أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - منير المجيد - دليلي احتار















المزيد.....

دليلي احتار


منير المجيد
(Monir Almajid)


الحوار المتمدن-العدد: 7057 - 2021 / 10 / 25 - 15:41
المحور: الادب والفن
    


لا يمكن الإبتعاد بسهولة عن الغوص في أعمال وحياة سيّدة الغناء، وما أُحيط بها من أحداث وشخوص. ففي كلّ موضوع أتصّوره الأخير في السلسلة، أرى نفسي، بعد ساعات من فضّه عني، غارقاً في أغنية جديدة، أرغب في البحث فيها.
الأمر مُثير على نحو خاص، لأنّه مرتبط بالتاريخ أيضاً. لا أقصد تاريخ السيّدة لوحده، بل كل من دار في فلكها، صعوداً حتّى تاريخ البلد والمنظقة بأسرها.
لكل أغنية خلفية وقصّة، ورغم أن أغنية اليوم لا ترتبط على نحو مُباشر بخصام شخصي بين رامي ومُلهمته، إلّا أنّه واصل حيوي في سلسلة تجليات شاعرنا.

التاريخ أمسية ١ كانون الأول ١٩٥٥ في مسرح حديقة الأزبكية. جمهور أمّ كلثوم يحتلّ مقاعده المُرقّمة. لكن، هم يختلفون عمّا كان قبل ثورة الضبّاط الأحرار.
رجال البلاط ذوي التغذية الجيّدة الممتلئين كخزانة، المُرتدين بزّات سوداء وكأنّهم طيور بطريق، الحاملين لنياشين مُلوّنة ثقيلة، والسيّدات المُتبرّجات بوجوههنّ الجادّة الآمرة وحليهن الكثيرة، أُستبدلوا بجنرالات يحملون نجوماً وطيوراً على أكتافهم وعلى صدورهم أوسمة لا نعرف كيف أحرزوها، أجسامهم نحيلة قويّة موتورة العضلات مدبوغة بلون برونز الثكنات.
ما تبقى من جمهور لم يتغيّر، حتّى هؤلاء الذين تعودّنا عليهم يصرخون بما يشبه الصلاة «عَظَمَةَ على عَظَمَةَ». صحيح أن العديد من الجنرالات وضّبوا بزّاتهم العسكرية في خزائن الثياب، وعلى رأسهم النقيب جمال، لكن العديد غيرهم كان يرتديها تفاخراً طاووسياً في مُناسبات كهذه، ليبقى تقليداً مارسه بضراوة الكثير من جنرالات المنطقة.
جلس أحمد رامي على مقعده رقم ثمانية، وبدا غريباً وسط سيل من بزّات الكاكي، قابلاً بزواج محبوبته المؤخّر من الدكتور الحفناوي الرجل الظلّ، تاركاً أحزانه في شجن طفرات مخيّلته الشعرية، ومُعاناة «ما بين بعدك وشوقي إليك، وبين قربك وخوفي عليك، دليلي احتار وحيّرني» وشكوكه دون أحكام مُسبقة.
وعلى المسرح حمل القصبجي عوده مُحتلّاً كرسيّه الخشبي الإزدرائي، تماماً خلف السيّدة، وظلّ في هذه الوضعية إلى مماته عام ١٩٦٦، ثمّ تركت السيّدة، تكريماً له، كرسيّه شاغراً لمدّة عامين.

كان عبد الناصر قد تجاوز محاولة اغتياله، وانتصر في الأزمة التي نشبت بينه وبين أول رئيس للجمهورية المصرية الجنرال «محمد نجيب». عبد الناصر لاحق قيادات الإخوان المسلمين، بينما كان الرئيس نجيب يُفضّل الهدوء والتعقّل وفسح المجال أمام الحريّات، التي تقلّصت على نحو جدّي. نظام القهر والإضطهاد كان يتبرعم وينضج ليُغطي مساحة تمتدّ على قارّتين.
من الدلتا والصعيد والجنوب توضّح للمصريين من هو الحاكم الفعلي. في أمر يتكرّر الآن في السعودية.
تلك الأمسية، كانت قبل ستة أشهر من تقلّد عبد الناصر، وعلى نحو لا يدعو للشكّ، منصب الرئيس (٢٥ حزيران ١٩٥٦). حيث كانت جماهير السيّدة الغفيرة التي غطّت جغرافية امتدّت من تطوان إلى البصرة، بانتظار إعلان مُذيع رايو القاهرة بدء السهرة «وانفرجت الستارة الآن، وحيّا الحاضرون أمّ كلثوم….».
في تلك الفترة كانت سيّدة الغناء العربي منهمكة في تشكيل نواة امبراطوريتها الخاصّة، لتُصبح سيّدة أعمال أيضاً. ففرقتها الموسيقية تحمل إسمها، وهناك جيش من العاملين والمُنسّقين لحفلاتها في وخارج مصر.

لم تحقّق شخصية، في العصور الحديثة، شعبيّة ساحقة كما فعلت أمّ كلثوم. عشقها وتمايل على حبال صوتها الملولك والأمراء والبرجوازيون وعمّال السكك الحديدية، والموظّفون، والمعلمون، والقّوادون، وسيّدات المنزل، والمُراهقون، ورجال الشرطة، والراقصات، والممثلات. لم يختلف أحد على حبّها وموقعها وتأثيرها.
لو تحلّى عبد الناصر بذكاء مقبول، لجعلها هي رئيسة للجمهورية كي يقنع ما تبقى من دول ناطقة بالعربية بفكرة القومية التي قضى بسببها، ولتوحّدت هذه البلاد تحت راية السيّدة الرئيسة كوكب الشرق والغرب أمّ كلثوم. وهي بغنائها لكانت أنهت، ما وقع عبد الناصر فيه من أخطاء وأزمات وحروب. كان المناخ مُهيّاً لهكذا خطوة عبثية.
إلّا أن التؤامة الغريبة بين الشخصيتين كانت قد ترسّخت ما تبقى من وقت في زعامة عبد الناصر. هو بائع الوهم القوموي الأكبر، وهي بضخّ المزيد من مورفين الطرب، وأي طرب ربّاني! هو يُخطئ وهي تطلق أغنية تزيل أو على الأقل تصلح من شأن الخطأ. كان تحالفاً ندر مثله في العصور الحديثة.

في أمسية ١ كانون الأول صدحت «ثومة» بأغنية «دليلي احتار». من شعر أحمد رامي وألحان السنباطي، وهي تضع نظّارات سوداء، ستُرافقها بقية حياتها بسبب متاعبها مع الغدّة الدرقية، ما أدّى إلى جحوظ عينيها وابتعادها عن التمثيل.
هي لم تكن أبداً مُمثّلة جيدة، مثل كل المُغنين الآخرين، في كل الأحوال.
رامي الذي صرف حياته يكتب بعاطفته وحبّه استطاع أن يُقدّم لها ١٣٧ أغنية من ٢٨٣ أغنية هي مجموع ما غنّته، بينما لحّن السنباطي لها ٨٨ أغنية.
كان لرامي موقف من الأغنية العربية، بعد رحيل السيّدة وعظماء آخرين، وقال حرفياً: «موسيقانا الآن كرجل صعيدي بجلباب بلدي، لكنّه يرتدي برنيطة أمريكاني، والأغنية الآن كالبطيخة الماوي، فيها مياه وكبيرة الحجم وليس لها طعم».

في دليلي احتار وضع السنباطي، بشكل واضح، رؤيته في توحيد الكلمات والصوت والموسيقى، في مَسّرَحةٍ درامية تعبيرية مُذهلة. وتوضّحت في هذه الأغنية، وما تلاها، إمكاناته الهائلة في توظيف الموسيقى وقيادة عضلات صوت ثومة للتعبير عن الحالة، والتي تنزل صعوداً ونزولاً من مقطع لآخر، لا بل من جملة لاخرى.
في المُقدّمة الموسيقية الموغلة في التأثر والرقّة (مقام كرد الأساسي)، تشعر أيضاً بالحيرة، تعبيراً عن الحالة عنوان الأغنية.
«ما بين بعدك وشوقي إليك، وبين قربك وخوفي عليك، دليلي احتار وحيرني»، تابع السنباطي تفرّعات الكرد، صعوداً ونزولاً على السلّم الموسيقي ببهلوانية نادرة.
«وأقول إمتى..» يذهب إلى مقام راست نوا، ويستمر عليه في المقطع الموسيقي الذي يتلوه. الغناء كرد، راست نوا، حجاز نوا، وبياتي نوا، وهكذا.
وهكذا يلهو السنباطي بآذاننا ويدير رؤوسنا حين يُوافق بين الفواصل الموسيقية من مقام شهناز ويجعل غناء السيّدة شهناز فرحفزا.
«أشوف عينك تراعيني وقلبي من لقاك فرحان»، الفرح هنا لا يخطؤه المستمع حين تهتز حنجرة السيّدة بتغريد ساحر، ثم تتجلّى تعبيرية الصورة من خلال «وأشوف بينك وبين عيني خيال البعد والحرمان»، فكلمة «حرمان» حزينة وقاسية، وفي الجملة التالية «وأخاف لتفوت ليالينا وأهيم في بحر أشجاني»، تركت كلمة «أهيم» و«أشجاني» أثراً بكائياً آسراً. وكي لا يلجأ المستمع إلى حالة من القنوط يُعاد المقطع اللازم في الجزئين الأخيرين «وأقول امتى أنا وانت ح نتقابل مع الأيام..».
في «أخاف في البعد توحشني وأخاف في القرب تتركني..» تظهر فيه مقدرة تعبيرية فذّة اخرى، ففيه نشعر بالحيرة والوحشة والخوف في جملة واحدة.
في المقطع الأخير يُتوّج البعد الدرامي في الجملة الأولى «يا ريتك حلم في جفوني، أنام وألقاك وأعيش ويّاك، وآخر طيف أشوفه إنت..». هنا أيضاً يأخذ السنباطي كلمة واحدة (أشوفه) ويجعلها اوپريت بذاته، من خلال صوت السيّدة العالي والمحترق بلوعة الحب الصعب، بما يُشبه الإبتهال الديني.

الإشادة لا تفي بمحاسن الطبيعة بل ممارستها في الذهاب في جولة، على سبيل المثال، وهكذا «دليلي احتار»، التي تحتاج إلى إعادة تشغيل.



#منير_المجيد (هاشتاغ)       Monir_Almajid#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إلى أرمينيا
- دمشق
- الأطلال
- خميرة الخبز
- غلبت أصالح في روحي
- حسيبك للزمن
- رقّ الحبيب
- القليل عن السينما الإيرانية
- الحصى لمن حصى
- جدّدت حبّك ليه
- أراك عصي الدمع
- ستورمي
- في قطار ياباني عابر
- في الحب
- الموت كل يوم
- مدينة الساتيلايت
- صديقي فريدريك
- االضباع
- شام-الفصل السابع والعشرون والأخير
- شام-الفصل السادس والعشرون


المزيد.....




- تحية لروح الكاتب فؤاد حميرة.. إضاءات عبثية على مفردات الحياة ...
- الكاتب المسرحي الإسرائيلي يهوشع سوبول: التعصب ورم خبيث يهدد ...
- من قال إن الفكر لا يقتل؟ قصة عبد الرحمن الكواكبي صاحب -طبائع ...
- أروى صالح.. صوت انتحر حين صمت الجميع
- السعودية تخطط لشراء 48 فدانا في مصر لإقامة مدينة ترفيهية
- هل يشهد العالم -انحسار القوة الأميركية-؟ تحليل فالرشتاين يكش ...
- التمثيل النقابي والبحث عن دور مفقود
- الفنان التونسي محمد علي بالحارث.. صوت درامي امتد نصف قرن
- تسمية مصارعة جديدة باسم نجمة أفلام إباحية عن طريق الخطأ يثير ...
- سفارة روسيا في باكو تؤكد إجلاء المخرج بوندارتشوك وطاقمه السي ...


المزيد.....

- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - منير المجيد - دليلي احتار