أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - فتحى سيد فرج - الفكر العربى وسوسيولوجيا الفشل - المقالة الأولى















المزيد.....



الفكر العربى وسوسيولوجيا الفشل - المقالة الأولى


فتحى سيد فرج

الحوار المتمدن-العدد: 1633 - 2006 / 8 / 5 - 04:16
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


يتفق عديد من العلماء والمفكرون على أن العالم العربى قد شهد فترة ازدهار حضارى تبدأ من القرن الثامن الميلادى وحتى
القرن الخامس عشر الميلادى ، تمكن العرب خلال هذه الفترة من نشر الإسلام فى مناطق كبيرة من العالم حتى باتت دولتهم
تمتد من الهند وبلاد الصين شرقا إلى المحيط الاطلسى غربا ، ومن أسبانيا فى الشمال إلى أواسط أفريقيا فى الجنوب ، وكانوا
أيضا خلال هذه الفترة أكثر بلاد العلم تقدما فى مجالات العلوم والآداب والفنون .
وفجأة ينقلب الحال ويدخل العالم العربى الإسلامى فى مرحلة تدهور وانحطاط حضارى ، ويتوقف الإنتاج العلمى والفكرى ،
هذا ما جعل " توبى أ.هاف " صاحب كتاب " فجر العلم الحدبث " يقول أنه لأمر محير ومثير للأسئلة والتساؤلات لمحاولة
تفسير ما حدث . وكان سؤاله الأول : لماذا أخفق العلم العربى فى أن ينجب العلم الحديث ؟ ـ عرضنا آراءه وعدد آخر من
العلماء والمفكرين فى سلسله مقالاتنا عن " لماذا توقف العلم فى الحضارة العربية الإسلامية ـ أما سؤاله الثانى فكان حول
موضوعنا الحالى : لماذا تراجع الفكر والعمل فى الحضارة العربية الإسلامية بعد عصر ذهبى ؟ وقد رأى توبى أن هذا الأمر
يجب أن يكون موضع اهتمام مواطنى العالم العربى ، ويتفق معه " محمد أركون " الذى يتساءل أيضا : لماذا حصلت هذه
الظاهرة التاريخية ؟ . لقد ظهرت قوى عقلانية فى المدن الإسلامية ، وشهد الفكر الإسلامى مناقشات وتوترات عقلية خصبة
بين العقل الفلسفى الإغريقى والعقل الدينى المرتكز على الوحى ، فلماذا ضعفت هذه القوى والتيارات العقلية ثم اختفت كليا
وماتت فى نهاية المطاف ؟ وكيف تحول الفكر العربى الإسلامى إلى مرجعية أساسية لكل مثقفى أوروبا طيلة أربعة قرون ،
ومن فرط اهتمامه بهذه القضية فإنه يدعوا إلى أجراء بحث معمق من اجل معرفة سبب فشل فكر ابن رشد فى البيئة الإسلامية ،
وسبب نجاحه وانتشاره فى البيئة المسيحية فى أوروبا ، ويقترح تسمية هذه الدراسة " سوسيولوجيا الفشل والنجاح " حيث أنه
يرجع هذا الأمر إلى أسباب سوسيولوجية .
وقد حاول العديد من الكتاب والمفكرين من مواطنى العالم العربى الاهتمام بهذه الظاهرة التاريخية وقدموا مجموعة من الجهود
المتباينة ومن مداخل مختلفة حول أسباب فشل الفكر العربى فى التواصل الحضارى . فنرى " شوقى جلال " المفكر والمترجم
المصرى المعروف ينشغل بهذا الأمر فى كتابه " الفكر العربى و سوسيولوجيا الفشل " الذى يطرح فيه رؤيته المنهجية والتى
تتمحور حول دراسة ونقد الفكر فى علاقته مع الفعل الاجتماعى ، حيث لا يمكن وجود فكر بدون وجود مجتمع ، أى أن الإنسان
لا يفكر إلا من خلال نشاط اجتماعى ، وهذا النشاط بحكم كونه نشاط معرفى يتكامل من خلاله الإنسان مع العالم فى نسق غير
منغلق بحكم دينامية النشأة والتكوين واطراد الفعل الإنتاجى ، وحين يتوقف هذا الفعل الإنتاجى عن الاطراد والتجدد يتوقف
بالتالى العقل عن توليد معارف جديدة ، وينغلق النسق المعرفى بعد أن تنقطع صلته بالواقع ، وهكذا يكون الفعل الاجتماعى
والفكر الجماعى سدى ولحمة الوعى التاريخى الجمعى وأساس الانتماء والتلاحم على الصعيد الاجتماعى لأبناء المجتمع فى
حركته التطورية .
الفعل أو العمل الإنتاجى ، والفكر أذن : هما المشروع الوجودى الجمعى لأى مجتمع ، فمثلما لا يوجد فكر بدون مجتمع ، كذلك
إن فكر الأمة ليس حاصل تراكم فكر الأفراد ، بل حاصل الفعل والنشاط الإنتاجى المترابط فى التاريخ والواقع الراهن مستشرفا
المستقبل ، ويتعطل فكر الأمة حين تتعطل هذه العناصر ، وحينئذ يعيش أفراد المجتمع أسرى وعى زائف وواقع يغلب عليه
طابع النمطية والتكرار العشوائى الذى لا يلد جديدا ، وهذا وضع أدنى فى سلك التطور الارتقائى وأقرب إلى المجتمع الحيوانى
، إذ أن أهم ما يميز الإنسان أنه كائن اجتماعى ينتج حياته اجتماعيا ، وهذا ما نسميه الحضارة فى تطورها المادى والثقافى ،
وإنتاج الحياة هو مشروع مستمر ينطوى على ابتكار متجدد آليته التغيير كشرط أساسى للتكيف والتطور .
فالعقل ليس كينونة مستقلة ، بل إنه السلوك الكلى الذى يتطور ويتقدم كوحدة فى الزمن ، إنه الدائرة التفسيرية الشاملة للمخ
والحواس والتجربة الشعورية ، وهو الوظيفة فى المجتمع والتاريخ لتشكيل النسق الإنسانى ، أو ما يسمى المحيط العقلى الذى
تصدر عنه أفعال الإنسان ، وهو المسئول عن تحويل بعض نظم العلامات الكونية عبر الجهاز العصبى ، ومن خلال الفعل فى
السياق الاجتماعى إلى نظام علامات التجربة المعاشة .
والفكر الاجتماعى بصفته ليس مجرد أفكار أفراد ، أو تراكم عددى لها ، يعتبر أنساق فكرية تتحرك من نسق إلى نسق ، والنسق
الجديد يتجاوز القديم ، وإن احتواه ليحدث قطيعة معرفية معه ، ومن ثم فإن النسق عبارة عن بنية متراكبة الطبقات تاريخيا ، لها
نشأة وتكوين ، ومع ذلك فإنها لا تمثل قدرا محتوما ، ولكنها نسق متغير ، والأمر رهن حيوية العلاقة الجدلية بين الفكر والفعل
إذا كانت هذه العلاقة بالسالب تنتج حالة من الخمول والتوقف ، وإذا كانت علاقة التفاعل بينهما ايجابية ينتج عنها نشاط إبداعي
ويرى شوقى جلال أنه يمكن النظر إلى فكر الأمة باعتباره يتمايز بين مستويين موجودين دائما فى تناقض جدلى وحركة :
· ثقافة موروثة : تعتمد الاطراد النمطى أو المحافظة والاستقرار أو تصل إلى حد السكون ، ثقافة ترى مستقبلها فى الماضي وفى بقاء البنية الاجتماعية على حالها ، وتقف حائل دون أى حركة أو تغيير .
· وفكر : هو ابتكار وتجدد وتغيير فى بنية المجتمع وصولا إلى التكيف مع مقتضيات الواقع المتطور .
وتشكل مؤسسات الثقافة والعلوم فى المجتمع العقل المنسق الذى يصوغ الإطار المعرفى من خلال رؤية تعى إشكاليات وتحديات الواقع وتعمل على تحقيق أمال وتطلعات هذا المجتمع بحيث يتسم هذا الفكر بالأبعاد الآتية :
· أن يكون فكرا تاريخيا يعى التاريخ فى كليته وحركته ، وواقعيا يعى الواقع فى ديناميته وتناقضانه ، ومستقبليا يعى اتجاه الصيرورة الاجتماعية .
· أن يكون الفكر نسقا مفتوحا ، إيمانا بأن جميع الحقائق قابلة للنقد والتفنيد ، وأن جميع المعارف فى حركة وتجدد مع حركة وتجدد الفعل .
· عقلانية الفكر تأسيسا على تجسيده لإنجازات علوم العصر ، واستيعابه لنظريات وتيارات الفكر الإنسانى ، وإذا انقطعت صلة الفكر بهذه الأنشطة ذوى وبات أسير الجمود .
· القدرة على تفكيك طرق التفكير التقليدية ، وفحص أدوات المعرفة وأسسها ، مع تفكيك بنية النص لبيان طبيعة تشكله وشروط وجوده وآليات عمله ، ويقتضى ذلك نقد بنية الوعى ومكونات العقل ، واستكشاف البديهيات والمسلمات والتناقضات لمعرفة الظروف والملابسات التاريخية التى أسهمت فى خلق هذا الفكر ومدى سطوته ، التماسا لعقل وفكر جديد . وحين يفقد الفكر هذه الشروط فإنه يكون مجرد خطاب يفتقر إلى الكلية والشمول ، ولا يمثل نسق معرفى متكامل يفضى إلى تحقيق أهدافه .
ويخلص شوقى جلال من هذا العرض لعلاقة الفكر بالفعل إلى نتيجة فاجعة ، فلقد أخفق الخطاب اليسارى العربى ، لا لأن خطابا آخر مناهضا انتصر ، ولكن أخفق الجميع اليسار واليمين ، إذ تعلقت أبصارنا وطموحاتنا بالسماء ، حيث المفارق المتعالى والفكر النظرى المجرد ، بينما أقدامنا جميعا بعيدة عن أرض الواقع ، ولم يكن الإخفاق استثناء ، بل قاعدة للجميع امتدت قرونا ، ومن دانت له السلطة كفل لنفسه البقاء فى منطقة التعادل أو الجمود .
وهو يعنى باليسار كل تيار أو موقف نقدى التمس تغيير المجتمع ، أى الانتقال إلى حضارة العصر ، حضارة التصنيع وما بعد التصنيع ، صدقت النوايا وعانوا باسم رسالتهم شدائد وأهوالا ، ولكن المحصلة كانت الإخفاق لكل هذه الجهود . لم يخفق اليسار بسبب تآمر الغرب ، ولا بسبب بطش السلطان ، فكل فكر ثورى يصادف بالضرورة كل هذه الظروف ، ولكنه ينجح فى النهاية لأنه يعرف كيف يزيح العقبات من خلال قراءة الواقع قراءة صحيحة .
أن البحث عن أسباب الإخفاق يحتاج إلى نقد الظاهرة من داخلها ، ومعرفة الأسباب الكامنة دون الاكتفاء بأسباب خارجية نسوقها أعذارا ، فالمفروض إن اليسار حركة نقد اجتماعى ، ومشروع علمانى تنويرى ، ولكن ما عشناه كان ممارسات يسارية أو خطاب يسارى سياسى ، ليس فكرا بالمعنى الذى حددناه ، وكان امتداد لبنية ذهنية أو ثقافية موروثة تقوم على توفيق ثنائيات نقيضة ، دون استعمال أخصب ما أنتجه الفكر اليسارى من حركة جدلية كمنهج لفهم الواقع واكتشاف تناقضاته والعمل على تغييره ، لقد اعتمد اليسار العربى فى مناهجه وأهدافه على السلب : ضد الإقطاع .. ضد الاستغلال ... ضد الملكية ، وهو فى هذا الشأن مثله مثل الإسلاميين حين يدعون أن الإسلام هو الحل كشعار دون مضمون لا يخلق معرفة وليست له استراتيجية عمل .
إذا كانت ثقافتنا قد رسخت قدسية النص والتزام الحرفية والتلقين ، وأن المرجعية خارج الواقع والذات ، فقد نحا اليسار إلى نفس الاتجاه حين جعل فكره كلمات جديدة بآلية قديمة ، أو خطاب مغترب عن الواقع متعالى عن التاريخ ، لم يكن ابتكارا بل محاكاة ، لقد كانت مأساة الفكر اليسارى أو الماركسى فى الشرق عموما أنه وقع فى أيدى أصحاب ذهنية أرثوذكسية أو أصولية تخضع الواقع لحدود النص ، وتؤمن بالطاعة والهيمنة الكاريزمية للزعماء ، لا ديمقراطية أو حوار ، وهكذا انتفى النقد والإبداع ، لم يكن الإنسان هو القضية بل بعض المكاسب الجزئية .
وافضى بنا غياب الفعل ( العمل الاجتماعى الإنتاجى والإبداعى ) إلى الفراغ الفكرى ، فكلمة عمل تعنى انتاج داخل مجتمع ، وكلمة فكر تعنى إبداع علمى وفنى كمحصلة للنشاط الاجتماعى ، ولكن خصوصية النسق الأيكولوجى تنعكس على خصوصية العلم وتتجلى فى خصوصية الثقافة ، ليس العمل مجرد أداة لإشباع الحاجات ، بل قوة دافعة لخلق المزيد من الحاجات والمزيد من الإشباع والتقدم ، وتعديل الطبيعة واكتشاف قوانينها لمعرفة التعامل معها ، أى أساس تحول الإنسان من الطور البدائى إلى أطوار التحضر .فالعمل الاجتماعى هو الذى يطرح تساؤلات الواقع وإشكالياته ، ويفرز القضايا الفلسفية المعبرة عن مشكلات هذا الواقع ، وهو المعيار الذى يؤكد على ضرورة تغير هذا الفكر وتجدده من خلال النقد والإبداع ، وعلى أساس التغذية المرتدة بين الفعل والفكر .
و بينما العالم العربى يعيش اجتماعيا ومنذ قرون فى حضارة الرعى والزراعة ، انتقلت مناطق كثيرة من العالم إلى حضارة الإنسان العام المشارك بفعالية حرة فى إدارة شئون المجتمع ، وفى إبداع ثقافات وعلوم جديدة , ومن أجل الوصول إلى رؤية مستقبلية فإن شوقى جلال يطرح ضرورة أجراء دراسة تحليلية تاريخية لمجتمعنا العربى تحدد طبيعة القوى الاجتماعية ومستوى بنيتها الذهنية ومقدار تناقضاتها لتكون هادى لنا فى بناء نسق معرفى يمكننا من معالجة أوجه الخلل ويجعلنا قادرين على الانتقال الحضارى من خلال ثورة فى التعليم ، وثورة فى رد الاعتبار للإنسان بإطلاق طاقته الإبداعية من خلال مشاركته فى رسم مستقبله عن طريق الديمقراطية . وأن تعمد الأمة فى نشاطها التربوى والتعليمى داخل البيت وفى مدارج التعليم إلى تدريب النشء على إعمال العقل وممارسة النقد ، وإكسابه عادة التمرد على التقاليد والشجاعة فى إبداء الرأى دون قيود غير قيود العقل .
وسبيلنا إلى هذه الدراسة العقلانية التمسك بأن أفضل الشعوب أكثرهم عملا وأغناهم وأخصبهم فكرا 00وأن قيمة الفعل والفكر هى كبرى القيم وأعظم الفضائل ، وأن العقل قرين الفعل . ومن خلال الوعى بأننا فعلا متخلفين نحتاج التغلب على عوامل هذا التخلف ، وأن طبيعة علاقاتنا الاجتماعية تؤدى إلى سيادة سلوك مناهض للديمقراطية كثقافة وممارسة 00على الرغم من كل الدعاوى والصخب حول الاحتفاء بها ، أن ثقافة الديمقراطية هى النقيض المطلق لحضارة وثقافة الرعى والزراعة والمجتمعات التى تعيش على الريع ، ولا يمكن وجود ديمقراطية إلا من خلال تحول الواقع الاجتماعى إلى حضارة العصر ، فالديمقراطية وثقافتنا المعاشة نقيضان لا يجتمعان ، وهكذا قياسا إلى ماركسى الشرق أو إسلاموييه على عكس ما هو فى الغرب 00إذن الجميع فى بلادنا مطالبون بابتكار آلية جديدة تكون استجابة لحاجة التقدم والاندماج فى حضارة العصر .
فإذا كانت كل حضارة لها متطلباتها ، ولها نطاق إنجاز وتطبيق لهذه المتطلبات ، فإن ديمقراطية العصر بأشكالها المتباينة ليست من إنجاز أو مطلب المجتمعات الرعوية أو الزراعية أو التى تعيش على الريع ، وإنما هى مطلب ضرورى لحضارة التصنيع . وازدادت الديمقراطية كثافة وارتقاء فى حضارة ما بعد التصنيع ، إذ لم يعد الإنسان مجرد مشارك فى الانتخابات النيابية ، أو عنصر مستقل عن سلطة رجال الدين ، بل بات إنسانا آخر من حيث المهام المطلوبة منه فى علاقته بالمجتمع والطبيعة .
صفوة القول إن مدخلتا إلى العصر مشروع يبلور لنا تصورنا المعرفى عن الذات وعن الآخر ، ويكون محورا لتجسيد جوهر أزمتنا الحضارية بشكل موضوعى ، فالوعى بالأزمة هو منطلقنا للوعى بالمعوقات والتناقضات ، وهو سبيلنا لصياغة التطور المستقبلى من خلال منطلق فكرى جديد يقوم على نقد الواقع وعمل بناء جديد .










.
الفكر العربى و سوسيولوجيا الفشل
( المقالة الأولى )
فــتـحـى ســيـد فــرج

يتفق عديد من العلماء والمفكرون على أن العالم العربى قد شهد فترة ازدهار حضارى تبدأ من القرن الثامن الميلادى وحتى
القرن الخامس عشر الميلادى ، تمكن العرب خلال هذه الفترة من نشر الإسلام فى مناطق كبيرة من العالم حتى باتت دولتهم
تمتد من الهند وبلاد الصين شرقا إلى المحيط الاطلسى غربا ، ومن أسبانيا فى الشمال إلى أواسط أفريقيا فى الجنوب ، وكانوا
أيضا خلال هذه الفترة أكثر بلاد العلم تقدما فى مجالات العلوم والآداب والفنون .
وفجأة ينقلب الحال ويدخل العالم العربى الإسلامى فى مرحلة تدهور وانحطاط حضارى ، ويتوقف الإنتاج العلمى والفكرى ،
هذا ما جعل " توبى أ.هاف " صاحب كتاب " فجر العلم الحدبث " يقول أنه لأمر محير ومثير للأسئلة والتساؤلات لمحاولة
تفسير ما حدث . وكان سؤاله الأول : لماذا أخفق العلم العربى فى أن ينجب العلم الحديث ؟ ـ عرضنا آراءه وعدد آخر من
العلماء والمفكرين فى سلسله مقالاتنا عن " لماذا توقف العلم فى الحضارة العربية الإسلامية ـ أما سؤاله الثانى فكان حول
موضوعنا الحالى : لماذا تراجع الفكر والعمل فى الحضارة العربية الإسلامية بعد عصر ذهبى ؟ وقد رأى توبى أن هذا الأمر
يجب أن يكون موضع اهتمام مواطنى العالم العربى ، ويتفق معه " محمد أركون " الذى يتساءل أيضا : لماذا حصلت هذه
الظاهرة التاريخية ؟ . لقد ظهرت قوى عقلانية فى المدن الإسلامية ، وشهد الفكر الإسلامى مناقشات وتوترات عقلية خصبة
بين العقل الفلسفى الإغريقى والعقل الدينى المرتكز على الوحى ، فلماذا ضعفت هذه القوى والتيارات العقلية ثم اختفت كليا
وماتت فى نهاية المطاف ؟ وكيف تحول الفكر العربى الإسلامى إلى مرجعية أساسية لكل مثقفى أوروبا طيلة أربعة قرون ،
ومن فرط اهتمامه بهذه القضية فإنه يدعوا إلى أجراء بحث معمق من اجل معرفة سبب فشل فكر ابن رشد فى البيئة الإسلامية ،
وسبب نجاحه وانتشاره فى البيئة المسيحية فى أوروبا ، ويقترح تسمية هذه الدراسة " سوسيولوجيا الفشل والنجاح " حيث أنه
يرجع هذا الأمر إلى أسباب سوسيولوجية .
وقد حاول العديد من الكتاب والمفكرين من مواطنى العالم العربى الاهتمام بهذه الظاهرة التاريخية وقدموا مجموعة من الجهود
المتباينة ومن مداخل مختلفة حول أسباب فشل الفكر العربى فى التواصل الحضارى . فنرى " شوقى جلال " المفكر والمترجم
المصرى المعروف ينشغل بهذا الأمر فى كتابه " الفكر العربى و سوسيولوجيا الفشل " الذى يطرح فيه رؤيته المنهجية والتى
تتمحور حول دراسة ونقد الفكر فى علاقته مع الفعل الاجتماعى ، حيث لا يمكن وجود فكر بدون وجود مجتمع ، أى أن الإنسان
لا يفكر إلا من خلال نشاط اجتماعى ، وهذا النشاط بحكم كونه نشاط معرفى يتكامل من خلاله الإنسان مع العالم فى نسق غير
منغلق بحكم دينامية النشأة والتكوين واطراد الفعل الإنتاجى ، وحين يتوقف هذا الفعل الإنتاجى عن الاطراد والتجدد يتوقف
بالتالى العقل عن توليد معارف جديدة ، وينغلق النسق المعرفى بعد أن تنقطع صلته بالواقع ، وهكذا يكون الفعل الاجتماعى
والفكر الجماعى سدى ولحمة الوعى التاريخى الجمعى وأساس الانتماء والتلاحم على الصعيد الاجتماعى لأبناء المجتمع فى
حركته التطورية .
الفعل أو العمل الإنتاجى ، والفكر أذن : هما المشروع الوجودى الجمعى لأى مجتمع ، فمثلما لا يوجد فكر بدون مجتمع ، كذلك
إن فكر الأمة ليس حاصل تراكم فكر الأفراد ، بل حاصل الفعل والنشاط الإنتاجى المترابط فى التاريخ والواقع الراهن مستشرفا
المستقبل ، ويتعطل فكر الأمة حين تتعطل هذه العناصر ، وحينئذ يعيش أفراد المجتمع أسرى وعى زائف وواقع يغلب عليه
طابع النمطية والتكرار العشوائى الذى لا يلد جديدا ، وهذا وضع أدنى فى سلك التطور الارتقائى وأقرب إلى المجتمع الحيوانى
، إذ أن أهم ما يميز الإنسان أنه كائن اجتماعى ينتج حياته اجتماعيا ، وهذا ما نسميه الحضارة فى تطورها المادى والثقافى ،
وإنتاج الحياة هو مشروع مستمر ينطوى على ابتكار متجدد آليته التغيير كشرط أساسى للتكيف والتطور .
فالعقل ليس كينونة مستقلة ، بل إنه السلوك الكلى الذى يتطور ويتقدم كوحدة فى الزمن ، إنه الدائرة التفسيرية الشاملة للمخ
والحواس والتجربة الشعورية ، وهو الوظيفة فى المجتمع والتاريخ لتشكيل النسق الإنسانى ، أو ما يسمى المحيط العقلى الذى
تصدر عنه أفعال الإنسان ، وهو المسئول عن تحويل بعض نظم العلامات الكونية عبر الجهاز العصبى ، ومن خلال الفعل فى
السياق الاجتماعى إلى نظام علامات التجربة المعاشة .
والفكر الاجتماعى بصفته ليس مجرد أفكار أفراد ، أو تراكم عددى لها ، يعتبر أنساق فكرية تتحرك من نسق إلى نسق ، والنسق
الجديد يتجاوز القديم ، وإن احتواه ليحدث قطيعة معرفية معه ، ومن ثم فإن النسق عبارة عن بنية متراكبة الطبقات تاريخيا ، لها
نشأة وتكوين ، ومع ذلك فإنها لا تمثل قدرا محتوما ، ولكنها نسق متغير ، والأمر رهن حيوية العلاقة الجدلية بين الفكر والفعل
إذا كانت هذه العلاقة بالسالب تنتج حالة من الخمول والتوقف ، وإذا كانت علاقة التفاعل بينهما ايجابية ينتج عنها نشاط إبداعي
ويرى شوقى جلال أنه يمكن النظر إلى فكر الأمة باعتباره يتمايز بين مستويين موجودين دائما فى تناقض جدلى وحركة :
· ثقافة موروثة : تعتمد الاطراد النمطى أو المحافظة والاستقرار أو تصل إلى حد السكون ، ثقافة ترى مستقبلها فى الماضي وفى بقاء البنية الاجتماعية على حالها ، وتقف حائل دون أى حركة أو تغيير .
· وفكر : هو ابتكار وتجدد وتغيير فى بنية المجتمع وصولا إلى التكيف مع مقتضيات الواقع المتطور .
وتشكل مؤسسات الثقافة والعلوم فى المجتمع العقل المنسق الذى يصوغ الإطار المعرفى من خلال رؤية تعى إشكاليات وتحديات الواقع وتعمل على تحقيق أمال وتطلعات هذا المجتمع بحيث يتسم هذا الفكر بالأبعاد الآتية :
· أن يكون فكرا تاريخيا يعى التاريخ فى كليته وحركته ، وواقعيا يعى الواقع فى ديناميته وتناقضانه ، ومستقبليا يعى اتجاه الصيرورة الاجتماعية .
· أن يكون الفكر نسقا مفتوحا ، إيمانا بأن جميع الحقائق قابلة للنقد والتفنيد ، وأن جميع المعارف فى حركة وتجدد مع حركة وتجدد الفعل .
· عقلانية الفكر تأسيسا على تجسيده لإنجازات علوم العصر ، واستيعابه لنظريات وتيارات الفكر الإنسانى ، وإذا انقطعت صلة الفكر بهذه الأنشطة ذوى وبات أسير الجمود .
· القدرة على تفكيك طرق التفكير التقليدية ، وفحص أدوات المعرفة وأسسها ، مع تفكيك بنية النص لبيان طبيعة تشكله وشروط وجوده وآليات عمله ، ويقتضى ذلك نقد بنية الوعى ومكونات العقل ، واستكشاف البديهيات والمسلمات والتناقضات لمعرفة الظروف والملابسات التاريخية التى أسهمت فى خلق هذا الفكر ومدى سطوته ، التماسا لعقل وفكر جديد . وحين يفقد الفكر هذه الشروط فإنه يكون مجرد خطاب يفتقر إلى الكلية والشمول ، ولا يمثل نسق معرفى متكامل يفضى إلى تحقيق أهدافه .
ويخلص شوقى جلال من هذا العرض لعلاقة الفكر بالفعل إلى نتيجة فاجعة ، فلقد أخفق الخطاب اليسارى العربى ، لا لأن خطابا آخر مناهضا انتصر ، ولكن أخفق الجميع اليسار واليمين ، إذ تعلقت أبصارنا وطموحاتنا بالسماء ، حيث المفارق المتعالى والفكر النظرى المجرد ، بينما أقدامنا جميعا بعيدة عن أرض الواقع ، ولم يكن الإخفاق استثناء ، بل قاعدة للجميع امتدت قرونا ، ومن دانت له السلطة كفل لنفسه البقاء فى منطقة التعادل أو الجمود .
وهو يعنى باليسار كل تيار أو موقف نقدى التمس تغيير المجتمع ، أى الانتقال إلى حضارة العصر ، حضارة التصنيع وما بعد التصنيع ، صدقت النوايا وعانوا باسم رسالتهم شدائد وأهوالا ، ولكن المحصلة كانت الإخفاق لكل هذه الجهود . لم يخفق اليسار بسبب تآمر الغرب ، ولا بسبب بطش السلطان ، فكل فكر ثورى يصادف بالضرورة كل هذه الظروف ، ولكنه ينجح فى النهاية لأنه يعرف كيف يزيح العقبات من خلال قراءة الواقع قراءة صحيحة .
أن البحث عن أسباب الإخفاق يحتاج إلى نقد الظاهرة من داخلها ، ومعرفة الأسباب الكامنة دون الاكتفاء بأسباب خارجية نسوقها أعذارا ، فالمفروض إن اليسار حركة نقد اجتماعى ، ومشروع علمانى تنويرى ، ولكن ما عشناه كان ممارسات يسارية أو خطاب يسارى سياسى ، ليس فكرا بالمعنى الذى حددناه ، وكان امتداد لبنية ذهنية أو ثقافية موروثة تقوم على توفيق ثنائيات نقيضة ، دون استعمال أخصب ما أنتجه الفكر اليسارى من حركة جدلية كمنهج لفهم الواقع واكتشاف تناقضاته والعمل على تغييره ، لقد اعتمد اليسار العربى فى مناهجه وأهدافه على السلب : ضد الإقطاع .. ضد الاستغلال ... ضد الملكية ، وهو فى هذا الشأن مثله مثل الإسلاميين حين يدعون أن الإسلام هو الحل كشعار دون مضمون لا يخلق معرفة وليست له استراتيجية عمل .
إذا كانت ثقافتنا قد رسخت قدسية النص والتزام الحرفية والتلقين ، وأن المرجعية خارج الواقع والذات ، فقد نحا اليسار إلى نفس الاتجاه حين جعل فكره كلمات جديدة بآلية قديمة ، أو خطاب مغترب عن الواقع متعالى عن التاريخ ، لم يكن ابتكارا بل محاكاة ، لقد كانت مأساة الفكر اليسارى أو الماركسى فى الشرق عموما أنه وقع فى أيدى أصحاب ذهنية أرثوذكسية أو أصولية تخضع الواقع لحدود النص ، وتؤمن بالطاعة والهيمنة الكاريزمية للزعماء ، لا ديمقراطية أو حوار ، وهكذا انتفى النقد والإبداع ، لم يكن الإنسان هو القضية بل بعض المكاسب الجزئية .
وافضى بنا غياب الفعل ( العمل الاجتماعى الإنتاجى والإبداعى ) إلى الفراغ الفكرى ، فكلمة عمل تعنى انتاج داخل مجتمع ، وكلمة فكر تعنى إبداع علمى وفنى كمحصلة للنشاط الاجتماعى ، ولكن خصوصية النسق الأيكولوجى تنعكس على خصوصية العلم وتتجلى فى خصوصية الثقافة ، ليس العمل مجرد أداة لإشباع الحاجات ، بل قوة دافعة لخلق المزيد من الحاجات والمزيد من الإشباع والتقدم ، وتعديل الطبيعة واكتشاف قوانينها لمعرفة التعامل معها ، أى أساس تحول الإنسان من الطور البدائى إلى أطوار التحضر .فالعمل الاجتماعى هو الذى يطرح تساؤلات الواقع وإشكالياته ، ويفرز القضايا الفلسفية المعبرة عن مشكلات هذا الواقع ، وهو المعيار الذى يؤكد على ضرورة تغير هذا الفكر وتجدده من خلال النقد والإبداع ، وعلى أساس التغذية المرتدة بين الفعل والفكر .
و بينما العالم العربى يعيش اجتماعيا ومنذ قرون فى حضارة الرعى والزراعة ، انتقلت مناطق كثيرة من العالم إلى حضارة الإنسان العام المشارك بفعالية حرة فى إدارة شئون المجتمع ، وفى إبداع ثقافات وعلوم جديدة , ومن أجل الوصول إلى رؤية مستقبلية فإن شوقى جلال يطرح ضرورة أجراء دراسة تحليلية تاريخية لمجتمعنا العربى تحدد طبيعة القوى الاجتماعية ومستوى بنيتها الذهنية ومقدار تناقضاتها لتكون هادى لنا فى بناء نسق معرفى يمكننا من معالجة أوجه الخلل ويجعلنا قادرين على الانتقال الحضارى من خلال ثورة فى التعليم ، وثورة فى رد الاعتبار للإنسان بإطلاق طاقته الإبداعية من خلال مشاركته فى رسم مستقبله عن طريق الديمقراطية . وأن تعمد الأمة فى نشاطها التربوى والتعليمى داخل البيت وفى مدارج التعليم إلى تدريب النشء على إعمال العقل وممارسة النقد ، وإكسابه عادة التمرد على التقاليد والشجاعة فى إبداء الرأى دون قيود غير قيود العقل .
وسبيلنا إلى هذه الدراسة العقلانية التمسك بأن أفضل الشعوب أكثرهم عملا وأغناهم وأخصبهم فكرا 00وأن قيمة الفعل والفكر هى كبرى القيم وأعظم الفضائل ، وأن العقل قرين الفعل . ومن خلال الوعى بأننا فعلا متخلفين نحتاج التغلب على عوامل هذا التخلف ، وأن طبيعة علاقاتنا الاجتماعية تؤدى إلى سيادة سلوك مناهض للديمقراطية كثقافة وممارسة 00على الرغم من كل الدعاوى والصخب حول الاحتفاء بها ، أن ثقافة الديمقراطية هى النقيض المطلق لحضارة وثقافة الرعى والزراعة والمجتمعات التى تعيش على الريع ، ولا يمكن وجود ديمقراطية إلا من خلال تحول الواقع الاجتماعى إلى حضارة العصر ، فالديمقراطية وثقافتنا المعاشة نقيضان لا يجتمعان ، وهكذا قياسا إلى ماركسى الشرق أو إسلاموييه على عكس ما هو فى الغرب 00إذن الجميع فى بلادنا مطالبون بابتكار آلية جديدة تكون استجابة لحاجة التقدم والاندماج فى حضارة العصر .
فإذا كانت كل حضارة لها متطلباتها ، ولها نطاق إنجاز وتطبيق لهذه المتطلبات ، فإن ديمقراطية العصر بأشكالها المتباينة ليست من إنجاز أو مطلب المجتمعات الرعوية أو الزراعية أو التى تعيش على الريع ، وإنما هى مطلب ضرورى لحضارة التصنيع . وازدادت الديمقراطية كثافة وارتقاء فى حضارة ما بعد التصنيع ، إذ لم يعد الإنسان مجرد مشارك فى الانتخابات النيابية ، أو عنصر مستقل عن سلطة رجال الدين ، بل بات إنسانا آخر من حيث المهام المطلوبة منه فى علاقته بالمجتمع والطبيعة .
صفوة القول إن مدخلتا إلى العصر مشروع يبلور لنا تصورنا المعرفى عن الذات وعن الآخر ، ويكون محورا لتجسيد جوهر أزمتنا الحضارية بشكل موضوعى ، فالوعى بالأزمة هو منطلقنا للوعى بالمعوقات والتناقضات ، وهو سبيلنا لصياغة التطور المستقبلى من خلال منطلق فكرى جديد يقوم على نقد الواقع وعمل بناء جديد .









الفكر العربى و سوسيولوجيا الفشل
( المقالة الأولى )
فــتـحـى ســيـد فــرج

يتفق عديد من العلماء والمفكرون على أن العالم العربى قد شهد فترة ازدهار حضارى تبدأ من القرن الثامن الميلادى وحتى
القرن الخامس عشر الميلادى ، تمكن العرب خلال هذه الفترة من نشر الإسلام فى مناطق كبيرة من العالم حتى باتت دولتهم
تمتد من الهند وبلاد الصين شرقا إلى المحيط الاطلسى غربا ، ومن أسبانيا فى الشمال إلى أواسط أفريقيا فى الجنوب ، وكانوا
أيضا خلال هذه الفترة أكثر بلاد العلم تقدما فى مجالات العلوم والآداب والفنون .
وفجأة ينقلب الحال ويدخل العالم العربى الإسلامى فى مرحلة تدهور وانحطاط حضارى ، ويتوقف الإنتاج العلمى والفكرى ،
هذا ما جعل " توبى أ.هاف " صاحب كتاب " فجر العلم الحدبث " يقول أنه لأمر محير ومثير للأسئلة والتساؤلات لمحاولة
تفسير ما حدث . وكان سؤاله الأول : لماذا أخفق العلم العربى فى أن ينجب العلم الحديث ؟ ـ عرضنا آراءه وعدد آخر من
العلماء والمفكرين فى سلسله مقالاتنا عن " لماذا توقف العلم فى الحضارة العربية الإسلامية ـ أما سؤاله الثانى فكان حول
موضوعنا الحالى : لماذا تراجع الفكر والعمل فى الحضارة العربية الإسلامية بعد عصر ذهبى ؟ وقد رأى توبى أن هذا الأمر
يجب أن يكون موضع اهتمام مواطنى العالم العربى ، ويتفق معه " محمد أركون " الذى يتساءل أيضا : لماذا حصلت هذه
الظاهرة التاريخية ؟ . لقد ظهرت قوى عقلانية فى المدن الإسلامية ، وشهد الفكر الإسلامى مناقشات وتوترات عقلية خصبة
بين العقل الفلسفى الإغريقى والعقل الدينى المرتكز على الوحى ، فلماذا ضعفت هذه القوى والتيارات العقلية ثم اختفت كليا
وماتت فى نهاية المطاف ؟ وكيف تحول الفكر العربى الإسلامى إلى مرجعية أساسية لكل مثقفى أوروبا طيلة أربعة قرون ،
ومن فرط اهتمامه بهذه القضية فإنه يدعوا إلى أجراء بحث معمق من اجل معرفة سبب فشل فكر ابن رشد فى البيئة الإسلامية ،
وسبب نجاحه وانتشاره فى البيئة المسيحية فى أوروبا ، ويقترح تسمية هذه الدراسة " سوسيولوجيا الفشل والنجاح " حيث أنه
يرجع هذا الأمر إلى أسباب سوسيولوجية .
وقد حاول العديد من الكتاب والمفكرين من مواطنى العالم العربى الاهتمام بهذه الظاهرة التاريخية وقدموا مجموعة من الجهود
المتباينة ومن مداخل مختلفة حول أسباب فشل الفكر العربى فى التواصل الحضارى . فنرى " شوقى جلال " المفكر والمترجم
المصرى المعروف ينشغل بهذا الأمر فى كتابه " الفكر العربى و سوسيولوجيا الفشل " الذى يطرح فيه رؤيته المنهجية والتى
تتمحور حول دراسة ونقد الفكر فى علاقته مع الفعل الاجتماعى ، حيث لا يمكن وجود فكر بدون وجود مجتمع ، أى أن الإنسان
لا يفكر إلا من خلال نشاط اجتماعى ، وهذا النشاط بحكم كونه نشاط معرفى يتكامل من خلاله الإنسان مع العالم فى نسق غير
منغلق بحكم دينامية النشأة والتكوين واطراد الفعل الإنتاجى ، وحين يتوقف هذا الفعل الإنتاجى عن الاطراد والتجدد يتوقف
بالتالى العقل عن توليد معارف جديدة ، وينغلق النسق المعرفى بعد أن تنقطع صلته بالواقع ، وهكذا يكون الفعل الاجتماعى
والفكر الجماعى سدى ولحمة الوعى التاريخى الجمعى وأساس الانتماء والتلاحم على الصعيد الاجتماعى لأبناء المجتمع فى
حركته التطورية .
الفعل أو العمل الإنتاجى ، والفكر أذن : هما المشروع الوجودى الجمعى لأى مجتمع ، فمثلما لا يوجد فكر بدون مجتمع ، كذلك
إن فكر الأمة ليس حاصل تراكم فكر الأفراد ، بل حاصل الفعل والنشاط الإنتاجى المترابط فى التاريخ والواقع الراهن مستشرفا
المستقبل ، ويتعطل فكر الأمة حين تتعطل هذه العناصر ، وحينئذ يعيش أفراد المجتمع أسرى وعى زائف وواقع يغلب عليه
طابع النمطية والتكرار العشوائى الذى لا يلد جديدا ، وهذا وضع أدنى فى سلك التطور الارتقائى وأقرب إلى المجتمع الحيوانى
، إذ أن أهم ما يميز الإنسان أنه كائن اجتماعى ينتج حياته اجتماعيا ، وهذا ما نسميه الحضارة فى تطورها المادى والثقافى ،
وإنتاج الحياة هو مشروع مستمر ينطوى على ابتكار متجدد آليته التغيير كشرط أساسى للتكيف والتطور .
فالعقل ليس كينونة مستقلة ، بل إنه السلوك الكلى الذى يتطور ويتقدم كوحدة فى الزمن ، إنه الدائرة التفسيرية الشاملة للمخ
والحواس والتجربة الشعورية ، وهو الوظيفة فى المجتمع والتاريخ لتشكيل النسق الإنسانى ، أو ما يسمى المحيط العقلى الذى
تصدر عنه أفعال الإنسان ، وهو المسئول عن تحويل بعض نظم العلامات الكونية عبر الجهاز العصبى ، ومن خلال الفعل فى
السياق الاجتماعى إلى نظام علامات التجربة المعاشة .
والفكر الاجتماعى بصفته ليس مجرد أفكار أفراد ، أو تراكم عددى لها ، يعتبر أنساق فكرية تتحرك من نسق إلى نسق ، والنسق
الجديد يتجاوز القديم ، وإن احتواه ليحدث قطيعة معرفية معه ، ومن ثم فإن النسق عبارة عن بنية متراكبة الطبقات تاريخيا ، لها
نشأة وتكوين ، ومع ذلك فإنها لا تمثل قدرا محتوما ، ولكنها نسق متغير ، والأمر رهن حيوية العلاقة الجدلية بين الفكر والفعل
إذا كانت هذه العلاقة بالسالب تنتج حالة من الخمول والتوقف ، وإذا كانت علاقة التفاعل بينهما ايجابية ينتج عنها نشاط إبداعي
ويرى شوقى جلال أنه يمكن النظر إلى فكر الأمة باعتباره يتمايز بين مستويين موجودين دائما فى تناقض جدلى وحركة :
· ثقافة موروثة : تعتمد الاطراد النمطى أو المحافظة والاستقرار أو تصل إلى حد السكون ، ثقافة ترى مستقبلها فى الماضي وفى بقاء البنية الاجتماعية على حالها ، وتقف حائل دون أى حركة أو تغيير .
· وفكر : هو ابتكار وتجدد وتغيير فى بنية المجتمع وصولا إلى التكيف مع مقتضيات الواقع المتطور .
وتشكل مؤسسات الثقافة والعلوم فى المجتمع العقل المنسق الذى يصوغ الإطار المعرفى من خلال رؤية تعى إشكاليات وتحديات الواقع وتعمل على تحقيق أمال وتطلعات هذا المجتمع بحيث يتسم هذا الفكر بالأبعاد الآتية :
· أن يكون فكرا تاريخيا يعى التاريخ فى كليته وحركته ، وواقعيا يعى الواقع فى ديناميته وتناقضانه ، ومستقبليا يعى اتجاه الصيرورة الاجتماعية .
· أن يكون الفكر نسقا مفتوحا ، إيمانا بأن جميع الحقائق قابلة للنقد والتفنيد ، وأن جميع المعارف فى حركة وتجدد مع حركة وتجدد الفعل .
· عقلانية الفكر تأسيسا على تجسيده لإنجازات علوم العصر ، واستيعابه لنظريات وتيارات الفكر الإنسانى ، وإذا انقطعت صلة الفكر بهذه الأنشطة ذوى وبات أسير الجمود .
· القدرة على تفكيك طرق التفكير التقليدية ، وفحص أدوات المعرفة وأسسها ، مع تفكيك بنية النص لبيان طبيعة تشكله وشروط وجوده وآليات عمله ، ويقتضى ذلك نقد بنية الوعى ومكونات العقل ، واستكشاف البديهيات والمسلمات والتناقضات لمعرفة الظروف والملابسات التاريخية التى أسهمت فى خلق هذا الفكر ومدى سطوته ، التماسا لعقل وفكر جديد . وحين يفقد الفكر هذه الشروط فإنه يكون مجرد خطاب يفتقر إلى الكلية والشمول ، ولا يمثل نسق معرفى متكامل يفضى إلى تحقيق أهدافه .
ويخلص شوقى جلال من هذا العرض لعلاقة الفكر بالفعل إلى نتيجة فاجعة ، فلقد أخفق الخطاب اليسارى العربى ، لا لأن خطابا آخر مناهضا انتصر ، ولكن أخفق الجميع اليسار واليمين ، إذ تعلقت أبصارنا وطموحاتنا بالسماء ، حيث المفارق المتعالى والفكر النظرى المجرد ، بينما أقدامنا جميعا بعيدة عن أرض الواقع ، ولم يكن الإخفاق استثناء ، بل قاعدة للجميع امتدت قرونا ، ومن دانت له السلطة كفل لنفسه البقاء فى منطقة التعادل أو الجمود .
وهو يعنى باليسار كل تيار أو موقف نقدى التمس تغيير المجتمع ، أى الانتقال إلى حضارة العصر ، حضارة التصنيع وما بعد التصنيع ، صدقت النوايا وعانوا باسم رسالتهم شدائد وأهوالا ، ولكن المحصلة كانت الإخفاق لكل هذه الجهود . لم يخفق اليسار بسبب تآمر الغرب ، ولا بسبب بطش السلطان ، فكل فكر ثورى يصادف بالضرورة كل هذه الظروف ، ولكنه ينجح فى النهاية لأنه يعرف كيف يزيح العقبات من خلال قراءة الواقع قراءة صحيحة .
أن البحث عن أسباب الإخفاق يحتاج إلى نقد الظاهرة من داخلها ، ومعرفة الأسباب الكامنة دون الاكتفاء بأسباب خارجية نسوقها أعذارا ، فالمفروض إن اليسار حركة نقد اجتماعى ، ومشروع علمانى تنويرى ، ولكن ما عشناه كان ممارسات يسارية أو خطاب يسارى سياسى ، ليس فكرا بالمعنى الذى حددناه ، وكان امتداد لبنية ذهنية أو ثقافية موروثة تقوم على توفيق ثنائيات نقيضة ، دون استعمال أخصب ما أنتجه الفكر اليسارى من حركة جدلية كمنهج لفهم الواقع واكتشاف تناقضاته والعمل على تغييره ، لقد اعتمد اليسار العربى فى مناهجه وأهدافه على السلب : ضد الإقطاع .. ضد الاستغلال ... ضد الملكية ، وهو فى هذا الشأن مثله مثل الإسلاميين حين يدعون أن الإسلام هو الحل كشعار دون مضمون لا يخلق معرفة وليست له استراتيجية عمل .
إذا كانت ثقافتنا قد رسخت قدسية النص والتزام الحرفية والتلقين ، وأن المرجعية خارج الواقع والذات ، فقد نحا اليسار إلى نفس الاتجاه حين جعل فكره كلمات جديدة بآلية قديمة ، أو خطاب مغترب عن الواقع متعالى عن التاريخ ، لم يكن ابتكارا بل محاكاة ، لقد كانت مأساة الفكر اليسارى أو الماركسى فى الشرق عموما أنه وقع فى أيدى أصحاب ذهنية أرثوذكسية أو أصولية تخضع الواقع لحدود النص ، وتؤمن بالطاعة والهيمنة الكاريزمية للزعماء ، لا ديمقراطية أو حوار ، وهكذا انتفى النقد والإبداع ، لم يكن الإنسان هو القضية بل بعض المكاسب الجزئية .
وافضى بنا غياب الفعل ( العمل الاجتماعى الإنتاجى والإبداعى ) إلى الفراغ الفكرى ، فكلمة عمل تعنى انتاج داخل مجتمع ، وكلمة فكر تعنى إبداع علمى وفنى كمحصلة للنشاط الاجتماعى ، ولكن خصوصية النسق الأيكولوجى تنعكس على خصوصية العلم وتتجلى فى خصوصية الثقافة ، ليس العمل مجرد أداة لإشباع الحاجات ، بل قوة دافعة لخلق المزيد من الحاجات والمزيد من الإشباع والتقدم ، وتعديل الطبيعة واكتشاف قوانينها لمعرفة التعامل معها ، أى أساس تحول الإنسان من الطور البدائى إلى أطوار التحضر .فالعمل الاجتماعى هو الذى يطرح تساؤلات الواقع وإشكالياته ، ويفرز القضايا الفلسفية المعبرة عن مشكلات هذا الواقع ، وهو المعيار الذى يؤكد على ضرورة تغير هذا الفكر وتجدده من خلال النقد والإبداع ، وعلى أساس التغذية المرتدة بين الفعل والفكر .
و بينما العالم العربى يعيش اجتماعيا ومنذ قرون فى حضارة الرعى والزراعة ، انتقلت مناطق كثيرة من العالم إلى حضارة الإنسان العام المشارك بفعالية حرة فى إدارة شئون المجتمع ، وفى إبداع ثقافات وعلوم جديدة , ومن أجل الوصول إلى رؤية مستقبلية فإن شوقى جلال يطرح ضرورة أجراء دراسة تحليلية تاريخية لمجتمعنا العربى تحدد طبيعة القوى الاجتماعية ومستوى بنيتها الذهنية ومقدار تناقضاتها لتكون هادى لنا فى بناء نسق معرفى يمكننا من معالجة أوجه الخلل ويجعلنا قادرين على الانتقال الحضارى من خلال ثورة فى التعليم ، وثورة فى رد الاعتبار للإنسان بإطلاق طاقته الإبداعية من خلال مشاركته فى رسم مستقبله عن طريق الديمقراطية . وأن تعمد الأمة فى نشاطها التربوى والتعليمى داخل البيت وفى مدارج التعليم إلى تدريب النشء على إعمال العقل وممارسة النقد ، وإكسابه عادة التمرد على التقاليد والشجاعة فى إبداء الرأى دون قيود غير قيود العقل .
وسبيلنا إلى هذه الدراسة العقلانية التمسك بأن أفضل الشعوب أكثرهم عملا وأغناهم وأخصبهم فكرا 00وأن قيمة الفعل والفكر هى كبرى القيم وأعظم الفضائل ، وأن العقل قرين الفعل . ومن خلال الوعى بأننا فعلا متخلفين نحتاج التغلب على عوامل هذا التخلف ، وأن طبيعة علاقاتنا الاجتماعية تؤدى إلى سيادة سلوك مناهض للديمقراطية كثقافة وممارسة 00على الرغم من كل الدعاوى والصخب حول الاحتفاء بها ، أن ثقافة الديمقراطية هى النقيض المطلق لحضارة وثقافة الرعى والزراعة والمجتمعات التى تعيش على الريع ، ولا يمكن وجود ديمقراطية إلا من خلال تحول الواقع الاجتماعى إلى حضارة العصر ، فالديمقراطية وثقافتنا المعاشة نقيضان لا يجتمعان ، وهكذا قياسا إلى ماركسى الشرق أو إسلاموييه على عكس ما هو فى الغرب 00إذن الجميع فى بلادنا مطالبون بابتكار آلية جديدة تكون استجابة لحاجة التقدم والاندماج فى حضارة العصر .
فإذا كانت كل حضارة لها متطلباتها ، ولها نطاق إنجاز وتطبيق لهذه المتطلبات ، فإن ديمقراطية العصر بأشكالها المتباينة ليست من إنجاز أو مطلب المجتمعات الرعوية أو الزراعية أو التى تعيش على الريع ، وإنما هى مطلب ضرورى لحضارة التصنيع . وازدادت الديمقراطية كثافة وارتقاء فى حضارة ما بعد التصنيع ، إذ لم يعد الإنسان مجرد مشارك فى الانتخابات النيابية ، أو عنصر مستقل عن سلطة رجال الدين ، بل بات إنسانا آخر من حيث المهام المطلوبة منه فى علاقته بالمجتمع والطبيعة .
صفوة القول إن مدخلتا إلى العصر مشروع يبلور لنا تصورنا المعرفى عن الذات وعن الآخر ، ويكون محورا لتجسيد جوهر أزمتنا الحضارية بشكل موضوعى ، فالوعى بالأزمة هو منطلقنا للوعى بالمعوقات والتناقضات ، وهو سبيلنا لصياغة التطور المستقبلى من خلال منطلق فكرى جديد يقوم على نقد الواقع وعمل بناء جديد .










.

الفكر العربى و سوسيولوجيا الفشل
( المقالة الأولى )
فــتـحـى ســيـد فــرج

يتفق عديد من العلماء والمفكرون على أن العالم العربى قد شهد فترة ازدهار حضارى تبدأ من القرن الثامن الميلادى وحتى
القرن الخامس عشر الميلادى ، تمكن العرب خلال هذه الفترة من نشر الإسلام فى مناطق كبيرة من العالم حتى باتت دولتهم
تمتد من الهند وبلاد الصين شرقا إلى المحيط الاطلسى غربا ، ومن أسبانيا فى الشمال إلى أواسط أفريقيا فى الجنوب ، وكانوا
أيضا خلال هذه الفترة أكثر بلاد العلم تقدما فى مجالات العلوم والآداب والفنون .
وفجأة ينقلب الحال ويدخل العالم العربى الإسلامى فى مرحلة تدهور وانحطاط حضارى ، ويتوقف الإنتاج العلمى والفكرى ،
هذا ما جعل " توبى أ.هاف " صاحب كتاب " فجر العلم الحدبث " يقول أنه لأمر محير ومثير للأسئلة والتساؤلات لمحاولة
تفسير ما حدث . وكان سؤاله الأول : لماذا أخفق العلم العربى فى أن ينجب العلم الحديث ؟ ـ عرضنا آراءه وعدد آخر من
العلماء والمفكرين فى سلسله مقالاتنا عن " لماذا توقف العلم فى الحضارة العربية الإسلامية ـ أما سؤاله الثانى فكان حول
موضوعنا الحالى : لماذا تراجع الفكر والعمل فى الحضارة العربية الإسلامية بعد عصر ذهبى ؟ وقد رأى توبى أن هذا الأمر
يجب أن يكون موضع اهتمام مواطنى العالم العربى ، ويتفق معه " محمد أركون " الذى يتساءل أيضا : لماذا حصلت هذه
الظاهرة التاريخية ؟ . لقد ظهرت قوى عقلانية فى المدن الإسلامية ، وشهد الفكر الإسلامى مناقشات وتوترات عقلية خصبة
بين العقل الفلسفى الإغريقى والعقل الدينى المرتكز على الوحى ، فلماذا ضعفت هذه القوى والتيارات العقلية ثم اختفت كليا
وماتت فى نهاية المطاف ؟ وكيف تحول الفكر العربى الإسلامى إلى مرجعية أساسية لكل مثقفى أوروبا طيلة أربعة قرون ،
ومن فرط اهتمامه بهذه القضية فإنه يدعوا إلى أجراء بحث معمق من اجل معرفة سبب فشل فكر ابن رشد فى البيئة الإسلامية ،
وسبب نجاحه وانتشاره فى البيئة المسيحية فى أوروبا ، ويقترح تسمية هذه الدراسة " سوسيولوجيا الفشل والنجاح " حيث أنه
يرجع هذا الأمر إلى أسباب سوسيولوجية .
وقد حاول العديد من الكتاب والمفكرين من مواطنى العالم العربى الاهتمام بهذه الظاهرة التاريخية وقدموا مجموعة من الجهود
المتباينة ومن مداخل مختلفة حول أسباب فشل الفكر العربى فى التواصل الحضارى . فنرى " شوقى جلال " المفكر والمترجم
المصرى المعروف ينشغل بهذا الأمر فى كتابه " الفكر العربى و سوسيولوجيا الفشل " الذى يطرح فيه رؤيته المنهجية والتى
تتمحور حول دراسة ونقد الفكر فى علاقته مع الفعل الاجتماعى ، حيث لا يمكن وجود فكر بدون وجود مجتمع ، أى أن الإنسان
لا يفكر إلا من خلال نشاط اجتماعى ، وهذا النشاط بحكم كونه نشاط معرفى يتكامل من خلاله الإنسان مع العالم فى نسق غير
منغلق بحكم دينامية النشأة والتكوين واطراد الفعل الإنتاجى ، وحين يتوقف هذا الفعل الإنتاجى عن الاطراد والتجدد يتوقف
بالتالى العقل عن توليد معارف جديدة ، وينغلق النسق المعرفى بعد أن تنقطع صلته بالواقع ، وهكذا يكون الفعل الاجتماعى
والفكر الجماعى سدى ولحمة الوعى التاريخى الجمعى وأساس الانتماء والتلاحم على الصعيد الاجتماعى لأبناء المجتمع فى
حركته التطورية .
الفعل أو العمل الإنتاجى ، والفكر أذن : هما المشروع الوجودى الجمعى لأى مجتمع ، فمثلما لا يوجد فكر بدون مجتمع ، كذلك
إن فكر الأمة ليس حاصل تراكم فكر الأفراد ، بل حاصل الفعل والنشاط الإنتاجى المترابط فى التاريخ والواقع الراهن مستشرفا
المستقبل ، ويتعطل فكر الأمة حين تتعطل هذه العناصر ، وحينئذ يعيش أفراد المجتمع أسرى وعى زائف وواقع يغلب عليه
طابع النمطية والتكرار العشوائى الذى لا يلد جديدا ، وهذا وضع أدنى فى سلك التطور الارتقائى وأقرب إلى المجتمع الحيوانى
، إذ أن أهم ما يميز الإنسان أنه كائن اجتماعى ينتج حياته اجتماعيا ، وهذا ما نسميه الحضارة فى تطورها المادى والثقافى ،
وإنتاج الحياة هو مشروع مستمر ينطوى على ابتكار متجدد آليته التغيير كشرط أساسى للتكيف والتطور .
فالعقل ليس كينونة مستقلة ، بل إنه السلوك الكلى الذى يتطور ويتقدم كوحدة فى الزمن ، إنه الدائرة التفسيرية الشاملة للمخ
والحواس والتجربة الشعورية ، وهو الوظيفة فى المجتمع والتاريخ لتشكيل النسق الإنسانى ، أو ما يسمى المحيط العقلى الذى
تصدر عنه أفعال الإنسان ، وهو المسئول عن تحويل بعض نظم العلامات الكونية عبر الجهاز العصبى ، ومن خلال الفعل فى
السياق الاجتماعى إلى نظام علامات التجربة المعاشة .
والفكر الاجتماعى بصفته ليس مجرد أفكار أفراد ، أو تراكم عددى لها ، يعتبر أنساق فكرية تتحرك من نسق إلى نسق ، والنسق
الجديد يتجاوز القديم ، وإن احتواه ليحدث قطيعة معرفية معه ، ومن ثم فإن النسق عبارة عن بنية متراكبة الطبقات تاريخيا ، لها
نشأة وتكوين ، ومع ذلك فإنها لا تمثل قدرا محتوما ، ولكنها نسق متغير ، والأمر رهن حيوية العلاقة الجدلية بين الفكر والفعل
إذا كانت هذه العلاقة بالسالب تنتج حالة من الخمول والتوقف ، وإذا كانت علاقة التفاعل بينهما ايجابية ينتج عنها نشاط إبداعي
ويرى شوقى جلال أنه يمكن النظر إلى فكر الأمة باعتباره يتمايز بين مستويين موجودين دائما فى تناقض جدلى وحركة :
· ثقافة موروثة : تعتمد الاطراد النمطى أو المحافظة والاستقرار أو تصل إلى حد السكون ، ثقافة ترى مستقبلها فى الماضي وفى بقاء البنية الاجتماعية على حالها ، وتقف حائل دون أى حركة أو تغيير .
· وفكر : هو ابتكار وتجدد وتغيير فى بنية المجتمع وصولا إلى التكيف مع مقتضيات الواقع المتطور .
وتشكل مؤسسات الثقافة والعلوم فى المجتمع العقل المنسق الذى يصوغ الإطار المعرفى من خلال رؤية تعى إشكاليات وتحديات الواقع وتعمل على تحقيق أمال وتطلعات هذا المجتمع بحيث يتسم هذا الفكر بالأبعاد الآتية :
· أن يكون فكرا تاريخيا يعى التاريخ فى كليته وحركته ، وواقعيا يعى الواقع فى ديناميته وتناقضانه ، ومستقبليا يعى اتجاه الصيرورة الاجتماعية .
· أن يكون الفكر نسقا مفتوحا ، إيمانا بأن جميع الحقائق قابلة للنقد والتفنيد ، وأن جميع المعارف فى حركة وتجدد مع حركة وتجدد الفعل .
· عقلانية الفكر تأسيسا على تجسيده لإنجازات علوم العصر ، واستيعابه لنظريات وتيارات الفكر الإنسانى ، وإذا انقطعت صلة الفكر بهذه الأنشطة ذوى وبات أسير الجمود .
· القدرة على تفكيك طرق التفكير التقليدية ، وفحص أدوات المعرفة وأسسها ، مع تفكيك بنية النص لبيان طبيعة تشكله وشروط وجوده وآليات عمله ، ويقتضى ذلك نقد بنية الوعى ومكونات العقل ، واستكشاف البديهيات والمسلمات والتناقضات لمعرفة الظروف والملابسات التاريخية التى أسهمت فى خلق هذا الفكر ومدى سطوته ، التماسا لعقل وفكر جديد . وحين يفقد الفكر هذه الشروط فإنه يكون مجرد خطاب يفتقر إلى الكلية والشمول ، ولا يمثل نسق معرفى متكامل يفضى إلى تحقيق أهدافه .
ويخلص شوقى جلال من هذا العرض لعلاقة الفكر بالفعل إلى نتيجة فاجعة ، فلقد أخفق الخطاب اليسارى العربى ، لا لأن خطابا آخر مناهضا انتصر ، ولكن أخفق الجميع اليسار واليمين ، إذ تعلقت أبصارنا وطموحاتنا بالسماء ، حيث المفارق المتعالى والفكر النظرى المجرد ، بينما أقدامنا جميعا بعيدة عن أرض الواقع ، ولم يكن الإخفاق استثناء ، بل قاعدة للجميع امتدت قرونا ، ومن دانت له السلطة كفل لنفسه البقاء فى منطقة التعادل أو الجمود .
وهو يعنى باليسار كل تيار أو موقف نقدى التمس تغيير المجتمع ، أى الانتقال إلى حضارة العصر ، حضارة التصنيع وما بعد التصنيع ، صدقت النوايا وعانوا باسم رسالتهم شدائد وأهوالا ، ولكن المحصلة كانت الإخفاق لكل هذه الجهود . لم يخفق اليسار بسبب تآمر الغرب ، ولا بسبب بطش السلطان ، فكل فكر ثورى يصادف بالضرورة كل هذه الظروف ، ولكنه ينجح فى النهاية لأنه يعرف كيف يزيح العقبات من خلال قراءة الواقع قراءة صحيحة .
أن البحث عن أسباب الإخفاق يحتاج إلى نقد الظاهرة من داخلها ، ومعرفة الأسباب الكامنة دون الاكتفاء بأسباب خارجية نسوقها أعذارا ، فالمفروض إن اليسار حركة نقد اجتماعى ، ومشروع علمانى تنويرى ، ولكن ما عشناه كان ممارسات يسارية أو خطاب يسارى سياسى ، ليس فكرا بالمعنى الذى حددناه ، وكان امتداد لبنية ذهنية أو ثقافية موروثة تقوم على توفيق ثنائيات نقيضة ، دون استعمال أخصب ما أنتجه الفكر اليسارى من حركة جدلية كمنهج لفهم الواقع واكتشاف تناقضاته والعمل على تغييره ، لقد اعتمد اليسار العربى فى مناهجه وأهدافه على السلب : ضد الإقطاع .. ضد الاستغلال ... ضد الملكية ، وهو فى هذا الشأن مثله مثل الإسلاميين حين يدعون أن الإسلام هو الحل كشعار دون مضمون لا يخلق معرفة وليست له استراتيجية عمل .
إذا كانت ثقافتنا قد رسخت قدسية النص والتزام الحرفية والتلقين ، وأن المرجعية خارج الواقع والذات ، فقد نحا اليسار إلى نفس الاتجاه حين جعل فكره كلمات جديدة بآلية قديمة ، أو خطاب مغترب عن الواقع متعالى عن التاريخ ، لم يكن ابتكارا بل محاكاة ، لقد كانت مأساة الفكر اليسارى أو الماركسى فى الشرق عموما أنه وقع فى أيدى أصحاب ذهنية أرثوذكسية أو أصولية تخضع الواقع لحدود النص ، وتؤمن بالطاعة والهيمنة الكاريزمية للزعماء ، لا ديمقراطية أو حوار ، وهكذا انتفى النقد والإبداع ، لم يكن الإنسان هو القضية بل بعض المكاسب الجزئية .
وافضى بنا غياب الفعل ( العمل الاجتماعى الإنتاجى والإبداعى ) إلى الفراغ الفكرى ، فكلمة عمل تعنى انتاج داخل مجتمع ، وكلمة فكر تعنى إبداع علمى وفنى كمحصلة للنشاط الاجتماعى ، ولكن خصوصية النسق الأيكولوجى تنعكس على خصوصية العلم وتتجلى فى خصوصية الثقافة ، ليس العمل مجرد أداة لإشباع الحاجات ، بل قوة دافعة لخلق المزيد من الحاجات والمزيد من الإشباع والتقدم ، وتعديل الطبيعة واكتشاف قوانينها لمعرفة التعامل معها ، أى أساس تحول الإنسان من الطور البدائى إلى أطوار التحضر .فالعمل الاجتماعى هو الذى يطرح تساؤلات الواقع وإشكالياته ، ويفرز القضايا الفلسفية المعبرة عن مشكلات هذا الواقع ، وهو المعيار الذى يؤكد على ضرورة تغير هذا الفكر وتجدده من خلال النقد والإبداع ، وعلى أساس التغذية المرتدة بين الفعل والفكر .
و بينما العالم العربى يعيش اجتماعيا ومنذ قرون فى حضارة الرعى والزراعة ، انتقلت مناطق كثيرة من العالم إلى حضارة الإنسان العام المشارك بفعالية حرة فى إدارة شئون المجتمع ، وفى إبداع ثقافات وعلوم جديدة , ومن أجل الوصول إلى رؤية مستقبلية فإن شوقى جلال يطرح ضرورة أجراء دراسة تحليلية تاريخية لمجتمعنا العربى تحدد طبيعة القوى الاجتماعية ومستوى بنيتها الذهنية ومقدار تناقضاتها لتكون هادى لنا فى بناء نسق معرفى يمكننا من معالجة أوجه الخلل ويجعلنا قادرين على الانتقال الحضارى من خلال ثورة فى التعليم ، وثورة فى رد الاعتبار للإنسان بإطلاق طاقته الإبداعية من خلال مشاركته فى رسم مستقبله عن طريق الديمقراطية . وأن تعمد الأمة فى نشاطها التربوى والتعليمى داخل البيت وفى مدارج التعليم إلى تدريب النشء على إعمال العقل وممارسة النقد ، وإكسابه عادة التمرد على التقاليد والشجاعة فى إبداء الرأى دون قيود غير قيود العقل .
وسبيلنا إلى هذه الدراسة العقلانية التمسك بأن أفضل الشعوب أكثرهم عملا وأغناهم وأخصبهم فكرا 00وأن قيمة الفعل والفكر هى كبرى القيم وأعظم الفضائل ، وأن العقل قرين الفعل . ومن خلال الوعى بأننا فعلا متخلفين نحتاج التغلب على عوامل هذا التخلف ، وأن طبيعة علاقاتنا الاجتماعية تؤدى إلى سيادة سلوك مناهض للديمقراطية كثقافة وممارسة 00على الرغم من كل الدعاوى والصخب حول الاحتفاء بها ، أن ثقافة الديمقراطية هى النقيض المطلق لحضارة وثقافة الرعى والزراعة والمجتمعات التى تعيش على الريع ، ولا يمكن وجود ديمقراطية إلا من خلال تحول الواقع الاجتماعى إلى حضارة العصر ، فالديمقراطية وثقافتنا المعاشة نقيضان لا يجتمعان ، وهكذا قياسا إلى ماركسى الشرق أو إسلاموييه على عكس ما هو فى الغرب 00إذن الجميع فى بلادنا مطالبون بابتكار آلية جديدة تكون استجابة لحاجة التقدم والاندماج فى حضارة العصر .
فإذا كانت كل حضارة لها متطلباتها ، ولها نطاق إنجاز وتطبيق لهذه المتطلبات ، فإن ديمقراطية العصر بأشكالها المتباينة ليست من إنجاز أو مطلب المجتمعات الرعوية أو الزراعية أو التى تعيش على الريع ، وإنما هى مطلب ضرورى لحضارة التصنيع . وازدادت الديمقراطية كثافة وارتقاء فى حضارة ما بعد التصنيع ، إذ لم يعد الإنسان مجرد مشارك فى الانتخابات النيابية ، أو عنصر مستقل عن سلطة رجال الدين ، بل بات إنسانا آخر من حيث المهام المطلوبة منه فى علاقته بالمجتمع والطبيعة .
صفوة القول إن مدخلتا إلى العصر مشروع يبلور لنا تصورنا المعرفى عن الذات وعن الآخر ، ويكون محورا لتجسيد جوهر أزمتنا الحضارية بشكل موضوعى ، فالوعى بالأزمة هو منطلقنا للوعى بالمعوقات والتناقضات ، وهو سبيلنا لصياغة التطور المستقبلى من خلال منطلق فكرى جديد يقوم على نقد الواقع وعمل بناء جديد .





الفكر العربى و سوسيولوجيا الفشل
( المقالة الأولى )
فــتـحـى ســيـد فــرج

يتفق عديد من العلماء والمفكرون على أن العالم العربى قد شهد فترة ازدهار حضارى تبدأ من القرن الثامن الميلادى وحتى
القرن الخامس عشر الميلادى ، تمكن العرب خلال هذه الفترة من نشر الإسلام فى مناطق كبيرة من العالم حتى باتت دولتهم
تمتد من الهند وبلاد الصين شرقا إلى المحيط الاطلسى غربا ، ومن أسبانيا فى الشمال إلى أواسط أفريقيا فى الجنوب ، وكانوا
أيضا خلال هذه الفترة أكثر بلاد العلم تقدما فى مجالات العلوم والآداب والفنون .
وفجأة ينقلب الحال ويدخل العالم العربى الإسلامى فى مرحلة تدهور وانحطاط حضارى ، ويتوقف الإنتاج العلمى والفكرى ،
هذا ما جعل " توبى أ.هاف " صاحب كتاب " فجر العلم الحدبث " يقول أنه لأمر محير ومثير للأسئلة والتساؤلات لمحاولة
تفسير ما حدث . وكان سؤاله الأول : لماذا أخفق العلم العربى فى أن ينجب العلم الحديث ؟ ـ عرضنا آراءه وعدد آخر من
العلماء والمفكرين فى سلسله مقالاتنا عن " لماذا توقف العلم فى الحضارة العربية الإسلامية ـ أما سؤاله الثانى فكان حول
موضوعنا الحالى : لماذا تراجع الفكر والعمل فى الحضارة العربية الإسلامية بعد عصر ذهبى ؟ وقد رأى توبى أن هذا الأمر
يجب أن يكون موضع اهتمام مواطنى العالم العربى ، ويتفق معه " محمد أركون " الذى يتساءل أيضا : لماذا حصلت هذه
الظاهرة التاريخية ؟ . لقد ظهرت قوى عقلانية فى المدن الإسلامية ، وشهد الفكر الإسلامى مناقشات وتوترات عقلية خصبة
بين العقل الفلسفى الإغريقى والعقل الدينى المرتكز على الوحى ، فلماذا ضعفت هذه القوى والتيارات العقلية ثم اختفت كليا
وماتت فى نهاية المطاف ؟ وكيف تحول الفكر العربى الإسلامى إلى مرجعية أساسية لكل مثقفى أوروبا طيلة أربعة قرون ،
ومن فرط اهتمامه بهذه القضية فإنه يدعوا إلى أجراء بحث معمق من اجل معرفة سبب فشل فكر ابن رشد فى البيئة الإسلامية ،
وسبب نجاحه وانتشاره فى البيئة المسيحية فى أوروبا ، ويقترح تسمية هذه الدراسة " سوسيولوجيا الفشل والنجاح " حيث أنه
يرجع هذا الأمر إلى أسباب سوسيولوجية .
وقد حاول العديد من الكتاب والمفكرين من مواطنى العالم العربى الاهتمام بهذه الظاهرة التاريخية وقدموا مجموعة من الجهود
المتباينة ومن مداخل مختلفة حول أسباب فشل الفكر العربى فى التواصل الحضارى . فنرى " شوقى جلال " المفكر والمترجم
المصرى المعروف ينشغل بهذا الأمر فى كتابه " الفكر العربى و سوسيولوجيا الفشل " الذى يطرح فيه رؤيته المنهجية والتى
تتمحور حول دراسة ونقد الفكر فى علاقته مع الفعل الاجتماعى ، حيث لا يمكن وجود فكر بدون وجود مجتمع ، أى أن الإنسان
لا يفكر إلا من خلال نشاط اجتماعى ، وهذا النشاط بحكم كونه نشاط معرفى يتكامل من خلاله الإنسان مع العالم فى نسق غير
منغلق بحكم دينامية النشأة والتكوين واطراد الفعل الإنتاجى ، وحين يتوقف هذا الفعل الإنتاجى عن الاطراد والتجدد يتوقف
بالتالى العقل عن توليد معارف جديدة ، وينغلق النسق المعرفى بعد أن تنقطع صلته بالواقع ، وهكذا يكون الفعل الاجتماعى
والفكر الجماعى سدى ولحمة الوعى التاريخى الجمعى وأساس الانتماء والتلاحم على الصعيد الاجتماعى لأبناء المجتمع فى
حركته التطورية .
الفعل أو العمل الإنتاجى ، والفكر أذن : هما المشروع الوجودى الجمعى لأى مجتمع ، فمثلما لا يوجد فكر بدون مجتمع ، كذلك
إن فكر الأمة ليس حاصل تراكم فكر الأفراد ، بل حاصل الفعل والنشاط الإنتاجى المترابط فى التاريخ والواقع الراهن مستشرفا
المستقبل ، ويتعطل فكر الأمة حين تتعطل هذه العناصر ، وحينئذ يعيش أفراد المجتمع أسرى وعى زائف وواقع يغلب عليه
طابع النمطية والتكرار العشوائى الذى لا يلد جديدا ، وهذا وضع أدنى فى سلك التطور الارتقائى وأقرب إلى المجتمع الحيوانى
، إذ أن أهم ما يميز الإنسان أنه كائن اجتماعى ينتج حياته اجتماعيا ، وهذا ما نسميه الحضارة فى تطورها المادى والثقافى ،
وإنتاج الحياة هو مشروع مستمر ينطوى على ابتكار متجدد آليته التغيير كشرط أساسى للتكيف والتطور .
فالعقل ليس كينونة مستقلة ، بل إنه السلوك الكلى الذى يتطور ويتقدم كوحدة فى الزمن ، إنه الدائرة التفسيرية الشاملة للمخ
والحواس والتجربة الشعورية ، وهو الوظيفة فى المجتمع والتاريخ لتشكيل النسق الإنسانى ، أو ما يسمى المحيط العقلى الذى
تصدر عنه أفعال الإنسان ، وهو المسئول عن تحويل بعض نظم العلامات الكونية عبر الجهاز العصبى ، ومن خلال الفعل فى
السياق الاجتماعى إلى نظام علامات التجربة المعاشة .
والفكر الاجتماعى بصفته ليس مجرد أفكار أفراد ، أو تراكم عددى لها ، يعتبر أنساق فكرية تتحرك من نسق إلى نسق ، والنسق
الجديد يتجاوز القديم ، وإن احتواه ليحدث قطيعة معرفية معه ، ومن ثم فإن النسق عبارة عن بنية متراكبة الطبقات تاريخيا ، لها
نشأة وتكوين ، ومع ذلك فإنها لا تمثل قدرا محتوما ، ولكنها نسق متغير ، والأمر رهن حيوية العلاقة الجدلية بين الفكر والفعل
إذا كانت هذه العلاقة بالسالب تنتج حالة من الخمول والتوقف ، وإذا كانت علاقة التفاعل بينهما ايجابية ينتج عنها نشاط إبداعي
ويرى شوقى جلال أنه يمكن النظر إلى فكر الأمة باعتباره يتمايز بين مستويين موجودين دائما فى تناقض جدلى وحركة :
· ثقافة موروثة : تعتمد الاطراد النمطى أو المحافظة والاستقرار أو تصل إلى حد السكون ، ثقافة ترى مستقبلها فى الماضي وفى بقاء البنية الاجتماعية على حالها ، وتقف حائل دون أى حركة أو تغيير .
· وفكر : هو ابتكار وتجدد وتغيير فى بنية المجتمع وصولا إلى التكيف مع مقتضيات الواقع المتطور .
وتشكل مؤسسات الثقافة والعلوم فى المجتمع العقل المنسق الذى يصوغ الإطار المعرفى من خلال رؤية تعى إشكاليات وتحديات الواقع وتعمل على تحقيق أمال وتطلعات هذا المجتمع بحيث يتسم هذا الفكر بالأبعاد الآتية :
· أن يكون فكرا تاريخيا يعى التاريخ فى كليته وحركته ، وواقعيا يعى الواقع فى ديناميته وتناقضانه ، ومستقبليا يعى اتجاه الصيرورة الاجتماعية .
· أن يكون الفكر نسقا مفتوحا ، إيمانا بأن جميع الحقائق قابلة للنقد والتفنيد ، وأن جميع المعارف فى حركة وتجدد مع حركة وتجدد الفعل .
· عقلانية الفكر تأسيسا على تجسيده لإنجازات علوم العصر ، واستيعابه لنظريات وتيارات الفكر الإنسانى ، وإذا انقطعت صلة الفكر بهذه الأنشطة ذوى وبات أسير الجمود .
· القدرة على تفكيك طرق التفكير التقليدية ، وفحص أدوات المعرفة وأسسها ، مع تفكيك بنية النص لبيان طبيعة تشكله وشروط وجوده وآليات عمله ، ويقتضى ذلك نقد بنية الوعى ومكونات العقل ، واستكشاف البديهيات والمسلمات والتناقضات لمعرفة الظروف والملابسات التاريخية التى أسهمت فى خلق هذا الفكر ومدى سطوته ، التماسا لعقل وفكر جديد . وحين يفقد الفكر هذه الشروط فإنه يكون مجرد خطاب يفتقر إلى الكلية والشمول ، ولا يمثل نسق معرفى متكامل يفضى إلى تحقيق أهدافه .
ويخلص شوقى جلال من هذا العرض لعلاقة الفكر بالفعل إلى نتيجة فاجعة ، فلقد أخفق الخطاب اليسارى العربى ، لا لأن خطابا آخر مناهضا انتصر ، ولكن أخفق الجميع اليسار واليمين ، إذ تعلقت أبصارنا وطموحاتنا بالسماء ، حيث المفارق المتعالى والفكر النظرى المجرد ، بينما أقدامنا جميعا بعيدة عن أرض الواقع ، ولم يكن الإخفاق استثناء ، بل قاعدة للجميع امتدت قرونا ، ومن دانت له السلطة كفل لنفسه البقاء فى منطقة التعادل أو الجمود .
وهو يعنى باليسار كل تيار أو موقف نقدى التمس تغيير المجتمع ، أى الانتقال إلى حضارة العصر ، حضارة التصنيع وما بعد التصنيع ، صدقت النوايا وعانوا باسم رسالتهم شدائد وأهوالا ، ولكن المحصلة كانت الإخفاق لكل هذه الجهود . لم يخفق اليسار بسبب تآمر الغرب ، ولا بسبب بطش السلطان ، فكل فكر ثورى يصادف بالضرورة كل هذه الظروف ، ولكنه ينجح فى النهاية لأنه يعرف كيف يزيح العقبات من خلال قراءة الواقع قراءة صحيحة .
أن البحث عن أسباب الإخفاق يحتاج إلى نقد الظاهرة من داخلها ، ومعرفة الأسباب الكامنة دون الاكتفاء بأسباب خارجية نسوقها أعذارا ، فالمفروض إن اليسار حركة نقد اجتماعى ، ومشروع علمانى تنويرى ، ولكن ما عشناه كان ممارسات يسارية أو خطاب يسارى سياسى ، ليس فكرا بالمعنى الذى حددناه ، وكان امتداد لبنية ذهنية أو ثقافية موروثة تقوم على توفيق ثنائيات نقيضة ، دون استعمال أخصب ما أنتجه الفكر اليسارى من حركة جدلية كمنهج لفهم الواقع واكتشاف تناقضاته والعمل على تغييره ، لقد اعتمد اليسار العربى فى مناهجه وأهدافه على السلب : ضد الإقطاع .. ضد الاستغلال ... ضد الملكية ، وهو فى هذا الشأن مثله مثل الإسلاميين حين يدعون أن الإسلام هو الحل كشعار دون مضمون لا يخلق معرفة وليست له استراتيجية عمل .
إذا كانت ثقافتنا قد رسخت قدسية النص والتزام الحرفية والتلقين ، وأن المرجعية خارج الواقع والذات ، فقد نحا اليسار إلى نفس الاتجاه حين جعل فكره كلمات جديدة بآلية قديمة ، أو خطاب مغترب عن الواقع متعالى عن التاريخ ، لم يكن ابتكارا بل محاكاة ، لقد كانت مأساة الفكر اليسارى أو الماركسى فى الشرق عموما أنه وقع فى أيدى أصحاب ذهنية أرثوذكسية أو أصولية تخضع الواقع لحدود النص ، وتؤمن بالطاعة والهيمنة الكاريزمية للزعماء ، لا ديمقراطية أو حوار ، وهكذا انتفى النقد والإبداع ، لم يكن الإنسان هو القضية بل بعض المكاسب الجزئية .
وافضى بنا غياب الفعل ( العمل الاجتماعى الإنتاجى والإبداعى ) إلى الفراغ الفكرى ، فكلمة عمل تعنى انتاج داخل مجتمع ، وكلمة فكر تعنى إبداع علمى وفنى كمحصلة للنشاط الاجتماعى ، ولكن خصوصية النسق الأيكولوجى تنعكس على خصوصية العلم وتتجلى فى خصوصية الثقافة ، ليس العمل مجرد أداة لإشباع الحاجات ، بل قوة دافعة لخلق المزيد من الحاجات والمزيد من الإشباع والتقدم ، وتعديل الطبيعة واكتشاف قوانينها لمعرفة التعامل معها ، أى أساس تحول الإنسان من الطور البدائى إلى أطوار التحضر .فالعمل الاجتماعى هو الذى يطرح تساؤلات الواقع وإشكالياته ، ويفرز القضايا الفلسفية المعبرة عن مشكلات هذا الواقع ، وهو المعيار الذى يؤكد على ضرورة تغير هذا الفكر وتجدده من خلال النقد والإبداع ، وعلى أساس التغذية المرتدة بين الفعل والفكر .
و بينما العالم العربى يعيش اجتماعيا ومنذ قرون فى حضارة الرعى والزراعة ، انتقلت مناطق كثيرة من العالم إلى حضارة الإنسان العام المشارك بفعالية حرة فى إدارة شئون المجتمع ، وفى إبداع ثقافات وعلوم جديدة , ومن أجل الوصول إلى رؤية مستقبلية فإن شوقى جلال يطرح ضرورة أجراء دراسة تحليلية تاريخية لمجتمعنا العربى تحدد طبيعة القوى الاجتماعية ومستوى بنيتها الذهنية ومقدار تناقضاتها لتكون هادى لنا فى بناء نسق معرفى يمكننا من معالجة أوجه الخلل ويجعلنا قادرين على الانتقال الحضارى من خلال ثورة فى التعليم ، وثورة فى رد الاعتبار للإنسان بإطلاق طاقته الإبداعية من خلال مشاركته فى رسم مستقبله عن طريق الديمقراطية . وأن تعمد الأمة فى نشاطها التربوى والتعليمى داخل البيت وفى مدارج التعليم إلى تدريب النشء على إعمال العقل وممارسة النقد ، وإكسابه عادة التمرد على التقاليد والشجاعة فى إبداء الرأى دون قيود غير قيود العقل .
وسبيلنا إلى هذه الدراسة العقلانية التمسك بأن أفضل الشعوب أكثرهم عملا وأغناهم وأخصبهم فكرا 00وأن قيمة الفعل والفكر هى كبرى القيم وأعظم الفضائل ، وأن العقل قرين الفعل . ومن خلال الوعى بأننا فعلا متخلفين نحتاج التغلب على عوامل هذا التخلف ، وأن طبيعة علاقاتنا الاجتماعية تؤدى إلى سيادة سلوك مناهض للديمقراطية كثقافة وممارسة 00على الرغم من كل الدعاوى والصخب حول الاحتفاء بها ، أن ثقافة الديمقراطية هى النقيض المطلق لحضارة وثقافة الرعى والزراعة والمجتمعات التى تعيش على الريع ، ولا يمكن وجود ديمقراطية إلا من خلال تحول الواقع الاجتماعى إلى حضارة العصر ، فالديمقراطية وثقافتنا المعاشة نقيضان لا يجتمعان ، وهكذا قياسا إلى ماركسى الشرق أو إسلاموييه على عكس ما هو فى الغرب 00إذن الجميع فى بلادنا مطالبون بابتكار آلية جديدة تكون استجابة لحاجة التقدم والاندماج فى حضارة العصر .
فإذا كانت كل حضارة لها متطلباتها ، ولها نطاق إنجاز وتطبيق لهذه المتطلبات ، فإن ديمقراطية العصر بأشكالها المتباينة ليست من إنجاز أو مطلب المجتمعات الرعوية أو الزراعية أو التى تعيش على الريع ، وإنما هى مطلب ضرورى لحضارة التصنيع . وازدادت الديمقراطية كثافة وارتقاء فى حضارة ما بعد التصنيع ، إذ لم يعد الإنسان مجرد مشارك فى الانتخابات النيابية ، أو عنصر مستقل عن سلطة رجال الدين ، بل بات إنسانا آخر من حيث المهام المطلوبة منه فى علاقته بالمجتمع والطبيعة .
صفوة القول إن مدخلتا إلى العصر مشروع يبلور لنا تصورنا المعرفى عن الذات وعن الآخر ، ويكون محورا لتجسيد جوهر أزمتنا الحضارية بشكل موضوعى ، فالوعى بالأزمة هو منطلقنا للوعى بالمعوقات والتناقضات ، وهو سبيلنا لصياغة التطور المستقبلى من خلال منطلق فكرى جديد يقوم على نقد الواقع وعمل بناء جديد .





الفكر العربى و سوسيولوجيا الفشل
( المقالة الأولى )
فــتـحـى ســيـد فــرج
يتفق عديد من العلماء والمفكرون على أن العالم العربى قد شهد فترة ازدهار حضارى تبدأ من القرن الثامن الميلادى وحتى
القرن الخامس عشر الميلادى ، تمكن العرب خلال هذه الفترة من نشر الإسلام فى مناطق كبيرة من العالم حتى باتت دولتهم
تمتد من الهند وبلاد الصين شرقا إلى المحيط الاطلسى غربا ، ومن أسبانيا فى الشمال إلى أواسط أفريقيا فى الجنوب ، وكانوا
أيضا خلال هذه الفترة أكثر بلاد العلم تقدما فى مجالات العلوم والآداب والفنون .
وفجأة ينقلب الحال ويدخل العالم العربى الإسلامى فى مرحلة تدهور وانحطاط حضارى ، ويتوقف الإنتاج العلمى والفكرى ،
هذا ما جعل " توبى أ.هاف " صاحب كتاب " فجر العلم الحدبث " يقول أنه لأمر محير ومثير للأسئلة والتساؤلات لمحاولة
تفسير ما حدث . وكان سؤاله الأول : لماذا أخفق العلم العربى فى أن ينجب العلم الحديث ؟ ـ عرضنا آراءه وعدد آخر من
العلماء والمفكرين فى سلسله مقالاتنا عن " لماذا توقف العلم فى الحضارة العربية الإسلامية ـ أما سؤاله الثانى فكان حول
موضوعنا الحالى : لماذا تراجع الفكر والعمل فى الحضارة العربية الإسلامية بعد عصر ذهبى ؟ وقد رأى توبى أن هذا الأمر
يجب أن يكون موضع اهتمام مواطنى العالم العربى ، ويتفق معه " محمد أركون " الذى يتساءل أيضا : لماذا حصلت هذه
الظاهرة التاريخية ؟ . لقد ظهرت قوى عقلانية فى المدن الإسلامية ، وشهد الفكر الإسلامى مناقشات وتوترات عقلية خصبة
بين العقل الفلسفى الإغريقى والعقل الدينى المرتكز على الوحى ، فلماذا ضعفت هذه القوى والتيارات العقلية ثم اختفت كليا
وماتت فى نهاية المطاف ؟ وكيف تحول الفكر العربى الإسلامى إلى مرجعية أساسية لكل مثقفى أوروبا طيلة أربعة قرون ،
ومن فرط اهتمامه بهذه القضية فإنه يدعوا إلى أجراء بحث معمق من اجل معرفة سبب فشل فكر ابن رشد فى البيئة الإسلامية ،
وسبب نجاحه وانتشاره فى البيئة المسيحية فى أوروبا ، ويقترح تسمية هذه الدراسة " سوسيولوجيا الفشل والنجاح " حيث أنه
يرجع هذا الأمر إلى أسباب سوسيولوجية .
وقد حاول العديد من الكتاب والمفكرين من مواطنى العالم العربى الاهتمام بهذه الظاهرة التاريخية وقدموا مجموعة من الجهود
المتباينة ومن مداخل مختلفة حول أسباب فشل الفكر العربى فى التواصل الحضارى . فنرى " شوقى جلال " المفكر والمترجم
المصرى المعروف ينشغل بهذا الأمر فى كتابه " الفكر العربى و سوسيولوجيا الفشل " الذى يطرح فيه رؤيته المنهجية والتى
تتمحور حول دراسة ونقد الفكر فى علاقته مع الفعل الاجتماعى ، حيث لا يمكن وجود فكر بدون وجود مجتمع ، أى أن الإنسان
لا يفكر إلا من خلال نشاط اجتماعى ، وهذا النشاط بحكم كونه نشاط معرفى يتكامل من خلاله الإنسان مع العالم فى نسق غير
منغلق بحكم دينامية النشأة والتكوين واطراد الفعل الإنتاجى ، وحين يتوقف هذا الفعل الإنتاجى عن الاطراد والتجدد يتوقف
بالتالى العقل عن توليد معارف جديدة ، وينغلق النسق المعرفى بعد أن تنقطع صلته بالواقع ، وهكذا يكون الفعل الاجتماعى
والفكر الجماعى سدى ولحمة الوعى التاريخى الجمعى وأساس الانتماء والتلاحم على الصعيد الاجتماعى لأبناء المجتمع فى
حركته التطورية .
الفعل أو العمل الإنتاجى ، والفكر أذن : هما المشروع الوجودى الجمعى لأى مجتمع ، فمثلما لا يوجد فكر بدون مجتمع ، كذلك
إن فكر الأمة ليس حاصل تراكم فكر الأفراد ، بل حاصل الفعل والنشاط الإنتاجى المترابط فى التاريخ والواقع الراهن مستشرفا
المستقبل ، ويتعطل فكر الأمة حين تتعطل هذه العناصر ، وحينئذ يعيش أفراد المجتمع أسرى وعى زائف وواقع يغلب عليه
طابع النمطية والتكرار العشوائى الذى لا يلد جديدا ، وهذا وضع أدنى فى سلك التطور الارتقائى وأقرب إلى المجتمع الحيوانى
، إذ أن أهم ما يميز الإنسان أنه كائن اجتماعى ينتج حياته اجتماعيا ، وهذا ما نسميه الحضارة فى تطورها المادى والثقافى ،
وإنتاج الحياة هو مشروع مستمر ينطوى على ابتكار متجدد آليته التغيير كشرط أساسى للتكيف والتطور .
فالعقل ليس كينونة مستقلة ، بل إنه السلوك الكلى الذى يتطور ويتقدم كوحدة فى الزمن ، إنه الدائرة التفسيرية الشاملة للمخ
والحواس والتجربة الشعورية ، وهو الوظيفة فى المجتمع والتاريخ لتشكيل النسق الإنسانى ، أو ما يسمى المحيط العقلى الذى
تصدر عنه أفعال الإنسان ، وهو المسئول عن تحويل بعض نظم العلامات الكونية عبر الجهاز العصبى ، ومن خلال الفعل فى
السياق الاجتماعى إلى نظام علامات التجربة المعاشة .
والفكر الاجتماعى بصفته ليس مجرد أفكار أفراد ، أو تراكم عددى لها ، يعتبر أنساق فكرية تتحرك من نسق إلى نسق ، والنسق
الجديد يتجاوز القديم ، وإن احتواه ليحدث قطيعة معرفية معه ، ومن ثم فإن النسق عبارة عن بنية متراكبة الطبقات تاريخيا ، لها
نشأة وتكوين ، ومع ذلك فإنها لا تمثل قدرا محتوما ، ولكنها نسق متغير ، والأمر رهن حيوية العلاقة الجدلية بين الفكر والفعل
إذا كانت هذه العلاقة بالسالب تنتج حالة من الخمول والتوقف ، وإذا كانت علاقة التفاعل بينهما ايجابية ينتج عنها نشاط إبداعي
ويرى شوقى جلال أنه يمكن النظر إلى فكر الأمة باعتباره يتمايز بين مستويين موجودين دائما فى تناقض جدلى وحركة :
· ثقافة موروثة : تعتمد الاطراد النمطى أو المحافظة والاستقرار أو تصل إلى حد السكون ، ثقافة ترى مستقبلها فى الماضي وفى بقاء البنية الاجتماعية على حالها ، وتقف حائل دون أى حركة أو تغيير .
· وفكر : هو ابتكار وتجدد وتغيير فى بنية المجتمع وصولا إلى التكيف مع مقتضيات الواقع المتطور .
وتشكل مؤسسات الثقافة والعلوم فى المجتمع العقل المنسق الذى يصوغ الإطار المعرفى من خلال رؤية تعى إشكاليات وتحديات الواقع وتعمل على تحقيق أمال وتطلعات هذا المجتمع بحيث يتسم هذا الفكر بالأبعاد الآتية :
· أن يكون فكرا تاريخيا يعى التاريخ فى كليته وحركته ، وواقعيا يعى الواقع فى ديناميته وتناقضانه ، ومستقبليا يعى اتجاه الصيرورة الاجتماعية .
· أن يكون الفكر نسقا مفتوحا ، إيمانا بأن جميع الحقائق قابلة للنقد والتفنيد ، وأن جميع المعارف فى حركة وتجدد مع حركة وتجدد الفعل .
· عقلانية الفكر تأسيسا على تجسيده لإنجازات علوم العصر ، واستيعابه لنظريات وتيارات الفكر الإنسانى ، وإذا انقطعت صلة الفكر بهذه الأنشطة ذوى وبات أسير الجمود .
· القدرة على تفكيك طرق التفكير التقليدية ، وفحص أدوات المعرفة وأسسها ، مع تفكيك بنية النص لبيان طبيعة تشكله وشروط وجوده وآليات عمله ، ويقتضى ذلك نقد بنية الوعى ومكونات العقل ، واستكشاف البديهيات والمسلمات والتناقضات لمعرفة الظروف والملابسات التاريخية التى أسهمت فى خلق هذا الفكر ومدى سطوته ، التماسا لعقل وفكر جديد . وحين يفقد الفكر هذه الشروط فإنه يكون مجرد خطاب يفتقر إلى الكلية والشمول ، ولا يمثل نسق معرفى متكامل يفضى إلى تحقيق أهدافه .
ويخلص شوقى جلال من هذا العرض لعلاقة الفكر بالفعل إلى نتيجة فاجعة ، فلقد أخفق الخطاب اليسارى العربى ، لا لأن خطابا آخر مناهضا انتصر ، ولكن أخفق الجميع اليسار واليمين ، إذ تعلقت أبصارنا وطموحاتنا بالسماء ، حيث المفارق المتعالى والفكر النظرى المجرد ، بينما أقدامنا جميعا بعيدة عن أرض الواقع ، ولم يكن الإخفاق استثناء ، بل قاعدة للجميع امتدت قرونا ، ومن دانت له السلطة كفل لنفسه البقاء فى منطقة التعادل أو الجمود .
وهو يعنى باليسار كل تيار أو موقف نقدى التمس تغيير المجتمع ، أى الانتقال إلى حضارة العصر ، حضارة التصنيع وما بعد التصنيع ، صدقت النوايا وعانوا باسم رسالتهم شدائد وأهوالا ، ولكن المحصلة كانت الإخفاق لكل هذه الجهود . لم يخفق اليسار بسبب تآمر الغرب ، ولا بسبب بطش السلطان ، فكل فكر ثورى يصادف بالضرورة كل هذه الظروف ، ولكنه ينجح فى النهاية لأنه يعرف كيف يزيح العقبات من خلال قراءة الواقع قراءة صحيحة .
أن البحث عن أسباب الإخفاق يحتاج إلى نقد الظاهرة من داخلها ، ومعرفة الأسباب الكامنة دون الاكتفاء بأسباب خارجية نسوقها أعذارا ، فالمفروض إن اليسار حركة نقد اجتماعى ، ومشروع علمانى تنويرى ، ولكن ما عشناه كان ممارسات يسارية أو خطاب يسارى سياسى ، ليس فكرا بالمعنى الذى حددناه ، وكان امتداد لبنية ذهنية أو ثقافية موروثة تقوم على توفيق ثنائيات نقيضة ، دون استعمال أخصب ما أنتجه الفكر اليسارى من حركة جدلية كمنهج لفهم الواقع واكتشاف تناقضاته والعمل على تغييره ، لقد اعتمد اليسار العربى فى مناهجه وأهدافه على السلب : ضد الإقطاع .. ضد الاستغلال ... ضد الملكية ، وهو فى هذا الشأن مثله مثل الإسلاميين حين يدعون أن الإسلام هو الحل كشعار دون مضمون لا يخلق معرفة وليست له استراتيجية عمل .
إذا كانت ثقافتنا قد رسخت قدسية النص والتزام الحرفية والتلقين ، وأن المرجعية خارج الواقع والذات ، فقد نحا اليسار إلى نفس الاتجاه حين جعل فكره كلمات جديدة بآلية قديمة ، أو خطاب مغترب عن الواقع متعالى عن التاريخ ، لم يكن ابتكارا بل محاكاة ، لقد كانت مأساة الفكر اليسارى أو الماركسى فى الشرق عموما أنه وقع فى أيدى أصحاب ذهنية أرثوذكسية أو أصولية تخضع الواقع لحدود النص ، وتؤمن بالطاعة والهيمنة الكاريزمية للزعماء ، لا ديمقراطية أو حوار ، وهكذا انتفى النقد والإبداع ، لم يكن الإنسان هو القضية بل بعض المكاسب الجزئية .
وافضى بنا غياب الفعل ( العمل الاجتماعى الإنتاجى والإبداعى ) إلى الفراغ الفكرى ، فكلمة عمل تعنى انتاج داخل مجتمع ، وكلمة فكر تعنى إبداع علمى وفنى كمحصلة للنشاط الاجتماعى ، ولكن خصوصية النسق الأيكولوجى تنعكس على خصوصية العلم وتتجلى فى خصوصية الثقافة ، ليس العمل مجرد أداة لإشباع الحاجات ، بل قوة دافعة لخلق المزيد من الحاجات والمزيد من الإشباع والتقدم ، وتعديل الطبيعة واكتشاف قوانينها لمعرفة التعامل معها ، أى أساس تحول الإنسان من الطور البدائى إلى أطوار التحضر .فالعمل الاجتماعى هو الذى يطرح تساؤلات الواقع وإشكالياته ، ويفرز القضايا الفلسفية المعبرة عن مشكلات هذا الواقع ، وهو المعيار الذى يؤكد على ضرورة تغير هذا الفكر وتجدده من خلال النقد والإبداع ، وعلى أساس التغذية المرتدة بين الفعل والفكر .
و بينما العالم العربى يعيش اجتماعيا ومنذ قرون فى حضارة الرعى والزراعة ، انتقلت مناطق كثيرة من العالم إلى حضارة الإنسان العام المشارك بفعالية حرة فى إدارة شئون المجتمع ، وفى إبداع ثقافات وعلوم جديدة , ومن أجل الوصول إلى رؤية مستقبلية فإن شوقى جلال يطرح ضرورة أجراء دراسة تحليلية تاريخية لمجتمعنا العربى تحدد طبيعة القوى الاجتماعية ومستوى بنيتها الذهنية ومقدار تناقضاتها لتكون هادى لنا فى بناء نسق معرفى يمكننا من معالجة أوجه الخلل ويجعلنا قادرين على الانتقال الحضارى من خلال ثورة فى التعليم ، وثورة فى رد الاعتبار للإنسان بإطلاق طاقته الإبداعية من خلال مشاركته فى رسم مستقبله عن طريق الديمقراطية . وأن تعمد الأمة فى نشاطها التربوى والتعليمى داخل البيت وفى مدارج التعليم إلى تدريب النشء على إعمال العقل وممارسة النقد ، وإكسابه عادة التمرد على التقاليد والشجاعة فى إبداء الرأى دون قيود غير قيود العقل .
وسبيلنا إلى هذه الدراسة العقلانية التمسك بأن أفضل الشعوب أكثرهم عملا وأغناهم وأخصبهم فكرا 00وأن قيمة الفعل والفكر هى كبرى القيم وأعظم الفضائل ، وأن العقل قرين الفعل . ومن خلال الوعى بأننا فعلا متخلفين نحتاج التغلب على عوامل هذا التخلف ، وأن طبيعة علاقاتنا الاجتماعية تؤدى إلى سيادة سلوك مناهض للديمقراطية كثقافة وممارسة 00على الرغم من كل الدعاوى والصخب حول الاحتفاء بها ، أن ثقافة الديمقراطية هى النقيض المطلق لحضارة وثقافة الرعى والزراعة والمجتمعات التى تعيش على الريع ، ولا يمكن وجود ديمقراطية إلا من خلال تحول الواقع الاجتماعى إلى حضارة العصر ، فالديمقراطية وثقافتنا المعاشة نقيضان لا يجتمعان ، وهكذا قياسا إلى ماركسى الشرق أو إسلاموييه على عكس ما هو فى الغرب 00إذن الجميع فى بلادنا مطالبون بابتكار آلية جديدة تكون استجابة لحاجة التقدم والاندماج فى حضارة العصر .
فإذا كانت كل حضارة لها متطلباتها ، ولها نطاق إنجاز وتطبيق لهذه المتطلبات ، فإن ديمقراطية العصر بأشكالها المتباينة ليست من إنجاز أو مطلب المجتمعات الرعوية أو الزراعية أو التى تعيش على الريع ، وإنما هى مطلب ضرورى لحضارة التصنيع . وازدادت الديمقراطية كثافة وارتقاء فى حضارة ما بعد التصنيع ، إذ لم يعد الإنسان مجرد مشارك فى الانتخابات النيابية ، أو عنصر مستقل عن سلطة رجال الدين ، بل بات إنسانا آخر من حيث المهام المطلوبة منه فى علاقته بالمجتمع والطبيعة .
صفوة القول إن مدخلتا إلى العصر مشروع يبلور لنا تصورنا المعرفى عن الذات وعن الآخر ، ويكون محورا لتجسيد جوهر أزمتنا الحضارية بشكل موضوعى ، فالوعى بالأزمة هو منطلقنا للوعى بالمعوقات والتناقضات ، وهو سبيلنا لصياغة التطور المستقبلى من خلال منطلق فكرى جديد يقوم على نقد الواقع وعمل بناء جديد .





الفكر العربى و سوسيولوجيا الفشل
( المقالة الأولى )
فــتـحـى ســيـد فــرج
يتفق عديد من العلماء والمفكرون على أن العالم العربى قد شهد فترة ازدهار حضارى تبدأ من القرن الثامن الميلادى وحتى
القرن الخامس عشر الميلادى ، تمكن العرب خلال هذه الفترة من نشر الإسلام فى مناطق كبيرة من العالم حتى باتت دولتهم
تمتد من الهند وبلاد الصين شرقا إلى المحيط الاطلسى غربا ، ومن أسبانيا فى الشمال إلى أواسط أفريقيا فى الجنوب ، وكانوا
أيضا خلال هذه الفترة أكثر بلاد العلم تقدما فى مجالات العلوم والآداب والفنون .
وفجأة ينقلب الحال ويدخل العالم العربى الإسلامى فى مرحلة تدهور وانحطاط حضارى ، ويتوقف الإنتاج العلمى والفكرى ،
هذا ما جعل " توبى أ.هاف " صاحب كتاب " فجر العلم الحدبث " يقول أنه لأمر محير ومثير للأسئلة والتساؤلات لمحاولة
تفسير ما حدث . وكان سؤاله الأول : لماذا أخفق العلم العربى فى أن ينجب العلم الحديث ؟ ـ عرضنا آراءه وعدد آخر من
العلماء والمفكرين فى سلسله مقالاتنا عن " لماذا توقف العلم فى الحضارة العربية الإسلامية ـ أما سؤاله الثانى فكان حول
موضوعنا الحالى : لماذا تراجع الفكر والعمل فى الحضارة العربية الإسلامية بعد عصر ذهبى ؟ وقد رأى توبى أن هذا الأمر
يجب أن يكون موضع اهتمام مواطنى العالم العربى ، ويتفق معه " محمد أركون " الذى يتساءل أيضا : لماذا حصلت هذه
الظاهرة التاريخية ؟ . لقد ظهرت قوى عقلانية فى المدن الإسلامية ، وشهد الفكر الإسلامى مناقشات وتوترات عقلية خصبة
بين العقل الفلسفى الإغريقى والعقل الدينى المرتكز على الوحى ، فلماذا ضعفت هذه القوى والتيارات العقلية ثم اختفت كليا
وماتت فى نهاية المطاف ؟ وكيف تحول الفكر العربى الإسلامى إلى مرجعية أساسية لكل مثقفى أوروبا طيلة أربعة قرون ،
ومن فرط اهتمامه بهذه القضية فإنه يدعوا إلى أجراء بحث معمق من اجل معرفة سبب فشل فكر ابن رشد فى البيئة الإسلامية ،
وسبب نجاحه وانتشاره فى البيئة المسيحية فى أوروبا ، ويقترح تسمية هذه الدراسة " سوسيولوجيا الفشل والنجاح " حيث أنه
يرجع هذا الأمر إلى أسباب سوسيولوجية .
وقد حاول العديد من الكتاب والمفكرين من مواطنى العالم العربى الاهتمام بهذه الظاهرة التاريخية وقدموا مجموعة من الجهود
المتباينة ومن مداخل مختلفة حول أسباب فشل الفكر العربى فى التواصل الحضارى . فنرى " شوقى جلال " المفكر والمترجم
المصرى المعروف ينشغل بهذا الأمر فى كتابه " الفكر العربى و سوسيولوجيا الفشل " الذى يطرح فيه رؤيته المنهجية والتى
تتمحور حول دراسة ونقد الفكر فى علاقته مع الفعل الاجتماعى ، حيث لا يمكن وجود فكر بدون وجود مجتمع ، أى أن الإنسان
لا يفكر إلا من خلال نشاط اجتماعى ، وهذا النشاط بحكم كونه نشاط معرفى يتكامل من خلاله الإنسان مع العالم فى نسق غير
منغلق بحكم دينامية النشأة والتكوين واطراد الفعل الإنتاجى ، وحين يتوقف هذا الفعل الإنتاجى عن الاطراد والتجدد يتوقف
بالتالى العقل عن توليد معارف جديدة ، وينغلق النسق المعرفى بعد أن تنقطع صلته بالواقع ، وهكذا يكون الفعل الاجتماعى
والفكر الجماعى سدى ولحمة الوعى التاريخى الجمعى وأساس الانتماء والتلاحم على الصعيد الاجتماعى لأبناء المجتمع فى
حركته التطورية .
الفعل أو العمل الإنتاجى ، والفكر أذن : هما المشروع الوجودى الجمعى لأى مجتمع ، فمثلما لا يوجد فكر بدون مجتمع ، كذلك
إن فكر الأمة ليس حاصل تراكم فكر الأفراد ، بل حاصل الفعل والنشاط الإنتاجى المترابط فى التاريخ والواقع الراهن مستشرفا
المستقبل ، ويتعطل فكر الأمة حين تتعطل هذه العناصر ، وحينئذ يعيش أفراد المجتمع أسرى وعى زائف وواقع يغلب عليه
طابع النمطية والتكرار العشوائى الذى لا يلد جديدا ، وهذا وضع أدنى فى سلك التطور الارتقائى وأقرب إلى المجتمع الحيوانى
، إذ أن أهم ما يميز الإنسان أنه كائن اجتماعى ينتج حياته اجتماعيا ، وهذا ما نسميه الحضارة فى تطورها المادى والثقافى ،
وإنتاج الحياة هو مشروع مستمر ينطوى على ابتكار متجدد آليته التغيير كشرط أساسى للتكيف والتطور .
فالعقل ليس كينونة مستقلة ، بل إنه السلوك الكلى الذى يتطور ويتقدم كوحدة فى الزمن ، إنه الدائرة التفسيرية الشاملة للمخ
والحواس والتجربة الشعورية ، وهو الوظيفة فى المجتمع والتاريخ لتشكيل النسق الإنسانى ، أو ما يسمى المحيط العقلى الذى
تصدر عنه أفعال الإنسان ، وهو المسئول عن تحويل بعض نظم العلامات الكونية عبر الجهاز العصبى ، ومن خلال الفعل فى
السياق الاجتماعى إلى نظام علامات التجربة المعاشة .
والفكر الاجتماعى بصفته ليس مجرد أفكار أفراد ، أو تراكم عددى لها ، يعتبر أنساق فكرية تتحرك من نسق إلى نسق ، والنسق
الجديد يتجاوز القديم ، وإن احتواه ليحدث قطيعة معرفية معه ، ومن ثم فإن النسق عبارة عن بنية متراكبة الطبقات تاريخيا ، لها
نشأة وتكوين ، ومع ذلك فإنها لا تمثل قدرا محتوما ، ولكنها نسق متغير ، والأمر رهن حيوية العلاقة الجدلية بين الفكر والفعل
إذا كانت هذه العلاقة بالسالب تنتج حالة من الخمول والتوقف ، وإذا كانت علاقة التفاعل بينهما ايجابية ينتج عنها نشاط إبداعي
ويرى شوقى جلال أنه يمكن النظر إلى فكر الأمة باعتباره يتمايز بين مستويين موجودين دائما فى تناقض جدلى وحركة :
· ثقافة موروثة : تعتمد الاطراد النمطى أو المحافظة والاستقرار أو تصل إلى حد السكون ، ثقافة ترى مستقبلها فى الماضي وفى بقاء البنية الاجتماعية على حالها ، وتقف حائل دون أى حركة أو تغيير .
· وفكر : هو ابتكار وتجدد وتغيير فى بنية المجتمع وصولا إلى التكيف مع مقتضيات الواقع المتطور .
وتشكل مؤسسات الثقافة والعلوم فى المجتمع العقل المنسق الذى يصوغ الإطار المعرفى من خلال رؤية تعى إشكاليات وتحديات الواقع وتعمل على تحقيق أمال وتطلعات هذا المجتمع بحيث يتسم هذا الفكر بالأبعاد الآتية :
· أن يكون فكرا تاريخيا يعى التاريخ فى كليته وحركته ، وواقعيا يعى الواقع فى ديناميته وتناقضانه ، ومستقبليا يعى اتجاه الصيرورة الاجتماعية .
· أن يكون الفكر نسقا مفتوحا ، إيمانا بأن جميع الحقائق قابلة للنقد والتفنيد ، وأن جميع المعارف فى حركة وتجدد مع حركة وتجدد الفعل .
· عقلانية الفكر تأسيسا على تجسيده لإنجازات علوم العصر ، واستيعابه لنظريات وتيارات الفكر الإنسانى ، وإذا انقطعت صلة الفكر بهذه الأنشطة ذوى وبات أسير الجمود .
· القدرة على تفكيك طرق التفكير التقليدية ، وفحص أدوات المعرفة وأسسها ، مع تفكيك بنية النص لبيان طبيعة تشكله وشروط وجوده وآليات عمله ، ويقتضى ذلك نقد بنية الوعى ومكونات العقل ، واستكشاف البديهيات والمسلمات والتناقضات لمعرفة الظروف والملابسات التاريخية التى أسهمت فى خلق هذا الفكر ومدى سطوته ، التماسا لعقل وفكر جديد . وحين يفقد الفكر هذه الشروط فإنه يكون مجرد خطاب يفتقر إلى الكلية والشمول ، ولا يمثل نسق معرفى متكامل يفضى إلى تحقيق أهدافه .
ويخلص شوقى جلال من هذا العرض لعلاقة الفكر بالفعل إلى نتيجة فاجعة ، فلقد أخفق الخطاب اليسارى العربى ، لا لأن خطابا آخر مناهضا انتصر ، ولكن أخفق الجميع اليسار واليمين ، إذ تعلقت أبصارنا وطموحاتنا بالسماء ، حيث المفارق المتعالى والفكر النظرى المجرد ، بينما أقدامنا جميعا بعيدة عن أرض الواقع ، ولم يكن الإخفاق استثناء ، بل قاعدة للجميع امتدت قرونا ، ومن دانت له السلطة كفل لنفسه البقاء فى منطقة التعادل أو الجمود .
وهو يعنى باليسار كل تيار أو موقف نقدى التمس تغيير المجتمع ، أى الانتقال إلى حضارة العصر ، حضارة التصنيع وما بعد التصنيع ، صدقت النوايا وعانوا باسم رسالتهم شدائد وأهوالا ، ولكن المحصلة كانت الإخفاق لكل هذه الجهود . لم يخفق اليسار بسبب تآمر الغرب ، ولا بسبب بطش السلطان ، فكل فكر ثورى يصادف بالضرورة كل هذه الظروف ، ولكنه ينجح فى النهاية لأنه يعرف كيف يزيح العقبات من خلال قراءة الواقع قراءة صحيحة .
أن البحث عن أسباب الإخفاق يحتاج إلى نقد الظاهرة من داخلها ، ومعرفة الأسباب الكامنة دون الاكتفاء بأسباب خارجية نسوقها أعذارا ، فالمفروض إن اليسار حركة نقد اجتماعى ، ومشروع علمانى تنويرى ، ولكن ما عشناه كان ممارسات يسارية أو خطاب يسارى سياسى ، ليس فكرا بالمعنى الذى حددناه ، وكان امتداد لبنية ذهنية أو ثقافية موروثة تقوم على توفيق ثنائيات نقيضة ، دون استعمال أخصب ما أنتجه الفكر اليسارى من حركة جدلية كمنهج لفهم الواقع واكتشاف تناقضاته والعمل على تغييره ، لقد اعتمد اليسار العربى فى مناهجه وأهدافه على السلب : ضد الإقطاع .. ضد الاستغلال ... ضد الملكية ، وهو فى هذا الشأن مثله مثل الإسلاميين حين يدعون أن الإسلام هو الحل كشعار دون مضمون لا يخلق معرفة وليست له استراتيجية عمل .
إذا كانت ثقافتنا قد رسخت قدسية النص والتزام الحرفية والتلقين ، وأن المرجعية خارج الواقع والذات ، فقد نحا اليسار إلى نفس الاتجاه حين جعل فكره كلمات جديدة بآلية قديمة ، أو خطاب مغترب عن الواقع متعالى عن التاريخ ، لم يكن ابتكارا بل محاكاة ، لقد كانت مأساة الفكر اليسارى أو الماركسى فى الشرق عموما أنه وقع فى أيدى أصحاب ذهنية أرثوذكسية أو أصولية تخضع الواقع لحدود النص ، وتؤمن بالطاعة والهيمنة الكاريزمية للزعماء ، لا ديمقراطية أو حوار ، وهكذا انتفى النقد والإبداع ، لم يكن الإنسان هو القضية بل بعض المكاسب الجزئية .
وافضى بنا غياب الفعل ( العمل الاجتماعى الإنتاجى والإبداعى ) إلى الفراغ الفكرى ، فكلمة عمل تعنى انتاج داخل مجتمع ، وكلمة فكر تعنى إبداع علمى وفنى كمحصلة للنشاط الاجتماعى ، ولكن خصوصية النسق الأيكولوجى تنعكس على خصوصية العلم وتتجلى فى خصوصية الثقافة ، ليس العمل مجرد أداة لإشباع الحاجات ، بل قوة دافعة لخلق المزيد من الحاجات والمزيد من الإشباع والتقدم ، وتعديل الطبيعة واكتشاف قوانينها لمعرفة التعامل معها ، أى أساس تحول الإنسان من الطور البدائى إلى أطوار التحضر .فالعمل الاجتماعى هو الذى يطرح تساؤلات الواقع وإشكالياته ، ويفرز القضايا الفلسفية المعبرة عن مشكلات هذا الواقع ، وهو المعيار الذى يؤكد على ضرورة تغير هذا الفكر وتجدده من خلال النقد والإبداع ، وعلى أساس التغذية المرتدة بين الفعل والفكر .
و بينما العالم العربى يعيش اجتماعيا ومنذ قرون فى حضارة الرعى والزراعة ، انتقلت مناطق كثيرة من العالم إلى حضارة الإنسان العام المشارك بفعالية حرة فى إدارة شئون المجتمع ، وفى إبداع ثقافات وعلوم جديدة , ومن أجل الوصول إلى رؤية مستقبلية فإن شوقى جلال يطرح ضرورة أجراء دراسة تحليلية تاريخية لمجتمعنا العربى تحدد طبيعة القوى الاجتماعية ومستوى بنيتها الذهنية ومقدار تناقضاتها لتكون هادى لنا فى بناء نسق معرفى يمكننا من معالجة أوجه الخلل ويجعلنا قادرين على الانتقال الحضارى من خلال ثورة فى التعليم ، وثورة فى رد الاعتبار للإنسان بإطلاق طاقته الإبداعية من خلال مشاركته فى رسم مستقبله عن طريق الديمقراطية . وأن تعمد الأمة فى نشاطها التربوى والتعليمى داخل البيت وفى مدارج التعليم إلى تدريب النشء على إعمال العقل وممارسة النقد ، وإكسابه عادة التمرد على التقاليد والشجاعة فى إبداء الرأى دون قيود غير قيود العقل .
وسبيلنا إلى هذه الدراسة العقلانية التمسك بأن أفضل الشعوب أكثرهم عملا وأغناهم وأخصبهم فكرا 00وأن قيمة الفعل والفكر هى كبرى القيم وأعظم الفضائل ، وأن العقل قرين الفعل . ومن خلال الوعى بأننا فعلا متخلفين نحتاج التغلب على عوامل هذا التخلف ، وأن طبيعة علاقاتنا الاجتماعية تؤدى إلى سيادة سلوك مناهض للديمقراطية كثقافة وممارسة 00على الرغم من كل الدعاوى والصخب حول الاحتفاء بها ، أن ثقافة الديمقراطية هى النقيض المطلق لحضارة وثقافة الرعى والزراعة والمجتمعات التى تعيش على الريع ، ولا يمكن وجود ديمقراطية إلا من خلال تحول الواقع الاجتماعى إلى حضارة العصر ، فالديمقراطية وثقافتنا المعاشة نقيضان لا يجتمعان ، وهكذا قياسا إلى ماركسى الشرق أو إسلاموييه على عكس ما هو فى الغرب 00إذن الجميع فى بلادنا مطالبون بابتكار آلية جديدة تكون استجابة لحاجة التقدم والاندماج فى حضارة العصر .
فإذا كانت كل حضارة لها متطلباتها ، ولها نطاق إنجاز وتطبيق لهذه المتطلبات ، فإن ديمقراطية العصر بأشكالها المتباينة ليست من إنجاز أو مطلب المجتمعات الرعوية أو الزراعية أو التى تعيش على الريع ، وإنما هى مطلب ضرورى لحضارة التصنيع . وازدادت الديمقراطية كثافة وارتقاء فى حضارة ما بعد التصنيع ، إذ لم يعد الإنسان مجرد مشارك فى الانتخابات النيابية ، أو عنصر مستقل عن سلطة رجال الدين ، بل بات إنسانا آخر من حيث المهام المطلوبة منه فى علاقته بالمجتمع والطبيعة .
صفوة القول إن مدخلتا إلى العصر مشروع يبلور لنا تصورنا المعرفى عن الذات وعن الآخر ، ويكون محورا لتجسيد جوهر أزمتنا الحضارية بشكل موضوعى ، فالوعى بالأزمة هو منطلقنا للوعى بالمعوقات والتناقضات ، وهو سبيلنا لصياغة التطور المستقبلى من خلال منطلق فكرى جديد يقوم على نقد الواقع وعمل بناء جديد .










.



الفكر العربى و سوسيولوجيا الفشل
( المقالة الأولى )
فــتـحـى ســيـد فــرج
يتفق عديد من العلماء والمفكرون على أن العالم العربى قد شهد فترة ازدهار حضارى تبدأ من القرن الثامن الميلادى وحتى
القرن الخامس عشر الميلادى ، تمكن العرب خلال هذه الفترة من نشر الإسلام فى مناطق كبيرة من العالم حتى باتت دولتهم
تمتد من الهند وبلاد الصين شرقا إلى المحيط الاطلسى غربا ، ومن أسبانيا فى الشمال إلى أواسط أفريقيا فى الجنوب ، وكانوا
أيضا خلال هذه الفترة أكثر بلاد العلم تقدما فى مجالات العلوم والآداب والفنون .
وفجأة ينقلب الحال ويدخل العالم العربى الإسلامى فى مرحلة تدهور وانحطاط حضارى ، ويتوقف الإنتاج العلمى والفكرى ،
هذا ما جعل " توبى أ.هاف " صاحب كتاب " فجر العلم الحدبث " يقول أنه لأمر محير ومثير للأسئلة والتساؤلات لمحاولة
تفسير ما حدث . وكان سؤاله الأول : لماذا أخفق العلم العربى فى أن ينجب العلم الحديث ؟ ـ عرضنا آراءه وعدد آخر من
العلماء والمفكرين فى سلسله مقالاتنا عن " لماذا توقف العلم فى الحضارة العربية الإسلامية ـ أما سؤاله الثانى فكان حول
موضوعنا الحالى : لماذا تراجع الفكر والعمل فى الحضارة العربية الإسلامية بعد عصر ذهبى ؟ وقد رأى توبى أن هذا الأمر
يجب أن يكون موضع اهتمام مواطنى العالم العربى ، ويتفق معه " محمد أركون " الذى يتساءل أيضا : لماذا حصلت هذه
الظاهرة التاريخية ؟ . لقد ظهرت قوى عقلانية فى المدن الإسلامية ، وشهد الفكر الإسلامى مناقشات وتوترات عقلية خصبة
بين العقل الفلسفى الإغريقى والعقل الدينى المرتكز على الوحى ، فلماذا ضعفت هذه القوى والتيارات العقلية ثم اختفت كليا
وماتت فى نهاية المطاف ؟ وكيف تحول الفكر العربى الإسلامى إلى مرجعية أساسية لكل مثقفى أوروبا طيلة أربعة قرون ،
ومن فرط اهتمامه بهذه القضية فإنه يدعوا إلى أجراء بحث معمق من اجل معرفة سبب فشل فكر ابن رشد فى البيئة الإسلامية ،
وسبب نجاحه وانتشاره فى البيئة المسيحية فى أوروبا ، ويقترح تسمية هذه الدراسة " سوسيولوجيا الفشل والنجاح " حيث أنه
يرجع هذا الأمر إلى أسباب سوسيولوجية .
وقد حاول العديد من الكتاب والمفكرين من مواطنى العالم العربى الاهتمام بهذه الظاهرة التاريخية وقدموا مجموعة من الجهود
المتباينة ومن مداخل مختلفة حول أسباب فشل الفكر العربى فى التواصل الحضارى . فنرى " شوقى جلال " المفكر والمترجم
المصرى المعروف ينشغل بهذا الأمر فى كتابه " الفكر العربى و سوسيولوجيا الفشل " الذى يطرح فيه رؤيته المنهجية والتى
تتمحور حول دراسة ونقد الفكر فى علاقته مع الفعل الاجتماعى ، حيث لا يمكن وجود فكر بدون وجود مجتمع ، أى أن الإنسان
لا يفكر إلا من خلال نشاط اجتماعى ، وهذا النشاط بحكم كونه نشاط معرفى يتكامل من خلاله الإنسان مع العالم فى نسق غير
منغلق بحكم دينامية النشأة والتكوين واطراد الفعل الإنتاجى ، وحين يتوقف هذا الفعل الإنتاجى عن الاطراد والتجدد يتوقف
بالتالى العقل عن توليد معارف جديدة ، وينغلق النسق المعرفى بعد أن تنقطع صلته بالواقع ، وهكذا يكون الفعل الاجتماعى
والفكر الجماعى سدى ولحمة الوعى التاريخى الجمعى وأساس الانتماء والتلاحم على الصعيد الاجتماعى لأبناء المجتمع فى
حركته التطورية .
الفعل أو العمل الإنتاجى ، والفكر أذن : هما المشروع الوجودى الجمعى لأى مجتمع ، فمثلما لا يوجد فكر بدون مجتمع ، كذلك
إن فكر الأمة ليس حاصل تراكم فكر الأفراد ، بل حاصل الفعل والنشاط الإنتاجى المترابط فى التاريخ والواقع الراهن مستشرفا
المستقبل ، ويتعطل فكر الأمة حين تتعطل هذه العناصر ، وحينئذ يعيش أفراد المجتمع أسرى وعى زائف وواقع يغلب عليه
طابع النمطية والتكرار العشوائى الذى لا يلد جديدا ، وهذا وضع أدنى فى سلك التطور الارتقائى وأقرب إلى المجتمع الحيوانى
، إذ أن أهم ما يميز الإنسان أنه كائن اجتماعى ينتج حياته اجتماعيا ، وهذا ما نسميه الحضارة فى تطورها المادى والثقافى ،
وإنتاج الحياة هو مشروع مستمر ينطوى على ابتكار متجدد آليته التغيير كشرط أساسى للتكيف والتطور .
فالعقل ليس كينونة مستقلة ، بل إنه السلوك الكلى الذى يتطور ويتقدم كوحدة فى الزمن ، إنه الدائرة التفسيرية الشاملة للمخ
والحواس والتجربة الشعورية ، وهو الوظيفة فى المجتمع والتاريخ لتشكيل النسق الإنسانى ، أو ما يسمى المحيط العقلى الذى
تصدر عنه أفعال الإنسان ، وهو المسئول عن تحويل بعض نظم العلامات الكونية عبر الجهاز العصبى ، ومن خلال الفعل فى
السياق الاجتماعى إلى نظام علامات التجربة المعاشة .
والفكر الاجتماعى بصفته ليس مجرد أفكار أفراد ، أو تراكم عددى لها ، يعتبر أنساق فكرية تتحرك من نسق إلى نسق ، والنسق
الجديد يتجاوز القديم ، وإن احتواه ليحدث قطيعة معرفية معه ، ومن ثم فإن النسق عبارة عن بنية متراكبة الطبقات تاريخيا ، لها
نشأة وتكوين ، ومع ذلك فإنها لا تمثل قدرا محتوما ، ولكنها نسق متغير ، والأمر رهن حيوية العلاقة الجدلية بين الفكر والفعل
إذا كانت هذه العلاقة بالسالب تنتج حالة من الخمول والتوقف ، وإذا كانت علاقة التفاعل بينهما ايجابية ينتج عنها نشاط إبداعي
ويرى شوقى جلال أنه يمكن النظر إلى فكر الأمة باعتباره يتمايز بين مستويين موجودين دائما فى تناقض جدلى وحركة :
· ثقافة موروثة : تعتمد الاطراد النمطى أو المحافظة والاستقرار أو تصل إلى حد السكون ، ثقافة ترى مستقبلها فى الماضي وفى بقاء البنية الاجتماعية على حالها ، وتقف حائل دون أى حركة أو تغيير .
· وفكر : هو ابتكار وتجدد وتغيير فى بنية المجتمع وصولا إلى التكيف مع مقتضيات الواقع المتطور .
وتشكل مؤسسات الثقافة والعلوم فى المجتمع العقل المنسق الذى يصوغ الإطار المعرفى من خلال رؤية تعى إشكاليات وتحديات الواقع وتعمل على تحقيق أمال وتطلعات هذا المجتمع بحيث يتسم هذا الفكر بالأبعاد الآتية :
· أن يكون فكرا تاريخيا يعى التاريخ فى كليته وحركته ، وواقعيا يعى الواقع فى ديناميته وتناقضانه ، ومستقبليا يعى اتجاه الصيرورة الاجتماعية .
· أن يكون الفكر نسقا مفتوحا ، إيمانا بأن جميع الحقائق قابلة للنقد والتفنيد ، وأن جميع المعارف فى حركة وتجدد مع حركة وتجدد الفعل .
· عقلانية الفكر تأسيسا على تجسيده لإنجازات علوم العصر ، واستيعابه لنظريات وتيارات الفكر الإنسانى ، وإذا انقطعت صلة الفكر بهذه الأنشطة ذوى وبات أسير الجمود .
· القدرة على تفكيك طرق التفكير التقليدية ، وفحص أدوات المعرفة وأسسها ، مع تفكيك بنية النص لبيان طبيعة تشكله وشروط وجوده وآليات عمله ، ويقتضى ذلك نقد بنية الوعى ومكونات العقل ، واستكشاف البديهيات والمسلمات والتناقضات لمعرفة الظروف والملابسات التاريخية التى أسهمت فى خلق هذا الفكر ومدى سطوته ، التماسا لعقل وفكر جديد . وحين يفقد الفكر هذه الشروط فإنه يكون مجرد خطاب يفتقر إلى الكلية والشمول ، ولا يمثل نسق معرفى متكامل يفضى إلى تحقيق أهدافه .
ويخلص شوقى جلال من هذا العرض لعلاقة الفكر بالفعل إلى نتيجة فاجعة ، فلقد أخفق الخطاب اليسارى العربى ، لا لأن خطابا آخر مناهضا انتصر ، ولكن أخفق الجميع اليسار واليمين ، إذ تعلقت أبصارنا وطموحاتنا بالسماء ، حيث المفارق المتعالى والفكر النظرى المجرد ، بينما أقدامنا جميعا بعيدة عن أرض الواقع ، ولم يكن الإخفاق استثناء ، بل قاعدة للجميع امتدت قرونا ، ومن دانت له السلطة كفل لنفسه البقاء فى منطقة التعادل أو الجمود .
وهو يعنى باليسار كل تيار أو موقف نقدى التمس تغيير المجتمع ، أى الانتقال إلى حضارة العصر ، حضارة التصنيع وما بعد التصنيع ، صدقت النوايا وعانوا باسم رسالتهم شدائد وأهوالا ، ولكن المحصلة كانت الإخفاق لكل هذه الجهود . لم يخفق اليسار بسبب تآمر الغرب ، ولا بسبب بطش السلطان ، فكل فكر ثورى يصادف بالضرورة كل هذه الظروف ، ولكنه ينجح فى النهاية لأنه يعرف كيف يزيح العقبات من خلال قراءة الواقع قراءة صحيحة .
أن البحث عن أسباب الإخفاق يحتاج إلى نقد الظاهرة من داخلها ، ومعرفة الأسباب الكامنة دون الاكتفاء بأسباب خارجية نسوقها أعذارا ، فالمفروض إن اليسار حركة نقد اجتماعى ، ومشروع علمانى تنويرى ، ولكن ما عشناه كان ممارسات يسارية أو خطاب يسارى سياسى ، ليس فكرا بالمعنى الذى حددناه ، وكان امتداد لبنية ذهنية أو ثقافية موروثة تقوم على توفيق ثنائيات نقيضة ، دون استعمال أخصب ما أنتجه الفكر اليسارى من حركة جدلية كمنهج لفهم الواقع واكتشاف تناقضاته والعمل على تغييره ، لقد اعتمد اليسار العربى فى مناهجه وأهدافه على السلب : ضد الإقطاع .. ضد الاستغلال ... ضد الملكية ، وهو فى هذا الشأن مثله مثل الإسلاميين حين يدعون أن الإسلام هو الحل كشعار دون مضمون لا يخلق معرفة وليست له استراتيجية عمل .
إذا كانت ثقافتنا قد رسخت قدسية النص والتزام الحرفية والتلقين ، وأن المرجعية خارج الواقع والذات ، فقد نحا اليسار إلى نفس الاتجاه حين جعل فكره كلمات جديدة بآلية قديمة ، أو خطاب مغترب عن الواقع متعالى عن التاريخ ، لم يكن ابتكارا بل محاكاة ، لقد كانت مأساة الفكر اليسارى أو الماركسى فى الشرق عموما أنه وقع فى أيدى أصحاب ذهنية أرثوذكسية أو أصولية تخضع الواقع لحدود النص ، وتؤمن بالطاعة والهيمنة الكاريزمية للزعماء ، لا ديمقراطية أو حوار ، وهكذا انتفى النقد والإبداع ، لم يكن الإنسان هو القضية بل بعض المكاسب الجزئية .
وافضى بنا غياب الفعل ( العمل الاجتماعى الإنتاجى والإبداعى ) إلى الفراغ الفكرى ، فكلمة عمل تعنى انتاج داخل مجتمع ، وكلمة فكر تعنى إبداع علمى وفنى كمحصلة للنشاط الاجتماعى ، ولكن خصوصية النسق الأيكولوجى تنعكس على خصوصية العلم وتتجلى فى خصوصية الثقافة ، ليس العمل مجرد أداة لإشباع الحاجات ، بل قوة دافعة لخلق المزيد من الحاجات والمزيد من الإشباع والتقدم ، وتعديل الطبيعة واكتشاف قوانينها لمعرفة التعامل معها ، أى أساس تحول الإنسان من الطور البدائى إلى أطوار التحضر .فالعمل الاجتماعى هو الذى يطرح تساؤلات الواقع وإشكالياته ، ويفرز القضايا الفلسفية المعبرة عن مشكلات هذا الواقع ، وهو المعيار الذى يؤكد على ضرورة تغير هذا الفكر وتجدده من خلال النقد والإبداع ، وعلى أساس التغذية المرتدة بين الفعل والفكر .
و بينما العالم العربى يعيش اجتماعيا ومنذ قرون فى حضارة الرعى والزراعة ، انتقلت مناطق كثيرة من العالم إلى حضارة الإنسان العام المشارك بفعالية حرة فى إدارة شئون المجتمع ، وفى إبداع ثقافات وعلوم جديدة , ومن أجل الوصول إلى رؤية مستقبلية فإن شوقى جلال يطرح ضرورة أجراء دراسة تحليلية تاريخية لمجتمعنا العربى تحدد طبيعة القوى الاجتماعية ومستوى بنيتها الذهنية ومقدار تناقضاتها لتكون هادى لنا فى بناء نسق معرفى يمكننا من معالجة أوجه الخلل ويجعلنا قادرين على الانتقال الحضارى من خلال ثورة فى التعليم ، وثورة فى رد الاعتبار للإنسان بإطلاق طاقته الإبداعية من خلال مشاركته فى رسم مستقبله عن طريق الديمقراطية . وأن تعمد الأمة فى نشاطها التربوى والتعليمى داخل البيت وفى مدارج التعليم إلى تدريب النشء على إعمال العقل وممارسة النقد ، وإكسابه عادة التمرد على التقاليد والشجاعة فى إبداء الرأى دون قيود غير قيود العقل .
وسبيلنا إلى هذه الدراسة العقلانية التمسك بأن أفضل الشعوب أكثرهم عملا وأغناهم وأخصبهم فكرا 00وأن قيمة الفعل والفكر هى كبرى القيم وأعظم الفضائل ، وأن العقل قرين الفعل . ومن خلال الوعى بأننا فعلا متخلفين نحتاج التغلب على عوامل هذا التخلف ، وأن طبيعة علاقاتنا الاجتماعية تؤدى إلى سيادة سلوك مناهض للديمقراطية كثقافة وممارسة 00على الرغم من كل الدعاوى والصخب حول الاحتفاء بها ، أن ثقافة الديمقراطية هى النقيض المطلق لحضارة وثقافة الرعى والزراعة والمجتمعات التى تعيش على الريع ، ولا يمكن وجود ديمقراطية إلا من خلال تحول الواقع الاجتماعى إلى حضارة العصر ، فالديمقراطية وثقافتنا المعاشة نقيضان لا يجتمعان ، وهكذا قياسا إلى ماركسى الشرق أو إسلاموييه على عكس ما هو فى الغرب 00إذن الجميع فى بلادنا مطالبون بابتكار آلية جديدة تكون استجابة لحاجة التقدم والاندماج فى حضارة العصر .
فإذا كانت كل حضارة لها متطلباتها ، ولها نطاق إنجاز وتطبيق لهذه المتطلبات ، فإن ديمقراطية العصر بأشكالها المتباينة ليست من إنجاز أو مطلب المجتمعات الرعوية أو الزراعية أو التى تعيش على الريع ، وإنما هى مطلب ضرورى لحضارة التصنيع . وازدادت الديمقراطية كثافة وارتقاء فى حضارة ما بعد التصنيع ، إذ لم يعد الإنسان مجرد مشارك فى الانتخابات النيابية ، أو عنصر مستقل عن سلطة رجال الدين ، بل بات إنسانا آخر من حيث المهام المطلوبة منه فى علاقته بالمجتمع والطبيعة .
صفوة القول إن مدخلتا إلى العصر مشروع يبلور لنا تصورنا المعرفى عن الذات وعن الآخر ، ويكون محورا لتجسيد جوهر أزمتنا الحضارية بشكل موضوعى ، فالوعى بالأزمة هو منطلقنا للوعى بالمعوقات والتناقضات ، وهو سبيلنا لصياغة التطور المستقبلى من خلال منطلق فكرى جديد يقوم على نقد الواقع وعمل بناء جديد .




#فتحى_سيد_فرج (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المسرح فى مصر الفرعونية المقالة الأولى
- علوم جديدة... وتعليم مغاير
- لماذا توقف العلم فى الحضارة العربية الإسلامية ؟ 8 من 8
- لماذا توقف العلم فى الحضارة العربية الإسلامية ؟ 7 من 8
- لماذا توقف العلم فى الحضارة العربية الإسلامية ؟ 5 من 8
- لماذا توقف العلم فى الحضارة العربية الإسلامية ؟4-8
- لماذا توقف العلم فى الحضارة العربية الإسلامية ؟ 3 من 8
- إشكالية النهضة عند الطهطاوى
- قراءات ورؤى حول مشروع النهضة


المزيد.....




- الفصح اليهودي.. جنود احتياط ونازحون ينضمون لقوائم المحتاجين ...
- مستوطنون يقتحمون مدنا بالضفة في عيد الفصح اليهودي بحماية الج ...
- حكومة نتنياهو تطلب تمديدا جديدا لمهلة تجنيد اليهود المتشددين ...
- قطر.. استمرار ضجة تصريحات عيسى النصر عن اليهود و-قتل الأنبيا ...
- العجل الذهبي و-سفر الخروج- من الصهيونية.. هل تكتب نعومي كلاي ...
- مجلس الأوقاف بالقدس يحذر من تعاظم المخاوف تجاه المسجد الأقصى ...
- مصلون يهود عند حائط البراق في ثالث أيام عيد الفصح
- الإحتلال يغلق الحرم الابراهيمي بوجه الفلسطينيين بمناسبة عيد ...
- لبنان: المقاومة الإسلامية تستهدف ثكنة ‏زبدين في مزارع شبعا ...
- تزامنًا مع اقتحامات باحات المسجد الأقصى.. آلاف اليهود يؤدون ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - فتحى سيد فرج - الفكر العربى وسوسيولوجيا الفشل - المقالة الأولى