أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - محمد عبد الكريم يوسف - تلك الليلة (2)















المزيد.....

تلك الليلة (2)


محمد عبد الكريم يوسف
مدرب ومترجم وباحث

(Mohammad Abdul-karem Yousef)


الحوار المتمدن-العدد: 6996 - 2021 / 8 / 22 - 00:00
المحور: سيرة ذاتية
    


أَوّل تهنئة تأتيك عندما تولد يقول المهنئون لأبيك وأمك " أنه جاء إلى الحياة." ويبدؤون بوصفك إن كنت باسما أو عابسا أو مشاكسا ويذكرونك بكل هذا التفاصيل عندما تتقدم في العمر وعندما تحين الفرصة . وأَجملُ ما يحبو الإنسان عليه وينمو معه : استكشافُ الحياة من حوله في عطف الأهل وتحنانهم و في رؤية جمال الألوان وتمايزها مع عذوبة الأصوات والأنغام وفي تذَوُّق طعم الأطعمة.
ينمو الإنسان مع الحياة فتنمو فيه عوالم تزيده كلّ يوم إحساساً ومتعة بوعي الوجود.فتصير الحياة أحلى وأجمل .

وأجمل ما يكتشفه الإنسان عندما يفتح عينيه مستيقظاً عند الصباح أنه لا يزال حياً ، فلا يبهجه أن يبدأ يومَ عملٍ جديداً بقدر ما يشعر في أعماقه أنه يحيا من جديد.
هكذا عشت حياتي وهكذا سلكت طريقي بصمت إلى أن صارت تلك الليلة أجمل ليالي العمر وأحلاها .
تلك الليلة قرر مدرس العلوم والفيزياء والكيمياء لافوازية ( أخبرتكم عنه سابقا ) أن يسمّع لنا في نصوص مادة الكيمياء العضوية والروابط الكيميائية وكنا في الصف التاسع وكان يحق للأستاذ أن يعاقب تلاميذه لأننا كنا نعيش في مجتمع أبوي السيطرة فيه كاملة للأكبر سنا وسلطة وكانت سلطة المعلمين مطلقة في تلك الأيام . أحضر الأستاذ عبد الله رجب عصاه معه تلك الليلة . بدأ التسميع صباحا . وبدأت العقوبات تتوالى . وكنت لا أحفظ عن ظهر قلب إلا سؤال واحد في الكيمياء العضوية عن الروابط لأنه لفت نظري أثناء الشرح وكان حظي كبيرا أن كل الشعبة عوقبت بالضرب بالعصا وعندما حلّ دوري سألني لافوازية " عين السؤال الذي أحفظه عن ظهر قلب " فبدأت أشرحه له بطلاقة وعفوية ممزوجة بالدهشة مترعة بالخوف . في تلك الليلة سرّ الأستاذ مني وضربني مثلا للجد والاجتهاد وأنا في الحقيقة لم أكن أستحق كل هذا الثناء .
تلك الليلة ونحن في الصف التاسع أقنعني ابن خالي عبد الله عبد الله رحمه الله أن نهرب من حصة الرسم ظهر يوم الخميس ، وفعلا نفذنا المخطط المرسوم دون أن يلحظنا أحد . سررت بهذا العمل المقدام كثيرا لأنني كنت للمرة الأولى أخرج عن السلطة الأبوية وأنفذ شيئا جديدا كنت أرغب أن أقوم به في عقلي الباطن . فوجئت يوم السبت بأن مدير المدرسة ابراهيم الحكيم رحمه الله يطلبني للمثول أمام طلاب المدرسة بجرم الهروب من درس الرياضيات وأنا في الحقيقة هربت من درس الرسم لأنه لا يوجد مدرس رسم في تلك الفترة بسبب قلة المعلمين . أوضحت للأستاذ ابراهيم الحكيم صديق والدي أنني قد هربت من درس الرسم وأنه لا يوجد مدرس للمادة وكنت مشغولا بعمل للبيت وانهالت سلسلة التبريرات لكن المدير لم يقتنع أبدا وقال إنني هربت من درس الرياضيات الذي أعطاه هو في حصة الرسم وأن تمرينات /11/ هي الأهم وما كان عليّ أن أهرب من ساعة الرسم وفرض علي عقوبة أمام طلاب المدرسة بعد تحية العلم الصباحية يوم السبت ومنذ تلك الليلة لم أستمرىء لنفسي شيئا ليس لي . لقد كان درسا لا أنساه للأبد .
كان والدي عبد الكريم يوسف رحمه الله دائم السفر وكانت أمي تشرف على تربيتنا وتعليمنا رغم أنها أميّة لا تجيد القراءة والكتابة . كانت السيدة الفاضلة أم محمد تسيطر على مشاعرنا وعقولنا بالكلمة الطيبة فلا يتجرأ أحد من أولادها الخمسة أن يعصي لها أمرا أو يخل بقاعدة . وفي تلك الليلة في الصف التاسع طرحت عليّ فكرة أن تتابعني دراسيا وأن تسمّع لي المنهاج وأنا أحببت الفكرة والتزمت بها حتى النهاية . كنت أقرأ لها النصوص في الأدب العربي والتاريخ والجغرافيا والوطنية واللغات جهرا وكانت تحفظ النصوص عن ظهر قلب . يبدو أن أمي كانت تستمتع بالقراءة المسموعة وكانت تظهر لي أنها تحب سماع صوتي فأنا بكرها وصديقها وشريكها في كل المحن وكانت تمسك بالكتاب وتسمّع لي وتردني حين أخطئ وتصوب المعلومات . يسألها الناس حاليا كيف حفظت القرآن الكريم والتاريخ والجغرافيا والوطنية وهي أميّة . فتجيب مبتسمة : للعلم حدود تخطاها الله في قدرته.
في الصف العاشر ، كبرت قليلا . انتقلت إلى القطيلبية . كانت القطيلبية مركز ناحية أوسع فكريا وعمرانيا وثقافيا وسياسيا . هناك تعرفنا على الكتب والمجلات والرأي والرأي الآخر ومعارض الكتب . تلك الليلة اشتريت من المكتبة مجلة اسمها " هنا دمشق " كانت تصدر عن وزارة الإعلام السورية وفي الصفحة الأخيرة قرأت قصيدة للشاعر نزار قباني بعنوان " حكاية " . قرأتها أكثر من مرة وأعجبت بها وقلت في نفسي سأتلو لأمي القصيدة الجديدة الرائعة لنزار قباني . كنت أعتقد أنها أحدث قصيدة كتبها الشاعر . كانت كلماتها تقول :
كنت أعدو في غابة اللوز .. لما
قال عني ، أماه ، إني حلوه ..
وعلى سالفي ، غفا زر وردٍ
وقميصي .. تفلتت منه عروه
قال ما قال ، فالقميص جحيمٌ
فوق صدري ، والثوب يقطر نشوه
قال لي : مبسمي وريقة توتٍ
ولقد قال : إن صدري ثروه
وروى لي عن ناهدي حكايا
فهما جدولا نبيذٍ وقهوه ..
وهما دورقا رحيقٍ ونورٍ
وهما ربوةٌ تعانق ربوه ..
أأنا حلوةٌ ؟. وأيقظ أنثى
في عروقي ، وشق للنور كوه ..
إن في صوته قراراً رخيماً
وبأحداقه بريق النبوه
جبهةٌ حرةٌ كما انسرح النور
وثغرٌ فيه اعتدادٌ وقسوه
يغصب القبلة اغتصاباً .. وأرضى
وجميلٌ أن يؤخذ الثغر عنوه
ورددت الجفون عنه حياءً
وحياء النساء .. للحب دعوه
تستحي مقلتي .. ويسأل طهري
عن شذاه ، كأن للطهر شهوه ..
***
أنت .. لن تنكري علي احتراقي
كلنا في مجامر النار .. نسوه ...
كانت قصائد نزار قباني تفعل في الشباب فعلها تحرك المشاعر العاطفية والوطنية وكان مثل عبد الحليم حافظ رمزا من رموز الغرام والحب . وصلت للبيت تلك الليلة وقبل أن أتناول الغداء مع أمي بدأت أروي لها حكاية اكتشافي الجديد للقصيدة الجميلة الجديدة . استمعت إلي حتى انتهيت ثم ضحكت وأخبرتني أن القصيدة قديمة وأن والدي قد أهداها القصيدة منذ كانت في مرحلة العشق هي ووالدي .
تعلمت في الصف العاشر أن الحياة صفة الطموح والإقدام . إنها العافية والحب وركوب المغامرات . وكلما رأيت بلداً مزدهراً وشعباً راقياً ومؤسسة ناجحة وعملاً إبداعياً ساحراً وشوارع مزينة جميلة وبناء منسقا متسقا جميلا أقول في نفسي إن هذا البلد " مليء بالحياة "، أو "جدير بالحياة ".
من أُعطي متعة الحياة فأيّ متعة قد حُرم. وكل خسارة ، مهما عظمت ، لا توازي لحظة فرح .
ومن يقعده المرض عن الحركة وتثقل كاهله السنون ، يستعيد أجمل أيام شبابه باستعادة ذكريات جميلة ، استذكار قصيدة إلى حبيبة ، قراءة كتاب يفتح أمامه صفحات حياة جديدة ولا أحلى .



#محمد_عبد_الكريم_يوسف (هاشتاغ)       Mohammad_Abdul-karem_Yousef#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- خصائص التفكير النقدي
- تلك الليلة (1)
- آخر يوم في حياتي، روحان سين
- اغمرني وشد ، جانفر كارانزا
- الحمار في الحياة و السياسة والأدب
- أمي يا ملاكي
- أساليب كشف الفساد والرشوة في الشركات
- الدكتاتورية للمبتدئين
- تسوية النزاعات الدولية
- الحب والصداقة، إميلي برونتي
- حلم داخل حلم ، إدغار آلان بو
- التدريب الفعال بعد انتهاء الحروب الداخلية
- سر ، سيلفيا بلاث
- الحياة رقصة فلامنغو
- أخلاقيات العمل في الأوقات العصيبة
- الحوافز الايجابية والسلبية وأثرها على الأداء المؤسساتي
- لأرنب السوري ، ديانا ثوريسن
- أعط كل شئ للحب ، رالف والدو اميرسون
- سورية ، كلارينسين بيرين
- الطريق إلى دمشق ، ديانا ثوريسن


المزيد.....




- والدة شون كومز -مدمرة- بسبب الاتهامات الموجهة إليه
- ماذا قال نتنياهو في الذكرى السنوية الأولى لهجوم 7 أكتوبر؟
- جماعة انفصالية باكستانية تتبنى التفجير الذي أسفر عن مقتل عام ...
- تونس: سعيّد يفوز بولاية ثانية وفق نتائج رسمية بأكثر من %90
- مسيرة حاشدة في صنعاء في سنوية 7 أكتوبر
- -سرايا القدس- تتحدث عن أمر سيجبر إسرائيل على إبرام -صفقة جاد ...
- كيف ستوقف إيران حرب نتنياهو الوجودية؟
- بعد خيبة أمل واشنطن فيها.. زيلينسكي يضع اللمسات الأخيرة على ...
- الجيش الإسرائيلي يعزز قواته في لبنان بفرقة جديدة
- حزب الله يضرب تل أبيب ومواقع عبرية تتحدث عن انفجارات ضخمة في ...


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - محمد عبد الكريم يوسف - تلك الليلة (2)