أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح هرمز الشاني - تحفة الرمّال مفقودة أبن زنبل. . . روايتان في رواية واحدة. .















المزيد.....


تحفة الرمّال مفقودة أبن زنبل. . . روايتان في رواية واحدة. .


صباح هرمز الشاني

الحوار المتمدن-العدد: 6979 - 2021 / 8 / 5 - 17:49
المحور: الادب والفن
    


إذا كانت الرواية التأريخية قد لاقت رواجا منذ ظهورها في أوروبا في القرن التاسع عشر على والتر سكوت والكسندر توماس وفكتور هوغو وتولستوي، فإن الرواية التأريخية العربية التي بدأت على جرجي زيدان لم تلق الرواج الذي لاقته الرواية الأوروبية، وأبرز الذين خاضوا تجربتها هم: توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وجمال الغيطاني من مصر، أما من العراق محمد الأحمد في (دمه) التي صدرت قبل عامين، والرواية التي نحن بصددها الموسومة (تحفة الرمال مفقودة أبن زنبل) لسعد السمرمد الصادرة هذا العام.
تقع هذه الرواية في (414) صفحة من الحجم المتوسط، موزعة على (167) فصلا قصيرا لا يبلغ عدد كل فصل من فصولها على الصفحتين، وفي أقصى الحالات ثلاث وقد يتجاوزها الى أربع أحيانا، معززا كل فصل بعنوان، بادئا الفصل الأول بعنوان (أبن زنبل)، والفصل الأخير بعنوان (أسدل عليها الستار). كما أن الرواية على إمتداد هذه الفصول، تبدأ بفصل تتعرض فيه الى الوضع الذي شهده العراق بعد الإحتلال من خلال عائلة (أكرم)، يعقبه فصل آخر يتصدى فيه الى الأحداث التأريخية التي مرت بها مصر، عبر الحروب التي خاضتها مع الدولة العثمانية، والمؤامرات التي أدت الى سقوطها، وإحتلالها من قبل سليم الأول العام 1516.

وبهذا فإن أحداث الرواية تدور في حقبتين مختلفتين ومتباعدتين زمنيا. إذ تسبق الأحداث التأريخية الجارية في الرواية للأحداث التي وقعت بعد الإحتلال في العراق أكثر من خمسمائة عاما. ولكن للإختيار الصائب والسليم من قبل السارد الضمني للأحداث التأريخية التي تنسجم مع الظرف الحالي الذي يمر به البلد، وتوظيفها لما يتلائم مع المعطيات المستجدة، فقد بدا الحدثان وكأنهما حدث واحد، أو كأن الأحداث الجارية في العصر الراهن، هي إمتدد للأحداث التأريخية التي وقعت قبل خمسمائة عاما، ليعيد التأريخ نفسه، مع أنه ينبغي أن يكون عكس ذلك، ألآ يتكرر. وربما هذا ما أراد أن يؤكد عليه السارد، وهو أن التأريخ يعيد نفسه، مؤكدا ذلك على لسان أبن زنبل الرمال وهو يضرب برمله ويتنبأ بالأحداث التي ستقع في العراق بعد خمسة قرون.
يتخذ السارد من خيانة (أكرم) لشقيقه (قحطان) التوأم، وعمالته للغازي، متمثلا بشخصية (ستيوارت)، المتن الحكائي للأحداث التي يعول عليها في الوقت الحاضر، جاعلا من خيانته رمزا للحرب الطائفية التي أندلعت في العراق أثر السقوط، وعمالته عنوانا للخسة ودناءة النفس، لهاثا وراء مال السحت.
معظم الشخصيات التأريخية للرواية حقيقية، سيما الرئيسة منها، مثل شخصية سليم الأول، وشخصية قانصوه الغوري، وشخصية أبن زنبل الرمال. وكذلك الأحداث التي جاءت في الرواية، وعلى نحو خاص معركة (مرج دابق)، حيث قامت هذه المعركة عام 1516 بين العثمانيين والمماليك قرب حلب في سوريا، وأنهزم جيش المماليك في هذه المعركة بسبب الخيانة والمدافع العثمانية والفارق البشري بين الجيشين. في إشارة واضحة ومطابقة لإنهزام الجيش العراقي في حرب الخليج الثانية أمام قوات دول التحالف المعززة بالسلاح المتطور.
وللتأكيد على أن الشخصيات الرئيسة حقيقية وعاشت في الفترة التي تجري فيها أحداث هذه الرواية، وليست من صنع خيال المؤلف، كما يوميء في مستهل روايته، وعلى أساس أنها شخصيات خيالية سوف أتعرض لسيرة حياة ثلاثا منها فقط بإيجاز شديد.
1-قايضوه الغوري: هو من سلاطين المماليك البرجية. ولد سنة 1446م، بويع بالسلطة عام 1500م. كان مغرما بالعمارة، فازدهرت العمارة في عصره.
2- أبن زنبل الرمال، أسمه الحقيقي هو: أحمد بن علي الرمال، مؤرخ ومؤلف وكاتب ومنجم مصري مسلم، عاش في القرن الخامس عشر. لا تحدد المصادر ميلاد أبن زنبل، لذا يقدر الباحثون أنه ولد في مدينة الحلة في الدلتا عام 1500 ويقدر بعضهم تأريخ وفاته عام 1572م.
3-سليم الأول: هو تاسع سلاطين الدولة العثمانية وخليفة المسلمين الرابع والسبعون، وأول من حمل لقب أمير المؤمنين من آل عثمان. حكم الدولة العثمانية من 1512الى عام 1520.
أتعرض لهذه الشخصيات ليس فقط للتأكيد على أنها شخصيات حقيقية، وإنما أيضا للتأكيد على سعي المؤلف في تمويه المتلقي على أنها من صنع الخيال. وهذا ما سأتناوله لاحقا.
ثمة من يتصور أن الضرب بالرمل من قبل أبن زنبل الرمال، الشخصية الرئيسة في الرواية، هو نوع من أنواع الشعوذة والدجل، في سعي من السارد الضمني توظيف هذه التقنية كأداة لقراءة المستقبل من خلالها. بقدر ما في هذا السعي من صواب، بالقدر ذاته لا يخلو من مغالطة. فيه قدر من الصواب ذلك أن الضرب بالرمل كما تقول بعض المصادر، ولاسيما التي تؤمن بالغيبيات كالصوفية مثلا، أنه علم و سر من الأسرار العظيمة، وأول من نزل به بأمر الله هو سيدنا جبريل الأمين على بني الله أدريس . وقد جاء في الحديث عن سيدنا محمد (ص): (كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك إذن فهو مسلم جليل بشأنه. وفيها قدر من المغالطة، بوصفها تندرج ضمن أعمال السحر التي لا يعترف بها العلم.).1
من وجهة نظر المؤمنين بالغيبيات، هو ليس علم فقط، بل ثمة عدة طرق لإستعمالاته، منها ما يسمى بضرب الرمل بخط نقط متتالية (تنقيط) بدون عد، هذه النقط على مدار معين من الأسطر، ومن الكشف بعد ذلك على إعداد هذه النقط في كل سطر يستخرج ما يعرف بالأشكال الرملية، ومنها تتكون التخت (الهيئة الرملية) وهي تماثل الهيئة الفلكية تقريبا في نظمها. .يحدث كل هذا، بعد أن يكون ضارب الرمل قد أنتقل من عالم المادة الى عالم الروح عن طريق النية الصادقة للعمل والإخلاص فيه والقراءات والتلاوة الدينية الضمنية والباطنية في هذا الإنتقال وبعد أن يخط خطوط مسكن الأربعة من المساكن الأربعة لتخت.2
وللتأكيد على أن الضرب بالرمل أنجع وسيلة لقراءة المستقبل، فقد تحققت معظم تنبؤات أبن زنبل، ما عدا واحدة منها، وهي تنحية قايضوه الغوري عن كرسيه من قبل (سيباي) التي لم تتحقق من ببن (24) تنبؤا. وتماثل توظيف هذه التقنية في قراءة المستقبل، تقنية توظيف الإيحاء، وكذلك في توظيف الخرافة والإسطورة، علاوة على الملائكة والشياطين والجن.
(جرى الإتفاق على أن الرواية التأريخية عمل فني يتخذ من التأريخ مادة للسرد، ولكن دون النقل الحرفي له، حيث تحمل الرواية تصور الكاتب عن المرحلة التأريخية وتوظيفه لهذا التصور في التعبير عن المجتمع أو الإنسان في ذلك العصر أو التعبير عن المجتمع في العصر الذي يعيشه الروائي، ولكنه يتخذ من التأريخ ذريعة وشكلا مغايرا للحكي.).3
إن رواية (تحفة الرمال مفقودة أبن زنبل) تبدو في الظاهر ليس رواية واحدة، وإنما روايتان، الرواية الأولى أحداثها موغلة في القدم، والرواية الثانية أحداثها معاصرة، وما زلنا نعيشها لحد اللحظة. وفي الباطن فإن الحدثين هما في رواية واحدة، ذلك ليس لأن الحاضر في نهاية الرواية يلتقي بالتأريخ من خلال السطو على كتاب تحفة الرمال فقط، بل لتشابههما مع بعضهما البعض، كما في الأحداث، كذلك في الشخصيات. لذا فهي في المآل رواية واحدة، تتخذ من الأحداث التأريخية التي شهدتها مصر والأمبراطورية العثمانية في القرن الخامس عشر مادة لسرد ما يتوائم من تلك الأحداث مع الأحداث الجارية حاليا، وتوظيفها لها ، أي للعصر الراهن.
إن تعويل الرواية على الأحداث والشخصيات التأريخية، جنبّها من الوقوع في شرك المباشرة والتقريرية، مثلها مثل الأحداث والشخصيات المستمدة من أرض الواقع الراهن التي أعتمدت في تصويرها على الإيحاء واللمز والغمز. ولعل هذا ما أراد أن يقوله السارد، أن الرواية بالرغم من إعتمادها على الـتأريخ، فهي ليست رواية تأريخية، وإنما رواية فنية، عندما أشار الى عدم التصديق بشخوص الرواية، ولا تعتقدوا بهم، بل تقبلوهم بصفاتهم الرمزية والحكائية، لأنهم من صنع الخيال. أنه بذلك يريد أن يحيل المتلقي من خلال تجاوزه المباشرة على التأريخ، وتعويله على رمزية شخصياته، أن يحيل المتلقي الى الـتأريخ المتخيل، وذلك عبر ربط أحداث وشخصيات الرواية المعاصرة بأحداث وشخصيات الرواية التاريخية، بوصف الأولى إمتداد للثانية، وقرينتها.
تبدأ الرواية من حيث تنتهي بالقضاء على أكرم عن طريق إنفجار سيارة ملغمة، حيث: (كانت قطع الزجاج المتناثرة بصورة عشوائية قد أخترقت بدن الحقيبة وفتحتها على ظهرها، ما كان يخفيه أكرم قد بان بصورة جلية. غطت قطرات الدم والزجاج المتناثر حروفه القديمة، لكن عنوانه كان واضحا للعيان (تحفة الرمال).
يبدو أن أكرم كان عائدا من المهمة التي كلفها به ستيوارت، وهي إخراج كتاب تحفة الرمال من قبر الشيخ فضول الدائي، حيث دفن معه في كربلاء، أثناء إنفجار سيارة ملغمة بالقرب منه، وأغلب الظن إن هذا الإنفجار قد خطط له ودبره ستيوارت للتخلص من أكرم الذي خان الامانة وأطلع على الأسرار الثمينة الموجودة في الكتاب، وذلك من خلال إعترافه لستيوارت أنه قرأه، لكنه لم يفهم منه شيئا، هذا يعني انه قد قرأه، وربما نسخ الكتاب. وإذا شئنا التأويل لعدم إعتماد ستيوارت عليه، وفقدان الثقة به، لأنه أختبر معدنه وعلى دراية بخسته ودنائته وضعفه حيال النقود، لذا فلا مانع له لقاء إغراءه بحفنة من الدولارات من قبل الذين يتجسس عليهم ستيوارت، أن ينقلب عليه ويكشف لهم اسرار الكتاب. إن الإنفجار قد خطط له ودبره ستيوارت، لأنه سبق وأن هدده وهو يخرج مسدسه والقمه طلقة ووجهه نحو رأس أكرم.
ما أشبه اليوم بالبارحة، وقنصوه الغوري ينتقل من عبودية السلطان (قايتباي) وراعي لماعزه الى ملكا على مصر والشام. في إشارة واضحة الى إنتقال الطاغية من عبودية زوج أمه وراع لأغنامه الى رئيسا لجمهورية العراق: (أيها الجركسي قنصوه أنت حر لوجه الله.).
إن المقارنة بين أحداث وشخصيات الحقبتين، تبدأ من الصفحات الأولى للرواية، تحديدا بين الشخصيتين اللتين يتربعان في أعلى هرم السلطة، شروعا من تفسير حلم الشيخ فؤاد الدين، وهو يرى في منامه شجرة تحمل ثمرة رمان واحدة، وقانصوه الغوري يهم بقطفها. إن هذا الحلم أقضى مضجعه، وجعله ألآ يبرح داره ويصلي خشية أن تفلت هذه الثمرة من بين يديه، ويدخل في مونولوج مع نفسه، واعدا ذاته، بأنه لن يكون ظالما، وسيكون القرآن الحد الفاصل بين الناس. ولكنه ما أن يستلم الحكم وفي أول خطوة له، يسعى الى معرفة كيفية ملء خزانة الدولة، ولا يتوانى أن يعمل بنصيحة أبن زنبل التي مفادها أن يزيد في الضرائب، ويصلح الخرائب، ويأخذ أجرة أملاك القاهرة لعدة أشهر.
إن إنشراحه بإمتلاء خزانة الدولة، جعلته أن يبحث عن وسائل أخرى، تزيده سعادة، فوجد في التحقق من حاضر ومستقبل الجالسين في مجلسه أفضل وسيلة لبلوغ السعادة التي ينشدها وإمتاع ذاته، لتؤدي هذه الخطوة بإعتبارها منجزه الثاني في الحكم، أن تنقلب ضده من خلال طلاق الوزير (يونس) لزوجته، وعادت اليه لاحقا. كما منع النساء من أرتياد الأسواق بمفردهن حتى في أوقات الأزمات والشدائد، علاوة على قبوله أن يكون مؤلفا لقصص ليس هو بكاتبها، ثم بدأ السلطان الغوري يحترس من أعدائه القريبين منه، ولا سيما الذين تبدأ أسماؤهم بحرف السين، هذا ما أبلغه به أبن زنبل، أن الذي يحتل كرسيه، يبدأ أسمه بهذا الحرف. لذا فقد سيطرت عليه فكرة أن يقتل جميع الذين تبدأ أسماؤهم بحرف السين: ((سأقتل عشرين رجلا تبدأ أسمائهم بحرف السين. لن استثني (سيباي) نائب الشام)). وهو أكثر الرجال الذين يرتاب به الغوري ويخشى إحتلاله لكرسيه، لأن أسمه يبدأ بحرف السين. وبالإضافة الى ذلك فقد غدا أبنه (محمد) يربي النمور والحيوانات المفترسة التي تخافها الناس. في إشارة واضحة أخرى الى أبن الطاغية.
ولو قارنا شخصية الغوري بالشخصيات التي قادت البلد من العام 1968الى يومنا هذا لوجدنا تقاربا كبيرا بينه وبين الذين تسلموا مقاليد الحكم في السنوات الخمسين المنصرمة. لنأخذ على سبيل المثال خزانة الدولة المملوءة في عام 2006، وما آل اليها العام 2014، حيث كانت شبه فارغة، وإجتماع الطاغية بالوزراء وأعضاء القيادة، فالمتحدث الوحيد هو، أما البقية صم بكم. ولعبة وزيف كتابة الطاغية لرواية بعنوان (زينب والملك) معروفة للشعب العراقي. وكذلك إعدام رفاقه بمسوغ خيانتهم له وتعاونهم مع النظام السوري.
الأول مقاربة مع جشع الغوري، والثاني مقاربة في إستخفافه بالمحيطين به، والثالث في دجله وتزويره للحقائق، والرابع في خيانته لرفاقه وعدم ثقته بهم.
إذا كان السرد في الأحداث التأريخية، يتم بالتعويل على الضمير الغائب (هو) الذي هو التأريخ، فإن الأحداث المعاصرة يتم سردها بالإعتماد على الضمير الذاتي (أنا) الذي يأتي على لسان الغوريلا ( سمير) الناطق على لسان الشعب، بوصفه مراقبا لكل ما يحدث في دار أكرم الرامز الى السجن الذي حبس فيه الشعب العراقي بعد الإحتلال.
يعرف الغوريلا سمير للمتلقي نفسه هكذا: (أنا قرد شمبانزي محكوم عليّ بالسجن المؤبد في أحد أقفاص حديقة الحيوانات في متنزه الزوراء منذ 4 سنين عام 1999.). أي في عهد النظام السابق. موحيا بهذه السطور القليلة على أنه كان يتمتع بحرية أكبر من الحرية التي يعيشها الآن في دار أكرم، ذلك لكون قفص المتنزه الذي حبس فيه أكثر سعة من قفص دار أكرم، كما أنه في هذا القفص كان: ((لا يفكر في شيء سوى في المؤخرة الحمراء للقردة (ماسينا) في القفص المجاور.)). بينما هنا في دار أكرم يكاد معظم الأفراد الساكنين فيه ماعدا قحطان وزوجته، يتعامل معه بشكل سيء، إنطلاقا من إيمانهم بأن القردة كانوا بشرا ومسخها الله: (وددت العودة الى حديقة الحيوانات، لا أود العيش في بيئة ليس فيها حدود للرأفة.).
إن دار أكرم الذي يتصارع فيه الشقيقان التوأم، بوصفهما يمثلان قوة الخير وقوة الشر، هذا الصراع الذي يذكرنا بقصة (هابيل وقابيل)، متمثلة الأولى بأكرم الرامز الى إحدى الكتل المتنفذة العميلة للأجنبي، والثانية بقحطان الرامز الى الشعب العراقي الذي أغتصب منه وطنه، متمثلا هذا الوطن ب (وريث) زوجته التي أغتصبها أكرم في ليلة عرسهما.
إن هذا الدار المصغر بشقيه، الشق المنّور الذي يسكن فيه الغوريلا، والشق الآخر الذي تسكن فيه عائلة أكرم هو رمز للعراق الكبير، كرس الشق الثاني منه لحياكة المؤامرات ضد الشعب العراقي، بهدف عدم الإستقرار الوضع الأمني فيه، وإستنزاف ثرواته الإقتصادية والبشرية، وإشعال فتن الحرب الطائفية، وكرس الشق الأول للضحايا والأبرياء من الشعب العراقي المتضررين من الوضع القائم. لذا فإن هذا الدار في الوقت الذي يرمز فيه الى الحرب الطائفية بين الشقيقين التوأم، فهو في الوقت ذاته يرمز متمثلا بالغوريلا الى الشعب العراقي الذي يراقب عن كثب الى ما سيؤول صراع الشقيقين، دون أن يقدر على فعل أي شيء، أو أن يكون بوسعه تغيير الوضع المزري القائم.
سمير الغوريلا: (وعند مكوثي في البيت لفترة ليست بالقصيرة تبين لي أن هناك أمورا عجيبة، وأسرار مخفية. عرفت أن أكرم يعمل لحساب رجل يدعى ستيوارت.
وبهذا فإن المكان بالنسبة للغوريلا يعتبر مكانا معاديا، لشعوره بالكراهية تجاهه والنفور منه. وبالنسبة لأكرم ووالدته مكانا مألوفا لشعورهما بالراحة والإطمئنان فيه.
لم يأت أسم سمير في الرواية إعتباطا، أو عن فراغ، ذلك لإحتواء الرواية على أسماء ثلاثة آخرين تبدأ بحرف السين، وهم سيباي وستيوارت وسليم الأول. وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على أن ثمة صلة وشيجة تربطه بسيباي، ومسافة متنافرة تبعده عن ستيوارت. كون الثاني معاديا له، والأول مناصرا.
ولأن الغوري مثله مثل الطاغية، كان يخشى من المقربين له أكثر من البعيدين، بدليل أن الأول أعدم عشرين شخصا تبدأ أسمائهم بحرف السين، والثاني أعدم عددا كبيرا من رفاقه، فقد سرح ذهنه الى سيبياي، أقرب القادة اليه، ظنا منه بأنه هو الذي سيزيحه عن كرسيه، وليس ستيوارت، تأويلا بالدولة العثمانية، متمثلة بسليم باشا الذي هو الآخر يبدأ أسمه بحرف السين. في إشارة واضحة الى تنحية الطاغية ليس على أيدي رفاقه، بل على يد الأجنبي (ثلاثون دولة المتحالفة).
إن السارد الضمني من بداية الرواية، صوّر الغوري بشكل ضعيف ومهزوز في تشبثه بالسلطة. ولعل أرتيابه بحلم الشيخ فؤاد الدين، وخوفه من السلطة، وقوله (يا ليتها غرت غيري)، ما هو إلآ تمويه للمحيطين به بأنه لا يرغبها، ولكن في الحقيقة أنه ينتظرها على أحر من الجمر. بدليل أن أبن زنبل ما أن تنبأ بإزاحته عن كرسيه من قبل أحد الأشخاص الذين يبدأ أسماؤهم بحرف السين أثر إستلامه للحكم، حتى ضاقت به الدنيا، ولا يعرف ليله من نهاره، وهو يدخل في مونولوجات طويلة مع نفسه: (. . . ماذا فعل بي أبن زنبل، لقد طال جلوسي على الأريكة بجانب السرير، ساعات طويلة، وأنا أحاول ولو للحظة القضاء على هذا الوسواس الذي أصابني به الرمال، ولكن لو لم يقل ذلك، هل كان لصالحي، طبعا لا، الحمد لله الذي جعل أبن زنبل ينطق بذلك كي أحترس من عدوي على أقل تقدير. .).
وفي مكان آخر يصور السارد الضمني الغوري بالضعف والهشاشة ذاتها، خوفا من إزاحته عن كرسيه من قبل سيباي: (خلال الاشهر الاخيرة بدأ وزن السلطان الغوري بالنقصان. أولهما لأنه لا يشتهي الأكل ولا يحبه كما في السابق، والسبب الآخر: مغادرة النوم جفونه. .).
وكلما تقدمت أحداث الرواية الى أمام، يزيد السارد من ضعف شخصية الغوري، كما في هذه الجملة أيضا: (لليوم الثاني على التوالي ما زالت درجة حرارة السلطان الغوري مرتفعة، لم يرفع رأسه، كان مجبرا على النظر الى الأرض، ذراعاه متشنجتان، كان يشعر أن جسمه ممتليء بالألم، كأن سيباي يأتي ويجلس قرب سريره. يرتعد يصرخ: ليس الآن يا سيباي، ابعدوه عني، أبعدوه. ).
وإذا كان السارد الضمني قد صور الغوري بضعف شخصيته وهشاشتها، فإنه بالمقابل صور شخصية أكرم لإلتقائها معه في بعض الوجوه بالضعف والهشاشة نفسها، ليس لخيانته لشقيقه فحسب، وإنما لخيانته لوطنه، وعدم تردده لفعل كل ما يطلبه منه الأجنبي لقاء حفنة من المال. وقد بلغت أفعاله من الدناءة والخسة بحيث تجاوزت حد اللا معقول وليس المعقول. وإن شئنا التأويل فإن أكرم يوازي الغوري من حيث موقعه في السلطة، الفارق الوحيد بينهما هو أنه تابع للأجنبي، ذلك لأنه قد جاء به الى الحكم لينفذ كل ما يطلبه منه. وبعبارة أوضح أنه قد سلّم اليه الحكم ليخرب ويدمر البلد.
بالإضافة الى السارد الضمني، ثمة ساردان آخران في الرواية، وهما القرد سمير والكاتب. وعندما يتعدد الساردون في الرواية، غالبا ما يؤدي هذا التعدد الى أكثر من وجهات النظر حول الأحداث الجارية فيها. فالسارد الضمني غير منحاز الى أية شخصية أو حدث من أحداث وشخصيات الرواية، أو ينبغي أن يكون هكذا، متحليا بصفة عدم الإنحياز، بعكس شخصية القرد سمير المتعاطف مع الكاتب ووريث، وكارها لأكرم ووالدته. ذلك أن طبيعة السرد الذاتي ووظيفتها تنحو منحى أيدولوجيا. أما الكاتب فلأنه هو مؤلف الرواية، في الوقت الذي يبدو فيه متعاطفا مع سمير، في الوقت ذاته لا تظهر أي علامة تعاطف أو بغض تجاه الشخصيات الأخرى، وإن بدا مختلفا مع أكرم في إحتلال دول التحالف للعراق. أي مثل السارد الضمني لا ينحاز الى أية شخصية من شخصيات الرواية، ما عدا الى شخصية سمير. وإنحيازه الى سمير إيماءة واضحة الى رفضه للإحتلال وتعاطفه مع الشعب العراقي.
(إن مستوى التواتر يرتبط بمستوى تكرار بعض الأحداث من المتن الحكائي من مستوى السرد، ويعده جيرار جينيت عنصرا من مقولة زمن القص، ويحدد التواتر حسب العلاقة بين ما تكرر حدوثه أو وقوعه من أحداث وأفعال على مستوى القصة من جهة وعلى مستوى الخطاب من جهة أخرى. .)4.
نفهم من هذا التعريف لعملية التكرار، أن بناء العمل الفني يتم من خلالها وبواسطتها، أي عن طريق تكرار الجمل والعبارات الواردة في النص، سواء كانت بالنسبة للشخصيات أو الأحداث.
تحدث عملية التكرار للحدث الذي يقوم به الشخصية في هذه الرواية لثلاث شخصيات. والشخصيات الثلاث هي الكاتب والغوريلا سمير والسلطان الغوري. إلآ أن الجمل والعبارات التي تتكرر للكاتب، لفيضها وغزارتها قياسا بالجمل والعبارات التي تتكرر للغوريلا والسلطان الغوري، لا يمكن في اي حال من الأحوال مقارنتها بهما.
الجملة التي تصاحب الكاتب على إمتداد الرواية هي: ((على تلك المصطبة التي تظللها شجرة اليوكالبتوس العالية (عندما كان الغوريلا سمير في متنزه الزوراء) يجلس شخص يصطحب كتابا وعددا من الأوراق يكتب بإستمرار ويلتفت مادا بصره نحوي.). ولكن عندما ينتقل الغوريلا الى دار أكرم تحدث بعض التغييرات البسيطة على هذه الجملة، فتأتي على هذا النحو: (جلس قبالتي تأملني طويلا، ثم أخفض رأسه وعاد يتأملني، وضع أوراقه أمامه وبدأ يتأملني. .).
أما الجملة التي ترافق الغوريلا فهي: (أتساءل إن كان الرجل قد أستشعر أو ساعده حدسه في معرفة وإكتشاف أنني أفقه وأفهم وأعرف أكثر من سائر القرود في حديقة الحيوانات، هل يعلم أنني أقل بلاء من كثير من الآدميين البشر، وأقل إيذاء من هؤلاء البشر الذين قيدوني بطريقة وحشية وزجوني في قفص مساحته خمسة وثلاثون مترا وحكموا عليّ بالسجن المؤبد دون جناية أو ذنب.). بينما الغوري في الجمل والعبارات التي سبق أن أشرنا اليها و هو يخشى بإزاحته عن كرسيه من قبل سيباي، مصورا إياه السارد بشكل ضعيف ومهزوز.
لأن أحداث الرواية تبدأ من حيث تنتهي، لذلك فهي لا تسير بشكل أفقي ولا عمودي، وإنما تدور حول نفسها، لتكشف عن إنغلاقها وعدم إنفتاحها على معالجة ثيمتها، وبصورة أوضح، أن السارد لم يسع الى مشاركة المتلقي في وضع الحل الناجع لها، وإنما آثر أن ينفرد به، عندما قام بإخراج سمير من دار أكرم وإعادته الى حديقة الحيوانات، وإنفجار سيارة ملغمة مع خروج سمير من القفص.
إنه بذلك يؤكد، أي السارد، أن الشعب العراقي ما زال في الأسر، كما أن العمليات الإرهابية التي يذهب ضحيتها المواطن المسكين ما زالت مستمرة، فضلا عن بقاء وجود الأجنبي في العراق. لينقل الوضع القائم على حقيقته دون تزويق أو تزوير: (أنفجرت قبل قليل سيارة ملغمة في تقاطع المنصور، أسفر عن إستشهاد سبعة وثلاثين شخصا، وجرح أكثر من ثمانين آخرين. غسل الحزن وجوه الجميع، ما عدا ستيوارت الذي ترك إبتسامة مبهمة على عتبة الدار وغادر الجميع بالإتجاه المعاكس، في إشارة واضحة الى أن عملية تفجير السيارة كانت بإيعاز من ستيوارت.

المصادر:
1- الكوبيديا
2- المصدر السابق نفسه.
3- المصدر السابق نفسه.
4- تقنيات السرد من منظور النقد الروائي. أشواق عدنان شاكر النعيمي. دار الجواهري. الطبعة الأولى. 2014.




ك



#صباح_هرمز_الشاني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مشرحة بغداد.. بين الصورة.. و وثيقة الإدانة. . لبرهان شاوي. .
- مقاربة بين روايتي مدام بوفاري لفلوبير والأحمر والأسود لستندا ...
- رواية الأحمر والأسود بين الحوار الداخلي والرمز
- رواية العطر. . والواقعية السحرية.
- قراءة تأويلية في تفكيك شفرات رواية مذكرات كلب عراقي
- حامل الهوى. . بين المونتاج القافز. . وإلنهايات المفتوحة. .
- الذئاب على الأبواب. . بين عملية التحدي. . و تقنية التواتر. .
- (محنة فينوس). . وثيقة إدانة لعهدين. .
- قراءة تأويلية في تفكيك شفرات (موت الأب) للروائي العراقي احمد ...
- التماثل. . ونقيضه. . في رواية تسارع الخطى. .
- سابع أيام الخلق: بين تقنية المكان، وإستحضار الماضي للحاضر
- قراءة رواية ليل علي بابا الحزين. . من منظورين مختلفين
- خانة الشواذي. . . رواية موقف الشخصيات. .
- بنيات السرد في روايات محسن الرملي
- هل هدمت. . رواية وشم الطائر. . ثنائية الرواية والوثيقة؟
- حدائق الرئيس. . بين التناص والإيحاء. . لمحسن الرملي.
- أرثر ميللر وعقدة اوديب. 3ـ وفاة بائع متجول
- أرثر ميللر وعقدة اوديب. 2ـ كلهم ابنائي
- أرثر ميللر وعقدة اوديب. 1 الثمن
- اوجين اونيل بين.ثلاثي . .الواقعية والرمزية والتعبيرية. 5- ور ...


المزيد.....




- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...
- تابع HD. مسلسل الطائر الرفراف الحلقه 67 مترجمة للعربية وجمي ...
- -حالة توتر وجو مشحون- يخيم على مهرجان الفيلم العربي في برلين ...
- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح هرمز الشاني - تحفة الرمّال مفقودة أبن زنبل. . . روايتان في رواية واحدة. .