أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - نور العذاري - جدلية الموت: اسئلة البداية وأجوبة النهاية















المزيد.....


جدلية الموت: اسئلة البداية وأجوبة النهاية


نور العذاري

الحوار المتمدن-العدد: 6994 - 2021 / 8 / 20 - 10:04
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


تشكل ثنائية الحياة والموت، الثنائية الأكثر جدلاً في حياة بني البشر، والتي لم يجد لها العلم بكل تطوراته إجابات وتفسيرات. من أينا أتينا؟.. والى أين نمضي؟.. مخيرين أم مسيرين؟. أيمكن أن نختار وقت الموت وطريقته وزمانه ومكانه فنموت كأبطال الروايات بعد أن ننهي رسالتنا في الحياة وننتهي من توديع الأحبة وتكون النهاية مع امتزاج الدموع التي تنساب من المآقي، أم أن الموت هو الذي يختار الوقت، يجهز علينا على حين غرة منّا، يفجعنا ويقتل كل فرحة فينا، تلك الأسئلة الوجودية التي ربما جسدتها قصيدة ( الطلاسم ) للشاعر
إيليا أبي ماضي أفضل تجسيد.

"‏يموت الحيّ شيئاً فشيئاً؛ وحين لا يبقى فيه ما يموت، يُقال: مات" مصطفى صادق الرافعي

الموت: هذا الغامض الخفي، الحاضر الغائب، المعلوم المجهول، القاصي القريب، الكتابة في حضرته تبدو مهيبة حيناً، وبسيطة حيناً آخر.
الفقد، ومن لم تلوعه مرارة الفقد؟ ومن لم يدرك ولو بعد مرور السنين معنى أن لا ترى أخاً، أو حبيباً، أو صديقاً، أو ابناً صغيراً اختطفه ذلك الذي يسمونه الموت؟ وهل غفر أحدنا لهذا الزائر قسوة فعله، وسرقة الحب والشّوق واللّقاء؟.
الموت ضرورة من ضرورات الحياة، نعم ضرورة للحياة ويكفى أن نتصور ماذا يحدث للكون إذا لم يكن هناك موت وماذا لو دامت حياة البشر والحيوانات والحشرات إلى ما لانهاية، لا شك أن الحياة كانت ستصبح مستحيلة للزحام نتيجة التكاثر المستمر لآلاف بل ملايين السنين وكانت الحياة ستصبح راكدة بلا تجديد، ولذلك فإن الموت والحياة صورتان لحقيقة واحدة. وفى الحياة لا شيء يهذب أرواحنا وينقيها من الشوائب العالقة بنا ولا شيء يضائل حجم مشاكلنا ولا شيء يجعلنا نراجع حساباتنا ونتسامح أكثر مع من اختلفنا معهم ويجعلنا أقزاما أمام أنفسنا ويعرينا ويمرغ أنفنا فى التراب ويجعلنا ندرك حقيقة أصلنا ومآلنا كالموت الذى تغذو بحضرته كل الأشياء عابرة بل وتافهة فهو ( الله ) الذي قهر عباده بالموت والفناء.
علاقة الحياة بالموت قديمة بدأت مع الحياة ، ولعل اقدم النصوص ذات الأصل السماوي عن الحياة والموت هو نصوص ديانة الصابئة المندائيين فقد تركزت نصوص كنزا ربا اليسار ونصوص كتاب الأرواح (سيدرا إد نشمتا ) على تتبع أثر الروح من وإلى عالم النور، وظهرت بذلك نصوص أسطورية كثيرة حولها. كذلك انعكست هذه الأساطير على الطقوس والشعائر فتكونت مجموعة منها لتسهيل حركة الروح وطهارتها وذاكرتها، وكما تميّز المندائيون بأساطير الخليقة الخاصة بهم فأنهم تميّزوا أيضاً بأساطير الموت والنهاية والفناء. فالمندائيون يرون أن الإنسان يحملُ في مادة جسده الفانية نسمة النور (نشمتا) وهي الوحيدة التي لا تموت ولذلك تخرجُ من الجسد بعد الموت لتعود إلى عالم النور، أما الجسدُ فيفنى(1).
إن أساطير خروج الروح ومحاولتها للعودة إلى عالم النور تشكِّل المتن الأساسي الأول في ما نسميه بأساطير الموت أو النهاية. حيث أن عودة الروح وعروجها تشكّل نصف الدائرة بينما يشكل هبوط الروح من عالم النور إلى الجسد نصفها الأول في بداية خلق الإنسان. ولذلك تتكون دائرة الروح من نصفين مترابطين، وتكون أساطير هذه الدائرة مشتملة على ميثولوجيا المبدأ (حيث هبوط الروح في خليقة الفرد) وميثولوجيا المعاد (العروج) (حيث صعود الروح بعد موت الفرد ) وعلى الروح أن تجتاز محاكمات ثلاث قبل عروجها الى عالم النور والخلود. وهي تختلف اختلافاً كليا على الديانتين اليهودية والمسيحية التي جاءتا بعدها واللتين تتفقان على أن الموت مرتبط بخطيئة آدم وعصيانه واختياره، عندما خالف وصايا الآله وأكل ثمر الشجرة المحرمة فخسر الخلود واستحق الموت. يقول المؤرخ الأمريكي دوغلاس ديفيس في كتابه
( تأريخ موجز للموت ) إنّ "الموت بدأ يتم فهمه كنوعٍ من العقاب الإلهي" وذلك بعد ظهور الإله من خلال الديانة اليهودية؛ حيث يشير ديفيس إلى أنّ "سفر التكوين برر ظهور الموت كعقابٍ على ما ارتكبه آدم وحواء من خطيئة؛ إذ قام الله بإنزالهما إلى الأرض بعدما كانا خالدين في الجنة"، ليعيشا في نعيم الحياة، لكن هذا النعيم، يظل محصوراً ومحدوداً، طالما العقاب الأبدي المتمثل بالموت دائم، ويرد في سفر التكوين (3: 19) "إنكما تراب، وإلى التراب تعودان" في إشارةٍ إلى الموت المحتم(2) لقد ركزت الديانة اليهودية على أن الموت هو انتهاء صلة الانسان بهذا العالم نهائيا حيث جاء في كتاب ( الجامعة 9: 5/6 ) (3) ما نصه "‏ + ٥-------- فَٱ--------لْأَحْيَاءُ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ سَيَمُوتُونَ،‏ + أَمَّا ٱ--------لْأَمْوَاتُ فَلَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا،‏ + وَلَيْسَ لَهُمْ أَجْرٌ بَعْدُ،‏ إِذْ قَدْ نُسِيَ ذِكْرُهُمْ.‏ + ٦-------- وَمَحَبَّتُهُمْ وَبُغْضُهُمْ وَغَيْرَتُهُمْ قَدْ بَادَتْ،‏ + وَلَا نَصِيبَ لَهُمْ بَعْدُ إِلَى ٱ--------لدَّهْرِ فِي شَيْءٍ مِمَّا سَيُعْمَلُ تَحْتَ ٱ--------لشَّمْسِ.‏ + " فهي ترى أنه عقاب ابدي لا رجعة منه أبداً، لكن ديانتين أخريين، هما؛ المسيحية والإسلام، تناولتا الموت في إطارٍ أوسع، وبدأ الموت يأخذ حيزاً كبيراً من اهتمامهما، فمن أجله وجد عالم كامل من الماورائيات، ومن المعرفة المتعلقة بما بعد الموت.
ويرى المفكر والمؤرخ جيمس كارس في كتابه ( الموت والوجود ) أن " "تجربة الموت، هي تجربة تقود إلى إدراك أنّه لا يمكن الاستمرار في الحياة، مما يجعل الحياة تفقد معناها، ولا يتم استعادة هذا المعنى للحياة إلا من خلال أكبر قدرٍ ممكنٍ من تبين الاتصال بالحياة بعد الموت".(4) حيث يرى أن هذا المفهوم قد بنت عليه الديانات عموماً رؤيتها للموت.
ويشير المؤرخ، إلى أن الأناجيل الأربعة في الديانة المسيحية تتوافق على فكرة قيامة المسيح، كما إنّها تؤكد أنّ المسيحي عموماً، يقوم ويبعث إلى حياةُ أكمل وأفضل بعد موته، حيث يرد في إنجيل يوحنا (11:25): "أنا هو القيامة والحياة، من آمن بي، وإن مات، فسيحيا". وبين طيات إنجيل يوحنا، يتم الكشف عن أنّ "المسيحي لا يمتلك الحياة الأبدية إلا إذا آمن بالرب وبالابن الذي أرسله".(5)
ويرى كارس، أن اليهودية والمسيحية تتفقان على أن الموت كان عقاب الإنسان (آدم وحواء) على تحدي "الخط الفاصل بين الوجود الإلهي والوجود البشري، فعوقب الإنسان بالموت على خطيئته الأولى والأساسية"، وهكذا لا يكون الموت في المسيحية أو اليهودية أمراً ناتجاً عن الطبيعة، بل عن علاقة الله بمخلوقاته "(6). غير أنه يجب أن لا يفهم أن هذا العقاب يفرض على الانسان لكونه انساناً، بل يفرض عليه حكماً لكي يبقي الرب الفارق بين ما هو انساني وما هو الهي.
أما الاسلام فهو يعرف الموت على أنه "انقطاع ومفارقة وتبدل حال وانتقال من دار إلى دار". ويحيل الإسلام مباشرةً إلى فكرة الدار الآخرة من خلال هذه المقولة التعريفية، حيث يقول تعالى في القرآن الكريم "وَمَا هَٰ--------ذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ۚ-------- وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ۚ-------- لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ" (سورة الروم – الآية 64).
ويعد الموت في الإسلام، مجرد مرحلةٍ انتقاليةٍ من الحياة إلى الآخرة، حيث يلاقي المؤمن الله، ويخاف الكافر من لقاء ربه، لكن المؤكد في الإسلام، أنّه لا يوجد انقطاعٌ عن الوجود بعد الموت، حيث تصعد الروح إلى السماء، ويدفن الجسد في القبر، إلى أن يُبعث في يوم القيامة.
ولعل أهم ما تتفق عليه كل الأديان السماوية، وإن اختلفت طريقة التعبير، أو زاوية الرؤية، هو أن الأبرار سينعمون بالحياة الأبدية، والحياة الأبدية في نظر المسيحية هي التي سينعم بها الأبرار في حالتهم النهائية، فالمسيحي على وعي تام بأنّ أفعاله هي التي ستحدد حياته التي يجب أن يتقبلها بعد الموت. القدّيس الفيلسوف أيوستينوس الشهيد يتكلّم عن هذه النقطة: "تمكث نفوس الأبرار في أفضل مكان، بينما تمكث نفوس الخطأة في أسوأ مكان في انتظار الدينونة العظمى التي ستلي قيامة الأموات العامة".(7) حيث تغدو حياة ما بعد الموت صنيعة إنسانية فردية، لا يتساوى فيها اثنان، فمثلما نزرع نحصد، ولاريب أن هذه الفكرة قربت مفهوم الموت، وربطته بما بعده، وهذا جلياً في الديانات السماوية، والتي جعلت من فكرة الثواب والعقاب فكرة رصينة، يرسمها الإنسان لنفسه ويختارها بأفعاله، وهذا ما التمسناه في الديانتين اليهودية والمسيحية، وما ترسمه لنا الديانة الإسلامية من تخوف ورهبة حين تتحدث عن هذا المفهوم، لا يقل عن السكينة والاطمئنان؛ ولعل الإشكالية تكمن في هذه النظرة المزدوجة التي تجتمع في تصورنا عن مفهوم الموت، وقد وردت آيات كثيرة في القرآن الكريم: "الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً" (قرآن كريم، الملك، 2)
فالنظرة للموت والحياة عند المسلم تتجلى في ما يقوم به لأجلهما، "الله يتوفى الأنفس عند موتها، والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجلٍ مسمى" (قرآن كريم، الزمر، 43(.
أما رؤية الإسلام للموت فهي رؤية منهجية ومتكاملة، فهو مفترق الطرق بين سبيلين، والموت في الإسلام ليس انقطاعاً عن الحياة كما يعتقد الكثير من الناس، بل هو الانتقال إلى الحياة الآخرة، والمسلم يحب لقاء الله، والله يحب لقاءه، أما الكافر فيكره لقاء الله، والله يكره لقاءه.
والموت في الفكرة الإسلامية أشبه بمصفاة للخير عند المؤمنين الصالحين، فهم لا يفارقون صلاحهم ولا يتركون الخير الذي قدموه ولا ينقطعون عن الهدى والفضل، إنما الذي يفارقهم هو تبعة الابتلاء الحياتي، وثقلة الجسد الدنيوي، ومسؤولية التكاليف التي سيسألون عنها، أما المتاع الصالح، فلهم مثله وخير منه، فالزوجات الصالحات العابدات، والذرية الصالحة الطيبة معهم في الآخرة: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّ‌يَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّ‌يَّتَهُمْ} (قرآن كريم، الطور: 21)، وكل متاع كريم في الدنيا لهم وأفضل منه في الآخرة: "فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّ‌ةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (قرآن كريم، السجدة: 17((8).
من هنا نجد أن الديانات تقريباً تتفق على عالم آخر تذهب اليه الارواح منفصلة عن الجسد البالي المثقل بأوزار الدنيا وهمومها والذي يحد من حركتها، إنه عالم أثيري لتلك الأرواح الخفيفة والصالحة وغير المثقلة بالذنوب والخطايا التي تتراكم جراء ما ارتكبت من ظلم لبني البشر ولوجه البسيطة عموماً. أما تلك الأرواح الأخرى فلا حرية لها بل ستبقى مقيدة الى العالم السفلي أو الى العذاب الأبدي. وباعتقادي أن هذا المفهوم الأخير تتفق عليه كل الديانات التي عرفتها البشرية سماوية كانت أو غير سماوية، فتوثبت للاستعداد له تارة بالعمل وتارة بالتعاويذ والطلاسم كما يفعل المصريون القدماء.
أما أساطير الأولين فهي الأخرى اعتنت بالموت، ولعل ملحمة "جلجامش" شهدت أول نصٍ مسجلٍ وواضح، يدعو إلى البحث عن الخلود، ويندب الموت؛ حيث يسعى "جلجامش" للبحث عن الخلود في الطبيعة، بعدما فجع بموت صديقه وغريمه في آن "إنكيدو"، حتى أنه يحاول البحث عن طريقة ليلتقي بها صديقه هذا، بعد الموت. وتمثل أسطورة جلجامش فكرة الموت، على أنها جزء من الطبيعة، وأنه ابن الحياة وصراعاتها المتعلقة بالبقاء والوعي والعلاقات التي يراد لها أن تستمر ويقطعها الموت، ولعل المصريين القدماء، كانوا أول من تبنى فكرة استمرار الحياة بعد الموت، فقاموا بتحنيط ملوكهم، والحفاظ عليهم كأنهم أحياء (المومياء)، إيماناً منهم بأن للميت دوراً في الحياة الاجتماعية، وأنه يواصل هذا الدور في الحياة رغم موته. أما البوذية، فإنها تركز على "أن الإنسان في حال انشغل بملذات الحياة وشهواتها، فسوف يصبح مهموماً بالموت ومجيئه، أما إذا حاول التعالي عن الحياة، والبحث عن أسبابٍ ومعانٍ أعمق لها، فإنه سوف يتجاوز الحياة العادية، وكذلك الموت".
وتشترك كل من البوذية والهندوسية، وكذلك معتقداتٌ أخرى مثل الطاوية والسيخية، والدرزية، بتناسخ الأرواح، الذي يعني أن "الموت سوف تليه حياةٌ أخرى للروح، التي سوف تتقمص جسداً آخر، لإنسانٍ أو حيوانٍ أو نبات، وربما تعود هذه الروح، حاملةً معها خبراتِ صاحبها قبل موته، لكن في مكان وزمن وجسد مختلفين".(9)(10)
ولا يمكن في هذا السياق إهمال دور الفلسفات الغربية والعالمية التي تناولت الموت، فهو منذ فجر الفلاسفة، موضوعٌ مؤرق أيضاً، فسقراط اعتبره "نهاية المعرفة وغياب الوعي"، بينما رأى فلاسفة وجوديون مثل سارتر أنّه نوعٌ أقصى من أنواع الحرية، ونظر إليه علماء نفس ومفكرون من أمثال فرويد ويونغ، على أنّه نهايةٌ لعلاقاتٍ عديدة ارتبط بها الميت، كالكره والحب والمصلحة، مما يخلف وراءه بشراً يكرهونه كذلك، أو يحبونه، أو لا يكترثون لموته أصلاً.
تاريخياً وفنياً وأدبياً وحتى من خلال الميثولوجيا حاول الانسان التغلب على فكرة الموت خوفاً على ذاته أو خوفاً من فقدان الأحبة، والاصحاب والأهل والذي يترك ندبة في القلب لا يمحوها حتى النسيان الذي جبل عليه بنو البشر. فصوروا الموت بصور مختلفة، وجسدوا عودة الروح وتناسخ الأرواح بمفاهيم مختلفة. ويرى دوغلاس ديفيس أن الفنون البصرية والأدب والموسيقى أحبطت الموت في امتلاكها الكلمة النهائية وتوسيع حجم الأمل في الاستجابة الإنسانية لشرط الموت والتغلّب على الفجيعة. نرى ذلك في «الكوميديا الإلهية» لدانتي، و»الفردوس المفقود» لميلتون، وموسيقى «المسيح» لهاندل، بالإضافة إلى عشرات الأعمال التشكيلية، والتماثيل، والفوتوغرافيا المتعلّقة بالموتى.
هذه الأعمال وسواها، أدت دوراً مهماً في تاريخ التأمل الإنساني للموت، وصولاً إلى قرننا الحالي الذي رسّخ اعتقاداً لدى شريحة واسعة من البشر بطرد ألم الفراق، والإنصات إلى «بهجة العيش». وتالياً، فإن «تاريخ الموت هو في الوقت ذاته تاريخ للأمل»(11)، وذلك بتحويل فكرة الأمل المجرّدة إلى عاطفة محسوسة. من الأعمال الأدبية والفنية التي جسدت الموت سأختار على سبيل المثال ثلاثة أعمال فنية تعاملت مع فكرة الموت بشكل مباشر.
الأول هو فيلم ( أورفي ) للشاعر والمخرج الفرنسي جان كوكتو والذي عرض عام 1950. من المدهش في فيلم “اورفي” انه يقدم الموت بصورة اخرى مختلفة وجديدة، وهو في احدى المناسبات ينفي ان يكون الفيلم يحتوي على رموز فالموت هنا امرأة جميلة وجذابة تسلب عقل الشاعر وتقوده الى عالم ميتافيزيقي، بل تعشقه الى حد الجنون وهو يبادلها نفس المشاعر، والموت هنا يسيطر على العالم وكأن العالم خُلق لكي يكون الموت فالبطولة في الفيلم هي للموت وحده، هنا اورفي الشاعر لا يفر من الموت بل يركض وراءه محاولا اكتشافه، اكتشاف سر قوته وسبب وجوده في هذا العالم.
كوكتو في فيلمه “اورفي” يخالف الكثير في تقديم صورة الموت كونه هنا صورة جميلة من خلال شخصية الاميرة الجذابة المغرية والقوية، فالموت هنا ليس النهاية والعدم بل هو هنا لإِثارة الكثير من الاسئلة حول الوجود والحب والسعادة والرعب، الخوف لا يأتي من الموت بل من الحياة التافهة التي لا معنى لها. وكوكتو هنا يجعلنا نقترب من الموت ليس كشبح مخيف بل كصديق وحبيب رائع مغر، وهو اي الموت بالنسبة لجان كوكتو قوي وشاب وقاهر وقادر على الاستمرار والخلود.
الثاني هو فيلم الشبح ( Ghost ) وهو فيلم فنتازيا تم إنتاجه في الولايات المتحدة وصدر في سنة 1990 قام ببطولته باترك سويزي وديمي مور وهو يعد من روائع الأفلام المتعلقة بالموت والحب والذي يعد تجسيداً لفكرة تقمص الروح بالجسد من خلال سام بطل الفلم ذو الروح الصالحة الذي يتجلى بجسد مشعوذة تمكنه من وداع حبيبته للمرة الأخيرة وهي اللحظة التي يتمناها كل من الاموات والأحياء على حد سواء. ومنا من هو مستعد لأن يدفع الباقي من عمره مهما بلغ عدد سنواته مقابل لحظة واحد يحتضن فيها فقيده الذي فجع به أباً كان أو أماً، حبيباً أو ابنا.
ما العمل الأخير فهو فيلم رسوم متحركة بعنوان ( Coco ) انتج عام 2017 وهو قائم على طقس يوم الموتى الذي يوافق الاحتفال به يومي الأول والثاني من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر من كل عام، حيث يتذكر المكسيكيون أسلافهم وأقاربهم الذين فارقوا الحياة. وهناك بعضا من الدول اللاتينية وأمريكا والفلبين يحتفلون بهذه المناسبة ولكن بنسبة أقل. حيث يعتقد المحتفلون ان أرواح الأطفال الموتى ترجع إلى الأرض في اليوم الأول من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) و في اليوم الثاني يكون الدور على أرواح البالغين حيث تهبط الأرواح إلى الأرض. خلال السنة يستعد الناس بالاحتفال بهذا اليوم من خلال جمع القرابين التي سوف تقدم خلال المهرجان أما أرواح من لا يذكرهم أحد فإنها تبقى حبيسة لا يسمح لها بالعودة.
يبقى الموت، سؤال البشرية الأكبر، مثلما سؤال الوجود، ويبدو كل من الحياة والموت جزءاً منه، أو أن الحياة نقيضة للموت، أو إنها مجرد مرحلةٍ انتقالية، أو وهم، أو شيء بلا معنى، لا يمكن اليوم تنحية آراء الديانات في الموت، ولا العلم، ولا الفلسفة، كل منها يسعى إلى تصميم صورة مقبولة له، يمكن أن ينظر إليها الإنسان وأن يتقبلها، وهو الذي تنازعه نفسه بين حياةٍ قصيرةٍ مملوءة بالمجد والآلام، أو أخرى مريحةٍ، لكنه يبقى أسيراً للثنائية الأكبر؛ الوجود والعدم.
أما هاجس الأحياء الأكبر مع كل فقد وكل معاناة يدور حول مصير الموتى ولقائهم خاصة في تلك اللحظات التي تعقب الفقدان، تلك اللحظات التي لا تزال فيها رائحة الميت تملؤ المكان، لا تزال ملابسه مبعثرة هنا ومعلقة هناك، أدواته، اشياؤه، تفاصيل حياته وتلك الجزئيات الصغيرة، صوته الذي يعطي المكان صخبا ويعطينا راحة واطمئنان. لا يقتصر الفقد على الكبار، حتى الصغار تشعر معهم بالأمان ونشعر خلافهم باليتم والثكل فهم اباؤنا مستقبلاً حين نغدو عاجزين.
ويبقى السؤال الأهم بعد كل فقد عن الطريقة المثلى للقاء من فقدنا.
" أحنُ الى امي هذا المساء كثيرا .. هل يحنُ الينا الموتى تحت التراب كما نحن! ليت هناك محطات خاصة نودع عليها الموتى، نصافحهم، نقبلهم، نوصيهم بأنفسهم خيراً، ثم نلوح لهم مودعين! "
هذا ما كتبته إحدى السيدات على صفحتها الشخصية على موقع التواصل الاجتماعي استحضر بقراءته كل الراحلين الذين رحلوا عنا على حين غرّة، أولئك الذين تحن نفوسنا الى لقياهم. الى رؤية ابتسامتهم ومحياهم. الى لمسة عطف من اياديهم المباركة. الى احتضانهم ولو مرة واحدة ولنخبرهم بشوقنا ولنريهم تلك القلوب التي لا زالت صورهم معلقة على جدرانها، لنلوح لهم بالأيدي حين يركبون قطار المجهول ولنخفي عنهم مصادر دموعنا عند رحيلهم مرة،
تلك المحطات لو وجدت ستكون اشد وجعاً من الموت نفسه لذا جعلها الله مغيبة والا فالموتى أكثر منا حياتاً في عالمهم المجهول وأكثر انطلاقاً خاصة أولئك الذين قُدر لهم أن تُمنحَ أرواحهم السكينة والسلام الأبديين. هذه المحطات محصورة في الرؤى وفي الأحلام ومحظوظ جداً من يرى أحبته في حلم ولو للحظة واحدة فهي تعادل الدنيا وما فيها.
العظماء والشهداء(12) لا يموتون مطلقاً، فهم خالدون، يتظاهرون بالموت فقط كما يقول جان كوكتو وهو يصور مشهد موته. إنهم أكثر منّا حياة وأثارة.
أما الموتى الصالحون فهم أحياء يشعرون بنا ويحنون إلينا، تطوف أرواحهم حولنا لتمنحنا بعض السكينة في الرؤى. إنه تلاقٍ حقيقي وتلامس للأرواح.
الحنين للموتى موتٌ آخر نتقاسمه مع تفاصيلهم المُتبقية ، مع رنين ضحكاتهم العالقة في نوافذ الذكريات
الموتى أحياء.
......................................................................................................
(1) د. خزعل الماجدي، الموت والآخرة والخلاص في الديانة المندائية، مدونة الكترونية.
(2) عاصف الخالدي، الموت بين الدين والفلسفة، موقع حفريات الالكتروني.
(3) سفر الجامعة، الكتاب المقدس على الانترنيت، 9:5/6.
(4) جيمس ب. كارس، الموت والوجود، دراسة لتصورات الفناء الانساني في التراث الديني والفلسفي، ترجمة بدر الديب، المجلس الاعلى للثقافة، مصر/1998.
(5) جيمس ب. كارس، مصدر سابق.
(6) جيمس ب. كارس، مصدر سابق.
(7) يسرى وجيه السعيد، اشكالية الموت في الديانات السماوية والأرضية، دراسة تحليلية، موقع مؤمنون بلا حدود الالكتروني.
(8) يسرى وجيه السعيد، مصدر سابق.
(9) عاصف الخالدي، مصدر سابق.
(10) احلام رحال، هاجس البعث والموت والقيامة في الحضارة الانسانية، مدونة شخصية، موقع الاجنحة والنور.
(11) دوغلاس ج. ديفيس، الوجيز في تأريخ الموت، ترجمة محمود منقذ الهاشمي، الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق،2014.
(12) الشهيد من يمنح وجوده بالكامل ويفنى بلحظة واحدة من أجله وطنه وعقيدته ومبدئه، يختار زمان الموت ومكانه ويجهز عليه بنفسه فيغدو بلحظة واحدة كائنا مقدساً قداسة الفكرة التي ضحى من أجلها، إنه ينتقل الى المطلق عبر الموت فيظل خالداً أبد الدهر ما بقيت الحياة على الأرض.



#نور_العذاري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اوراق مهربة في ليلة الميلاد (3)
- أوراق مهربة من أقبية سرية - صدى الذاكرة (2)
- أوراق مهربة من أقبية سرية - صدى الذاكرة (1)
- ملحمة القيامة
- - ملحمة القيامة -
- أوراق مهربة من أقبية سرية.. من ذاكرة امرأة في زمن الخوف
- أوراق مهربة من أقبية سرية.. رسالة الى قمر لبنان وجارخيتي
- اوراق مهربة من أقبية سرية.. رسالة طفل عراقي
- خربشات على جدار كنيسة قديمة!!..
- أوراق مهربة من أقبية سرية 6
- أوراق مهربة من أقبية سرية - في رحاب القمر
- الأتفال.. جريمة هل يطالها القانون؟... هوامش بمقالة - قلبي مع ...
- أوراق مهربة من أقبية سرية 4
- أوراق مهربة من أقبية سرية* 3
- وحتى اشعار آخر!!.. ولادة في مبغى غير شرعي!!..
- تراتيل صوفية عابرة
- ويسقط الحائط الرابع والعشرون
- ذكريات على شجرة صفاف مقطوعة
- نصب الشهيد...مأساة اللاوعي العراقي المزمن
- الديمقراطية الاسلامية ودكتاتورية رجال الدين المسيس


المزيد.....




- ماذا قال الجيش الأمريكي والتحالف الدولي عن -الانفجار- في قاع ...
- هل يؤيد الإسرائيليون الرد على هجوم إيران الأسبوع الماضي؟
- كوريا الشمالية تختبر -رأسا حربيا كبيرا جدا-
- مصدر إسرائيلي يعلق لـCNN على -الانفجار- في قاعدة عسكرية عراق ...
- بيان من هيئة الحشد الشعبي بعد انفجار ضخم استهدف مقرا لها بقا ...
- الحكومة المصرية توضح موقف التغيير الوزاري وحركة المحافظين
- -وفا-: إسرائيل تفجر مخزنا وسط مخيم نور شمس شرق مدينة طولكرم ...
- بوريل يدين عنف المستوطنين المتطرفين في إسرائيل ويدعو إلى محا ...
- عبد اللهيان: ما حدث الليلة الماضية لم يكن هجوما.. ونحن لن نر ...
- خبير عسكري مصري: اقتحام إسرائيل لرفح بات أمرا حتميا


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - نور العذاري - جدلية الموت: اسئلة البداية وأجوبة النهاية