أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - منوّر نصري - أمل (فُتُون2)















المزيد.....



أمل (فُتُون2)


منوّر نصري

الحوار المتمدن-العدد: 6875 - 2021 / 4 / 21 - 08:45
المحور: الادب والفن
    


تلاشت الغمائمُ البيضاءُ في سمائك. وتوقف الرذاذ الدافئ الذي كان يحوّل جفاف قلبك إلى حدائقَ مزهوّةٍ بنضارةِ عشبها وعصافيرها التي تطير وتحطّ منشدةً أنغاما تؤنسك وتبعث فيك مشاعرَ قديمةً تشعرك بالألفة التي أصبحتَ تبحثُ كثيرا عنها لأنّ التجاربَ التي عشتَها بيّنتْ لكَ أنّها أفْضَلُ شيء يُمكِنُ أن تحْصُلَ عليه. كيف تهاوى كلُّ شيء أمام عينيكَ وبإرادةٍ منكَ، وأنت تزعم بأنّ الشعور بالألفة كفيلٌ بأنْ يملأ حياتَكَ ويعْطي لتحرُّكاتِكَ معنى ويُبْعدَ عنكَ السّوداويةَ ومشاعرَ الغُرْبة، وأنّ الألْفَةَ هي مسْعاكَ الذي تصْغُرُ أمامه كلُّ المساعي الأخرى؟ ألمْ تكنْ تعْتقدُ بأنّ المساعي الكثيرةَ التي شغلتْكَ طويلاً، عاجزةٌ الآنَ، في غيابِ شعوركَ بالألفةِ، على تلوينِ أيّامكَ بألوانِ البهْجةِ التي طالما صبَوْتَ إليها؟ كانت الأُلفةُ بينَ يديْكَ. وتركْتَها تتلاشى من بينِ أصابعِكَ كما يتلاشى الماءُ. فلاَ أنْتَ الآنَ مُرْتاحٌ لِمَا فعلْتَهُ بنفْسِكَ ولا قلْبُكَ يشْعُرُ بتلك الطُّمأنينةِ التي تجعلُكَ تنْعَمُ بأيّامكَ وتتذوّقُ طعْمَ الدّنيا الذي توَدُّ نفْسُكَ أنْ تنْعَمَ به. أتْعبَتْكَ الدنيا كثيرًا، وشقَوْتَ كثيرًا طيلَةَ سنواتٍ عديدةٍ، وإذا أردْتَ التّدقيقَ، يُمكنُكَ أن تقولَ طيلةَ بعْضِ العشراتِ من السنينِ التي كابدْتَ خلالها عناءَ عملٍ لمْ يُعْطِكَ بقدْرِ ما أعْطيْتَهُ. أنتَ الآنَ في مرحلةٍ ترى فيها كلَّ تلكَ الشّقاوةَ بعيْنيْنِ باردتَيْن، وقلبٍ لا يهتمُّ كثيرًا بما كانَ، ولكنْ يهمُّهُ أنْ يجدَ الآنَ مناخًا يرْتاحُ فيهِ ويتخلَّصُ في هدوئهِ من صخبِ السّنينِ وآلامِ الرّأسِ التي لا تنْفكُّ تُنغّصُ أيّامَهُ.

ها أنتَ الآن تتقلّبُ في القلقِ وتبدو الدّنيا فارغة من حولكَ. الفراغُ يخيفُكَ ويبعثُ فيكَ مشاعرَ سيّئةً. تتّجه نحوَ مكْتبتِكَ وتشرعُ في تقليبِ الكتبِ كأنّكَ تبْحثُ عن كتابٍ مُحدَّدٍ. تتصفَّحُ عدّةَ عناوينَ. تسْحبُ بعْضَ الكتبِ وتفْتحُها. تقْرأُ العنوانَ وسنةَ النّشْرِ. كُلُّ الكُتُبِ التي في مكتبتكَ قديمةٌ نسبيًّا. بعْضُها منشورٌ منذ أكثرَ من عشرينَ سنةً. تذكَّرْتَ أنّكَ لمْ تشترِ كتُبًا منذُ سنواتٍ. لاَ، بلْ شرَيْتَ سبْعةَ أو ثمانيةَ كتبٍ في مناسباتٍ مُخْتلفةٍ. اقْتنَيْتَ بعْضها من معْرِضِ الكِتابِ الّذي كانَ يُنَظَّمُ كلَّ سنةٍ بِضاحيةِ الكرم. كان ذلك في الزّمن الجميل أو الذي صارَ يبْدو جميلاً، قبلَ انتِشارِ وباءِ الكوفيد 19 منذُ ما يزيدُ عنْ سنةٍ، دونَ وُجودِ مؤشّراتٍ تدلُّ على زوالهِ قريبًا، رغْمَ توفُّرِ اللّقاحاتِ، والشروعِ في تطعيمِ عدّةِ فِئاتٍ من النّاسِ، حسب أوْلويّاتٍ مدْروسةٍ. اشتريْتَ كذلكَ أحدَ العناوينِ من فضاءِ كارفور المرسى وآخرَ من إحْدى المكتباتِ. واقتنيْتَ رِوَايتيْنِ أوْ ثلاثًا من محلاّتِ كتبٍ مستعْمَلةٍ. لكن كلَّ هذه الشراءاتِ قديمةٌ مضى عليْها ما يزيدُ عنْ سنةٍ. شيْءٌ مُؤْسفٌ لأنّكَ مولعٌ بالكتبِ. ولمْ تكنْ يوْمًا تتخيَّلُ أنّكَ تستطيعُ التّوقُّفَ عنْ شراءِ كتبٍ جديدةٍ. تُعَلِّلُ ذلكَ لنفْسكَ أحْيانًا بكوْنكَ صرْتَ تقْراُ الكتبَ والمقالاتِ على الأنترنت وتُحمِّلُ كثيرًا من الكتب في صيغة بي دي آف. قرأتَ كثيرًا من الكتب على الحاسوبِ أو على هاتفكَ الأندرويد. أمتعتْكَ قراءةُ بعض روايات الفرنسي جيوم موسو والتركية أليف شافاق والبرازيلي بولو كويلو والتونسي الحبيب السّالمي. واستعْملْتَ كثيرًا من الكتب والمقالاتِ والدراساتِ الرَّقْميّةِ في التكْوينِ الذي تقدّمُهُ في العلومِ الانْسانيةِ. لكنّ متْعةَ الكتبِ الورقيّةِ تظلُّ تُغْريكَ على الدّوامِ.

تتوقّفُ أمام مكتبتكَ مدّةً من الزمن وتقلّبُ الكتبَ وتقرأ بعْضَ الفقراتِ أو السّطورِ، كأنّكَ تبْحثُ عنْ شيْءٍ. لكنّكَ في الحقيقةِ لاَ تبْحثُ عنْ أيّ شيْءٍ. إنَّهُ القلقُ يسْتبدُّ بكَ ويُشْعِرُكَ أنّ الدّنيا فراغٌ وأنّكَ مَلْقِيٌّ بكَ في هذا الفراغِ الفسيحِ المُخيفِ. ومهما فعلْتَ، لنْ تجدَ غيرَ الفراغِ الذي سوفَ يظلُّ يَعْصرُكَ ويُضيّقُ عليكَ الأنفاسَ. لا شيْءَ يُمْكنُ أنْ ينْجدَكَ من هذا الإحْساسِ الفظيعِ الذي تشْعُرُ بهِ الآنَ. حاولْ أنْ تشغلَ نفْسَكَ بإعدادِ محتوى التّكوينِ الذي ستقومُ بهِ. حاولْ أنْ تكتُبَ، أنْ تقراَ كتابًا ورقيًّا أو رقْميًّا، أنْ تخْرجَ، أنْ تُشاهدَ برنامجًا تلفزيًّا، أنْ تدْخُلَ المطبخَ، أنْ تُعِدَّ طعامًا، أنْ تأْكلَ، أنْ تجلسَ في هدوءٍ ودونَ فعْلِ أيِّ شيْءٍ. لنْ تشْعُرَ أنّكَ مُرْتاحٌ. شيْءٌ في داخلِكَ يُضْنيكَ، يُؤْلمكَ. تتوجَّعُ في صمْتٍ. لاَ أحَدَ يسْتطيعُ أنْ يعْرفَ أنّكَ تتوجّعُ وأنَّ شيْئًا بداخلكَ ينوحُ. أنتَ الآنَ بمفْردِكَ تتصفّحُ الكتُبَ وفكْرُكَ ساهمٌ، ولاَ تعي ما تقْرَاُ. هذه العناوينُ التي أمامكَ لاَ معنى لها لأنَّ فكْرَكَ وقلْبَكَ في مكانٍ آخرَ. أنتَ الآنَ أمامَ مكْتبتكَ جسَدٌ بِلاَ روحٍ. روحُكَ ليْستْ هنا. غادرتْ هذا المكانَ ولعلَّها الآنَ هائمةٌ في فضاءاتٍ أخرى تجدُ فيها الرّاحة والسَّكِينةَ.

تُراجعُ نفْسَكَ وتتألّمُ في صمْتٍ. لماذا تركْتَها تذْهبُ وانتَ لا تسْتطيعُ أنْ تستغْنيَ عنها؟ يبْدو أنّكَ مولعٌ بتعْذيبِ نفْسكَ. أنْتَ الآنَ تتعذّبُ لأنّكَ تشعُرُ أنّكَ كنتَ السّببَ في ذهابِهَا. لاَ تريدُ أنْ تعْترفَ أنّ ما حدَثَ كانَ يُمْكنُ أنْ تتفاداهُ. كان يُمْكِنُ أنْ لا تعيشَ هذه المشاعرَ القاتمةَ وأنْ يكونَ طعْمُ الحياةِ أفْضلَ بكثيرٍ ممّا هو الآنَ. أنتَ اخترْتَ أنْ تتصرَّفَ كما أردْتَ، فتحمَّلْ تبِعاتِ تَصرّفاتِكَ. تَحَمّلْ وجعَ القلقِ الذي يتراكمُ حولكَ ويُضيّقُ عليْكَ الخناقَ. تحمَّلْ ضجيجَ صُوَرِهَا التي تقْرعُ رأسَكَ وتُشْقيكَ لأنّكَ تتمنّى أنْ تقْبضَ عليْها وتنْعَمَ بها، لكنْ دون جدوى، فهي لا تعدو أن تكونَ صورًا يصْنعُها خيالُكَ المحْرومُ من وجودِها بجانبكَ. نفْسُكَ الآن مريضةٌ بغيابها، مريضةٌ بالاشتياقِ إلى وجهها، إلى ابتسامتها، إلى تنقُّلاتها العاديّةِ في المنزلِ، إلى كلامها في مُختلفِ السياقاتِ، إلى جلوسها بالقُرْبِ منكَ واستعْمالِها للحاسوبِ، إلى قراءتها لبعْضِ التّدويناتِ التي تَجِدُهَا على الفيسبوك، إلى الفيديوهات التي تُشاهدُها وهي جالسةٌ قُبالتَكَ، وعنْدما تجدُها هامَّةً حسب رأيِها، تَدْعُوكَ إلى أنْ تشاركَها رُؤْيَتَهَا. أنتَ الآن في شوْقٍ شديدٍ إلى كلِّ تفاصيلِها. بلْ إنّ التّفاصيلَ هي التي تعذِّبُكَ. أنتَ الآنَ مُحْتاجٌ إلى كلِّ تلك التّفاصيلِ لتعودَ الابتسامةُ إلى قلْبِكَ المشْجونِ. نفْسُكَ تهفُو إلى تفاصيلِ حُضُورِهَا اليانِعِ ليَعُودَ إليْها صحْوُها ويُشْرقَ ربيعُها وتعودَ العَصافيرُ المُلوّنةُ تطيرُ وتحُطُّ جذْلَى على أشْجارِ حدائقها الظّليلةِ. كنتَ دائمًا تسْعَدُ بالتّفاصيلِ. وكانت التّفاصيلُ تُنْسيكَ الأشْياءَ التي يُمْكِنُ أنْ تُكدِّرَكَ. تُنْسيكَ الواجباتِ الثّقيلةِ التي تنْتظرُكَ. تُنْسيكَ الوضْعياتِ الصَّعْبةَ التي تعْترِضُكَ في العملِ. تُنْسيكَ الوُجُوهَ التي لاَ تُحبُّ أنْ تراها. تُنْسيكَ التَّلْفيقَ والتّجنيدَ والاحتماءَ بمؤسّساتٍ اجتماعيّةٍ جوْفاءَ ينتمي إليْها أشْخاصٌ لا هاجسَ لهمْ سوى إيقافِ العملِ والتعْبئةِ قصْدَ التّمرّدِ وضرْبِ مصالحِ البلادِ والعبادِ.

ما زلتَ تذكُرُ كيفَ كانتْ تتكدّرُ كثيرًا عندما يبْلُغُها أنَّ الوضْعَ ليْسَ على ما يُرامُ في مقرِّ عملكَ. كانت تجري للاطمئنانِ عليْكَ. نفْسُها تحدّثُها انّكَ يمكنُ أن تتعرّضَ لمكروهٍ رغمَ أنّها تعْلمُ جيّدًا أنّكَ تُحْسِنُ التّعامُلَ مع النّاسِ وتسْتمعُ إليهمْ وتتفهّمُهُمْ. لكنّها تظلُّ تحْمِلُ قلْبَها في يدِها إلى أنْ تراكَ وتطمئنَّ عليْكَ. شاهدْتَ بعيْنيْكَ بعْضَ زملائِكَ يفرُّونَ من خلفِ الإدارةِ، عندما يروْنَ حُشُودَ العَمَلةِ الوقْتيينَ أوْ أيَّ حشْدٍ منْ الحشودِ الكثيرةِ يمْلَؤُونَ السّاحةَ ويريدُون مقابلةَ المسؤولِ. أمّا هي، فكُنْتَ تراها، وتفْرحُ نفْسُكَ برؤْيتها في تلكَ الأوْقاتِ العَصِيبةِ. كانَ وجهُهَا يُطلُّ عليْكَ كسحابةٍ بيضاءَ نديّةٍ تحمِلُ الأملَ والفرحَ وتُعيدُ إليْكَ الهدوءَ الذي أنتَ في حاجةٍ إليْهِ لتسْتطيعَ تسْويَةَ الأمورِ بعقلانيةٍ وإنْصاتٍ للآخرينَ وتفهُّمٍ لمطالبهم وظروفهمْ. كانَ دعْمُها لكَ، ووقوفُها إلى جانبِكَ، سندًا قويًّا لكَ. وكنتَ، وأنتَ تشعُرُ أنّها معكَ، قادرًا على ما لا تقْدِرُ عليْهِ لوْ كنتَ وحْدَكَ. كانتْ تمنحُكَ القوّةَ النّفسيّةَ التي تحْتاجُها في عملكَ. وفي نفْسِ الوقْتِ، كانتْ سندًا لِرُوحِكَ التي كانتْ في حاجةٍ شديدةٍ إليْها. ولكنْ هلْ زالتْ حاجةُ روحِكَ اليومَ إليْها، فهدمْتَ كلَّ شيْءٍ، وتركْتَها تذْهبُ، وأغْلبُ الظّنِّ أنّها كانتْ موجوعةً، تُخْفي حزْنًا بَدَا في نبَراتها؟ لَوْ زالتْ حاجةُ روحكَ إليها اليوْمَ لَمَا كنتَ الآنَ مهْمومًا ينْهشُكَ الوجعُ الذي لاَ أحَدَ يُنْقذُكَ منهُ، ولاَ وجودَ لغيْمةٍ بيْضاءَ تَمُرُّ في سمائكَ المُتصحِّرةِ، فتبْعثُ فيها أملاً بمطرٍ قادمٍ وربيعٍ في الطريقِ إليْكَ.
--------------------------
كنتَ تبْتَهِجُ عندما تصِلاَنِ إلى المنزلِ. أخيرًا تَصِلاَنِ. دائمًا يكونُ الوُصولُ صعْبًا. المسافاتُ ومتاعبُ السياقةِ في المدينة الكبيرةِ، صُداعٌ وعَرَقٌ وانفِعالاتٌ مُنْفَلِتَةٌ داخِلَ السّيارةِ تُجاهَ بعْضِ السُّواقِ وعندَ اشتعالِ الأضواءِ المنظِّمةِ لِعُبُورِ المُفْتَرَقاتِ، وكُلَّما ضايَقَكَ، عنْ غيْرِ قصْدٍ بالطَّبْعِ، سائقٌ، واعْتبرْتَ أنّهُ لا يُحْسِنُ السّياقةَ، أوْ يخافُ كثيرًا على سيّارتهِ، أوْ هُوَ مُتهوِّرٌ في سياقتهِ لأنّ السيّارةَ التي يسوقها مُلْكُ الشّركةِ التي يعملُ بها. لوْلاَ فَرَحُكَ بِوُجودِها معَكَ، لَمَا تجشَّمْتَ كلَّ تلْكَ المشقَّةِ التي تُنْسيكَ أحْيانًا فرْحةً انْتَظرْتَهَا طويلاً، إلى أنْ صارتْ هدفًا يزيدُكَ بهجةً كلَّمَا اقْترَبَ موْعِدُ تحقيقهِ. كانت الدّنيا تتلوّنُ بألوانِ الفَرَحِ وتنْتشرُ الغيْماتُ البيْضاءُ التي تطيرُ بوجْدانِكَ لتُحلِّقَ بهِ فوْقَ مُرتَفعاتِ تلْكَ الأماكِنِ التي يعْشَقُها خيالُكَ. ويهْمسُ قلْبُكَ لكَ بِأنَّهُ يتلهَّفُ لِلِقائها، وأنّهُ أكثَرُ منْكَ اشتياقًا إليْها، وأنَّ غيابَها كثيرًا ومجيئَها قليلاً يُتْعِسُهُ ويجعلُهُ لاَ يشْعُرُ بالاطْمئْنانِ. لوْ كانتْ تعْلَمُ مقدارَ حُبِّ قلْبِكَ لها، لَمَا تغَيَّبَتْ عليْهِ مُدَدًا طويلةً، لِتَجِيءَ منْ حينٍ إلى آخَرٍ، كُلَّما سَمَحتْ لها ظرُوفُها. هو دائمًا متكدِّرٌ بسببِ غيابِها الطويلِ عنْهُ ويعْتبرُ أنَّ الوضْعَ الطبيعيَّ الذي يَضَعُ حَدًّا لإِحْساسِهِ بالوحْدةِ، هُوَ أنْ تَجيءَ وتستقرَّ بجانِبِهِ بصفةٍ نهائيَّةٍ، ليُمْسِكَها منْ يديْها البيْضاويْنِ الصّغيرتيْنِ الناعمتيْنِ، ويُدْخِلَها شعابَ الرُّوحِ المُشْتاقةِ إلى مجيئِها، ويظلُّ معها هناكَ ينْعَمُ بوُجُودِها ويَهْنأُ بهنائِها ويسْتقبِلُ معها الغيْماتِ البيْضاءَ التي تمرُّ لتوزّعُ الفرَحَ في حقولِ الرُّوحِ.
-------------------------------
- ها قدْ وصلْنا. وكمْ كانَ الوصولُ صعْبًا. خُيِّلَ إليَّ أنّنا لنْ نصِلَ. الطّريقُ كان طويلاً. والسياقةُ في المدينةِ صعْبةٌ. وضْعيّاتٌ كثيرةٌ تجعلُ السّائقَ ينْفعِلُ ويتشنّجُ أحْيانًا. لكنْ ما دُمْتِ معي، فأنا قادرٌ على تحمُّلِ كلِّ الحماقاتِ التي يرْتكبُها السُّواقُ وعلى قبُولِ الفوْضى التي تحْدُثُ في المفْترَقاتِ وفي كلِّ أماكنِ السّياقةِ برحابةِ صدْرٍ، وبِتَنَدُّرٍ أحيانا.
- ها نحْنُ الآنَ معًا. يجبُ أنْ ننسى التّعبَ لأنّنا أخيرًا وصلْنا. وحقَّقْنا هدفَنا الذي خطَّطْنا لهُ أيامًا طويلةً. منْ حقِّنا الآنَ أنْ ننْعَمَ بتحقيقِ الهدفِ. ألمْ نكنْ نحْلُمُ بهذا اللقاءِ. لا يهُمُّ أنْ يكونَ صعْبًا. المهِمُّ أنّهُ تحقَّقَ. والآنَ يجبُ أنْ نفْرَحَ مَعًا لأنّنا لسْنا دائمًا مُتَلاَقِيَيْنِ.
- أظلُّ مشتاقًا إليكِ حتّى وأنْتِ معي. ألاَ تسْمعينَ صوْتًا خارجًا منْ أعْماقي، منْ جهةِ قلبي، يُرحِّبُ بكِ ويُحدّثُكِ عنْ صبابتِهِ ويقولُ لكِ بأنّهُ مشتاقٌ إليكِ أكْثَرَ منّي. أنْتِ غاليةٌ عليْهِ ويَوَدُّ أنْ يراكِ دائمًا بجانيِهِ ليمْتلئَ نشاطًا. إنّهُ في غيابِكِ تعِسٌ ودُنْياهُ كَدَرٌ وكآبةٌ ولامُبالاةٌ.
- يا روحَ روحي كمْ أنا مُشْتاقةٌ إليْكَ وإلى مشاعِرِكَ التي تبْعثُ البهْجَةَ في نفْسي وتُعيدُ لَهَا أحْلامًا قديمةً تتجدَّدُ دائمًا بكلامِكَ الذي يفْتحُ لي نوافذَ لأطيرَ وأنتَ معي نحْوَ الغماماتِ البيْضاءِ المُتجوِّلةِ في سماءِ تلكَ المدينةِ التي نُحبُّها نحْنُ الاثْنَانِ.
- ألمْ تقْرَئِي آخِرَ إرْساليَّةٍ كتبْتُها لكِ على مسنجر؟ لقدْ عبَّرْتُ لكِ فيها عنْ نفَادِ صَبْرِي عنْ بُعْدِكِ.
- قرأْتُها. وقرأتُ أيْضًا أنّكَ صِرْتً صديقًا معَ رَحْمَةَ. حدِّثْني عنْها. أنا لا أعْرفُها. ماذا تشْتغل؟ وكمْ عُمُرُها؟ وهلْ هي متزوّجةٌ، أم عزْباءُ، أمْ مُطلَّقةٌ، أمْ أرْملةٌ؟ وإلى أيِّ مدينة تنتمي؟
- إنَّها علاقةٌ عاديَّةٌ مثلَ مِئاتِ العلاقاتِ الأخْرى على فيسبوك.
- لكنّكَ أنتَ الذي طلبْتَ منها الصّداقةَ خِلاَفًا لِمَا قُلْتَهُ لِي عدّةَ مرّاتٍ بأنّكَ لاَ تطْلُبُ صداقَةَ أحدٍ ولكنْ عندما تأْتيكَ دعْوةٌ للصّداقةِ لا ترْفُضُها في أغْلَبِ الأحْيانِ. فماذا حدثَ هذه المرّةِ لتتخلَّى عنِ القاعدةِ وتطْلُبَ امرأةً للصّداقةِ؟
- لا أذْكُرُ مَنْ مِنّا طلبَ صداقةَ الآخَرِ. ولاَ أعْتَبِرُ هذا أمْرًا مُهِمّا.
- بَلْ أنتَ الذي طلبْتَ صداقتَها وتبادلْتَ معها حديثًا طويلاً على مسنجر، وربّما حتّى على الهاتِفِ. ومنْ يدْري، لعلَّكَ اتّصلْتَ بها مُباشرةً وتحدّثْتَ معها.
- مِنْ أين لكِ كلُّ هذه الأخبارِ التي مُعْظَمُها لاَ أساسَ لهُ من الصّحَّةِ؟
- تتخيّلُني غافلةً عمّا تفْعلُهُ في غيابي؟ ليَكُنْ في علْمِكَ أنني أعْرِفُ كلَّ ما فعلْتَ خلالَ مدّةِ الانْقِطاعِ. أعْلمُ أنّكَ كنتَ تبْحثُ عنِ امرأةٍ تُناسبُكَ وأنّكَ تعْتَقدُ أنّها أفْضلُ واحدةٍ تصْلُحُ لذلك. وأغْلبُ الظنِّ أنّكَ اتّفقْتَ معها أو بصدَدِ الاتّفاقِ على الارتباطِ.
- أسْتغْربُ ما أسْمعُ. مَنْ أخْبَرَكِ بذلك وأنتِ قابعةٌ في تلك المدينةِ البعيدة، وكلُّ تنقُّلاتِكِ بين المنزلِ ومكانِ العملِ؟ ثمّ كيفَ يبْلُغُكِ كلُّ هذا وتَبْقَى مشاعرُكِ تُجاهي على حالها؟ أتساءلُ إنْ كنتِ بعْدَ كلِّ الذي بلَغَكِ عنّي مازلْتِ ترْغبينَ في رؤْيتي. لاَشكَّ أنَّ نفْسَكِ ترْفُضُني، بلْ وتمْقُتُني. أنتِ تتظاهرين ببقايا مشاعرَ إيجابيةٍ تُجاهي. لكنَّ الحقيقةَ هيَ النُّفورُ المقيتُ.
- لَدَيَّ صديقاتٌ في تلك المدينة يعْرِفْنَكَ ويعْرِفْنَ تلكَ المرأةَ. إحْداهنَّ، وهي تعْملُ مع صديقتِكَ الجديدةِ، تطلبني دائما بالهاتف أو على مسنجر. ومنذ مدّة، لمْ تتوقّفْ عنْ مدّي بالأخْبارِ التي تعْرفُ أنني بحاجةٍ إليها فيما يخُصُّ علاقتَكَ بالصديقةِ المُبجَّلَةِ. وقدْ قالتْ لي بأنّكَ حدّثْتَها عنْ رغْبَتِكَ، لكنّها بقِيتْ متردّدةً ولمْ تُعْطِكَ إجابَةً واضحةً وصريحةً لأنّها مُلْتزمةٌ معَ شخْصٍ آخَرَ.
- هذا كلامٌ لاَ أساسَ له من الصّحّةِ. وصديقتُكِ التي تتحدَّثينَ عنْها تُريدُ أنْ تتودَّدَ لكِ بأخْبارٍ كاذبةٍ. لاَشكَّ أنّها تريدُ أنْ تطْلُبَ منكِ خدْمَةً معيَّنةً، لذلكَ تظاهرتْ بأنّها تقدّمُ لكِ أخْبارًا تهُمُّكِ. إذا كنتِ تَنْوينَ تَصْديقَ كُلَّ مَنْ يُريدُ أنْ يزْرَعَ القطيعَةَ بيْننا، فسوْفَ تنْقطعُ الدّروبُ بيْننا، ونغْدو غريبيْنِ عنْ بعْضنا بعْضٍ. وتذهبُ كلُّ تلْكَ المشاعِرِ الجميلةِ أدْراجَ الرّياحِ.
- أوَدُّ أنْ لاَ أصدِّقَ ما قالتهُ لي صديقتي. لكنّكَ لاَ تريدُ أنْ تَرْوي لي بصدْقٍ ما حدثَ بيْنكَ وبين تلْكَ المرأةِ. هلْ حقًّا تريدُ أنْ ترتبطَ بها؟
- لماذا لا تصدّقينَ أنّ العلاقةَ التي تجمعُني بتلك المرأةِ مجرَّدُ صداقةٍ افتراضيّةٍ لاَ شأْنَ لها بِمَا تتحدّثينَ عنْهُ.
- لاَ أُصدِّقُ لأنَّكَ لا تقولُ الحقيقةَ ولأَنَّ كلَّ ما قُلْتُماهُ بالكتابةِ على مسنجر اطَّلعْتُ عليْهِ حرْفيًّا وأعْرِفُ أنّكُمَا تحدّثْتُما في مواضيعَ ذاتيّةٍ جدًّا.
- أعْرفُ أنَّكِ تدْخُلينَ صفْحتي على فيسبوك متى شئتِ لأنَّكِ تعْرفينَ كلمةَ السِّرِّ التي أسْتعْمِلُها، وتطّلعينَ على كلِّ ما أدوّنُهُ وما يَرِدُ علَيَّ من الأصدقاءِ الافتراضيينَ والحقيقيينَ. ولكن هذا لا يقلقني لأنني لا أُخْفي عَليْكِ شيْئًا وليْسَتْ لدَيَّ أسْرارٌ بالنّسبةِ إليْكِ. فأنتِ المرْأَةُ التي أوْدعْتُها قلبي. ولا يُمكِنُني أنْ أُودِعَ قلْبِي لدى امرأةٍ أخْفي عليْها أسْرارًا بشأْنِ علاقةٍ مُبْهَمةٍ بامرأةٍ أخْرى.
- أُؤَكِّدُ لكَ أنّني لا أعْرفُ كلمةَ السِّرِّ التي تسْتعْملُها لتدْخُلَ صفْحَتَكَ على فيسبوك ولكنْ لَدَيَّ مصادرُ أخْرى ذكرْتُ لكَ بعْضَهَا. وبالنّسبةِ إلى علاقتِكَ بتلْكَ المرأةِ، فقدْ وجدْتُ المعْلومةَ على فيسبوك: "فُلانٌ وفُلانةُ أصْبَحا صديقيْنِ." وبما أنّكَ حدّثْتني مرّةً عن صديقك الذي عَرَضَ عليْكَ فكْرَةَ الارتباطِ بها، ذهبتْ بي الظُّنونُ بعيدًا.
- هَا قدْ قُلْتِها بنفْسِكِ. إنَّها مُجرّدُ ظنونٍ منْ صُنْعِ خيالِكِ المُلْتاعِ بفِراقنَا جرّاءَ خصامٍ دامَ شُهُورًا. ألمْ نَكْتَوِ بنارِ البُعْدِ دونَ سببٍ حقيقيٍّ؟ كُلُّ خُصُوماتِنَا كانتْ لأسْبابٍ تافهةٍ. وكانَ يُمْكنُ تفاديها، لأنَّ الرّوابطَ التي تجْمعُنا أقْوى منْها جميعًا. وها هُوَ الحنينُ يبدِدُ الغُيُومَ السّوْداءَ التي تتجمّعُ منْ حينٍ إلى حينٍ في سَمَائِنَا العامرةِ بالأحلامِ والألوانِ الجميلةِ وتتجوّلُ فيها غيْماتٌ بيْضاءُ تنْشُرُ الفَرَحَ في قلْبيْنا.
- إذا كنتَ تريدُ فعْلاً أنْ نُنْهِيَ هذا الموضوعَ، أرِنِي ما كتبْتُما على مسنجر.
- لقدْ فَسَخْتُ كُلَّ شيْءٍ لأنَّ ما كتبْناهُ كانَ مُجرّدَ كلماتِ تعارُفٍ.
- أرأيْتَ؟ هذا دليلٌ على أنَّ ظُنُونِي في محَلِّهَا، والكلامَ الذي قالتْهُ لي صديقتي صحيحٌ. وإِلاَّ لماذا تفْسخُ الكلامَ الذي كتبْتُماهُ؟
- هلْ تسْتطيعينَ أنْ تُوَضِّحِي لي الطريقَةَ التي تُمكِّنُنِي مِنْ إقْناعِكِ بأنَّ الأفْكارَ التي تدورُ في رأسِكِ ظُنُونٌ وضَرْبُ خيالٍ وأنّ الواقعَ هُوَ ارتباطي الشديدُ بكِ، والشَّوْقُ الذي يُضْنيني وأنتِ بعيدةٌ عنّي، وفرْحَتِي التي أشعُرُ أنَّها تَمْلأُ الدُّنيا وأنتِ بجانبي.
- هلْ تتصوّرُني قادرةً على الاطْمِئْنانِ إليكَ بعْدَ الآنَ وقدْ تبَيّنَ أنّكَ تتلاعَبُ بمشاعري وتُعامِلُني كأنّني مُغفَّلَةٌ لاَ أفْهَمُ ما يدورُ حَوْلِي. وأنتَ ترْبِطُ العلاقاتِ كَمَا تُحدّثُكَ نفْسُكَ العَطْشَى لِمُخالَطَةِ النّساءِ.
- لاَ تهوِّلي الأشْياءَ البسيطةَ وفكِّري في المشاعرِ الإيجابيّةِ التي تجْمعُنا والتي قدْ تُفْسِدُها الشُّكُوكُ المُبَالَغُ فيها والتي لا تسْتندُ إلى مُعْطياتٍ موْضوعيَّةٍ.
- أنا لاَ أهوِّلُ، ولكن يبْدُو أنّني أخْطأْتُ عنْدما اسْتسْلمْتُ لِوِجْداني الذي عرَفْتَ كيْفَ تسْتغلُّهُ مثلما فعلْتَ معَ أخْرياتٍ مُغفَّلاتٍ مثلي، وآخِرُهُنَّ صديقتُكَ الجديدةُ التي فسخْتَ حتّى الأثرَ الكتابيَّ بيْنكَ وبيْنَها كَيْ لاَ أعْرفَ شيْئًا عن العلاقةِ التي تربِطُ بيْنكُمَا.
- ألاَ تلاحِظينَ أنّكِ أتْعبْتِني كثيرًا بالشُّكوكِ والأسْئلةِ وأنّكِ تُبدّدينَ فرْحتَنا بلقاءٍ انتظرناهُ طويلاً وخطّطْنا لهُ أيّامًا إلى أنْ غَدَا حُلْمًا يرْقُصُ في قلْبيْنا المحْروميْنِ اللَّذيْنِ يُكابِدَانِ الوَحْدَةَ والشُّعُورَ بالغرْبةِ وانْكِسارَ النّفْسِ.
- أنا أيْضًا تعِبْتُ ولاَ أعْتقدُ أنّني قادرةٌ على المُواصلةِ. الأَفْضلُ لي أنْ أُخْمِدَ أوْجاعي بيْنَ ضلوعي، مِنْ أَنْ أراكَ تَعْبثُ بمشاعري وتدَّعي أنَّ ما تفْعلُهُ لاَ يخْرُجُ عنْ دائرةِ المُمَارساتِ العاديّةِ.
- إنّكِ تُخْطئينَ في حقّي. وَلوْ نظرْتِ في أعْماقِكِ لتبَيَّنْتِ أنّني لاَ يُمْكنُ أنْ أبْنِيَ علاقةً عاطفيّةً معَ امرأةٍ سواكِ لأنَّ المشاعِرَ التي ترْبِطني بكِ كبيرةٌ ولاَ يُمْكِنُ أنْ تترُكَ المجالَ لعاطفةٍ سِواها.
- لاَ أفْهمُ لماذا تتمادى في المُراوغةِ ولاَ تريدُ أنْ تُحدّثَني بصدْقٍ. ولوْ فعلْتَ لأرَحْتَ نفْسَكَ وأرَحْتَنِي.
- بلْ إنّني صادقٌ معَكِ رغم إصْرارِكِ على تكِذيبي. وأنا مُسْتاءٌ منكِ شديدَ الاسْتِياءِ لأنّكِ تتْرُكينَ فرْحتَنا باللقاءِ، وتتعلّقينَ بشُكوكٍ لاَ تسْتندُ إلى أُسُسٍ موْضوعيَّةٍ.
- كفاكَ مراوَغَةً وحدّثْني بصدْقٍ. لقدْ أتعبْتَني.
- أنا أيْضًا تعبْتُ. أتْعبني موْقِفُكِ المُتَصلِّبُ. لاَ أريدُ أنْ اُواصلَ التَّحاوُرَ معكِ في هذا الموضوعِ. لماذا كلُّ هذا التّصلُّبِ؟ هلْ أنا مُطالَبٌ بتبْريرِ كُلِّ حركةٍ أقومُ بها؟ أنا لا أفْعلُ أبدًا ما يشِينُنِي لأنَّ مَكانَتي في المُجتمَعِ لا تسْمَحُ لي بإتْيانِ أفْعالٍ مُشِينَةٍ.
--------------------------------
رغمَ أنّكُما صرْتُما تتخاصمانِ كثيرًا، ويتواصلُ الانْقِطاعُ في كلِّ مرّةٍ مُدّةً طويلةً، كانتْ في البدايةِ، أيْ منذُ سنواتٍ، لاَ تتجاوزُ أسبوعًا، لكنَّها وصلَتْ آخِرَ مرّةٍ إلى سَبْعةِ شهورٍ، فَإِنَّ صدْقَ المشاعرِ التي ترْبِطُ كِليْكُما بالآخرِ، ونُبْلَها، تجْعلُكُما، تتصالحانِ بعْدَ كلِّ خصامٍ، حتَّى لوْ دامَ مدَّةً طويلةً. يبْدُو أنّكما مُتَعلِّقيْنِ كثيرًا ببعْضِكُما بعْضٍ، وأنَّ الحياةَ لمْ تعُدْ تسْتقيمُ لأَحَدِكُما دونَ الآخَرِ. شُعُورٌ جميلٌ رَبَطَ بيْنَكُما منذُ سنواتٍ، ولمْ يعُدْ بإمكانِ أيٍّ منكما أنْ يحِيدَ عنْهُ. تعَوَّدَ كُلٌّ منْكما بالآخَرِ حتّى أصبحَ الآخرُ أساسيًّا في حياتهِ. وعندما تنْشاُ القطيعةُ بيْنكُما، يبْكي كِلاكُما في عُزْلتِهِ، وتَصْمُتُ كلُّ الأغاني الجميلةُ التي كانَ يسْمعُها في وجْدانهِ، وتنْطفِئُ كلُّ الشموعِ التي كانتْ تحْتفِلُ بأيّامه، وتتلاشى كلُّ الألوانِ الجميلة التي كانت تُزيِّنُ محيطَهُ، وتنْتشرُ الكآبَةُ في دُنْياهُ، ويَشْعُرُ بالضّجرِ في كُلِّ أوْقاتِهِ وبالمرارةِ في كلِّ الأحداثِ التي تجْري مِنْ حَوْلِهِ.

أنتَ الآنَ مُكْتئِبٌ أكثَرَ منْ المرّاتِ السابِقَةِ التي انْقطعَ فيها التّواصُلُ بيْنكُما. يُخيَّلُ إليْكَ أنَّ القطيعَةَ هذه المرّةَ بدونِ عوْدةٍ ويُؤْلِمُكَ أنّكُما تتفارَقانِ قبْلَ أنْ ينْطَفِئَ شوْقُ الانْقطاعِ السّابقِ. تتساءلُ في صمْتٍ كيفَ ستسْتطيعُ في كلِّ مرَّةٍ تَرْضِيَةَ هذه المرأةِ التي لاَ تَسْتطيعُ الاسْتغْناءَ عنْ وجودِها في حياتِكَ. يُخيَّلُ إليكَ أحْيانًا أنّها هي مَنْ يجْعَلُكَ تتنفَّسُ جيّدًا، وتَرى بعيْنيْكَ جيّدًا، وتتكلَّمُ بطلاقَةٍ، ولديْكَ أفْكارٌ تريدُ أنْ تُعبّرَ عنْها، وترْغبُ في الخروجِ من المنزلِ لقضاءِ شؤونِكَ في الخارِجِ، وتحِبُّ أشْياءَ وتكْرَهُ أخْرى. تُفكّرُ فيها كثيرً، وتُعْجِبُكَ صُورَتُها، وتأْسَفُ كثيرًا لأنّكَ لمْ تسْتطعْ المُحافظَةَ عليها. هلْ تعْتقدُ الآنَ أنّهُ كانَ بإمْكانكَ تَرْضِيَتَها ولم تفْعلْ؟ وهلْ كانَ يُمْكِنُ أنْ تتوخَّى أسْلوبًا آخَرَ قدْ يُبدِّدُ الشُّكوكَ التي في نفْسِها، خاصّةً تُجاهَ تلْكَ المرأةِ؟ ألاَ تعْتقدُ أنَّ موْقفَها كانَ شديدَ التّصلُّبِ عندما تعلَّقَ الأمْرُ بتلْكَ المرأةِ بالذّاتِ، لأنّكَ أنتَ نفْسُكَ مَنْ حدَّثَهَا عن اقتراح صديقِكَ الزّواجَ بها، ووَصَفَها بأنّها امرأةٌ مُثَقّفةٌ وتليقُ بِكَ منْ حيْثُ العُمُرِ والوضْعِ المادّيِّ؟ الأمْرُ بيِّنٌ إذَنْ، وينْبغي أنْ تتفهّمَ موْقفَها المُتصلّبَ. هذا مؤَشِّرٌ على تعلُّقها الشّديدِ بِكَ، حتّى وإنْ كانَ هذا التّعلُّقُ قاسِيًا عليْكَ. اُنْظُرْ داخِلَ نفْسِكَ وستَتَبيَّنُ أنّكَ مُغْتبطٌ بحُبِّها لكَ. ستجدُ أنّكَ مُتأكِّدٌ مِنْ مشاعِرِها العذْبةِ تُجاهكَ. أليْسَ هذا ما يجْعلُكَ مُطمئنًّا حتّى في أحْلَكِ الحالاتِ التي تكونُ فيها بعيدًا عنها، ويشْتدُّ شوقُكَ إليها، وتشْعُرُ بأنَّ الدُّنْيا تَظْلِمُكَ إذْ تُفرِّقُ بيْنكما، والحالُ أنّ كِلَيْكُما في حاجةٍ ماسَّةٍ إلى الآخَرِ؟

عندما لَمعَتْ صورةُ فُتُونَ، التي ما زلْتُ لاَ أعْرِفُها، في خاطري، انْتفَضَ قلْبِي، ورأيْتُ فيها بارقًا من الأملِ الذي سيشْغلُني قليلاً عن التّفْكيرِ في المرأةِ التي تعلَّقَ بها وجْداني. تسرّبَت البهجةُ إلى نفْسي وعادتْ لي صُوَري القديمةُ التي تَبْدُو فيها فُتُونُ وجْهًا آخَرَ للمرأةِ التي أحبُّ. صحيحٌ أنَّ فُتُونَ ما زالتْ امرأةً غامضةً في ذهني، رغْمَ أنني تحدّثْتُ معها مِرَارًا بالكتابة على مسنجر، لكنْ يوجدُ شيْءٌ في داخلي يجْعلني أطْمئنُّ إليها، وأشْعُرُ بنفْسِ الرّاحةِ التي تغْمُرُني عندما أتكلّمُ معَ امرأتي الأصليّةِ. أحْسسْتُ أنَّ فُتُونَ يُمْكنُ أنْ تُبدِّدَ بكلامِها العَطِرِ أحْزاني التي تُحاصرُني وتتراكَمُ في نفْسي. تصَوَّرْتُ ابْتسامتَها شبيهَةَ بابْتسامةِ حمامتي البيْضاءَ التي تركتْني لِغُرْبتي وضياعي وتوارتْ في مدينتِها، وانْصرفتْ إلى حياتها وعملِها، مُتظاهرةً أنّها لاَ تفكِّرُ في القلْبِ الذي تركتْهُ وراءَهَا يخْفِقُ لأجْلِهَا. تصوَّرْتُ نظْرتَها الدّافئةَ إليَّ، وشعْرَها النّاعمَ الرّقيقَ الملْمَسِ ووجهَهَا الأليفَ الذي يذكّرُني برُبوعٍ تعلَّقْتُ بها منذ الصِّغَرِ. تصوَّرْتُ كلَّ شيْءٍ فيها كما أعْرفُهُ لَدَى امْرأتي الغائبةِ.
--------------------------------
كتبْتُ بِلَوْعَتِي لِفُتُونَ على مسنجر أشْكُو لها حالي معَ المرأةِ التي أحبُّ وأُبْلِغُهَا أنّها أغْلقتْ رقْمَ هاتفي لتمنعني من الاتّصال بها. كنتُ في قرارةِ نفسي أريدُ أنْ تَلِينَ مشاعرُها تجاهي لأنني أعْتقدُ أنّهما شخْصٌ واحدٌ. وحتّى إنْ لمْ تكونَا كذلك، فَهُما صديقتَيْنِ حميمتيْنِ. وفي الحالةِ الثانية، سوْفَ تتدخّلُ فُتُونُ بيْننا بالحُسْنى لتُزيلَ الخلافَ. فهيَ رقيقةٌ في أسْلوبِها ومُقرَّبَةٌ جدًّا من امرأتي، ولدَيْها عاطفةٌ تُجَاهِي. وسوْفَ تتأثَّرُ لِحالَتي وتُقْنعُ صديقتَها بأنني متعلّقٌ بها كثيرًا ولا يُمكنُ أبدًا أنْ أُفكِّرَ في ربْطِ علاقةٍ عاطفيّةٍ بغيْرِها.
"مساء الخير عزيزتي فُتُونُ. هل تعتقدين أن غلْقَ رقْمِ هاتفِ الشَّخْصِ العزيزِ عليكِ يُمْكِنُ أن يحُلَّ الخلافاتِ؟ أليس أكْثرُ حِكْمةً وَأمانًا أنْ يترُكَ الطَّرَفَانِ الطريقَ مفتوحًا لتسهيل العودةِ إلى الْمَلْجَإِ الآمِنِ. ألا تعتقدين أنَّ الغيومَ الدَّاكنةَ ليستْ مُخيفةً عندما يكونُ لَدَيْنَا مَلْجَأٌ دافئٌ يُرَحِّبُ بِنَا وَيُمْكِنُنَا داخِلَهُ التفكيرُ في الطبيعةِ والإعجابُ بها في حالاتِها المختلفةِ؟ أردْتُ الاتِّصالَ بصديقتِكِ ثلاثَ مرّاتٍ. للأسفِ لا تَتِمُّ المكالماتُ لأنَّها أغْلقَتْ رَقْمِي. حَسَارةٌ. لن أتَّصِلَ بها مرَّةً أخرى."

انتظرْتُ إجابةَ فُتُونَ مباشرةً بعْدَ خرُوجِ إرْساليّتي كَمَا كانتْ تفْعَلُ في السابقِ. انتظرتُها بعْدَ دقائقَ، ثمَّ بعْدَ ساعةٍ، ثمَّ بعْدَ ساعتيْنِ. وكانَ شوقي في ازدِيادٍ. أريدُ أنْ أعْرفَ موْقفَها من المسْألةِ. أريدُ أنْ أعْرفَ مدى تفاعُلِها معي، واللّومَ الذي ستُوجّهُهُ لصديقتِها. لمْ أكنْ أعْلَمُ أنّني سأتلهّفُ لأجابتِها بذلكَ الشّكلِ. كانَ أحْيانًا يُخيَّلُ إليَّ أنني أنتظرُ إجابةَ المرأةِ التي أحبُّ، امرأتي الأصْليّةِ. توقَّفْتُ عنْ كلِّ شيْءٍ وأصْبحْتُ لا أرى إلاّ مسنجر، ولا أفْعَلُ شيْئًا سوى انتظارِ إجابتِها. "هيّا أجيبي يا فُتونُ، إنّني أنتظرُكِ. لماذا تُبْطئينَ بالإجابةِ؟ تعْلمينَ أنّني أنْتظرُ كلماتٍ منكِ لِتهْدأَ نفْسي قليلاً. أنا الآنَ قلقٌ جدٌّا يا فُتُونُ. وبدَلاً مِنْ أنْ تُجيبيني لأعْرفَ رأْيَكِ في المسْألةِ وأطْمئنَّ لأنني متأكِّدٌ أنّكِ ستجدينَ الحلَّ المُناسبَ الذي سوْفَ يُسْعدُني، أراكِ تتلكَّئينَ في الإجابةِ، فيَزْدادُ شقائي وأشْعُرُ بِغُبْنٍ يجْثُمُ في نفْسي المُتْعَبَةِ بطبْعِها.

انتظرْتُ كامل اليومِ دونَ جدْوى. لمْ أفْهمْ لماذا لا تُجيبني فتونُ وهي التي كانتْ رقيقةً معي في إرْسالياتها الماضيةِ. وهي التي افتتحتْ العلاقةَ الافتراضيةَ بيْننا عندما طلبتْ صداقتي على فيسبوك. تسرّبَ إلى عَقْلي الشَّكُّ في أنْ تكونَ لمْ تطَّلِعْ على محتوى الإرْساليَّةِ. أقْنعْتُ نفْسي بأنّها قدْ تكونُ مشْغولةً في عملٍ منزليٍّ ولا تهْتمُّ بمسنجر وفيسبوك. انتظرْتُ اليومَ المواليَ ثمَّ اليومَ الّذي يليهِ، إلى أنْ يئسْتُ وتأكّدْتُ أنَّ فتونَ أيضًا لاَ تُريدُ أنْ تُجيبني. أحْسسْتُ بمرارةٍ تسْتَوْلِي عليَّ، وتتسرَّبُ إلى كلِّ الأماكِنِ التي أتحرَّكُ فيها، وتنْتشرُ في المدينةِ الموْبُوءَةِ بطبْعها. كنتُ سأُطْرِدُ شبَحَ الوباءِ بالحديثِ معَكِ يا فُتونُ. لكنني الآنَ أشعُرُ أنَّ الوباءَ في كلِّ مكانٍ. كنتُ سأسْتمِدُّ منْكِ القوّةَ لمواصلةِ الحياةِ دونَ خوفٍ في مدينةٍ يلْتهمها الوباءُ ويموتُ فيها أناسٌ كثيرونَ أعْرفُ عددًا منهم. أقولُ لكِ هذا لأنني ما زلْتُ أعْتقدُ في قرارةِ نفْسي أنّكِ الوجْهُ الثاني لِحمامتي البَيْضاءِ.

وَباءُ الكوفيد-19 ينْتشرُ في البلادِ انتشارًا مخيفًا. وأنا أخْرُجُ إلى المدينةِ فأرى الوُجُوهَ مُغْلَقَةً بالكَمّاماتِ. وأرى الأفواهَ تتكلّمُ منْ وراءِ تلْكَ الأقْنعةِ كأنّها تخْشى أنْ تتعرّى فيتسلّلَ إليها الوَباءُ المُروِّعُ. الكمّاماتُ صارتْ مثلَ أبْوابٍ مُوصَدَةٍ تمْنعُ التّلاقي الحميميَّ الدّافِئَ وتجعلُ الأصْدقاءَ يتلاقوْنَ كالغُرباءِ، ولا أحَدَ يَجْرُؤُ حتّى على مُصافحةِ صديقهِ الذي لمْ يَرَهُ منذُ مدّةٍ. إنّهُ زمنُ التّقَوْقُعِ على الذَّاتِ، وزمنُ العزْلَةِ يا فُتونُ. وها أنا أكْتوي بنارِ العُزْلةِ ولاَ أجدُكِ حتّى أنتِ تسْمعينَ شكْوايَ. أفكّرُ في امرأتي الحبيبةِ وأفكّرُ فيكِ. وكلّمَا فكّرْتُ في إحْداكُما تذكّرْتُ الأخْرى لأنّني أرى فيكُما نفْسَ المرْأةِ أوْ وَجْهيْنِ لامرأةٍ واحدةٍ. المُهِمُّ أنّني مشْغولٌ عليْكُما في هذهِ المُدُنِ المَوْبوءَةِ التي تلاشت أفْراحُها وسكنتْها الأحْزانُ. اُنْظري في وجوه النّاسِ إن استطعْتِ، لأنَّ الكماتِ تحْجُبُها في أغْلبِ الأحْيانِ. اُنظري إلى مشْيتِهِمْ المتثاقلةِ وإلى قاماتهمْ المُتهدّلَةِ، وإلى تفاعُلاتِهِمْ المُنعدِمةِ أو القليلةِ، ستُلاحظينَ الفقْرَ المُتنامي في المدينةِ وتلاحظينَ الحرْمانَ الظّاهرَ في قلّةِ المُشْترياتِ. يُحْزنُني أنْ أرى أناسًا يَمُرّونَ بالقربِ من صناديقَ غلالٍ أو مجْزرةٍ ولا يسْتَطيعُون الشّراءَ ليُفْرِحَوا أبناءَهُم وزوجاتِهِمْ. يُحْزنُني أنْ يسْتَقبِلَ النّاسُ الإفْطارَ في شهرِ رمضانَ وليسَ على موائدِهِمْ إلاَّ طعامٌ قليلٌ بيْنما تظلُّ شَهَوَاتُهم طيلةَ الشّهرِ مُعلَّقَةً تنْتَظِرُ فَرَجًا يبْدو أنّهُ لنْ يَجيءَ. الشيْءُ الوحيدُ الذي أصْبحت الحكومةُ قادرةً عليْهِ بعْدَ أنْ تنامى الفقْرُ على يديْها نتيجةَ التّدْبيرِ السّيّءِ لشؤونِ البلادِ منذُ أكثرَ من عشْرِ سنواتٍ هو اتّخاذُ إجْراءاتٍ لمُقاومةِ انتشارِ وباءِ الكوفيد-19. وتتجدّدُ هذه الإجراءات في كلِّ فترةٍ حسبَ تطوُّراتِ الوضْعِ الوبائيِّ في البلاد.

أعْلنتْ الحكومةُ اليومَ، نظَرًا للانتشارِ الخطير للوباء بالبلاد، جملة من الإجراءات من بينها غلْقُ المدارسِ والمعاهدِ مُدّةَ أسبوعيْنِ، بعْدَ أنْ كانَ نظامُ الفوْجيْنِ في القسمِ الواحدِ، المُطبّقُ منذُ بداية السنة الدّراسية التي خَيَّمَ عليها شبحُ وباءِ الكوفيد-19، لا يسْمحُ بالدّراسةِ إلاَّ نصْفَ الوقْتِ الأسبوعيِّ للتلميذِ الواحدِ. وبِمِثْلِ هذهِ القراراتِ، تَنَاسَخَ الوَبَاءُ وأصبحَ متعدِّدَ الأشْكالِ. فقدْ تفشّى في بلادي فيروسُ الكورونا. وتراجَعَ دَوْرُ المدْرسةِ، وخاصّةً العموميّةِ، لِيزْدَادَ الإقْبالُ على الجهلِ، بِدَعْوى الخوْفِ على الأبْناءِ. وازدادَ انتشارُ الفقْرِ بعْدَ أنْ فقَدَ عديدُ العُمَّالِ عمَلَهم. وضَاقَتْ دوائِرُ الحُرّياتِ الشّخْصيّةِ إلى درجةِ الاخْتناقِ. وأصْبحت المدينةُ قَفَصًا، والمنزلُ قفَصًا، ومكان العملِ قفَصًا، والانسانُ كعُصْفورٍ صغيرٍ عليهِ أنْ يقْبَلَ عيْشَ القَفَصِ. ومن الإجراءاتِ أيْضًا مواصلةُ الدراسةِ عن بُعْدٍ في مؤسّساتِ التعليم العالي ومنْعُ الجولانِ من الساعة السابعة ليلاً إلى الخامسةِ صباحًا وجملةً من الضّغوطاتِ الأخْرى التي تُشْعِرُ الانْسانَ بأنّهُ في قفَصٍ، يزْدادُ ضيقًا كُلّما ازدادَ تطوُّرُ الوباءِ وتنامَى الفقْرُ في البلادِ.

أنا في حاجةٍ إليكِ يا فُتُونُ. أريدُ أنْ أخْرُجَ من القفَصِ الذي يمْنعُني من أنْ أطيرَ إليْكِ. أودُّ منْ خلالِكِ أنْ أتوجّهَ إلى المرأةِ التي تركتْني في هذه المدينةِ الموْبوءَةِ ولمْ تَلْتَفتْ وراءَها لِتَرَى ماذا جرى بعْدَها. ألاَ يُمْكنُ أنْ أكونَ منْ بيْنِ الذينَ أصابهم الوباءُ؟ منْ يدري؟ لعلّني مَرِضْتُ ونُقلْتُ إلى المسْتشفى. يُمْكنُ حتّى أنْ أكونَ قدْ مِتُّ. هيَ لا تعْلَمُ شيْئًا على كلِّ حالٍ. قدْ يكونُ لا يهُمُّها. وقدْ تكونُ ما زالتْ مجْروحةَ الخاطِرِ ويَمْنَعُها كبْرياؤُها منْ أنْ تسْأَلَ عنْ أحْوالي. أنا متأكِّدٌ أنّها قلقَةٌ عليَّ. لكن في نفْسِ الوقْتِ تنْهشُها الشّكوكُ. وقد اشْتعلتْ نارُها منذُ أنْ حدّثتْها صديقتُها عنْ علاقتي بِرَحْمَةَ. وتضاعفت الشكوكُ لديْها عندما تذكّرتْ أنَّ تلكَ المرأةَ هيَ نفْسُها التي اقترحها عَلَيَّ أحَدُ الأصدقاءِ للزواجِ مُعْتبرًا إيّاها تُناسبُني في العُمُرِ وفي الحالةِ المدنيّةِ والمادّيّةِ.

أريدُ أنْ أطيرَ إليها يا فُتُونُ، كالعُصْفورِ الذي يخْرُجُ من القفَصِ ويشْعُرُ بعْدَ سجْنِهِ الطّويلِ أنَّ جناحيْهِ ما زالاَ قادِرَيْنِ على التّحْليقِ عاليًا في السّماءِ للذّهابِ إلى حيْثُ تشْتهي نفْسُهُ الظَّمْأى إلى الدُّنيا. أريدُ أنْ ألْقاها ونجْلسَ جنبًا إلى جنْبٍ، ويتّكئَ كِلاَنَا برأْسِهِ على الآخَر. نفْسي تشْتاقُ إلى وُجودِها بِجانبي لِأمْلأَ وجْداني بِتَفاصيلِها العذْبَةِ التي أشْعُرُ أنّها تَنْقُصٌني الآن. كُنّا عنْدما نكونُ مَعًا، نشربَ القهْوةَ التي أعدَّتْها بنفْسها، بيديْها البيْضاوَيْنِ النّاعمتيْنِ، ونسْتمتعَ بالغلالِ وسَلاَطاتِ الغلالِ المُتنوّعةِ حسب الفُصُولِ، وبالأكْلاتِ التي تتفنّنُ في إعْدادها، وأساعِدُها بِغَسْلِ الصُّحونِ والمطْبَخِ. وبعْدَ حِينٍ، نقْرأُ مقالاتٍ على الحاسوبِ المَفْتُوحِ أمامنا، ونتصفّحُ فيسبوك ومسنجر، وتقرأُ هِيَ تدويناتِ بعْضِ زملائها، وقدْ نشاهدُ بعْضَ الفيديوهاتِ أو الأفلامِ التي يعْرفُها أحدُنا على ناتفليكس، ونسْتمعُ على يوتيوب إلى الأغاني التي نُحبُّها معًا، عربيةً كانتْ أمْ غرْبيَّةً، وغالبًا ما تكونُ لِهاني شاكر أو إليسا أو فضل شاكر أو عبد الحليم حافظ، أو وردة أو فايزة أحمد، أو البلجيكيّةِ لاَرَا فابيان، أو الكَنَدِيِّ جَارُو أو البريطانية آدال أو الأمريكيِّ-الفرنْسيِّ دجو داسّان أوالعازِفِ التُّركيِّ على آلة السَّاكْسُوفُون هُوسْنُو أَوآخَرينَ.

هلْ أحدّثُكِ يا فتُونُ عن الأغنيةِ التي أرْسلَتْها لي في المدّة الأخيرة، قبْلَ أنْ نتخاصَمَ؟ إنّها أغنية الفنّان الكندي جَارُو الذي أحبُّهُ كثيرًا واسْمُها "لاَ أنْتظِرُ إلاَّ أنتَ" باللغة الفرنْسيّةِ. اسْتمعْتُ لها مرّاتٍ. وفي كلِّ مرّةٍ أزدادُ تعَلُّقًا بها. تعْجبُني كثيرًا لأنّها رائعةٌ فعْلاً، وكذلك لأنَّها من اخْتِيارِ المرأةِ التي أكْتوي بِهَوَاهَا. أشْعُرُ أيْضًا وأنا أسْتمعُ إليها بنشوةٍ أخْرى يبْدُو أنَّ مصْدَرَها إحْساسي بأنّني أحبُّ امْرأةً ذاتَ ذوْقٍ رفيعٍ ومثقّفةً، تعْرفُ أغانيَ منْ عدّةِ جنْسيّاتٍ، وذاتَ قيمةٍ فنّيَّةٍ ثابتةٍ. في نفْسِ الفتْرةِ، أرْسلْتُ إليها أنا بدوري أغْنيتينِ أُحِبُّهما كثيرًا، واسْتمعْتُ إليهما عدَّةَ مرّاتٍ في تلْكَ المدّةِ، لأنّهما حزينَتَانِ. وأنا يَميلُ طبْعي إلى الحُزْنِ حتّى عندما أكونُ مُتصالحًا معها، لأنّها دائمًا بعيدةٌ عنّي، تسْكُنُ في مدينتها البعيدةِ، ومُنْصرفَةٌ إلى عمَلِها وحياتها العائليّةِ. ولا نتقابَلُ إلاَّ نادِرًا عنْدما يسْتبِدُّ بِنَا الشّوْقُ ونُخطِّطُ طويلاً للتّلاقي. الأغْنيتانِ اللّتانِ أرْسلْتُهُما إليْها وأعْجباها كثيرًا للشيخ إمام وَهُمَا "مَرُّوأ المَرَاكب مع المغْرب وفاتوني" في نسختِها الكاملةِ وأغنيةُ "يا بحر قول للسمك". نحْنُ هكذا دائمًا عندما نكونُ متصالحيْنِ. نتبادلُ الأغاني والكتُبَ، ونشرَبُ القهْوةَ، ونفْرحُ، ونتحدّثُ في السياسةِ والأدبِ والفنِّ والعُلومِ الانْسانيّةِ والحُبِّ ونظريَّاتِهِ، ونشاهدُ الأفْلامَ، ونضْحكُ.
-------------------------------
طالَ انتظاري لإجابةِ فُتُونَ وتبيَّنَ لي أنّني أحدّثُ في خيَالي امرأةً لاَ ترْغبُ في الحديثِ مَعِي، وأنَّني أُبالِغُ عندما أحْكِي لها عنِ المرأةِ التي أحبُّها، لأنّها قدْ تكونُ لاَ تَرْغَبُ في ذلك. بلْ لَعَلَّها تسْتغْرِبُ ذلكَ وتعْتَبرُهُ طريقةً عقيمةً لكَسْبِ وِدِّها هِيَ. لَكِنَّ مشكلتي معَهَا أنّها تُذكِّرُني دائمًا بوجْهٍ أحبُّهُ وأرى فيها، رغْمَ أنني لمْ أرَها أبدًا، صورةً أخْرى لامرأتي اليانعةِ.

بعْدَ أن استقرَّ في صدْري اليأْسُ منْ إجابةِ فُتُونَ، كتبْتُ إليْها إرْساليّةً أخْرى أَلُومُها فيها لأنّها خيَّبَتْ ظنّي.
"ما كنتُ أحْسَبُ يا فُتُونُ أنّكِ ستخْذِلينَنِي وتقِفِينَ إلى جانبِ صديقتِكِ ضدّي. كنتُ مُخْطِئًا عنْدما تخيّلْتُ أنّكِ ستكونينَ إلى جانبي وتأخُذينَ بِيَدِي وتتدخَّلينَ لدى صديقتِكِ لتَعُودَ إلَيَّ لأنّني مُشْتاقٌ إليْها."
بقيتُ أنتظرُ كَمَا في السّابِقِ. انتظرْتُ بعْدَ خروجِ الإرْسالية مباشرةً، ثُمَّ بعْدَ ذلكَ بقليلٍ، ثمَّ بعْدَ نصفِ ساعةٍ، ثمَّ بعْدَ ساعةٍ، وبعْدَ ساعتيْنِ، وطيلةَ اليوْمِ واليوْمِ المُوالي والذي بعْدهُ... ويَئِسْتُ مرّةً أخرى. أحْسسْتُ مجدّدًا بموْجةٍ منَ المرارةِ تكتنفُني. وشعُرْتُ بضَحَالتِي. وَجَّهْتُ لنفْسي تُهَمًا عديدةً تُؤَكِّدُ نَدَمي على الإفْراطِ في البَوْحِ إلى فُتُونَ رغْمَ أنّني لاَ أعْرِفُ حتّى صُورتَها الحقيقيَّةَ. ندِمْتُ كثيرًا ونَقَمْتُ على نفْسي لأنّني كانَ مِنَ المفْروضِ أنْ أكونَ أكْثَرَ اتِّزانًا وعقْلانيَّةً في مُعامَلَتِي لِفُتُونَ التي ما زِلْتُ لاَ أعْرِفُها. أحْسسْتُ أنّني أَصْبحتُ غريبًا حتّى عنْ نفْسي. وصرْتُ أفْعَلُ أشْياءَ أنْدِمُ عليْها، لكنْ بعْدَ فواتِ الأوانِ. لمْ أكنْ كذلكَ في الماضي. كنْتُ منذُ البدايةِ، أتروَّى في الأمْرِ، ولاَ أشْرَعُ فيهِ إلاَّ بعْدَ أنْ أقومَ بتَقصِّياتٍ تضْمَنُ لي أنّني اخْترْتُ الوِجْهَةَ المُناسبَةَ. لكنَّ ما فعلْتُهُ مع فُتُونَ مُخْتلفٌ تمامًا، ويدُلُّ على أنّني لمْ أحكِّمْ عقْلِي معَهَا مثْلَما تعَوَّدْتُ أنْ أفْعَلَ. لكِنَّ صوْتًا قادِمًا منْ أعْماقِ نفْسي المُتْعَبةِ يُصِرُّ إليَّ أنَّ ما فعَلْتُهُ هوَ عيْنُ الصّوابِ وأنَّ فُتُونَ ليْسَتْ سِوَى الوجْهِ الثّاني لامْرأتي البعيدةِ التي أشْتاقُ إليْها، ولاَ أعْلَمُ عنْها شيْئًا في مدينةٍ موْبوءةٍ وبعيدةٍ. لكنّنِي أعْرِفُ أنَّ عمَلَهَا يتطلّبُ منها التّنقُّلَ كثيرًا والتَّفاعُلَ معَ الآخرينَ وأنّها تُحِبُّ عمَلَهَا وتنْسى التَّحْذيراتِ الكثيرةَ التي يُوصِي بها الأطبّاءُ للتَّوَقِّي من فيروس الكورونا.
-------------------------------
يَئِسْتَ منْ فُتُونَ وخابَ ظنُّكَ فيها. كنتَ تتوقَّعُ منها كثيرًا. وصَوّرَتْ لكَ نفْسُكَ التي أحَبّتْها أنّها قادِرَةٌ على إنْهاءِ مُشْكِلَتِكَ مع امْرأتِكَ البعيدةِ عنْكَ لأنّهما صديقتيْنِ حميمتَيْنِ، إنْ لمْ تَكُونَا وجْهَيْنِ لامْرأةٍ واحدةٍ هي امْرأتُكَ. هذا الاحْتمالُ يُلازمُكَ ولاَ تعْلَمُ لماذا. تعْتَقِدُ منذُ البدايَةِ أنَّ فتونَ هي الوجْهُ الثاني لامرأتِكَ. ويبْدو أنَّ هذا السّببَ هو الذي جعلَكَ تتعاملُ مع فُتونَ بتِلْقائيّةٍ كبيرةٍ، وربّما مبالَغٍ فيها أحْيانًا. راودتْكَ عدّةُ أفْكارٍ. تخلَّيْتَ عن الحلُولِ التي كنتَ تتوقَّعُ أنّها يُمْكنُ أنْ تأْتيَ عنْ طريقِ فُتونَ. أبْعدْتَ فُتُونَ عنْ تفْكيرِكَ، وبدأْتَ تبْحثُ وحْدَكَ عنْ حَلٍّ يُمْكِنُ أن يجْلِبَ لكَ على الأقلِّ معْلوماتٍ عنِ امْرَأتِكَ التي لا تعْلَمُ عنْها شيْئًا في تلْكَ المدينةِ التي تقولُ الأخْبارُ أنَّ نسبةَ انتِشارِ الوباءِ فيها كبيرٌ. منذُ سمِعْتَ ذلك الخبَرَ ونفْسُكَ تتلظّى. تتصوّرُها احْيانًا مريضةً وأنتَ بعيدٌ عنْها، فَتشْتعلُ داخلكَ نارٌ لاَ تعْرِفُ كيْفَ تُطْفِئُها. تتبدَّلُ الصُّوَرُ في رأسِكَ، فتراها في سيارتِها ذاهبةً إلى عملها أو عائدةً منهُ، ووجْهُها طافِحٌ بالسّرورِ لأنَّ عمَلَهَا كانَ مَبْعَثَ سرورِ كلِّ الحاضرينَ، ونوَّهَ بها الجميعُ لِحُسْنِ أدائِها، ودقّةِ المُحْتوى العلْميِّ الذي قدّمتْهُ وحُسْنِ أخْلاقها. تتبدّلُ الصُّوَرُ كثيرًا في رأْسِكَ لكنَّكَ قلقٌ عليْها. ولأمْرٍ مَا في داخِلِكَ لا تعْرفُهُ، يزْدادُ قلقُكَ عليْها. تُفكِّرُ في فُتُونَ ثمَّ تَنْدَمُ على التّفكيرِ فيها. تسْتَخْزي مِنْ نفْسِكَ التي أوْحَتْ لكَ بالتّفْكيرِ فيها. تقرِّرُ أنْ تتَّصِلَ بها على هاتفها لعلَّها تراجعتْ وفتَحتْ رقْمَكَ. تشْعُرُ بجُرْأةٍ كبيرةٍ للاتّصالِ بها بكلِّ الطُّرُقِ المُتاحةِ إلى أنْ تحْصُلَ منها على إجابَةٍ تبدِّدُ قَتامَةَ الخوْفِ الذي يْكنُكَ. إنْ تعذَّرتْ مُكالمتُها على الهاتفِ، سوفَ تبْعَثُ لها إرساليّاتٍ على مسنجر، وعلى الهاتفِ أيْضًا، لأنّها ربّما أغلقت المكالمات ولم تُغْلق الإرْساليات.

طلَبْتَها على مسنجر مرّةً أولى، فلمْ تُجبْكَ. طلبْتَها ثانيةً، وثالثةً، ورابعةً، وخامسةً، فَلمْ تُجِبْكَ. يئسْتَ. توجّهْتَ إلى الهاتفِ. كتبْتَ لها: "عزيزتي، أنا مشغولٌ عليْكِ. أريدُ فقطْ أنْ تُطمْئنيني. أجيبيني بسرْعةٍ أرْجوكِ. لمْ أعدْ أتحمَّلُ أنْ أبْقى لاَ أعْلَمُ عنْكِ وعنْ صحَّتِكِ أيَّ شيْءٍ." وضعْتَ إصْبِعَكَ على مكانِ الإرْسالِ، فخرجت الإرْساليّةُ دونَ صعوبةٍ. فرحْتَ كثيرًا لأنّكَ أدْركْتَ أنّها لمْ تُغْلقْ عليْكَ كلَّ الأبْوابِ. ومن يدْري، لعلّها أغْلقتْ عليكَ خطَّها الهاتفيَّ لإرْضاءِ كبْريائها الذي أحسَّتْ أنّكَ جرحْتَهُ، وما زالتْ تنْتظرُ منكَ أنْ تتّصِلَ بها بالطّرُقِ الأخْرى التي أبْقَتْها مُتاحَةً. انْتظرْتَ أنْ تُجيبَكَ لتَطْمئِنَّ عليْها وتُبدِّدَ الهواجِسَ التي بدأتْ تسْكُنُكَ وتَرْسُمُ صُوَرًا قاتِمَةً في نفْسِكَ تَجْعَلُ مشاعِرَكَ تتوجّعُ تحْتَ عواصفَ هَوْجَاءَ يصْنعُها خَيالُكَ المَفْجوعُ بأخْبارٍ تفشِّي الوَباءِ في المدينة التي تعْملُ بها وفي كلِّ مُدُنِ البلادِ وكلِّ بلْدانِ العالمِ التي تقْرأُ وتسمعُ عنْ أخْبارِها. انتَظرْتَ وانْتظرْتَ وانْتظرْتَ. لكنْ لاَ جوابَ يأْتي. عنْدما يئِسْتَ منَ مجيءِ إجابَةٍ منْها، رجعْتَ إلى مسنجر. لكنَّكَ لمْ تطلُبْ مُكالَمَتَها كما فعَلْتَ في المرّاتِ السّابقةِ. اكْتفيْتَ هذه المرَّةَ بالكتابةِ إليْها. لمْ تتجاوَزْ سطْرَيْنِ لأنَّكَ كُنتَ تريدُ الاطْمئنانَ عليْها قبْلَ أيِّ شيْءٍ آخَرَ. شوْقُكَ إليْها وتَلَهُّفُكَ عليْها ورغْبَتُكَ الجامحةُ في أنْ تُمْسِكَها بيْنَ ذراعيْكَ وتظلَّ تنْظُرُ إليْها إلى أنْ تذوبَ مشاعرُكَ نحْوَها، كُلُّ هذه المشاعِرُ لاَ معْنى لها أمامَ رغْبَتِكَ المُلحَّةِ في أنْ تعْرِفَ أنّها بخيْرٍ، وأنّها تُباشِرُ عَمَلَها وتُمارسُ حياتَها في ظُروفٍ مُطَمْئِنَةٍ. كَتبْتَ إليْها: "عزيزتِي، أردْتُ أنْ اتَّصِلَ بكِ، لكنّكِ لمْ تُجيبي. لماذا تُعذِّبينَنِي؟ أشْتاقُ إليْكِ كثيرًا. لكنّني مشغولٌ عليْكِ أكْثرَ. أجيبيني لأطْمئنَّ. اُكْتُبي إليَّ أرْجوكِ." انتَظرْتَ طويلاً كالعادةِ لكنّها لمْ تُجبْ.

عُدْتَ إلى حُزْنِكَ. أحْسسْتَ أنَّ الدُّنيا تضيقُ منْ حوْلِكَ وأنَّ الحِصارَ يَضْغَطُ عليْكَ. تُحسُّ أنَّ الجدرانَ داكنةٌ وأنَّ أَعْماقَكَ داكنةٌ وكُلَّ شيْءٍ فيكَ داكِنٌ. حتّى ملابسُكَ صِرْتَ تَرَاها داكنةٌ وحزينةٌ، تتألَّمُ لحالِكَ. الغُرَفُ ضاقتْ ولمْ تعُدْ تتّسعُ لحُزْنِكَ ووحْدتِكَ ووحْشَتِكَ وغُرْبتِكَ وشُعُورِكَ بالضّياعِ. لكنَّ صُورتَها العذْبَةَ تبْرُقُ في وجْدانِكَ المُتوجِّعِ، فتطْلعُ الغيماتُ البيْضاءُ في فَضاءاتِ روحكَ وترْقُصُ أعْشابُ ربيعٍ قديمٍ ما زالَ يثيرُ فيكَ حنينًا لسنواتٍ مضتْ. صُورتُها تمْسَحُ منْ نفْسِكَ كُلَّ المشاعرِ المُكدّرةِ ولا يبْقى سوى وجْهِهَا المُريحِ في فكْرِكَ. تعودُ إلى مسنجر وتطلُبُ مُكَالَمَتَها ويدُكَ اليّمْنى التي تُحرِّكُ فأْرَةَ الحاسوبِ ترْتعشُ شوْقًا ولهْفَةً. وفَجْأةً سمعْتَ الصّوْتَ الذي أنارَ الغُرْفةَ، وأنارَ رِحابَ روحكَ، وأنارَ كلَّ الدُّنيا من حوْلِكَ، وبدّدَ مشاعرَ الوحدةِ وأحْزانَ الغُرْبةِ ومواجعَ المدينةِ الواقعةِ في قَبْضةِ وَباءٍ يزدادُ فتْكًا كلَّ يومٍ.
- لماذا تطلُبُني؟ ألَمْ نفْترقْ عنْدما تأكَّدَ لي أنّكَ أقمْتَ علاقةً بامرأةٍ أخرى تنْوي الزّواجَ بها؟
- أنا مشْغولٌ عليْكِ كثيرًا وأريدُ أنْ أطْمئنَّ أنّكِ بخيْرٍ وأنّكِ تعْملينَ وتُمارسينَ حياتَكِ في ظروفٍ مُطَمْئِنةٍ. أخْبريني. أرْجوكِ. صوْتُكِ ضعيفٌ جدًّا. لاَ أسْمعُهُ جيّدًا. هلْ حدَثَ لكِ شيْءٌ؟ حدّثيني منْ فضْلِكِ.
- أنا مريضةٌ. لقدْ تعبْتُ كثيرًا في المدّةِ الأخيرةِ. منذُ أيّامٍ وأنا ألازمُ الفراشَ. السُّعالُ يُمزقُ صدْري وحلْقي. والحُمّى تَفْتِكُ بي كاملَ النّهارِ وتزدادُ عُتُوًّا في الليْلِ.
- وهلْ أخذوكِ إلى الطبيبِ؟ وماذا قال لكِ؟ أنا قلقٌ عليْكِ كثيرًا. يجبُ أنْ أجيءَ على جناح السّرْعةِ لأراكِ. أشْعُرُ أنّكِ مُنْهكةٌ. أرجو أنْ تكونَ أنفلْوَنْزَا عاديّةً. على كلِّ حالٍ. يجبُ أنْ أراكِ.
- لاَ تقْلَقْ كثيرًا بسببِ نوْعِ المرضِ. لقدْ أخذوني إلى المستشفى وأجْريْتُ تحليلاً لتقصّي فيروس الكورونا، لكن النتيجة كانتْ سلبيّةً. واكْتفى الطبيبُ بأنْ أشارَ عليَ بأدويةٍ ضدَ الأنفلْوَنْزَا العاديّةِ. وأنا الآنَ أسْتعْمِلُها.
- طَمْأنْتِني. لكنْ رغْمَ ذلكَ أشْعُرُ أنّكِ مُتْعبَةٌ جدًّا وينْبغي أنْ أجيءَ لأَراكِ.
------------------------------
عنْدما كنتُ أفكِّرُ في إجْراءاتِ السّفرِ للاطْمئْنانِ على صحّةِ امْراتي البعيدةِ، ظهرتْ إرْساليّةٌ على مسنجر صادرةٌ عن فُتُونَ. تعجّلْتُ فتْحَهَا وقراءتَها. أحْسسْتُ بِمَوْجةٍ من الحُزْنِ تَسْري في نفْسي عنْدما قرأتُ النّصَّ الذي جاءَ فيهِ: "معْذرةً صديقي الغالي. تغيّبْتُ عنْكَ وأنتَ في حاجةٍ إليَّ. لنْ أُسامحَ نفْسي. ولكن أرجو أنْ تعْذِرَني وتُسامحني. أعْلمُ أنّكَ مُتسامِحٌ وتتفهَمُ الظّروفَ التي عندما تطْرأُ، تُغيِّرُ مسارَ الأشْياءْ. لقدْ تُوفّيتْ بوباء الكوفيد-19 صديقةٌ لي عزيزةٌ عليَّ كثيرًأ، وحزنتُ شديدَ الحزْنِ على موْتِها. ولمْ أسْتعْملْ مسنجر إلاّ اليوم منْ أجْلكَ أنتَ."



#منوّر_نصري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فُتُون
- أوّل منزل
- هكذا أرسم الفرح - تقديم لمجموعة شفيق الجندوبي الشعرية الموجه ...
- أشواق
- الشهقة أمام الألوان
- سألوّن السحاب - مقاربة تعدّدية لأشعار فريدة صغروني
- دنيا جديدة
- امرأة افتراضية
- نتائج البكالوريا 2015 : الواقع والتأويل - المعاهد العمومية ب ...
- أزمة الهوية المهنية للمتفقدين البيداغوجيين وموقع المتفقدين ا ...


المزيد.....




- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...
- هاجس البقاء.. المؤسسة العلمية الإسرائيلية تئن من المقاطعة وا ...
- فنانة لبنانية شهيرة تكشف عن خسارة منزلها وجميع أموالها التي ...
- الفنان السعودي حسن عسيري يكشف قصة المشهد -الجريء- الذي تسبب ...
- خداع عثمان.. المؤسس عثمان الحلقة 154 لاروزا كاملة مترجمة بجو ...
- سيطرة أبناء الفنانين على مسلسلات رمضان.. -شللية- أم فرص مستح ...
- منارة العلم العالمية.. افتتاح جامع قصبة بجاية -الأعظم- بالجز ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - منوّر نصري - أمل (فُتُون2)