلسطيني وسوداني في مهرجان أسوان لسينما المرأة


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - راتب شعبو - الشيخ إمام في عالمي المغاير