أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - محمد علي مقلد - الرميلة بين المناضل والميليشيوي















المزيد.....

الرميلة بين المناضل والميليشيوي


محمد علي مقلد
(Mokaled Mohamad Ali)


الحوار المتمدن-العدد: 7078 - 2021 / 11 / 15 - 00:14
المحور: سيرة ذاتية
    


مقالتي التي حملت عنوان، أسرار في شهر بشير الجميل كشفت عن وجه ميليشيوي للحزب لم يكن قبل ذلك سافراً على هذه الصورة. استعرت في المقالة من مهدي عامل قوله أنه لا يمكن للمرء أن يقدّم إجابة صحيحة على سؤال مغلوط، لكي أؤكد أن كثيرين وقعوا في شرك سؤال مغلوط عن خطر يهدد الوطن، فأجاب بعضهم بعداء عنصري للنظام السوري، البحر من أمامكم والعدو من ورائكم، فيما ارتكب آخرون الخطأ بالمقلوب، ولاءً وتبعية عمياء وانصياعاً وتحولوا إلى أدوات في يد نظام عمل على استخدامهم كميليشيات لا كأحزاب مناضلة. الجواب الخاطئ أعاد المتزمتين، كلاً إلى موقعه الأكثر تشدداً، ورمى حرماً على أية قراءة نقدية لتجربة الحرب الأهلية.
الحزبيون بشر، منهم الكريم والبخيل، الغني والفقير، الجاهل والمثقف، الشجاع والجبان، العاقل والمتهور، إلى آخر الأوصاف والمزايا الموزعة بين البشر بمقادير متفاوتة. لكن الأوصاف الاخلاقية الاجتماعية لا تصلح معياراً وحيداً للتصنيف والفرز. الانسان لا يمكن أن يكون ذا بعد واحد، وقد يكون البعد السياسي فيه هو الأقل دلالة وتعبيراً عن جوهر شخصيته. أقول ذلك لأنني لا أنسى أن الذي أنقذني من قرار القوات اللبنانية باغتيالي هو مقاتل في القوات اللبنانية، بينما حاول شقيقه، القواتي هو الآخر، السطو على منزلي في غيابي. ومن حمى بيتي من السرقة هما مقاتلان من حركة أمل، لتقوم بنهب محتوياته في ما بعد مجموعة مختلطة من رفاقي في الحزب الشيوعي اللبناني وحلفائه.
في ظل ضغوط الوصاية وويلات الحرب، أيقنت أننا كنا، يميناً ويساراً، وقوداً للحرب ومجرد أدوات تنفيذية. لم يغرر باللبنانيين أحد، وربما انزلقوا، لكنهم هم من جاؤوا بالدب إلى زرعهم. قرروا وهم "في كامل قواهم العقلية والجسدية". إذن كان لا بد من نقد التجربة. ومن الطبيعي أن تكون رحلة الناقد، أي ناقد، مجازفة وأن يرمى، من أهل بيته الحزبي أولاً ومن كل المتشددين والدهماء في كل حزب، بكل التهم المتيسرة، كالعمالة والخيانة والارتداد، وخصوصاً من قبل من لا يقبلون بالنقد من حيث المبدأ، ولا يقرأونه بل يتداولونه عن طريق الإشاعة، وإن قرأوه عاملوه بأحكامهم المسبقة.
جميع القوى جربت حظوظ مشاريعها، من تحرير فلسطين حتى بناء الاشتراكية مروراً بالوحدة العربية والوطن القومي المسيحي والاسلام هو الحل. إذن كان لا بد من البحث عن بديل ينقذ الوطن ويقنع المتحاربين بأنهم ملزمون بالعيش معاً وبتنظيم اختلافاتهم بدل تفجيرها، وملزمون، بالتالي، بإقامة نظام يتسع للاختلاف ويوطد الوحدة الوطنية ويعيد بناء الدولة والوطن. إذن، الدولة هي الحل. للأسف، الميليشيويون شنوا حرباً على فكرة الدولة، وأدانوا من يروج لها ورموه بكل التهم، لأن نظام الوصاية أقنعهم بأن الأولوية تقع في مكان آخر.
خرجنا من الحرب عندما بدأت تخرج إلى النور وسائل التواصل الاجتماعي، وهي من إنجازات العلم الكبرى التي وفرت للقادرين على حيازة أجهزتها الذكية امكانات الاطلاع على أوسع نطاق، إلى جانب ما كانت تقدمه مئات الشاشات ومئات الإذاعات، فحلت الإشاعة بدل البحث وصار التنجيم بدل التحليل، واستبدل الكتاب والمقالة بثقافة القال والقيل والحديث المعنعن، وبات القادر على شراء جهاز إلكتروني يتخيل نفسه مرتقياً من شلل الشبيحة إلى روابط أهل القلم، واختلط حابل الكلام الرصين بنابل الشتائم ولغة الأزقة. وتعمم نموذج الذي حاول اغتيال نجيب محفوظ مكفراً إياه في رواية أولاد حارتنا، معترفاً أمام القاضي أنه لم يقرأها، وربما كان لا يجيد القراءة والكتابة. والله أعلم. ربما تكرر الأمر نفسه البارحة في الأردن مع قاتل ناهض حتر، قاتل الرأي الآخر.
بعض النقد يتعلمه المرء من تجربته. لكن أقلام القال والقيل لا ترى فيه غير الندم. أشهد أنني فخور بكل مواقفي و قراراتي ولا أندم على شيء فعلته في حياتي، فالندم يختص به الجبناء من ضعاف النفوس. لكنني أعترف أن لوائح الصداقات والعداوات التي كانت صالحة للحرب لم تعد صالحة للسلام. وأشهد أن انتمائي إلى اليسار الشيوعي كان لحظة جميلة في حياتي، وأن اليسار لا يزال حاجة للوطن، وأن ماركس ما زال أكثر راهنية من معظم فلاسفة الثورة المعاصرين، وأشهد أن الأغلبية الساحقة من الماركسيين لا يعرفون من ماركس غير ما وصل إلى أسماعهم من قادة أحزابهم وعن طريق الإشاعات .لكن الثورة لم تعد في نظري سوى التغيير والتقدم، ولم يعد معناها السياسي غير الذي تنطوي عليه مفاهيم الثورة العلمية والثورة الاقتصادية والثورة الثقافية، أي التغيير نحو الأفضل من غير دماء، وإن سالت في الثورة دماء فلا يجوز أن يكون اليسار سبباً في إراقتها.
وأشهد أنني فخور بصداقاتي كلها التي جمعتني بإخوة ورفاق تقاسمت وإياهم الحزن والفرح والخبز، لكن نتائج الحرب أقنعتني بأن خيار الحرب كريه. ألم يقل زهير الشاعر الجاهلي، وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم. وأرشدتني إلى معايير جديدة للعداوة والصداقة. عدوي هو عدو الوطن. أما اللبنانيون، من أتفق معه منهم ومن أختلف، فهم أهل بلدي وعلي واجب الدفاع عنه وعنهم ضد أي تدخل أجنبي. لقد أخطأنا نحن اللبنانيين بحق بعضنا وبحق الوطن، باستدراج الخارج وتوهم القدرة، بالشطارة اللبنانية، على استخدامه وتوظيفه ضد الخصم الداخلي. القوات اللبنانية ليست وحدها من تستحق الإدانة على تعاملها مع إسرائيل، بل تستحقها أيضا، بالسوية ذاتها، مواقفنا اليسارية التي استقوت بالسلاح الفلسطيني وتوسلت العنف لتعديل النظام السياسي، ومواقف المتضامنين مع سفاحين في العالم العربي استبدوا بشعوبهم ووضعوها بين خياري الحكم الأبدي أو الحروب الأهلية، ومواقف السنية السياسية والشيعية السياسية والجبهة اللبنانية وإجماعها على الاستنجاد بالعمق العربي وبالنظامين السوري والإيراني. حزب الله ليس وحده من يستحق الإدانة على تدخله في سوريا ومناصرته نيرون دمشق، بل بالسوية ذاتها تدان رحلة الشيوعيين إلى ليبيا للمشاركة في حرب تشاد ولمناصرة مستبدها المجنون.
أحداث صغيرة وكبيرة غيرت مجرى حياتي وأفكاري. اغتيال حسن حمدان أولها. بمناسبة موته كتبت أول تلميح نقدي للحرب، وأتاني العتب من قيادة الحزب، لكنه عتب مهذب ولطيف يشبه أخلاق القيادة في حينه، ولا يشبه موقفها. ثانيها موت ياسر عرفات. باح لي صديق من "مناضلي" البعث بعتب شديد على إسرائيل لأنها أطالت حصاره وأبقته حياً وهي كانت قادرة على قتله. لم أكن أنتظر وسيلة إيضاح أكثر بلاغة لفضح أهداف النظام السوري في لبنان. بالأولوية أبو عمار. هو عدوه الثاني، بعد موت عدوه الأول، عبد الناصر. فكيف لي أن أصدق ما كنت أسمعه عن الوحدة والحرية والاشتراكية، وكيف لي أن أنسى تصفيقنا وتهليلنا للنظام السوري كلما أقفل طريق "المصنع" عقاباً للدولة اللبنانية على تمسكها بالسيادة الوطنية. لم نكن أوفياء لوطنيتنا ولا كانت القضية القومية في أيدٍ أمينة. أبو عمار الذي خرّبنا البلد من أجل قضيته، قضيتنا، أمعن في تقتيلنا في طرابلس بصفتنا عملاء للنظام السوري. حلفاء الخندق الواحد في مواجهة إسرائيل استكملوا مقتلة القيادات الحزبية بالعشرات في غمرة نضال الشيوعيين ضد الاحتلال.
عشرون عاماً دام مشواري النقدي من داخل الأطر، إلى أن ضاقت الأطر على النقد وضاقت القيادة على النقاد. أما أنا فما زلت على يقين بفشل كل الانشقاقات في كل التجارب التاريخية، في الأديان كما في الأحزاب، من الأشعرية والمعتزلة والسنة والشيعة، إلى الكاثوليكية والبروتستانتية، واللينينية والماوية والتروتسكية، والبعثين والحركات التصحيحية والحركات القومية، إلى حركة اليسار الديمقراطي وحركة الانشقاق عنها إلى حركة الإنقاذ؛ وعلى يقين من أن أي تناقض لا يحل إلا من داخل الوحدة. وبنيت على هذه الفرضية موقفي من وحدة الحزب ومن وحدة كل حزب، ومن الوحدة الوطنية، واقترحت برنامجاً للانقاذ الحزبي والوطني، لكن العقل الميليشيوي الذي سيطر على الحزب بعد الطائف تحمل النقد عقدين من الزمن إلى أن قرر استبعادي وافترى علي بتهمة الانشقاق. ذوو العقل الميليشيوي في الحزب وحدهم صدقوا التلفيق القيادي وروجوا له، وبعض الذين صوتوا عليه أنكروا فعلتهم وأسقطوه من ثقوب ذاكرتهم.
سيطرة العقل الميليشيوي تعممت. لم يكن الحزب الشيوعي وحده الضحية. في جميع الأحزاب تصدرت الواجهة قياداتها الأمنية وحديثو نعمة ممن أثروا بعد فاقة. موقع القرار السياسي والإداري في مؤسسات الدولة صار بين أيدي من تحاصصوا خلال الحرب الشوارع والمناطق والأتاوات. في الجامعة اللبنانية، مفخرة الوطن، كتب أحد الطلاب في مقدمة اطروحته أن أستاذه الحقيقي هو أحد مشايخ الطرق الصوفية، منكرا على أستاذه المشرف أي دور. حتى الصحافة لم تسلم من غزوة العقل الميليشيوي، بعض الصحافيين انحازوا إلى التنجيم وانتهكوا آداب المهنة والكتابة. العقل الميليشيوي، السلوك الميليشيوي، الأخلاق الميليشيوية، الثقافة الميليشيوية، الإدارة الميليشيوية، الإعلام الميليشيوي، برلمان الميليشيات، مرشحوها لرئاسة الجمهورية، هذه كلها من علامات الظهور، ظهور الحرب الأهلية ، حرب الجميع على الجميع، الحرب على الوطن.
العقل الميليشيوي تسلل إلى الجامعات. هو عقل مانوي لا يعترف بخيار ثالث. إن لم تكن مع القومية العربية فأنت صهيوني، وإن لم تكن مع أنظمة "حركة التحرر الوطني" فأنت عميل للإمبريالية، وإن تكن مع الثورة الفلسطينية فأنت متآمر عليها، إلى آخر تلك المعادلات التي لا تسمح لك بأن تختار. العقل الميليشيوي هذا هو الذي خضع لمنطق نهج الممانعة ونظام الوصاية الذي بدأت في أيامه مرحلة تعايش فيها مناضلون وميليشيويون داخل الحزب الواحد، ثم أخذت الميليشيا توسع رقعة نفوذها الحزبي على حساب المناضلين.
النهج الميليشيوي لا يقتصر على استخدام السلاح خارج القانون، بل هو طريقة في التفكير أيضاً، وقد يكون تشبيحاً ثقافياً كذلك. كتبت ذات مرة رداً على أستاذ جامعي اعترض على وجود خيار ثالث خارج الثنائي الشيعي، وقلت له: "بين أن يذوب الشيعي في ثنائية أمل- حزب الله أو أن يعاديهما، هناك طريق ثالث؛ بين الانبطاح أمام سوريا ومعاداتها هناك طريق ثالث؛ بين أن يكون المرء طائفياً ومذهبياً وأن يكون معادياً للطوائف هناك طريق ثالث؛ بين أن يكون المرء عربياً ضد الوطن أو وطنياً ضد العروبة هناك طريق ثالث؛ بين أن يكون المرء مع المقاومة شتاماً لخصومها أو مع خصومها شتاماً لها هناك طريق ثالث؛ بين أن يكون المرء متزمتاً دينياً وأن يكون هرطوقياً هناك طريق ثالث؛ بين أن يكون المثقف عصى في يد الثنائي الشيعي أو بوقاً ضده هناك طريق ثالث. إن الطريق الثالث هو الخيار الجاهز دوما بديلاً من تطرفين، والأمثلة لا تحصى ولا تعد" ( مقطع من مقالة صحافية نشر لاحقاً في كتاب الشيعية السياسية).

قادة الميليشيات لا يكترثون لما يقال، لا يعيرون انتباهاً للرأي العام، للرأي الآخر. يوجهون "صبيانهم" الجهلة إلى وسائل التواصل، وصبيانهم الكتبة وأساتذة الجامعة إلى الصحافة، ويزودونهم بسلاح وحيد، خارج جبهات القتال، يطلقون منه الشتائم كما الرصاص في المآتم والأعراس، لكنه ليس سلاحاً عشوائياً، بل مصوب بدقة ضد من ينتقد نظام الممانعة وتدخل حزب الله في سوريا ومن يدعو إلى قيام الدولة.
مع ذلك، لم نكتف بمئات المقالات عن أهمية الدولة والوحدة الوطنية، واستمرينا ندعو إلى قيام دولة الكفاءة بديلاً عن دولة التشبيح، مرددين مع محمد الماغوط، "سأتكئ في عرض الشارع كشيوخ البدو ولن أبرح، حتى تجمع كل قضبان السجون وإضبارات المشبوهين في العالم لألوكها كالجمل على قارعة الطريق، حتى تجمع كل هراوات الشرطة وتعود مرة أخرى أغصاناً مزهرة على أشجارها"
كلما انزعج ميليشيوي من النقد أنام ملء جفوني، وكلما عبر عن انزعاجه بلغته الزقاقية يحضرني قول المتنبي عن مذمة الناقص، بيت الشعر الذي استخدمه ضدي واحد من جهلة الميليشيات، ورواه مكسور الوزن، لأنه لم يسبق له أن قرأه في مدرسة بل تنامى إلى أسماعه بالتواتر.
أنام ملء جفوني، لكنني أزداد خوفاً على وطني. مع ذلك، ها نحن "صامدون هنا قرب هذا الدمار العظيم"، بالإذن من مارسيل خليفة وحسن عبدالله، سنستمر في الدعوة إلى مواجهة الفاسدين والمفسدين في السلطة والأحزاب ومؤسسسات الدولة والصحافة والجامعة وإلى التجمع دوماً في ساحة سمير قصير، في ساحة الشهداء، ساحة الحرية، وفي كل الساحات، إلى أن تنزاح عن صدر هذا الوطن صخور المافيات الميليشيوية.
حين ذكرت أن قواتياً حماني من قرار القوات باغتيالي وأن مقاتلين من حركة أمل حموا بيتي من السرقة وأن شيوعيين سرقوا منزلي قامت قيامة الرفاق على هذا الخبر ورأوا فيه تجديفاً على الشيوعيين ونضالاتهم. والحقيقة أن السرقة حصلت وأن السارقين هم من ميليشيات الحزب لا من مناضليه. وحتى لا يظل الخبر موضع التباس في ذهن أحد من الرفاق ولا سيما في ذهن الرفيق طعان مسلماني الذي كان مسؤولاً عن الحزب في الجنوب يومذاك ويعرف أن منزلي لم يتعرض للسرقة، لا بد من تفصيل ما لم يكن ممكناً تفصيله في مقالة صحافية لا يتجاوز حجمها صفحتين على ما تقتضيه آليات النشر في الصحف.
عندما تحرر الشحار الغربي من الاحتلال دب الذعر في قلوب مسيحيي الجبل. كنت وزوجتي في فرنسا. اتصلنا بصديقتها غادة تابت، زميلتها في التعليم في مدرسة الرميلة، وعرضنا عليها أن تنتقل مع زوجها عماد نوفل إلى السكن في منزلنا في عبرا. هكذا كان يتصرف اللبنانيون لحماية بعضهم من حروب الميليشيات. استمرت إقامتهما فيه حوالي عامين إلى أن أجبرتهما المعارك في منطقة "شرق صيدا" على المغادرة. لكن هذه العائلة الرائعة قررت حماية منزلنا من أعمال النهب والسرقة الميليشيوية التي لم تسلم منها بيوت المنطقة، فقاما بنقل ما يمكن نقله إلى دارة العائلة في الرميلة وإلى بيت أحد الأقارب في بيصور شرق صيدا، وأعلمونا بذلك، وكنا بعد عودتنا من فرنسا نسكن في شقة أحد أقاربنا في حارة حريك، وأرشدونا إلى طريقة الوصول إلى منزلهم، إن استطعنا، لاستلام ما استودعوه هناك.
قبل يومين من الانسحاب الإسرائيلي الثالث، من الجبل ومن القسم الأكبر من الجنوب حتى الشريط الحدودي، توجهت وزوجتي بسيارتنا على الطريق الساحلي ونقلنا الأجهزة والأدوات الكهربائية التي وضعوها في بيتهم لحمايتها من السرقة وعدنا إلى بيروت. لم يعترض طريقنا أحد ولم نلتق أحداً، إذ كانت القوات اللبنانية تجمع قواها للدفاع عن نفسها في القرى المختلطة من الدروز والمسيحيين في منطقتي الشوف وعاليه. وفي يوم الانسحاب، أي بعد يومين، توجهنا مرة أخرى إلى الرميلة، لكن هذه المرة خلف غبار آليات عسكرية للحزبين الشيوعي والاشتراكي ولحركة أمل.
أهالي الرميلة غادروا قريتهم باستثناء قلة قليلة تعد على الأصابع، وبيوتها باتت موزعة بالمحاصصة بين "قوات التحرير الوطني والإسلامي" منزل عماد نوفل على الطريق العام، الطريق الساحلي، كان من نصيب مجموعة من حركة أمل. لم يصدقوا أنني صاحب المنزل لأن إسمي المركب، محمد علي، يكذب انتمائي إلى قرية مارونية ويستبعد سكني فيها، ولا سيما أن الطراز المعماري القديم للمنزل يدل على أنه بيت لأحد وجهاء القرية وليس بيتاً لأحد المهاجرين أو المهجرين إليها. لكنني رويت لهم كيف أن أصحابه حموا لي منزلي في عبرا من ميليشيات القوات اللبنانية ما يملي علي أن أرد لهم الجميل بحماية بيتهم. اقتنعت مجموعة حركة أمل وانسحبت باحترام وتهذيب وسلمتني المنزل.
كان من الطبيعي أن أستعين برفاقي في الحزب الشيوعي لحماية المبنى والأثاث الذي فيه، فتقرر وضع مجموعة من مقاتلي الحزب ثم من مهجري الحزب في المنزل. بعد شهرين حاولت استعادة الأثاث المسروق من البيوت التي احتلها شيوعيون، تمكنت من جمع بعضها ووضعته في شاحنة صغيرة وأرسلته إلى أصحابه في المنطقة الشرقية. أما البعض الآخر فقد توزعته المجموعات الميليشيوية المتعاقبة التي سكنت المنزل وأفرغته من محتوياته، ولست أعلم من اختار أن يكون البراد والصالون من غنائم الحرب ومن حصة المنزل الذي جعلته قيادة الحزب مقراً لها في تلك القرية المحررة.
عندما حاولت أن أستعيد القسم الثاني من أغراضي المنزلية المنقولة إلى قرية بيصور، تأكد لي أن الحزبيين بشر كسائر البشر. منهم المناضلون ومنهم ميليشيات للسطو المسلح. في الرميلة عاش مناضلون شيوعيون ومقاومون وسقط مناضلون شيوعيون، من بينهم حكمت الأمين وأبو جمال بدران، وفي الرميلة سكنت مجموعات متحدرة من عقل ميليشيوي. في الرميلة انسحبت مجموعة حركة أمل باحترام وتهذيب من بيت عماد نوفل، غير أن مجموعات أخرى من حركة أمل سطت على بيوت بيصور وأفرغتها من محتوياتها. جورج كريكوريان انقذني من الموت وشقيقه جاء يسطو على منزلي. نعم، بين الحزبي المناضل والحزبي الميليشيوي مسافة ضوئية وهوة لا تردمها بطاقة حزبية ممهورة بخاتم الأمين العام.
مقطع من سيرة ذاتية



#محمد_علي_مقلد (هاشتاغ)       Mokaled_Mohamad_Ali#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الثورة والانتخابات
- علاقات حزبية أم مخابراتية أم إنسانية؟
- من مآثر موسى الصدر
- دروس انتخابية من تجربتي مع الحزب الشيوعي (3من4)
- ضرائب نضالية: حين يكون القرار بيد القاعدة الحزبية
- الشيعية السياسية: تعلموا من أخطائكم
- نبيه بري الخاسر الأكبر
- الشيعية السياسية وليس الشيعة
- حبيب صادق: مفرد بصيغة الجمع
- دروس انتخابية من تجربتي مع الحزب الشيوعي(2من4)
- الخروج المبكر من الجامعة
- دروس انتخابية من تجربتي مع الحزب الشيوعي(1من 4)
- الجامعة اللبنانية دخلتها متأخرا وخرجت منها مبكراً
- الثورة وبرلمان 2022
- قيلولة نضالية
- سنّيّة سياسية بعد فوات الأوان
- الصراع بين المثقف والسياسي
- نصيحة جعجع الشيعية
- مشيخة الفلاحين
- مغدوشة أم طورا بورا؟


المزيد.....




- -إسرائيل تنتهك قوانينا.. وإدارة بايدن لديها حسابات-.. مسؤولة ...
- الجيش الإسرائيلي يواصل عملياته في محيط مستشفى الشفاء بغزة لل ...
- موسكو تدمر عددا من الدبابات الأوكرانية وكييف تؤكد صدّ عشرات ...
- مفتي روسيا يمنح وسام الاستحقاق لفتى أنقذ 100 شخص أثناء هجوم ...
- مصر.. السفيرة الأمريكية تثير حفيظة مصريين في الصعيد
- بايدن يسمي دولا عربية -مستعدة للاعتراف بإسرائيل-
- مسؤول تركي يكشف موعد لقاء أردوغان وبايدن
- الجيش الاسرائيلي ينشر فيديو استهدافه -قائد وحدة الصواريخ- في ...
- مشاهد خراب ودمار بمسجد سعد بن أبي وقاص بمخيم جباليا جراء قصف ...
- قتيل بغارة إسرائيلية على جنوب لبنان والمقاومة تقصف شبعا


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - محمد علي مقلد - الرميلة بين المناضل والميليشيوي