أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح هرمز الشاني - قراءة تأويلية في تفكيك شفرات رواية مذكرات كلب عراقي















المزيد.....


قراءة تأويلية في تفكيك شفرات رواية مذكرات كلب عراقي


صباح هرمز الشاني

الحوار المتمدن-العدد: 6845 - 2021 / 3 / 19 - 00:07
المحور: الادب والفن
    


كل الروائيين العراقيين وبدون إستثناء الذين تصدوا للوضع الكارثي الذي شهده البلد في عهد النظام السابق، والعهد الحالي، عولوا على الإنسان لكي يكون بطلا، أو الشخصية المحورية لرواياتهم، فالإنسان على الأغلب، سواء كان في الفن الروائي والملحمي أو القصصي، وحتى في الفنون الأخرى كالتشكيل مثلا، والموسيقى، هو المصدر الأساس والمحرك الداينومي لأحداث هذه الفنون، ذلك لأنه الكائن الوحيد الذي يدخل في صراع معها، ويواجهها من أجل البقاء على قيد الحياة، وخروجه منتصرا عليها. ما عدا مؤلف هذه الرواية (عبد الهادي سعدون) الموسومة (مذكرات كلب عراقي)، فقد خرج عن هذه القاعدة، جاعلا من الكلب، بوصفه أقرب صديق للإنسان، ناطقا على لسانه، وبطلا لأحداث روايته هذه.
ويقر السارد الضمني من بداية الرواية وعلى لسان الكلب (ليدر)، وهذا هو أسمه، ويعني القائد بالأنكليزية، بأنه ليس الأول من بني جنسه يدون مذكراته، بل سبقه الكاتب الأسباني (سرفانتس) في كتابته لرواية بعنوان (حوار كلبين)، متخذا منها مثله الأعلى، عبر الإستفادة كما يقول: (من الرواية كمثال حي لما يمكن أن أكتبه، ولم اقلدها بالمرة). وهو بهذا الإقرار، يكشف بنفسه عن تناص روايته هذه مع رواية (حوار كلبين) لسرفانتس. والأجمل وهذه هي المرة الأولى التي يتسنى لي أن اقرأ إعتراف المؤلف الذي ينوب عنه السارد الضمني، بأنه لا يكتب شيئا جديدا، وهو يقول: (إذ كما تعرفون أن لا أحد منا يكتب شيئا جديدا، فكله مكرر منتحل وما علينا سوى الإضافة أو التصحيح والمراوغة في الإستطراد أو الحذف والتجميل..). ذلك أن مثل هذا الإعتراف، بحاجة الى وقفة طويلة، بغض النظر عن كون هذه المسالة خارج حدود تناولنا لهذه الرواية.
لعل إتخاذ السارد من الكلب الشخصية المحورية لروايته، دون الإنسان، يثير هذا المنحى بحد ذاته جملة تساؤلات. ترى لماذا الحيوان وليس الإنسان؟ ترى هل لأن تتوافر في الأول شروط ومواصفات في إيصال خطاب الرواية للمتلقي أفضل من الثاني؟ وبعبارة أوضح، أي النهجين له أسهل، أختيار الإنسان أم الحيوان بطلا لروايته؟

إن الإجابة على هذه الأسئلة، بقدر ماتبدو غير مجدية، لأن السارد قد حسم أمره، وقرر اللجوء الى الطريق الثاني، بالقدر ذاته، يمكن السعي والإجتهاد من خلال طرح هذه الأسئلة لمعرفة العوامل والأسباب التي دفعته لأن ينحو هذا المنحى.
كما هو معروف، أن السرد على لسان الحيوان، يكسب المتلقي متعة أكبر قياسا بالسرد الذي يأتي على لسان الإنسان، ذلك لعدم قدرة الحيوان على النطق، مما يجعل المتلقي أن يتعاطف معه، لأنه يعبر بنطقه هذا لما يعتمل في داخله، إشباعا لرغبته من خلال إنعكاس ما يقرأه على لسان الحيوان في الرواية الى واقع الحياة. هذا من جهة ومن جهة ثانية، أن الإنسان ليس بمقدوره أن يبز حيوانا كالكلب في مغامراته ومجازفاته ورحلاته الطويلة. والسبب الثالث للغرائبية المقرونة في مسعى يتميز باللامألوف، متمثلة هذه الغرائبية ليس في نطقه فحسب، وإنما أيضا في سلوكه وتصرفه وتفكيره مثل البشر، أو كأي كائن حي ناطق، إن لم يكن متفوقا عليه أحيانا. والسبب الرابع وهو الأهم، أن السارد ينآى بروايته بالإعتماد على هذه الطريقة عن الأسلوب المباشر، لتتخذ نفسها لنفسها أسلوبا آخر، وهو الأسلوب غير المباشر الأقرب الى الرمز.
تقع هذه الرواية في (153) صفحة، وتتوزع على ثمانية وعشرين فصلا، لا يتجاوز عدد كل فصل على أكثر من خمس أو ست صفحات. تبدأ الرواية وتنتهي بمقدمة وخاتمة في صفحتين لكل منهما، جاءت المقدمة بعنوان (فاتحة المذكرات)، والخاتمة بعنوان (خاتمة المذكرات)، كما أن كل فصل من فصول الرواية أقترنت صدارته بعنوان طويل .

تدور أحداثها في العاصمة بغداد، تحديدا عند حافة نهر دجلة، حيث أنجبته (ليدر) أمه المنحدرة من أصول أسبانية مع شقيقه وشقيقتين له في بيت سيد الدار الذي يطلق عليه لقب المعلم. وهو من جنس السلوقي المعروف في قدرته الماهرة على الصيد.
يعيش المعلم الذي شيد بيته عند حافة دجلة، ويملك أراضي ضمن هذه المنطقة وحيدا، بعد أن فقد زوجته في حملها الثاني، ولم يقترن بغيرها، وهرّب نجليه الى أوروبا وكان ناشطا سياسيا معارضا، أعتقل أكثر من مرة، لا يشغله بال سوى ترقبه لما يحدث من تغيير سريع في البلاد.
وإن كان صراع المعلم مع الحكومة قائما قبل قرار الدولة بمصادرة أراضيه الزراعية المطلة على نهر دجلة، من خلال أغتيال شقيقه الأصغر في حادث غامض، وتشتت أخوته، وموت أبيه حزنا على أبنائه، إلآ أن هذا الصراع غير المتكافيء، لا يحتدم إلآ في أعقاب مصادرة أملاكه، بلوغا حد طرده من بيته والإستيلاء عليه وعلى الأراضي التي يمتلكها، ليجد نفسه وحيدا مع كلبه هائما على وجهه في طرق وشوارع وأزقات العاصمة بغداد.
قد يبدو ما حدث له في عهد النظام السابق هينا، وقد شرد من بيته. (بالتأويل منفيا عن وطنه)، قياسا بما حدث له، بعد الغزو الأمريكي، وإتاحة الفرصة للوافدين الجدد والقادمين مع المحتل بأسم الوطنية والدين، إذ لم يكتفوا بنهب وسلب كل محتويات بيته فحسب، وإنما أردوه قتيلا. ليبقي ليدر متفردا في مواجهة مصاعب الحياة.

تعتمد الرواية في حياكة نسيجها الفني على الإيحاء والتحول والتناص والرمز.
1-الإيحاء:
يوحي الكلب السارد المتكلم بضمير (أنا) من مطلع الرواية، على أنه الاذكى من بين شقيقه وشقيقتيه، وذلك من خلال فتح عينيه منذ اللحظة الأولى لسقوطه من بطن أمه، بعكس عيون أشقائه التي لم تنفتح إلآ بعد مرور ثلاثة أيام على ولادتهم، بدليل أنه يتذكر طلة المعلم ووالده عليهم وهم في السلة، وحركة مياه دجلة، لأنه ولد في وسط النهر ولونها الوحيد، كما أن إنجذاب الأثنين لبعضهما البعض من لحظة لقائهما الأول، يشي بتبني المعلم للكلب ليدر دون أشقائه، وبالمقابل وفاء الكلب للمعلم. ويتجلى إنجذاب الكلب للمعلم عبر هز ذيله له، ولحس يده، ورغبته في أن يحمله. أما إنجذاب المعلم للكلب فيتضح من خلال ربته على رأس الكلب، وأخذه في أحضانه، داخلا به الى البيت وهو يقول الى والد الكلب: (لا بد أنه اذكى أبنائك).
كما أن ولادته في وسط نهر دجلة تحديدا، تمنحه عمق إرتباطه بالجذور الاصيلة لموطنه الحقيقي الذي هو العراق، إمتدادا بالتأريخ الحضاري لبلاد آشور وسومر وبابل وأكد. وبالتالي تشبثه بأرض أجداده ووفائه لها. هذا التشبث الذي ورثه عن معلمه، ذلك أنه لم يغادر الوطن بالرغم من كل المضايقات التي تعرض لها من أزلام العهد البائد، وفي مقدمتهم أبن قائد الضرورة المدلل.
وبقدر ما توحي ولادته الى دلالات عميقة، بالقدر ذاته يوحي أسمه الى دلالات لاتقل عنها شأنا، ذلك أن القائد الحاكم مزيف، والقائد الحقيقي هو الكلب ليدر، لأن الأول ظالم للشعب، والثاني مناصر له. ولعل وقوف ليدر الى جانب المظلومين من بني جنسه على إمتداد الرواية، ومساعدته لهم، حتى مع ألد أعدائه أدل نموذج على ذلك، وعلى سبيل المثال لا الحصر مع شخصيتي (هوذا) و (الجرو): (بعد أن غادر الجميع، أقترب المعلم مني وفرك رأسي بأنامله ثم تمدد جنبي وكأنه جرو عملاق قائلا لي: أنت قائد لأنك أهل لإسمك. أما الآخر فمزيف. ثم أحتضنني وأغمض عينيه.).
إن دخول المعلم بكلبه ليدر في منافسة مع كلب أبن القائد وفوزه عليه، يوحي الى سقوط النظام، وفي الوقت نفسه الى إنعدام الرحمة في قلوب الذين تربوا على القمع، وبالعكس فيضها في قلوب الذين تربوا على التسامح. ذلك أن ليدر لم يكن ليجهز على كلب أبن القائد، لو لا غدره بالغزال الخرافي، في سعي منه لإظهار نفسه بأنه هو الذي أصطاده، بينما في الحقيقة أن ليدر كان قد أصطاده، ولكنه سامحه لأنه تلمس فيه الشجاعة: (مانحا إياه فرصة أخرى كي يجرب لذة الحياة في براري شاسعة لا صائدين فيها). أو كما يقول في الصفحة نفسها: (كنا ننظر لبعضنا وكأننا يعرف أحدنا الآخر من سنين، صحبة طريق وتجربة واحدة. راقبته ولم أره يرمش بعينيه.). وهو بذلك يتسامح مع من هم أضعف منه ويرأف عليهم. بينما غريمه بالعكس لا يتسامح حتى على من هم أقرب اليه، لا بل يخونهم في أية فرصة مؤاتية له.
وإن دل إظهار كلب أبن القائد بأنه هو الذي أصطاد الغزال، إن دل على شيء، فإنما يدل على سرقة النظام لجهود الآخرين. كما يدل تبادل النظرات بين ليدر والغزال على إشتراكهما في الهموم نفسها، لزجهما عنوة في قتال لا يذهب ضحيته غير من أمثالهم المغدورين على أمرهم. في إشارة الى الحرب الإيرانية – العراقية.
كما أن إنقطاع ليدر عن أكل اللحوم، أثر دخوله في معركة مع كلب أبن القائد، يوحي الى خروجه عن طوره الوحشي المتمثل بالقتل وسفك الدماء، وإنتقاله الى مرحلة جديدة، ألا وهي اللاعنف، أو السلم، في إشارة واضحة الى عنف النظام القائم ودكتاتوريته، فضلا عن حروبه التترى مع الدول المجاورة له. وقول المعلم له: (أنا أدرك رغبتك وأفهمها ليتنا جميعنا بهذا الإستعداد.)، إيحاء الى أن الإنسان ليس بوسعه أن يتخذ القرار الذي صمم ليدر على تطبيقه، بالأحرى نأي بنفسه عن غريزة الإنتقام. في إيماءة الى عدم خلو الإنسان من هذه الغريزة، وقدرة الحيوان على التخلي عنها.
إن هذا المنحى الذي أصر ليدر على تطبيقه، في إنتقاله من النزعة الحيوانية المقرونة بالوحشية الى النزعة الإنسانية، يبدو لي له صلة وشيجة بالمذكرات التي شرع المعلم بتدوينها، وذلك من خلال إنصهار شخصية المعلم في شخصية ليدر، بكل ما يمتلكه المعلم من فكر وثقافة وتضحية وموقف، حدا بلغ، أو هكذا يظهر للعيان، أن ليدر قد أنتحل شخصية المعلم. أو أن ليدر هو المعلم نفسه.
أقول أن هذا المنحى له صلة وشيجة بالمذكرات التي شرع المعلم بكتابتها، ذلك بالرغم من أنه يتعلم يوميا بعض الكلمات من المعلم باللغة الأسبانية تحديدا، إلآ أنه من غير المقنع أن يقوم بتدوين مذكراته، مع أنها في الرواية تأتي على لسانه، وهنا يشتغل السارد على تقنيتي التمويه والتماهي، تمويه المتلقي على أن المعلم هو كاتب هذه المذكرات من جهة، وتماهي المتلقي أيضا على أنها مكتوبة من قبل كلا الشخصيتين، المعلم وليدر، من جهة أخرى. وبالتعويل على هذه التقنية، تسير المذكرات التي يرويها الكلب في موازاة المذكرات التي يدونها المعلم، مع أن ما يرويه الكلب ويدونه المعلم، كلاهما هما المذكرات نفسها: (تعلمت منه الشيء الكثير من الأنكليزية والأسبانية، وكان يسمح لي كل ليلة بإنتقاء أي كتاب شعري لينشد بصوته الأجش المغرق بالحزن أبياتا كانت تحملني الى عوالم لم أحضرها بعد. .).
إن جملة: (أنظر يا ليدر لا بد أن شيئا خطيرا يجري في البلاد)، منبها المعلم لليدر، إستنادا لما يراه من قوات الشرطة والجيش في الشوارع أكثر مما كانوا علبه سابقا، توحي الى قرب التغيير في البلاد من خلال دخول قوات التحاف العاصمة بغداد. وللتأكيد على ذلك أن المعلم قبل التغيير، يلقى القبض عليه، ويودع في أحد السجون، وأثر دخول قوات التحالف الأراضي العراقية، يطلق سراحه من قبل الجماهير المعارضة للنظام.
ومثلها مثل الجملة السابقة، توحي هذه الجملة الى سقوط بغداد، والكلب الجد يقول لليدر: (لا أريد ان أحبطك. قد يكون مستقبلك آمنا، لكنني أعتقد أننا جميعا سنكون حطب لمحرقة كبرى. أنظر هناك. . ألا تشم الروائح؟ ألا تسمع صوت المكائن العملاقة؟).
إن الإيحائين السابقين، إن دلا على شيء فإنما يدلان على دمار العراق، وبالتالي الى مغادرة ليدر له، ذلك ليس لأن مفردة (الهرب) تتكرر كثيرا فحسب، وإنما أيضا، يقر ليدر بأن كلنا نمضي الى التهلكة.. وهو بذلك يفقد الامل بالحياة على أرض العراق نهائيا. وهذه القراءة من قبل السارد للوضع المأساوي الذي يمر فيه العراق، يثبت صحتها أكثر يوما بعد يوم: ( الأمل هو الشيء الأخير الذي يجب التفكير به هنا. أنصحك أن تحاول الهرب لو أستطعت. .).
كما أن جملة: (كان أكثر تعطشا منا للوصول الى المدينة، ما أن أسأله عن السبب حتى يصمت. .). ويقصد الكلب الذي أسمه (هوذا)، توحي الى أنه يخفي شيئا ما وراء تتبعه لهم، أي لليدر وللجرو والجد. وبغض النظر عن هذه الجملة، أن أسمه الذي هو (هودا) يثير الى الريبة، ذلك أنه أقرب الى أسم (يهودا سخريوطا) الذي خان سيدنا المسيح. ويتبين في النهاية أن شكوك ليدر بهودا كانت في موقعها الصائب والسليم، لأنه كان يتعقبهم بهدف الإستيلاء على المذكرات التي كتبها المعلم وكانت بحوزة ليدر. ولكن لم يكشف السارد عن سبب سعي هودا في سرقة المذكرات، ربما لإيثاره أن يتولى المتلقي بنفسه، والسبب واضح وبسيط، وهو أن الأنظمة الدكتاتورية غالبا ما تخشى من التأريخ الحقيفي المدون، لذلك تسعى الى تزويره، وإذا لم تستطع فتلجأ الى إخفائه عن أعين الشعب بالسبل المتوفرة والمتاحة لها.
ليدر بوصفه رمزا للشعب، تذكرني مؤامرة الكلاب الثلاثة عليه، من خلال جره الى المعسكري الذي يقيم فيه قوات دول التحالف، بحجة أنه يعرف اللغات الأجنبية، لذا فإنه قد يساعدهم على فهم مايقولون، لتخليص أصدقائهم الذين ألقوا القبض عليهم، تذكرني هذه المؤامرة بخيانة كلا العهدين، العهد السابق والعهد الحالي للشعب العراقي. العهد الأول من خلال عدم تطبيقه للمواثيق التي أتفق عليها مع الاطراف التي تحالف معها، والثاني عبر سرقة أموال الشعب وتجويعه. ليقع في الأول تحت قسوة تعذيباته في غياهب السجون والمطاردة والإعدامات، و في الثاني ليعاني من الفقر المدقع، ويرجع بلده الطافح بالنفط الى الوراء بحقبة طويلة من الزمن.

2-التحول:
(إن الشخصية الأكثر فاعلية ودينامية في الرواية، هي تلك التي تخرج عن إرادة المؤلف ولا تستكين للعبة السارد. إن الشخصية المرقة والشيطانية وليس الطوباوية هي التي تنحرف عن الصورة المحددة لها. .)1.
في هذه الرواية، ثلاث شخصيات، لم يستطع لا المؤلف ولا السارد الضمني السيطرة عليها، بالأحرى طرأ تحولا في شخصيتها، وهي: الكلب ليدر، والجرو، وشقيق ليدر (الجنرال). الأول من خلال إنقطاعه عن أكل اللحوم، الدال الى نزوعه نحو اللاعنف والسلم. والثاني لخروجه عن طبيعته المسالمة وهو مع ليدر في القفص المسجون فيه لا يقوى الحصول على قطعة عظم، وسط زحمة كلاب شرسة الى قيادة عصبة من الكلاب في عهد ما بعد السقوط، والثالث وهو شقيق ليدر في قيادة مجموعة أخرى من الكلاب، مثل الجرو، في العهد ذاته.
واللافت أن كل واحد من هؤلاء الثلاثة، له أسبابه الخاصة التي جعلت منه أن يتحول من عامل خير الى عامل شر، كالجرو وشقيق ليدر، وبالعكس أن يتحول من عامل شر الى عامل خير كليدر. فإذا كان ليدر بسبب بغضه لرؤية الدماء وهي تسيل من الخصم، فإن شقيقه، لأنه نشأ في تربة صارمة، والجرو لحصوله على مزيد من قطع اللحم التي لم يكن بمقدوره في القفص أن يحصل عليها وسط جلبة الكلاب المسعورة.

3-الرمز:
مثلما تفيض الرواية بالإيحاء، فهي كذلك تزخر بالرمز. إن إطلاق أسم ليدر على بطل الرواية، وأسم الجنرال على شقيقه، وعدم إطلاق أي أسم على المعلم، والإكتفاء باللقب عليه بالمعلم. وهكذا بالنسبة للجرو وجميلة، فقد أقترن كل أسم من هذه الأسماء بالأحداث التي تواجهه، وبالتالي الى ما تفضي اليها من نتائج. أي أن كل أسم من هذه الأسماء، لم يأت عن فراغ، وإنما جاء وهو يحمل مبرراته مع نفسه، ليرمز الى شيء معين. فليدر الذي يعني (القائد)، لا ترمز هذه المفردة الى قائد الحروب والقتال كما يخيل للبعض لمجرد قراءتها أو سماعها. صحيح أنه أنتصر في معظم المعارك التي خاضها ولكنه أنهزم أيضا في البعض منها. كما أنه أنقطع عن أكل اللحوم، وبذلك أصبح حيوانا نباتيا، أي عدم قدرته على القتال. وبناء على هذه المعطيات المتمخضة عن أفعاله، فإن أسمه (القائد) يرمز الى الفكر والعقل الراجح. وإن شئنا تأويل هذا الرمز، فإنه يهدف الى أن العراق بحاجة الى قيادة واعية ومدركة لمتطلبات شعبها، وليس الى قيادة تسوق شبابها متى ما أرادت الى الحروب المدمرة.
أما أسم الجرو فيرمز الى الأنتهازية، والنفوس الضعيفة التي تستغل أية فرصة تسنح لها لبلوغ أهدافها. ويسير على هذا النهج على الأغلب، الأشخاص الذين يحاولون بسهولة وبشكل سريع الوصول الى مبتغاها المبتذلة بكافة الطرق، بفعل عدم قدرتها لا جسديا ولا من خلال الفكر مواجهة المجتمع، منددا غوتيه لأمثال هؤلاء في قوله المعروف: (الأغراض النبيلة لا تؤخذ بالوسائل الخسيسة.). وهو أسم على مسمى، ليس من خلال حجمه فقط، وإنما عبر الإنتهازية التي يتلون بها.
إن عدم إطلاق أسم معين على المعلم، ربما يأتي للمكانة التي يحتلها وسط المجتمع الذي يعيش فيه، وهو بهذا التأويل يعد رمزا للشعب العراقي، لأنه لم يهادن لا مع النظام السابق ولا الحالي، وها هو يرد على أبن القائد بجملة :(لا أعتقد) الدالة على الرفض، عندما يقول له: (بأنه سيكون محظوظا بإقتناء كلب مثل كلبه). ليس هذا فحسب، وإنما أيضا قضى كلبه على كلب أبن القائد، وإن شئنا تأويل هذا الفعل الجريء، شأن المكانة التي يحتلها في المجتمع، فهو بمثابة الثورة على النظام القائم. ولربما أيضا لكونه مع ليدر الشخصية ذاتها، لذا فلا داعي لإطلاق أي أسم عليه. وكلا المفردتين المعلم والقائد يوحيان الى المعنى نفسه. مثلما القائد معلم، كذلك المعلم قائد.
المكان:
تتحرك هذه الرواية في خمسة فضاءات، وهي: الأركان، حيث ولد ليدر وعاش مع أبويه وأشقائه عند حافة نهر دجلة، وبيت المعلم، والسجن، والصحراء، وخص جميلة: (كوخ).
-الأركان: (الركن إبتداء، يحقق لنا أمرا نقدره عاليا: السكون. إن الركن هو المكان المؤكد، المكان المجاور لسكونيتي. أنه نوع من نصف صندوق، جزء من جدران، وجزء من باب. وهو بهذا يصلح كمثال لجدل الداخل والخارج.).2
لقد منح السارد للركن الذي يسكن فيه ليدر مع أبويه وأشقائه بعدين، أحدهما تخيلي تأريخي، ذو دلالات عميقة، ترتبط بجذور حضارتنا التي تدعو الى الفخر والإعتزاز، والثاني الى الواقع المأساوي الحالي الذي عاشه مع أسرته، عبر مصرع أمه وموت والده وتشتت أشقائه في أرض الله الواسعة. وهو بهذه المقارنة بين الماضي والحاضر، يدين الثاني، ويمجد الأول. ولتتحول السلة التي ولد فيها الى سعادة وشقاء. شقاء لمصرع أمه على يد أزلام النظام، وسعيدا لرؤيته وجه أمه وحركة أمواج نهر دجلة. وتحسسه ليد المعلم.
ولو أردنا تفكيك الصوررة المجسدة في سعادة ليدر وهو يربط وجه أمه مع حركة أمواج النهر من جهة، ومع تحسسه ليد المعلم من جهة أخرى، لتبين لنا أن ثمة خيطا رفيعا يشد بين الثلاثة، وذلك من خلال منح وجه الأم ويد المعلم الدفيء والحنان للوليد الجديد، في الوقت الذي تمنحه فيه حركة أمواج النهر نشوة التحليق في أماكن قصية (الحلم). فإذا كان وجه الأم ويد المعلم تمثلان بالنسبة له أيقونة الحاضر، فإن حركة أمواج النهر تمثلان أيقونة الماضي، وهو بذلك في اللحظة التي سقط من بطن أو هذا ما يترآى للمتلقي، أنه قد أستحضر كل تأريخ العراق الحضاري، إبتداء من الحضارة السومرية، مرورا بأكد وإنتهاء بالكلدان وآشور. وبعبارة أوضح، أنه من خلال هذا الربط بين الماضي التليد والحاضر الجميل، يأمل أن يستمر حلمه الأثير هذا الى ما لانهاية. ولكن كما يقول المعلم: (إننا لا نأخذ أكثر مما خصصته لنا الحياة. البعض يسميه القدر أو المكتوب، أما أنا فأسميه الطريق. . الطريق الذي نمضي به ونخطه لأنفسنا. .).
- الصحراء: (في الصحراء يمتزج لون الرمل بالسماء، وتنعكس في ذرته الناعمة الصغيرة حقيقتها الصلبة، وعندما يتصور المرء أن هذه السعة من الارض قد تجمعت بتجمع هذه الذرات الصغيرة، يصبح العقل في منتهى الدقة من البحث والسعي والإستمرار في مواصلة الحياة.).3
إن الصحراء تتميز، كما يتضح في تعريف الناقد ياسين النصير بطبيعة قاسية، لذا للخروج منها معافيا، بحاجة الى إستخدام العقل. تتميز بهذه القساوة ليس بطبيعتها الجغرافية فحسب، بل بالمفاجآت التي يتعرض اليها المرء، إذ كلما توغل في أعماقها، تقل فرص نجاته. ويعمد السارد على إيغال ليدر الى عمق الصحراء، لتزداد فرص مواجهته للصعوبات، وبالتالي لإتخاذه قرار الهروب الأبدي، وذلك من خلال تحول الصحراء الى ساحة معركة حقيقة بين ليدر وعصبة الكلاب الثلاثة المجنونة المصابة بداء الجرب في المواجهة الأولى، وبينه وبين الكلاب الخمسة التي قتلت جميلة في المواجهة الثانية. فقد استطاع في الأولى أن ينجو بروحه عن طريق الهروب الذي وجده أفضل وسيلة لبقائه على قيد الحياة. غير أنه في الثانية لم يستطع أن ينقذ حياة جميلة زوجته.
والجميل، أن يقترن نجاة ليدر من قبضة الكلاب المسعورة عن طريق الحلم بالنهر، الذي يراوده أثناء هروبه، وهو بذلك كمن يعود الى طفولته، حيث ولد في نهر دجلة الذي حافظ على حياته. وبالمناسبة، فإن الحلم بشكل مباشر أو غير مباشر يتكرر أكثر من مرة في الرواية، مثله مثل توقه للنهر الذي ولد فيه، والنهر الذي عرف من خلاله جميلة.
وإذا كان ليدر لم يصطدم مع الكلاب في المرة الأولى، وآثر الهروب، بيد أنه في المرة الثانية، أنتقم منها شر إنتقام، إنتقاما لجميلة: ( كنت وحيدا عند الجرف لا أثر لأحد. متأملا حالي، مدمى أنزف من فم بأسنان مكسرة . كنت ما أزال حتى تلك اللحظة يتناهى لسمعي صدى نباح الكلاب المسعورة وهي تستجدي رمقا أخيرا قبل أن تغرق وتمضي حتى متاهتها.).
-الأكواخ: لم تكن الأكواخ بهيئة ثابتة، لكنها تشترك جميعا في تشكيلة متشابهة وبوظيفة إجتماعية متشابهة هي الأخرى لعل السكن – سكن الناس والأحياء الأخرى – في مقدمتها، والقلة منها مخازن للعلف، أو مواقع لتجمع غير أسري – أو إشارات لملكية الأرض بنيت فوقها ودلت عليها.4
والكوخ الذي نحن بصدده هو الخص الذي تسكن فيه جميلة داخل الصحراء. ويصفه السارد على لسان ليدر على الوجه التالي: (بيت بني على عجل من جذوع وسعف النخيل بشكل ذكرني بالصرائف التي تشيد لإختباء الصيادين. .).
بيت بني داخل صحراء، ما يعني مكان داخل مكان، مكان صغير داخل مكان كبير. وإن شئنا التأويل، فإن المكان الكبير يبلع المكان الصغير. وغالبا هذا ما يحدث على أرض الواقع. ولكن وظيفة المكانين يختلفان مع بعضهما البعض. فإذا كانت وظيفة الأول تتمثل في الإستقرار والنوم والراحة، فإن الثاني تتمثل في الإنتقال من مكان الى آخر، وفي الصيد، وكذلك في القتال، قتال القبائل مع بعضها البعض، والدخول في غزوات مفاجئة. ولأن الكوخ تم توظيفه للحظات السعيدة التي عاشاها معا ليدر وجميلة، أو أن وظيفته لا تخرج عن هذا النطاق، فقد قتلت جميلة في الصحراء، مع أن أحد الكلاب المسعورة قد قتل من قبل جميلة، وعثر عليه ليدر داخل الكوخ. وبهذا ليس الصحراء فقط تتحول الى حرب طاحنة، وإنما أيضا أصغر بقعة موجودة فيها، وهي الكوخ، في إشارة الى أقرب مكان لراحة الإنسان. لذا فلا سبيل إلآ الهرب، مادام لم تعد ثمة فسحة في العراق، تضمه بين جنباتها بأطمئنان، وشقيقه الجنرال يحظه على الهرب: (أهرب يا شقيقي. . لا أمل هنا. .).
المصادر:
1-أسلوبية الرواية: الدكتور أدريس قصوري. دار عالم الكتب الحديث – إربد – الأردن. الطبعة الأولى 2008.
2-الرواية والمكان: ياسين النصير. دار نينوى. الطبعة الثانية.
3- المصدر السابق نفسه.
4- المصدر السابق نفسه.



#صباح_هرمز_الشاني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حامل الهوى. . بين المونتاج القافز. . وإلنهايات المفتوحة. .
- الذئاب على الأبواب. . بين عملية التحدي. . و تقنية التواتر. .
- (محنة فينوس). . وثيقة إدانة لعهدين. .
- قراءة تأويلية في تفكيك شفرات (موت الأب) للروائي العراقي احمد ...
- التماثل. . ونقيضه. . في رواية تسارع الخطى. .
- سابع أيام الخلق: بين تقنية المكان، وإستحضار الماضي للحاضر
- قراءة رواية ليل علي بابا الحزين. . من منظورين مختلفين
- خانة الشواذي. . . رواية موقف الشخصيات. .
- بنيات السرد في روايات محسن الرملي
- هل هدمت. . رواية وشم الطائر. . ثنائية الرواية والوثيقة؟
- حدائق الرئيس. . بين التناص والإيحاء. . لمحسن الرملي.
- أرثر ميللر وعقدة اوديب. 3ـ وفاة بائع متجول
- أرثر ميللر وعقدة اوديب. 2ـ كلهم ابنائي
- أرثر ميللر وعقدة اوديب. 1 الثمن
- اوجين اونيل بين.ثلاثي . .الواقعية والرمزية والتعبيرية. 5- ور ...
- اوجين اونيل بين ثلاثي. . .الواقعية والرمزية والتعبيرية. 4-أن ...
- اوجين اونيل بين. . .الواقعية والرمزية والتعبيرية . 3- الحداد ...
- اوجين اونيل بين ثلاثي. . . الواقعية والرمزية والتعبيرية. 2 ا ...
- مسرحيات اوجين اونيل بين ثلاثي. . . الواقعية والرمزية والتعبي ...
- ذئبة الحب والكتب.. لمحسن الرملي


المزيد.....




- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح هرمز الشاني - قراءة تأويلية في تفكيك شفرات رواية مذكرات كلب عراقي