أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح هرمز الشاني - الذئاب على الأبواب. . بين عملية التحدي. . و تقنية التواتر. .















المزيد.....


الذئاب على الأبواب. . بين عملية التحدي. . و تقنية التواتر. .


صباح هرمز الشاني

الحوار المتمدن-العدد: 6819 - 2021 / 2 / 20 - 22:39
المحور: الادب والفن
    


يبدو أن الروائي أحمد خلف، لم تشف روايتاه (تسارع الخطى) و (محنة فينوس) غليله، بالتعرض من خلالهما للعهد السابق والعهد الحالي، لذلك فقد أعقبهما بالرواية التي نحن بصددها الموسومة ( الذئاب على الأبواب). لنستشف من منحاه هذا، أنه بصدد مشروع روائي، يتخذ من الفترتين العصيبتين اللتين مر بهما العراق، تحديدا من عام 1968- 2003. ومن عام 2003 الى حد يومنا هذا، نهجا لكتابة هذا الجنس الأدبي الذي هو أقرب الى وثيقة إدانة، منه الى سرد أحداث تأريخية، ليعيد هذا التوجه الى الأذهان، تجربة عبد الرحمن منيف في روايته (شرق المتوسط) الذي تناول فيها القضية الفلسطينية، ثم عاد الى الموضوع نفسه، ولكن بشكل أعم وأعمق في روايته الموسومة (الآن هنا).

وتجربة أحمد خلف بهذا الخصوص، تشبه تجربة عبد الرحمن منيف الأخيرة، ليس في طريقة كتابة النص لمرتين فحسب، وإنما أيضا في حجم النص الثاني، قياسا مع حجم النص الأول، كذلك من حيث تفوق عمق النص الثاني على الأول . فعدد صفحات الرواية التي نحن بصددها البالغة (335)، تكاد أن تتجاوز ضعف عدد صفحات روايتي (تسارع الخطى) و (محنة فينوس)، ذلك ان مجموع صفحات كلتا الروايتين يبلغ (287) صفحة فقط. أي أقل منها بخمسين صفحة تقريبا. كما أن بطل رواية تسارع الخطى، إذا كان مطاردا، وأبطال محنة فينوس غير مستقرة على موقف معين، فإن بطل روايتنا هذه، يكاد أن يأخذ قسطا لا بأس به من شخصيات محنة فينوس، بعكس بطل رواية تسارع الخطى الذي يقلب المؤلف الطاولة على رأسه عبر تحويل عملية المطاردة الى تحد ومواجهة.
تدور رواية (الذئاب على الأبواب) حول الشخصية المحورية (يوسف النجار) المطارد من قبل جهات غير معروفة، كأن تكون عصابة، أو ميليشيات منفلتة، أو حتى حكومة، بعد أن تم تفجير بيته على يد إحدى هذه الجهات، وراحت زوجته وأبنته ضحية هذا الإعتداء الغادر. واثناء الإنفجار لم يكن يوسف متواجدا في البيت، لذلك فقد نجا من الموت. ولأنه كان هو المستهدف في هذا التفجير، فقد بدأت الجهة العازمة على تصفيته، ملاحقته وتهديده عن طريق الرسائل التي تبعثها له، بطرق ووسائل متعددة ومختلفة.
يقول الناقد ياسين النصير: فالمبدع لا يختار إلآ الكلام الذي يشحن بمناخ النص كله، ولذلك فكل كلمة من كلمات الإستهلال خميرة لما تولده صور وكلمات وحالات جديدة في النص. ولن يكون المبدع خلاقا في الإستهلال إلآ إذا كان قدرة فائقة على تلخيص العمل كله في جملة أشبه ما تكون بالمعادلة الكيمياوية.)1.

ولو سعينا الى تطبيق ما يذهب اليه النصير، على روايتنا هذه، لتبين لنا، أن المؤلف يعمد في إستهلال الرواية الى جمل موجزة، الهدف منها توظيفها داخل بنية النص، بالتعويل على عملية التكرار، وهذه الجمل ما هي إلآ المحاور الرئيسة للرواية، تمهيدا لمنحها سمات وخصائص، تحفزها لأن تلعب الدور المطلوب منها في إستحضار معنى الرواية، وبالتالي إيجاز هذا المعنى، كما يصفه النصير، في جملة أشبه ما تكون بالمعادلة الكيمياوية. وهذه الجملة تتمظهر في عنوان الرواية الذي هو: (الذئاب على الأبواب).
وهذا العنوان بحد ذاته، يثير مجموعة من الأسئلة. ترى من هم هذه الذئاب؟ ولماذا هم على الأبواب، أي في حالة الهجوم؟ وعلى من؟. أي أن العنوان بدون قراءة الرواية، يوحي الى المتن الحكائي للرواية، عبر إقترانه بالأوضاع غير الطبيعية التي يشهدها البلد، بعد سقوط النظام السابق.
والمحاور التي تأتي في إستهلال الرواية، ويشحنها المؤلف بمناخ النص كله هي خمسة، وعلى النحو التالي:
1-قلق الشخصية المحورية من مطارديه، ومراقبتهم، متحديا ومواجها لهم.
2-تحول المدن العراقية الى مدن للأشباح، عبر غياب الأمن فيها، وسيطرة المليشيات، وأنتشار التفجيرات التي يذهب ضحيتها الأبرياء..
3-الأتفاقيات السياسية التي تجري وراء الكواليس لمصلحة المتنفذين في الحكم، ضد الشعب ودور أمريكا والدول المجاورة في تأجيج الصراع بين القوميات والطوائف والأحزاب.
4-تحول المدن العراقية الى أكوام للنفايات.
5-القلق الذي ينتاب البطل جراء عدم الكشف عن هوية مطارديه، وإستخدامه للسلاح (المسدس).
يأتي المحور الأول في مستهل الرواية المكرس لقلق الشخصية المحورية للرواية، ورصد حركة مطارديه، بالتعويل على النافذة التي تغدو، بمثابة العدسة التي تلتقط المشاهد الدرامية من الداخل الى الخارج، ومن فوق الى أسفل، ليظهر الكادر في حالة ضعف، وموقف مهزوز، هكذا: (أمام نافذة في غرفة تطل على ساحة في شارع فرعي مهمل، وقف رجل ذو بنية رياضية متماسكة وللمرة الألف ينظر عبر تلك النافذة.). مع العلم المفترض أن يكون الشخصية المحورية كذلك (مهزوزة)، وليس الشخصيات التي تطارده، وهي إشارة الى علو كعبه عليهم.

بغض النظر عن إظهار الكادر كذلك، فإن السارد الضمني المتحدث عن طريق السرد الموضوعي (هو)، لم يشر الى أن الرجل الواقف أمام النافذة، أتخذ هذه الوضعية من أجل التحدي. وأكتفى في وصف بنيته بالقوية، كما لم يشر الى أنه مطارد، وإنما أكتفى بالتنويه الى مفردة (الألف) وهو ينظر من النافذة، في إيحاء الى مراقبته لمطارديه يوميا. وهو بهذا أي السارد الضمني يتعامل مع هذا المشهد بلغة السينما.
على إمتداد الرواية، لأكثر من عشر مرات يتكرر مشهد المراقبة عبر النافذة، وفي كل مرة بطريقة تختلف عن الطرق الأخرى، قد تتشابه الأشخاص الذين يراقبهم الشخصية المحورية للرواية في بعض المرات، وتختلف في مرات أخرى. وقد بلغ توظيف النافذة فيها حدا، يكاد أن تبز شخصية البطل، وتوازيه، إن لم تكن هي البطل نفسه، ذلك لأن الرواية عن طريقها تتحول الى رواية بوليسية، ولكن دون أن تفقد مقوماتها الفنية، وهنا يكمن سر نجاح توظيف هذه المفردة، مفردة (النافذة) بالجمع بين شيئين متناقضين، ( وحدة الأضداد) التي تزيد من حجم التوتر والترقب لدى المتلقي. وهي تصور ما يجري من حركة وأحداث في الخارج.

إذا كانت الرواية في الإستهلال، تجسد حركة ما يجري في الداخل والخارج من خلال النافذة، عن طريق العلامة والرمز، فإنها في المتن الحكائي تصور وبشكل مباشر الحركة الدائرة فيها. في المرة الاولى برصد بطل الرواية حركة رجل غريب يراه لأول مرة: (أختفى حالما التقت نظراتهما معا. هل هما شخص أم أثنان. .؟). وفي المرة الثانية يتحول الرجل الى واحد من الأولاد، وهو يراه، وقد حانت منه إلتفاتة نحو النافذة، ليبدأ نتيجة قلقه بطرح مجموعة من الأسئلة على نفسه (أتراها بريئة فعلا؟ هل هو مرسل من قبلهم؟ ثم ما هي أشكالهم وما هي ألوانهم وهيئاتهم؟ وفي المرة الثالثة لمجرد وجود حركة في الخارج: (ألصق سمعه على جدار النافذة ولا يدري لماذا قفز الى ذهنه من كان يراقبه عن كثب). وفي المرة الرابعة لسماعه وقع أقدام، ليبتعد عن النافذة ويصيخ السمع، في تلك الأثناء تناهى الى سمعه عدة إطلاقات بعيدة عن العمارة التي يسكن فيها: (إن الرمي بين طرفين بدأ يبتعد عن العمارة، لكنه ظل محصورا في المنطقة فقط). وفي المرة الخامسة وقد تذكر تلك الليلة التي راقب فيها حركة السيارتين عند العمارة وهو يرصدهما عبر النافذة، تذكر ساعة شاهد الفتى في الساحة لما حانت منه إلتفاتة نحو يوسف. .

أما المحاور الأربعة الأخرى، فقد جاءت بشكل مباشر، بما فيها رسائل التهديد التي يتلقاها بطل الرواية بين فترة وأخرى. ولكن بطريقة لا تخلو من الربط بين المحور الأول، والمحاور الأربعة، وذلك من خلال جعل هذه المحاور لصيقة بالمحور الأول، ومكملة له، لأنها إمتداد له، بالأحرى أن ما يحدث في العراق، هو بفعل المحاور الخمسة، بدون إلغاء أو حذف محورا ما. ويتكرر هذا الربط بين المحور الأول المقرون بالنافذة والمحاور الأربع الأخرى على إمتداد الرواية.
فقد ربط في إستهلال الرواية بينهما على هذا النحو، إذ أثر سطرين من مطلع الرواية التي يصف فيها بطل الرواية، وهو ينظر عبر النافذة، ينتقل بنظره الى جدار مبنى المدرسة الماثل أمامه، وهو المحور الرابع ضمن تسلسل المحاور الخمسة: (كان جدار المدرسة الأعدادية المختلطة وعدد من أشجار السرو وحشائش برية ومساحة من أرض قاحلة، متروكة منذ وقت قريب. تجمعت فيها أكوام النفايات وفضلات حيوانات عابرة. . الخ.). ثم ينتقل الى المحور الثاني والثالث، هكذا: (كانت المدينة لا تطمئن الى ما يدور في الخفاء من دسائس وأتفاقات سياسية سرية، كلها تشير الى إنعدام الثقة بين الجميع. . فقد حدثت في يوم واحد ثلاثة إنفجارات مروعة، كيف لمدينة الأزبال أن تستقر وتدرك الى ما يدور في ربوعها.).
اللافت للنظر، أن السارد للتأكيد على الربط بين المحور الأول والمحاور الأخرى، يعود لتدوير المحور الأول في ختام تصديه للمحور الثاني والثالث، وهو يأتي على ذكر أزبال المدينة.

نفهم من هذا كله، أن السارد في إستهلال روايته الذي لم يبلغ صفحة واحدة، أستطاع أن يقدم إيجازا ل (335) صفحة. وهو بذلك حقق أقصى ما بوسع الراوي المبدع إنجازه في أختياره للكلام الذي يشحن بالنص كله.
كما في الإستهلال، كذلك في المتن، يعقب تصوير مشهد المراقبة، عبر النافذة، الى تناول أحد أو أثنين من المحاور السالفة الذكر. وإذا كان في الأول (الإستهلال) قد تناول أربعة محاور، فإنه في المرة الثانية (المتن)، تناول واحدا، وهو المحور الثاني، وفي المرة الثالثة الى المحور الخامس، وفي الرابعة الى غرفته البائسة، بالتأويل الى الوضع الأقتصادي المتردي في العراق، وهو المحور الثالث، وهكذا بالنسبة الى بقية المحاور المقرونة بالنافذة.
في المرة الثانية: (كان الخراب يتضح أمام عينيه على هيئة بشر يعانون إنحسار إرادتهم وضيق ذات اليد. . .). وفي المرة الثالثة: (هل بينهم من هو أكثر عنفا وأشد ممارسة في القهر والإيذاء.). وفي المرة الرابعة: (كل الأثاث الذي دبره يوسف لا قيمة كبيرة له.).
لم يطارد يوسف في العمارة التي يسكنها فقط، بل في خارجها كذلك، تحديدا في شوارع المدينة والأماكن التي يرتادها، سواء بتعقبه، أو تهديده عبر الرسائل. إذ تتكرر سبع مرات في كلتا الحالتين، (المطاردة والتهديد)، بنصيب أربع مرات في الأولى، وثلاث في الثانية، وتقترن الحالات الأربع الأولى بإستخدام السلاح (المسدس)، بينما الحالات الثلاث الأخرى، أقترنت حالة واحدة منها فقط بإستخدام هذه الأداة:

الحالة الأولى:
(المطاردة) : 1- رصد حركة غير مطمئنة تتبعه وتسير خلفه، إثرها أمتدت يده الى مسدسه. .)). 2- تلك الليلة توارد اليه دبيب حركة غامضة تدور في الجوار من العمارة، قبضت يده بسرعة الرق على المسدس. 3- لا بد من وجود شخص يحسن كتابة الرسائل التي تترك في النفس غصة، لذا وجد الحق معه لما تسلح بمسدسه الشخصي. 4- أعاد مسدسه الى وضعه ورتب هندامه، أغلق الباب وراءه وهبط لملاقاة الرجلين، إستجابة لتحديهما العنيد. (وهذه الجملة هي نهاية الرواية).

الحالة الثانية:
(التهديد) :
1- لم يكن يدري كيف وصلت اليه الرسالة المفزعة تلك، لم ينم ليلتها، وبات يتقلب في فراشه، ولمرتين أو ثلاث تلمس بيد متشنجة مسدسه.)).
2- فتح باب السيارة ودخل، ألفى حقيبة التصاميم على المقعد الخلفي، أنتبه الى وجود ورقة مطوية بناية على المقعد الذي بجانبه. 3- كيف لك أن تمارس وتعيش حياتك بصورة طبيعية وسط كدس المخاوف والحذر الشديد من تنفيذ الجناة فعلتهم بعد رسالة التهديد والوعيد بالإنتقام منك. ومن هذا المنطلق، منطلق تعرض حياة بطل الرواية الى الموت، سواء كان داخل العمارة، أو خارجها، فإن المكان بمتسعه في الرواية، هو بؤرة الموت (العراق) وها هو أحد الجنود يقول: (نحن نموت هنا). وإن شئنا التأويل، بإعتبار النافذة رمزا لعيون العراقيين الراصدة لما يجري في الخارج، فإن الشقة البائسة التي يسكن فيها يوسف بطل الرواية، رمزا للوطن المسلوب، وهو يستقر في شقة شبه فارغة من الأثاث والحاجيات الضرورية، شأنه شأن معظم العوائل العراقية التي تعيش تحت مستوى خط الفقر.
ولكن رغم تعرض بطل الرواية الى الموت في أية لحظة، بالتأويل الى الجثث الملقاة في الشوارع، في كافة المدن العراقية، علينا أن نأخذ بعين الإعتبار، المكان الذي يسكن فيه يوسف وهو شقة في عمارة، ما يعني في كائن عمودي. أو كما يقول باشلار: (أنه يرتفع الى الأعلى، فيميز نفسه بعموديته)2. وهو بذلك يستمد قوته من هذا المكان الذي هو الوطن كله. بدليل أنه من بداية الرواية يتحدى مطارديه، وفي النهاية يتمنطق بسلاحه ويخرج اليهم. أو كما يقول باشلار :
((إن البيت الذي يواجه بالعدوانية الوحشية للعاصفة والأعصار، تتحول فضائل الحماية والمقاومة التي يمتلكها الى فضائل إنسانية. إنه يكتسب القوة الجسدية والأخلاقية للجسد الإنساني، (بتأويل هذه الفضائل والقوة الجسدية الى بطل الرواية). . . ينحني أمام العاصفة ولكنه واثق أنه يستعيد وضعه الطبيعي في الوقت المناسب، في حين يرفض الهزيمة الموقتة. بيت كهذا يستثير بطولة ذات أبعاد كونية، هو أداة نواجه بها الكون.)).3 وهذا ما يروم السارد التأكيد عليه في هذه الرواية، وهو مواجهة الفاسدين الذين جاءت بهم أمريكا عن طريق تحديهم بالسلاح، لأن الطرق السلمية، في إشارة الى مظاهرات الشباب، لم تعد تجدي نفعا معهم. ولعل تمني بطل الرواية في النهاية العودة مرة أخرى للشقة التي يغادرها لمواجهة مطارديه، أثبت دليل على صحة ما أذهب اليه. في إشارة واضحة الى عودة الوطن الى أحضان محبيه والمخلصين له.
إن مطاردة يوسف، لما تدعه في غير راحة بال وقلق ويعيش في عزلة، جعلت منه هذه المطاردة، لأن يكون أقرب الى شخصية (هاملت) المعروفة ب قلقها وأرتيابها بالآخرين. وإن شئنا التأويل، فإن الشعب العراقي تحول كله الى هاملت، بسبب إنعدام الثقة بين الجميع. أو كما يقول السارد: (وما عاد الأب ليطمئن لنوايا الأبن).
وتتجسد سمات شخصية هاملت التي تتصف بالريبة في شخصية يوسف في أكثر من مكان. فبغض النظر في موقفه هذا تجاه أعدائه المطاردين، يتمظهر الموقف ذاته تجاه المرأة التي تعلق بها (عبير)، ومن الجائز، كما يقول السارد، ان تكون زوجته في المستقبل.
ولعل هذا الفهم لشخصية يوسف التي بحكم حالتها الغريبة لا تستطيع أن تميز بين الصواب والخطأ، أغلب الظن، أنها تكون مصابة بداء الجنون. بالتأويل الى إصابة الشعب العراقي بالداء ذاته، على يد حكومة الفاسدين. أو كما يقول السارد: (هذه حكومة اللصوص والسارقين).
تتجلى هذه النزعة في تكرارها لأربع مرات. في المرة الأولى، في الصفحة (31)، أثناء مخاطبة عبير في الشقة، إذ يترآى له أنها تخطط لإصطياده. إنطلاقا من علمه اليقين: (أن الكثير من النساء تبرعن على إمتداد العصور أن يعملن جاسوسات على الغير أو على أزواجهن وأحبابهن ورؤسائهن. .). وفي المرة الثانية في الصفحة (52)، وهو يخشى أن تكون مرسلة من قبل جماعات تترصد خطواته ليل نهار. وفي الثالثة في الصفحة (66)، وهو يتسائل: (كيف لروحك القلقة أن ترسو عند إمرأة لم تكن نظيفة السيرة أو بريئة الى حد لم يعد فيه مجال للشك بها؟. وفي الرابعة طارحا هذا السؤال على نفسه: (هل كان تواجدها في الأسواق ذلك اليوم كمينا نصبوه له. . .؟).
ولكن هذه النزعة، نزعة الأرتياب بالآخرين، سواء كان من خلال مطاردته، أو تهديده عن طريق الرسائل، فإن هذه النزعة تتمظهر أكثر عنده تجاه الصبي الذي يترآى له أنه يطارده بين فينة وأخرى، وقد بلغ عدد مطارداته له أربعا. في الصفحة (74) و (219) و (213) و( 318) فضلا عن أرتيابه لمطاردة (أبو محمد) صاحب الورشة في الصفحة (208).
تأتي جملة (الراوي العليم) ثلاث مرات على لسان السارد الضمني، والهدف من هذا التكرار هو التأكيد على أن كل ما جاء في هذه الرواية، هو حقيقي ومستمد من واقع الحياة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، أن سرد أحداث الرواية ليس من جانب السارد العليم عن طريق السرد الموضوعي فحسب، وإنما من قبل بطل الرواية عبر السرد الذاتي (أنا) أيضا. ذلك بمعزل عن مشاركة بطل الرواية في هذا السرد، كما يقول السارد الضمني: (سوف تكون قصة ناقصة). أو كما يشير:(عليه سنشركه بين حين وآخر في أن يروي لنا ما عاشه من أحداث وما يراه مناسبا لسرده من حكايات ألمت به في ماضيه وحاضره).
والأهم من هذين الهدفين في تكرار هذه الجملة، هو إقرار الراوي العليم بأنه هو ليس مؤلف الرواية، بل هو المتحدث بأسم المؤلف، أو ينوب عنه في سرد الأحداث، ليزيد هذا الإقرار في حقيقة وقوع الأحداث. إلآ أن ما يزيد أكثر في واقعيتها وتجعلها وثيقة دامغة، هو سرد الراوي العليم لحادثة وقعت له مع دور النشر التي أمتنعت نشر روايته (موت الأب) بحجة أنه لا توجد عمليات إختطاف في الوطن. هكذا: (حتى ان الراوي العليم الذي تم الأتفاق معه على ضرورة أن يسجل كل شاردة وواردة. كتب قبل عام من هذه اللحظة الجسورة حكاية المواطن عبدالله وكيف تم إختطافه من الشارع العام. ولما أرسل الى دور النشر أعتذر رئيس التحرير عن نشرها بحجة أنه لا توجد عمليات إختطاف في الوطن بهذه الكثافة. .).
والشيء نفسه، في جملة: (كان هذا كلام الراوي وليس كلامي أنا، كلامي أتذكره جيدا)، في إشارة الى عدم نقل الأحداث من قبل الراوي بدقة، ليقوم هو بطل الرواية بتصويبها.
إن حياكة هذه الرواية في بنائها الفني، تقوم على عملية التكرار. أو كما تطلق عليها أشواق النعيمي (التواتر)، ويحددها تودروف بالقص المفرد والقص المكرر والخطاب المؤلف، إلآ ما يهمنا نحن من الثلاثة، القص المفرد المكرر: ( الذي يستحضر عدة خطابات حدثا واحدا بعينه.)4. ذلك لتعويل هذه الرواية في بنائها الفني على هذا النمط.

ولو أعدنا قراءة الرواية بدقة، لتبين لنا أنها تفيض بالقص المفرد المكرر من بدايتها الى نهايتها، وإن دل هذا على شيء إنما يدل على أن السارد الضمني، عبر أتباعه هذا النظام، يسعى الى أن: ( يعطي للرؤية السردية مكانة أولى في صياغة المتن).5
والمتن الحكائي للرواية كما أسلفنا في البداية يتكون من خمسة محاور. ولو راجعنا هذه المحاور، إبتداء من المحور الأول الخاص بقلق الشخصية المحورية من مطارديه ومراقبتهم له الى المحور الأخير الخاص بتحول المدن العراقية الى أكوام للنفايات، لنجد ما عدا المحاور التي أشرنا اليها في البداية، أن كل مفردة من هذه المفردات، تكررت أكثر من مرة. على سبيل المثال لا الحصر جملة: ( تجمعت فيها أكوام النفايات وفضلات الحيوانات)، ويقصد المدن العراقية. وكذلك جملة: (زمن يليق بالحيوانات الضالة)، وفي جملة أخرى، يستخدم بدلا من مفردة الحيوانات الضالة، جملة: ( الكلاب السائبة). وكذلك عمليات النهب والسلب التي تقوم بها الميليشيات المنفلتة، والفوضى السائدة في البلد، من خلال هذه الجملة التي تنطبق على كلتا العمليتين، النهب والسلب، والفوضى السائدة: (فوجيء الجميع أن النهب والسلب بات في الشوارع المكتظة ناموسا أتفق الشعب الجائع على الأخذ به، وكان هناك من يبرر السرقة أنها أموال الشب تعود اليه، في إشارة واضحة الى مسؤولي البلد المتمثلة بمتنفذيه، سواء كانوا في السلطة، أو الأحزاب، والميليشيات.
ومثل روايتيه ( موت الأب) و (محنة فينوس)، لم يتعرض السارد الى النظام الحالي فقط، وإنما الى النظام السابق أيضا، ذلك حسب وجهة نظره، أن العهدين لا يختلفان مع بعضهما في توزيع أنواط التنك :(الفارق الوحيد كانت الأنواط السابقة تقدم بأسم القائد الضرورة، أما في عهد بريمر ومن تلاه تقدم بأسم السادة والشيوخ والملالي المعممين.).

يتعرض للنظام السابق من خلال (60) صفحة كرسها السارد من الصفحة (99) الى (166) لتجسيد ما كان يعانيه الشعب العراقي متمثلا بجنوده على يد جلاوزة النظام السابق، حيث بعث بمجموعة من الجنود في الحرب العراقية – الإيرانية الى وادي يسمى بوادي الموت، وواضح من أسمه، أن من يذهب الى هناك، لا يلقى إلآ حتفه. ذلك أن الجهة العسكرية المسؤولة عن الوحدة الصغيرة المرسلة الى هذا الوادي، تقطع صلتها بهذه الوحدة، لذا فجنودها أما يموتون جوعا، أو تفترسهم الحيوانات الضارية، أو يستشهدون في معركة مع العدو الذي يحيط بأطرافهم الأربعة. وكان قائد الوحدة بطل هذه الرواية برتبة ضابط، أرسل الى هذا المكان لتقاعسه مع الجنود المرافقين له، في أداء واجبهم في الحرب مع إيران، لينال ومن معه من الجنود جزائهم.
في هذا الوادي تواجه هذه الوحدة العديد من المفارقات، أبرزها راعي الأغنام، وأسر الفتاة التي يعثر عليها الجنود في مكان لا يتوقع أن يستقر عليه كائن مهما كان، فأنى لفتاة؟! ولكن المفارقة الأبرز هو إقتراح الجنود لتقديم عرض مسرحي، وهذا المنحى الذي ينطوي على روح التحدي للنظام السابق، يوازي تحدي بطل الرواية لمطارديه الذين هم جزء من النظام الحالي.

وما زاد من أهمية تقديم هذا العرض، هو إفشال خطط الذين أرسلوهم الى هذا المكان. يذكرني هذا التوجه، بتوجه ناظم حكمت وهو في السجن، إذ كان يرفع صوته غناء، لئلا يفرح سجانيه وهو يربض بين أربعة جدران صماء، بل ولتحزنهم سعادته، وحنجرته تنطلق شدوا.

المصادر:
1-الرواية والمكان- دراسة المان الروائي. ياسن النصير. دار نينوى. الطبعة الثانية.
2-جماليات المكان. غاستون باشلار. ترجمة غالب هلسا. الطبعة السادسة 2006.
3-المصدر السابق نفسه.
4- تقنيات السرد. أشواق النعيمي. دار الجواهريزالطبعة الأولى 2014.
5-المصدر السابق نفسه.



#صباح_هرمز_الشاني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- (محنة فينوس). . وثيقة إدانة لعهدين. .
- قراءة تأويلية في تفكيك شفرات (موت الأب) للروائي العراقي احمد ...
- التماثل. . ونقيضه. . في رواية تسارع الخطى. .
- سابع أيام الخلق: بين تقنية المكان، وإستحضار الماضي للحاضر
- قراءة رواية ليل علي بابا الحزين. . من منظورين مختلفين
- خانة الشواذي. . . رواية موقف الشخصيات. .
- بنيات السرد في روايات محسن الرملي
- هل هدمت. . رواية وشم الطائر. . ثنائية الرواية والوثيقة؟
- حدائق الرئيس. . بين التناص والإيحاء. . لمحسن الرملي.
- أرثر ميللر وعقدة اوديب. 3ـ وفاة بائع متجول
- أرثر ميللر وعقدة اوديب. 2ـ كلهم ابنائي
- أرثر ميللر وعقدة اوديب. 1 الثمن
- اوجين اونيل بين.ثلاثي . .الواقعية والرمزية والتعبيرية. 5- ور ...
- اوجين اونيل بين ثلاثي. . .الواقعية والرمزية والتعبيرية. 4-أن ...
- اوجين اونيل بين. . .الواقعية والرمزية والتعبيرية . 3- الحداد ...
- اوجين اونيل بين ثلاثي. . . الواقعية والرمزية والتعبيرية. 2 ا ...
- مسرحيات اوجين اونيل بين ثلاثي. . . الواقعية والرمزية والتعبي ...
- ذئبة الحب والكتب.. لمحسن الرملي
- الفتيت المبعثر. . لمحسن الرملي
- عمكا.. رواية قومية المكان ومنحى الميثولوجيا


المزيد.....




- تحويل مسلسل -الحشاشين- إلى فيلم سينمائي عالمي
- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- ناجٍ من الهجوم على حفل نوفا في 7 أكتوبر يكشف أمام الكنيست: 5 ...
- افتتاح أسبوع السينما الروسية في بكين
- -لحظة التجلي-.. مخرج -تاج- يتحدث عن أسرار المشهد الأخير المؤ ...
- تونس تحتضن فعاليات منتدى Terra Rusistica لمعلمي اللغة والآدا ...
- فنانون يتدربون لحفل إيقاد شعلة أولمبياد باريس 2024
- الحبس 18 شهرا للمشرفة على الأسلحة في فيلم أليك بالدوين -راست ...
- من هي إيتيل عدنان التي يحتفل بها محرك البحث غوغل؟
- شاهد: فنانون أميركيون يرسمون لوحة في بوتشا الأوكرانية تخليدً ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح هرمز الشاني - الذئاب على الأبواب. . بين عملية التحدي. . و تقنية التواتر. .