أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - زهير صادق الحكاك - الشحاذ (قصة قصيرة)















المزيد.....

الشحاذ (قصة قصيرة)


زهير صادق الحكاك

الحوار المتمدن-العدد: 6915 - 2021 / 6 / 1 - 09:18
المحور: الادب والفن
    


الشحـــــــاذ (قصة قصيرة)
خرج الشاب من مطعم مكدونالد وهو يحمل كيسا ورقيا كبيرا ملونا بشعار المطعم ، متجها نحو سيارته التي اركنها في مكان بعيد عن وسط المدينة الكبيرة، وما أن خطا عدة خطوات حتى رأى شحاذا مفترشا للأرض، جالسا على حصيرة كبيرة محاكة من خيوط بلاستيكية ، ساندا ظهره على أحد الأعمدة الكونكريتية في طرف الرصيف، وقد وزع حاجياته على كافة مساحة الحصيرة كانه يقول للمارة أن هذه هي أرضي، والرجاء عدم الدوس عليها.
وقف الشاب ينظر إلى الشحاذ وقد شغف بمنظره، فأقترب منه ببطء وتمعن في هيئته، فوجده يقارب الأربعين من عمره، نحيف الجسد، ومتوسط الطول. يلبس بنطلونا قطنيا سميكا رصاصي اللون، ملطخا ببقع دهنية هنا وهناك، وعلى جسده لبس بلوزة سميكة من الصوف الخشن، تحت قمصلة عسكرية مبقعة بالأخضر الفاتح والزيتوني، من النوع التي يلبسها جنود القوات الخاصة لتحميهم من لسعات البرد ، وعلى رأسه وضع بيريه كبيرة من الصوف الأسود. ملامح وجهه غير واضحة بسبب الأوساخ المتراكمة عليه، لكن عيناه كانتا يشعان ببريق نفاذ لعيني كل من نظر أليهما.
أنحنى الشاب على الشحاذ، وهمس بصوت خافت، مادا إليه بكيس الأكل
- هل أنت جائع؟ خذ هذا الكيس، فيه سندويجين، وبطاطا مقلية.
رفع الشحاذ عينيه ونظر إلى الشاب منبهرا، تمعن بوجهه للحظات بتعجب واضح ، وأراد أن يبتسم، ولكن جفاف فمه منعه، وبصوت خافت أجاب:
- نعم أنا جائع، ولكن هذا كثير علي، سندويجة واحدة تكفي، معدتي لا تتحمل مثل هذه الكميات من الأكل.
فرش الشاب مجلة كانت بيده على الأرض وجلس إلى جنب الشحاذ، وقال بصوت بهيج:
- إذن دعنا نتعشى سوية ، لك واحدة ولي واحدة ونتقاسم بالبطاطا المقلية. مزق الكيس الورقي وفرشه مع محتوياته على ركن صغير من الحصيرة. ناول الشحاذ سندويجة، وفتح الأخرى وقضم منها بشهية واضحة دلت على سعادة كبيرة. وقال مع نفسه، سبحان الله، كانت جدتي تقول لي دائما كلما أعطاك الله، يجب عليك أن تعطي للفقير، ومدخول صالون الحلاقة هذا اليوم كان قرابة الألف دولار.
سأله الشحاذ وهو يضع في فمه قطعتين من البطاطا المقلية:
- من أين أنت؟ لغتك جيدة ولكن فيها لكنة غريبة، وكرمك أكثر غرابة. نعم يلقي المارة على حصيرتي بعض النقود، ولكنهم دائما يمشون أو يركضون على عجل كأن الشيطان يتبعهم. نظر إليه الشاب وهو يبتسم للتغيير الفجائي في سلوك وكلام الشحاذ.
- أسمي سليم، أنا من العراق، هل تعرفه؟ جئت إلى نيوزلندة فتى صغيرا مع عائلتي قبل أكثر من عشرين سنة، وأستقر بنا المقام هنا. درست هنا وتعلمت ، وفتحت صالون للحلاقة والتجميل، وسارت الأمور على أحسن ما يرام، وبنيت بيتا جميلا، وتزوجت وأنجبت، وها انا أقضي مساء يوم عطلتي معك
نظر إليه الشحاذ بتمعن أكثر هذه المرة، أبتسم له أبتسامة عريضة، وقال له بارك الله بك وبأمثالك من الرجال الطيبين. يا أخي هذه المدينة رائعة ولكن هناك العديد من المخبولين الذين يعيثون فيها، خصوصا بعض العصابات السرية، التي تحاول الحصول على المال بأي طريقة كانت لتمويل إدمانهم للمخدرات والكحول وغيرها من الموبقات. أرجو منك أن تكون حذرا جدا
وأنت تسير في المدينة، وحاول تلافي الأزقة الهادئة والمظلمة فيها. حاول أن لا تحمل معك الكثير من المال، مئة أو مئتي دولار تكفي لتسكتهم ويعفوا عنك إذا ما تعرضوا إليك. وإني أشكرك جدا على هذا العشاء اللطيف.
نهض الشاب، اخرج من جيبه ورقة بعشرين دولار، ووضعها في حضن الشحاذ وقال له:
- من عادتنا نحن العرب نطعم الضيف ثلاثة أيام متتالية، وبما إنك ضيفي ، هذه العشرين دولار لعشاءك لليومين التاليين،
وهذا الكارت فيه أسمي وعنوان صالون الحلاقة، إذا رغبت في يوم أن تزورني فسأكون جدا سعيد، وغادر مسرعا دون أن ينظر إلى الخلف وبقي الشحاذ فاغرا فاه بتعجب واضح من سلوك هذا الشاب .
أخرج سليم علبة السجائر من جيبه، وضع واحدة في فمه وأشعلها بقداحته، سحب نفسا طويلا كانه يتحدى كل من يقول السجائر مضرة للصحة. سار ببطيء في الشارع الرئيسي، توقف عدة مرات وهو ينظر إلى فاترينات بعض محلات بيع الملابس والأحذية، وكانت كلها مغلقة في هذه الساعة من الليل. قرر فجأة أن يخترق زقاقا ضيقا ومظلما يربط هذا الشارع بالذي ترك فيه سيارته. وما أن سار مسافة قصيرة حتى تعثر بجثة ممددة في وسط الزقاق، وسقط فوقها، مد يده لتلقي الأرض لكنها سقطت على السكين الطويلة المغروسة في صدر الجثة، وتلطخت ملابسه بالدم المتخثر عليها . جلس على الأرض ويده ما زالت قابضة على السكين. دقائق مرت وإذا بفتى وفتاة من المارة ينتصبان أمامه، مزق صراخ الفتاة سكون الليل. فهرع عدد آخر من المارة إلى مكان الحادث، وسجلت عيونهم المنظر المرعب بكل تفاصيله. جاءت الشرطة وأقتيد سليم إلى المخفر، وحبس لمدة خمسة أيام على ذمة التحقيق. في نهايته، لم يبق أمام المحقق ألا أن يحيل الملف إلى المدعي العام لأن الجريمة ثابته بالشهود والبصمات على مقبض السكين، بالرغم من ترديد سليم بأنه بريء، والمحاولات التي قام بها محاميه لإقناع المحققين ببراءة موكله وحسن أخلاقه وسمعته، وبأنه لا يمكن أن يقتل شخص حتى لا يعرف أسمه.
مر شهر وسليم مازال في التوقيف بأنتظار محاكمته التي حدد موعدها الأسبوع القادم، وخلال هذه الفترة نشرت الصحف تفاصيل الجريمة وصورة المتهم بها، مما سبب الكثير من الخجل لوالديه وأصدقائه المقربين، الذين حاولوا كل جهدهم في تكذيب هذا الخبر، وبأن سليم رجل بعيد جدا عن مثل هذه الأفعال.
في يوم المحاكمة، وقف سليم في القفص الزجاجي، وراح يتابع بأسى وألم كلام الشهود واحد بعد الآخر، ومحاميه يحاول بكل ما عنده من حنكة في تسقيطهم، وكاد ينجح في مرافعته لولا مسألة بصمات سليم على مقبض السكين، التي اكد عليها المدعي العام مرارا وتكرارا.
في يوم النطق بالحكم، أستلم محامي سليم ورقة صغيرة من أحد الحاضرين في المحكمة مكتوب عليها ( إن سليم بريء وأنا عندي دليل براءته، أرجوك أن تخبر المحكمة بذلك). وقف المحامي بقوة وصرخ بأعلى صوته:
- سيدي القاضي ، لقد جاءتني هذه الورقة من أحد الحاضرين يقول فيها ان لديه البرهان على براءة موكلي، فأرجو من المحكمة الطلب من صاحب هذه الورقة للشهادة .
ضرب القاضي بمطرقته على الطاولة عدة مرات لإسكات اللغط ، وطلب من صاحب الورقة التقدم للأمام. وقف في الصف الرابع من المقاعد، شاب بالأربعين من عمره، متوسط الطول ، يلبس بدلة رصاصية بلون صدر الحمام، وربطة عنق زرقاء حريرية، وتقدم بمشية شبه عسكرية، ووقف في مكان الشهود. سأله القاضي لتعريف نفسه:-
- أنا الملازم الحقوقي ألبرت جونسون، أعمل ضابط في قسم مكافحة الجريمة المنظمة. ولدي ما أقوله لتبرئة المتهم السيد سليم.
أجابه القاضي بعد أن نظر إلى المدعي العام الذي هز برأسه.
- قل، ما لديك.
- سيدي القاضي، لقد علمت من وقائع هذه المحاكمة المنشورة في الصحف بأن جريمة القتل هذه وقعت في الساعة ما بين الثامنة والتاسعة من مساء ذلك اليوم. وأستطيع أن أوكد لكم بأن المتهم كان جالسا معي نتعشى سوية خلال تلك الساعة ( ثم ألتفت إلى سليم وقال له: (أعذرني يا صديقي لتأخري في القدوم للشهادة لأنني كنت مسافرا ولم أعلم بها سوى قبل ايام). نعم سيدي القاضي كنت في ذلك المساء متنكرا بزي شحاذ في شارع الملكة وسط المدينة لرصد تحركات بعض أفراد إحدى العصابات الإجرامية. في الساعة الثامنة تماما خرج هذا الشاب من مطعم مكدونالد، وأشار إلى سليم ، وبيده كيس فيه ما طلب ليتعشى، فرأني مفترشا الأرض، فجلس معي على الأرض وقاسمني عشائه، وبقينا نتحدث لأكثر من ساعة، وعندما تركني وضع ورقة بعشرين دولار في حضني . سيدي القاضي، أيها السادة المحلفون ، إنني لم أر في حياتي شابا رائعا وكريما مثل السيد سليم ( عفوا، أنه من الصعب على لساني أن أنطق عليه كلمة المتهم). لأنه لا يمكن لمن لديه هذا الإحساس بجوع الفقير الشحاذ أن يقتل من أجل المال، وإن ما قاله في التحقيق هو الحقيقة.
أدمعت عينا سليم ونظر إلى الشاب الواقف في مكان الشهود، وأشرقت عيناه بأبتسامة الشكر والأمتنان له، وهو يسمع القاضي ينطق الحكم ببرائته وإطلاق سراحه فورا. تقدم الملازم البرت بخطوات جرئية، فتح باب القفص الزجاجي، وأحتضن سليم بقوة، ثم قاده من يده وسلمه إلى أمه وابيه وسط شلالات من دموع الفرح.



#زهير_صادق_الحكاك (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شعراء مغمورون ( اليازجي)
- رسالة إلى سومر (قصة قصيرة)
- فتاة الكافتيريا ( قصة قصيرة)
- أبن الفراشة
- عصافير جارتنا
- جمعية الخلق المثالي The Eugene Society
- الشاهدة والزنجي في حلتها الجديدة
- الضمير
- تباين السلوك بين الاغنياء
- من هو التكنوقراط؟
- حلاوة الذاكرة (قصة قصيرة)
- أسرار الدموع
- من هم العراقيون؟
- حقائق مثيرة عن الفراعنة
- لماذا وكيف يصل الانسان للعمر الثالث؟؟


المزيد.....




- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...
- -جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - زهير صادق الحكاك - الشحاذ (قصة قصيرة)