أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - منوّر نصري - فُتُون















المزيد.....



فُتُون


منوّر نصري

الحوار المتمدن-العدد: 6845 - 2021 / 3 / 19 - 00:05
المحور: الادب والفن
    


كتبتْ فُتُون في آخِرِ إرساليةٍ وجّهَتْهَا إليكَ: "مساءَ الخيْرِ سيّدي الكريم. أشعُرُ أنّكَ تبْتَعدُ شيْئًا فشيْئًا ولا أعْلَمُ السببَ. لكنني واثقةٌ أنني بدأْتُ شيْئًا فشيْئًا أشعُرٌ بافْتقادِكَ. أرجو أن تجيبني دون تأخُّرٍ وأنْ تفسّرَ لي ما طَرَأَ عليكَ ولماذا هذا التّجاهُلُ لشخْصي."
مَنْ تَكُونُ فُتُونُ؟
صورةٌ تذهبُ وتجيء. وعندما تغيب، تُخَلّفُ في النفس أسفًا كبيرًا قد يبْلُغُ حَدَّ الحسرةِ والمرارةِ. وما إن تعودُ للظهورِ حتى يُشْرِق القلبُ وتصحو النّفسُ وتظهرُ الألوانُ الجميلةُ في كلّ الفضاءات المجاورةِ وتطلعُ غَمَائِمُ السُّرُورِ الفاتحة نشْوَى بظُهُورِهَا.
صورة جميلة تُمَنِّي النفسَ بأفراحٍ لم تَعُدْ مُمْكِنَةً منذ أشهر. كلماتُها على صفحة "الفايسبوك" سِحْرٌ يتسرّبُ إلى قلبِكَ فيبدّد الأفكارَ القاتمةَ ويضع مكانها صوَرًا من ليالي صيف في ضاحية واقعة على شاطئ البحر، أو من مقهى هادئ في مدينة مشهورة بالزهور، أو من مطعم تَرَى فيه ابتسامتها المُريحةَ، أو من حديقة نُزْلٍ وَاقِعٍ في مدينةٍ ساحليّةٍ، وحديقَتُهُ تُلامِسُ البحرَ، وبِهِ نخيل وعشْبٌ وظلالٌ وهدوءٌ مريحٌ.
فُتُونُ كما تَرَاهَا في ذهنك صورةٌ تتنقّل بين مدينتيْن وتحْمِل معها سنواتٍ من الذّكريات التي لا تزالُ نديّةً بمياه أمطارٍ عطِرةٍ لم يمْضِ عيْها زمنٌ طويلٌ، تستقرُّ في مشاعرك وفي مدينة يَسْكُنُها اليأسُ عندما تُغادرها إلى المدينة الأخرى خلال العُطلِ المدرسيّة. تَرَاهَا في تلك المدينة مَنَارَتَكَ وهوَسَكَ والصّورةَ التي تبحثُ عنها ولا تُغادرُ فكرَكَ.
يبدو أنّك افتتنْتَ بفُتُونَ يا صاحبَ الأحلامِ الضائعةِ والمسكونَ بأَلمِ الذّكريات والصّوَرِ والألوان التي تذكرُكَ بوجهها المشرق الذي ينْشر الدفءَ والهدوءَ والنّورَ في كل الفضاءات التي يوجد فيها ويعطّرُ وجْدانَكَ ويجعلُكَ ساهمًا يأخذكَ الخيالُ إلى بعيدٍ. فتون بعْثَرَتْ مشاعرَكَ أكثَرَ ممّا هي مبعْثرةٌ وجعلتْكَ تُخاتِلُ نفْسَكَ لتجدَ مبرّرا تُقنعُها به لتبحثَ عنها في الفايسبوك وتتأمّلها وتتصفّح إصداراتها، وربّما تقرأُ بعْضَها، لكنّكَ لا تسمحُ لنفْسِكَ بالقيام ببعض العمليات التي تُقِيمُ الدّليلَ على أنّكَ دخَلْتَ إلى الصّفحةِ. تصفّحْتَ كلَّ ما نشرَتْهُ. وفي كلّ مرّةٍ شعُرْتَ أنّ ما أنْزلَتْهُ يَعْنيكَ. وكأنّهُ مُوَجَّهٌ إليْكَ أنتَ تحديدًا ولا يهُمُّ عيْرَكَ. لكنّكَ، في كلّ مرّة، تستبْعدُ ذلك. فكيْفَ لها، وهي لا تعْرِفُكَ أصْلاً، أن تكتُبَ لكَ؟ ولوْ كانتْ تريدُ أنْ تتوجّهَ إليْكَ لَكَتبتْ لكَ بصفةٍ شخصيّة عبْرَ "مسنجر". تتفادى دائما أن تترُكَ أثَرًا يُخْبِرُها بأنّكَ دخلْتَ إلى صفْحتِها وقرأْتَ نصًّا أنْزَلتْهُ أو استمعْتَ إلى أغنيةٍ اختارَتْها، رغْمَ أنّ شعورًا باطنيّا يُصِرُّ إليكَ أنّ اختيار النصّ أو الأغنية أو الفيديو مُوَجَّهٌ إليْكَ. تستبعِدُ ذلك وتتصفّحُ الإصدارات بحذَرٍ مُضْحِكٍ. ماذا تخشى أيّها الرّجل المتعلّقُ بامرأةٍ وهْمِيّةٍ لا تعرفُ شيْئًا عنْ هُويّتِها الحقيقيّة؟ الفايسبوك يسمح لك بالاطّلاع على إصداراتها، ولا وُجُوبَ لِأَنْ تشْعُرَ بالذّنْبِ. مُشكِلَتُكَ مع نفْسِكَ. أنتَ لا تُرِيدُ أنْ تعْلَمَ فُتُون أنّكَ تفْتَحُ صفْحَتَها وتطَّلِعُ على إصْداراتها. شيْءٌ ما بين الكبرياء والخجل يمْنعُكَ من ذلكَ. كأنّكَ تريدُ أنْ تكونَ المبادرةَ صادرةً عنْها هيَ. تَضَارُبٌ صارخٌ في مشاعركَ. فأنتَ من ناحية لا تُطيقُ صبْرًا على الدخول إلى صفْحتِها، واستنشاق روائحها، ومَلْءِ رئتيْكَ بعطْرِ إصداراتها التي تُعْطيك بهجةً وطربًا، وتُعيدُ لكَ أمَلاً بدَأَ يتلاشى بعدَ أن حاصرهُ الصقيع والجفافُ شهورًا عديدة.
اسمُها يُطْرِبُكَ، والصورة التي وضعَتْها على صفحتها تثيرُ في نفسكَ مشاعرَ غامضة لكن يغْلُبُ عليها الحُلْمُ والحنينُ، وتمتزجُ بالذكريات، رغْمَ أنّكَ متأكِّدٌ أنّها ليْستْ صُورَتَها. تقولُ في نفسِكَ أنّ الجميلَ يُحسنُ اختيارَ الوجوه الجميلة. ومن خلال الإصْداراتِ التي اطّلعْتَ عليها، صرْتَ شبْهَ مُتأكِّدٍ أنّ اسم فُتُون لمْ يَأْتِ جزافًا، وإنّما هو اسمٌ يعكِسُ صفاتِ صاحبته جسدًا وفكرًا وروحًا. يذهب بكَ الخيالُ بعيدًا وتُمنِّي نفْسَكَ بها، ثمّ لا تلْبثُ أنْ تتراجعَ بعْدَ حينٍ متسائلاً: "منْ أدراني أنّها كما صوّرها لي خيالي؟ ألا يمكنُ أمْ تكونَ كلّ الخواطر التي جالتْ بنفسي صُورًا من صُنْعِ وجداني المُتْعبِ؟" تعبْتَ يا رجُلُ وأتعبتْكَ فُتونُ، وأنتَ لا تعْلَمُ شيْئًا عنها غيرَ صفحةِ الفايسبوك والإصدارات التي تظْهَرُ لها من حينٍ لآخرَ. ماذا تريد منها؟ بل ماذا تريد من نفسكَ؟
يُخيَّلُ إليكَ أنّكَ تعرفُها وتعرفُ الغبطةَ التي يمكن أن تُنْشِئَهَا لديْكَ. هُناك أصواتٌ تنبعث من داخلِكَ وتناديها بأُلْفَةِ المُشتاقِ إلى وجْهٍ قديمٍ لهُ مكانَةٌ في القلبِ. تَعْرفها ولا تعْرِفُها. نفْسُكَ تُحدّثُكَ بأنّكَ تعرفُهَا وأنّ تلك الصّورة التي على صفْحتِها تُخْفي امرأةً تجمعُكَ بها ذكرياتٌ ومشاعرُ فوقَ الوصْفِ وما زال الحنينُ إليها يسْكُنُكَ مثْلَ الغَمَائِمِ القاتمة الحُبْلَى بأمطارِ شتاءٍ حزينٍ استقرَّ بداخلِكَ منذُ مدّةٍ. أتَكُونُ تلكَ التي كُنْتَ تنعَتُها بالحمامة وما زالتْ رائحة جسدها التي كنْتَ ترتوي بها وتعْتبرها أساسية في حياتكَ؟ هناك رائحة تنبعث من صفحة فُتُون على الفايسبوك تُذكّركَ بتلْكَ المرأةِ. نفُسُكَ لا يُمكِنُ أنْ تكذِبَ عليْكَ، ولا فائدةَ لها في مغالطتِكَ. هذا الحنينُ الكبيرُ الذي أحْدثتْهُ فُتُون لا ينْطلقُ من فراغٍ. أَكيدٌ أنّ هناكَ علاقة بينها وبين ذكرياتِكَ مع ذلك الوجه الذي ما زالتْ ابتسامتُهُ تُضْنيكَ وتُقْنِعُكَ بأنَّكَ لنْ تجِدَ أجْمَلَ منه ولا أرقَّ منه ولنْ تعْثُرَ على مَنْ يُلهمُكَ الفرَحَ أكْثَرَ منه، ولنْ تجدَ في هذه الدّنيا الذي ضاقتْ فيها مجالاتُ الفَرَحِ مُؤْنِسًا أفْضَلَ منه.
فُتُون شغلتْكَ في أيام الحَجْرِ الصِّحِّيِّ الحزينةِ. لم يَعُدْ يوجَدُ شيْءٌ يُمْكِنُ القيامُ به للتّنفيس عنْ نفسٍ أتْعَبَهَا شَجَنٌ متواصِلٌ، وزادَ في بُؤْسِها الحَجْرُ الصّحّيّ الإجباريُّ ثمّ الحَجْرُ المُوَجّهُ. حتّى الخروجُ إلى المقهى لتناول قهوة في ظلّ شجرةٍ أليفة لمْ يَعُدْ ممكنًا ما دامتْ المقاهي لا يُسْمَحُ لها باستعمال الكراسيِّ والطاولاتِ وتكتفي بتقديم القهوة في كؤوسٍ ورقيّةٍ ليشرْبَهَا الحريفُ واقفًا أو يأخُذَها إلى منزله. كانَ الذّهابُ إلى المقهى يُنفِّسُ عليْكَ، لأنه بالإضافة إلى مُتْعَةِ ارتشاف القهوة وأنت تجلسُ إلى طاولة تشْعُرُ فيها بالارتياح وهُدوءِ البالِ، تستعمِلُ هاتفَكَ الجوَّالَ للاطلاع على آخر الإصدارات على صفحات الأصدقاء الافتراضيين في فايسبوك أوْ تَكْتُبُ فقرات تائهة على الوُورد أوْ تَقْرَأُ بعض النصوص من نوع البي دي أف.
ماتَ الكثيرُونَ ممّنْ تعرفُهُمْ كِبارًا وصغارًا في السِّنِّ. ولكنْ مات من الكبارِ أكثرَ بِكثيرٍ. في كل يومٍ تقرأُ أخبارَ الوفيّات على صفحات الفايسبوك وتسمعها في أخبار القنوات التلفزية والإذاعية. تسمعها ايْضًا في القنوات التلفزية الفرنسية التي تحبُّ مشاهدتَها لأنها تقدّمُ أخبارًا أكثرَ تَفْصِيلاً وتنوُّعًا عَنْ جُلِّ دُوَلِ العالَمِ. الوضْعُ الوبائيُّ سيّْءٌ في كُلِّ دُوَلِ العالَمِ. وعدْوى الكوفيد-19 تنتشرُ بسرْعةٍ مُذْهِلةٍ. وأعداد الوفيات تتزايَدُ تزايُدًا تغْتَمُّ لهُ النّفوسُ لكنّ التشبّثَ بالحياةِ لمنْ بقيَ فيها يظلُّ هو الغالبُ. ويكثُرُ التّسارُعُ والتّسابُقُ نحو اللَّقَاحَاتِ التي يقول المُهتمّون بالطبِّ والأوْبِئةِ أنّها ستُنْهِي الوباءَ بعْدَ بعْضِ الأشْهُرِ. لكنَّ مرارةً عميقةً تظلُّ تنْهشُكَ من الدّاخلِ وتُشْعِرُكَ أبَدًا أنّك فاقِدٌ شيْئًا عزيزًا عليْكَ ولاَ يُمْكِنُ لنَفْسِكَ أنْ تشْعُرَ بالرّاحة. لاشكَّ أنَّ الوضْعَ الوبائيَّ والحَجْر الصّحّيَّ عمّقَا شُعُورَكَ بِأَنَّ الدّنيَا حزينةٌ وموحشَةٌ وغيرُ جذَّابةٍ وعِدائيّةٌ ومتسلِّطَةٌ ولا تُحبُّ الخيْرَ والبهجةَ لكلِّ النّاسِ، ولكَ أنتَ تحْديدًا، لكنَّ كلَّ هذه المشاعرِ موجودَةٌ أصْلاً لديْكَ، وتعيشُ معَكَ منذُ أن افتقدْتَ ذلكَ الوجْهَ الذي تُذكّرُكَ به فُتُون. لذلك تودُّ أنْ تناديهَا وتتحدّثَ إليْها لتَبُثَّها أشواقَكَ إلى الوجْهِ الذي تُحِبُّ وتتبادَلَ معها المشاعرَ حوْلَ الأحْزان التي تعيشها البلادُ.
فُتُونُ ملاذُكَ كُلَّ هذه المدَّةِ. تذْهَبُ إلى صفْحَتِها لتبْحثَ لديْهَا عن أمْرٍ تجْهَلُهُ. تشْعُرُ أنها الوحيدة التي تعرفُ أغوارَ نفسكَ وتملكُ خرائِطَ المجهول الذي تودُّ الرّحيلَ إليه. لكنّك عندما تستعيدُ صفاءَ ذهنِكَ، تتبيّنُ أنّكَ تبحثُ في فُتُون عن ذكرياتٍ تخشى أنْ تتلاشى في الفضاءات الموجوعة لمدنٍ ينهشُها الدّاءُ ويتربّصُ الموْتُ بأهلها ويُعربِدُ فيها الوباءُ. فُتُونُ هيَ همزة الوصْلِ بيْنَكَ وبيْنَ الوجهِ الذي تبحثُ عنْهُ لتقِفَ أمامه وتنظُرَ إليهِ مليّا وتملأُ بصَرَكَ بوجهِهِ المليحِ وابتسامتهِ السّمِحةِ ثمّ تقولُ لهُ: "كنتُ أنتظِرُكَ. ومنذُ ذلك الوقتِ وأنتَ بِبَالِي. سأظلُّ أنتظرُكَ حتّى لو بقيتَ بجانبي طولَ العُمْرِ الذي بقيَ لي." يُساوِرُكَ الشّكُّ أحيانا، فتقول: "لعلّني أهْذِي وأخْلِطُ بينَ الحقيقةِ والخَيالِ. ألاَ يُمكِنُ أنْ تكونَ فُتُونُ امرأةً حقيقيّةً قدْ تُفَاجَأُ لَوْ علِمَتْ أنّني أتعاملُ معَها على أنّها امرأةٌ أخرى؟"
الوجعُ يشْتدُّ في مُدُنِ بلدِكَ. أعْدادُ المَوْتى تتزايد كلّ يومٍ وكأنّ العالمَ يريدُ أنْ يتخلّصَ من نِسْبةٍ كبيرةٍ منهُ. الفايسبوك يأْتيك كلَّ يومٍ بأخبارِ المُتَوَفّينَ من أناس تعرفهم وتحبّهُمْ. والمآسي تنتشرُ في كلّ دولِ العالَمِ. سنَةٌ من الحصادِ مرَّتْ والموْتُ ما زال يتجوّلُ في المُدُن والقُرى والمداشِرِ، وحتّى في الأرْيافِ الناّئيَةِ، يبحثُ عنْ مزيدٍ من الضّحايا. والناسُ ينظرون مَشْدُوهينَ لا يملكون القدرةَ على البُكاءِ المُرِّ كَمَا تعوَّدُوا في حالاتِ الموْتِ بِغيْرِ هذا الدّاءِ المُسْتحْدَثِ. عدّةُ وجوهٍ تعْرِفُها قرأْتَ في فايسبوك عنْ رحيلها ولم تكنْ تملكُ غيرَ الحُزْنِ على انْطِفائِهَا مثل شموعٍ كانتْ تُضِيءُ الأماكنَ وتُزَيِّنُهَا، ثُمَّ نفَخَتْ ريحٌ عاتيَةٌ فأتْلَفَتْ كلَّ شيْءٍ جميلٍ، وبقيَ الحُزْنُ يُعرْبِدُ في الفضاءاتِ ويُنْشِدُ أغانِيَهُ الجَنَائِزِيَّةَ الشّجِيَّةَ. بَعْضُ تلْكَ الوُجُوهِ شارَكَكَ مَرَحَ الطفولةِ الذي لم يكنْ يأْبَهُ بالفَقْرِ، وكانَ يُمارسُ، رغْمَ الحِرْمانِ المُتعدِّدِ والظاهِرِ، طُقوسَ فَرَحٍ يتحدّى كلَّ مظاهرَ التّهميشِ التي كابَدَتْها مدينتُكَ الصّغيرَةُ الأولى، ثمُّ، وبنفْسِ القَدْرِ، مدينتُكَ الثانيةُ التي انتقلْتَ إليْها وأنتَ صغيرٌ، في الثالثةِ ابْتدائي، وعرَفْتَ فيها أطفالاً جُدُدًا عشْتَ معهمْ طفولةً ما زالتْ ذكْرَياتُها تُنْعِشُ نفْسَكَ، رغمَ ما فيها مِنْ خصَاصَةٍ ما زِلْتَ كذلكَ تذْكُرُ مظاهرَهَا، ورغْمَ أشكالِ التّهمِيشِ التي كنتَ منْتبِهًا إليْها أنتَ ورفاقُكَ منذُ صِغَرِكَ. ورغْمَ أنَّ المدينةَ كانتْ كبيرةً نسبيّا، لمْ تُلاحِظْ ما يَجْعَلُها مُخْتَلِفَةً عن الأولى، سوى وُجوهَ الرّفاقِ الذينَ كنتَ تلْعبُ مَعَهُمْ وأنْواعُ اللُّعَبِ التي كنْتُمْ تتعاطَوْنَهَا. وهيَ جميعُهَا، إمّا منْ صُنْعِ الأطْفالِ بأشياء من المنزلِ لا قيمَةَ لها، أوْ مشْتَرَاةٍ بأسْعارٍ بخْسةٍ جدًّا، من نوْعِ خمسةِ أو عشْرةِ ملّيماتٍ على أقْصى تقديرٍ، أيْ ما يُقابِلُ الآنَ مائةَ ملّيمٍ تقْريبًا. لمْ يكنْ فقْرُكَ يحْرِمُكَ من ممارسَةِ أنْشِطَتِكَ الطّافِحةِ بالبهجةِ لأنّ أطفالَ مدينتيْكَ الأولى والثانية كانوا مثْلَكَ تقْريبًا، لا يمْلِكُ آباؤُهُمْ السّيّاراتِ ولا المنازِلِ الفخْمةِ. لكن فرَحَ الطفولة في عيونهم كان مثل أنشودة ربيعيّةٍ تُحلّقُ على الدّوامِ في سماءِ المدينة وتُمطِرُ أحْلاَمًا سعيدةً.
أيْنَ تلكَ الأحْلامُ يا فُتُونُ، يا صُورةً لا تكشفُ عنْ نفْسِها، ويا مُبْتَغَى ذلك الطفْلِ الذي أنْهَكَهُ الحُلْمُ المُسافِرُ على الدّوامِ إلى عَوَالِمَ، مثْلكِ، تُحافِظُ على غُمُوضِهَا، ومثلكِ ترْقُصُ في خيالِهِ المُتْعَبِ بالصُّوَرِ التي لا تسْتقِرُّ على حالٍ، ولا تتْرُكُ له المجالَ ليَتَفَحَّصَهَا ويقْبِضَ على ألوَانِها ويُرَوِّضَهَا لتغْدُوَ صديقةَ نفسِهِ. يُحبُّ أنِ يراكِ ولكنّكِ ما زلتِ مجرَّدَ واجهةٍ تتراءَيْنَ لهُ كلَّمَا دَخَلَ الفايسبوك ليطّلعَ على آخِرِ التّدويناتِ والأخْبارِ التي ينْشُرُهَا الأصْدقاءُ الافتراضيّون والحقيقيّون. صوْتٌ داخليٌّ يَرْتاحُ إليْهِ ولا يُمْكِنُ أنْ يُكذّبَهُ يقُولُ لهُ أنَّهُ يعْرِفُكِ وأنّكِ ضالَّتُهُ التي يَبْحثُ عنْهَا، والمستقرُّ الذي سَيَتفيّأُ فيه ظلاَلاً وارفةً وأنّكِ الغيْمةُ التي ستُمْطرُ فرَحًا والحُلْمُ الذي سيُفْضِي إلى دنْيَا جديدةٍ.
عندما يخْرجُ ويذْهبُ إلى أحدِ المقاهي الحزينة التي مَنَعُوا الجلوسَ فيها في نطاقِ الحَجْرِ المُوَجّهِ، ولمْ يَعُدْ يُسْمَحُ إلاّ بشراءِ قهْوةٍ في كأْسٍ كَرْتُونِيَّةٍ وشُرْبِهَا أمام المقهى أوْ العودةِ بها إلى المنزلِ لشُرْبها هناكَ، كانَ يعودُ بسُرْعةٍ ونفْسُهُ ضائقَةٌ والأسى بادٍ على وجهِهِ. الشوارعُ تبْدُو كئيبةً، تنْفُخُ فيها الرّياحُ الحارّةُ حينًا، والباردةُ أحْياناً، والأمْطارُ نادرةٌ، وأحْلامُ النّاسِ متحجّرةٌ، والفضاءاتُ السياسيّةُ لُؤْمٌ وعَجْزٌ واستخدام كاذبٌ للدّينِ، والبلادُ تتهاوى، يا فُتُونُ، بلادُنَا تتهاوى، وحتّى أنتِ، حلْمي المتبقّي، بَعْدَ هذا الهَلاَكِ الذي حَلَّ بِبِلادِنا وبِجُلِّ بُلْدانِ الدّنْيا. لكنّ وَضْعَ بلادي مُخْتَلِفٌ لأَنَّها فقيرَةٌ. بلادي لم تعُدْ تتحمّلُ مزيدًا من الدّمارِ يا فتونُ. ولوْ تواصلَ الأمْرُ على هذه الوَتِيرَةِ من انتشارِ الوباءِ وتساقُطِ الموْتَى، لتَوقّفَتْ كُلّ الأنشطةِ التي يعيشُ منها النّاُسُ، وبَدَأَتْ المجاعةُ بالانْتِشارِ. السُّخْطُ مرْسُومٌ على الوُجوهِ لأنَّ عدَدًا كبيرًا من النّاسِ لمْ يَقْبَلُوا إجراءاتِ الحَجْرِ الصّحّيِّ المُوَجَّهِ. يعْتَبِرُونَهَا تضيِيقًا عليْهمْ لأنّهمْ في حاجةٍ إلى العَمَلِ لِيَسْتَطِيعُوا كسْبَ قُوتِ صِغَارِهِمْ. عنْدَمَا يتوقَّفونَ عنِ العَمَلِ، يجوعُ أطفالُهمْ وتتوقَّفُ الدُّنْيَا لديْهِمْ، ويُصْبِحُ الموْتُ بِوَبَاءِ الكُورُونَا أفْضَلَ منَ لُزُومِ المَنْزِلِ دُونَ شُغْلٍ. العَجْزُ عنْ إِطْعَامِ صِغَارِهِمْ لاَ يَخْتَلفُ كثيرًا عنِ المَوْتِ. أَوْ لعلَّ الموتَ أرْحَمُ أحْيَانًا من حياةِ الهَوَانِ.
عندما تخْرُجُ لتمْشي قليلاً في الشوارعِ التي أحْبَبْتَ، وتُشاهدَ المباني التي ألِفْتَ، وتغْسِلَ وجْهَكَ بالهواءِ الذي عشِقْتَ، وتُصافِحَ الشمسَ التي أنْضَجَتْ وجْهَكَ، وتْمْلَأَ صدْرَكَ بالرّوائح التي تنْبَعِثُ من المحلاّتِ والفضاءات التي تعْتَرضُكَ وتُطْرِبُ نفْسَكَ، تَسْتَبِدُّ بكَ مشاعِرُ الْأَسَى وتشْعُرُ أنَّ البلدَ الذي أحْبَبْتَ يتَوجَّعُ في صمْتٍ، ولا تسْتَطيعُ تَخْليصَهُ منَ الوجَعِ الذي يتزايَدُ يوْمًا بعْدَ يوْمٍ. الوُجُوهُ التي تَسيرُ في شتّى الاتّجاهاتِ لقضاءِ شؤُونها بِلاَ مَلاَمِحَ. الكَمَّاماتُ المَنْصُوحُ بها لِمَنْعِ العَدْوَى بالوباءِ الفَيْرُوسِيِّ الخطيرِ تُخْفي الوُجُوهَ وتُحوّلُ النّاسَ إلى أشْباحٍ فاقِدةٍ للمشاعِرِ وللدّفْءِ والابْتسامةِ والكلمةِ التي تُعيدُ البهْجَةَ للنّفسِ وتَجْعَلُها قادرةً على تحمُّلِ أعْباءِ اليوْمِ. وأنتِ يا فُتُونُ، يَا أبْهَجَ صورةٍ في ذِهْني خلالَ كلِّ هذه المدّةِ التي يزْدادُ فيها الحِصارُ على البلدِ، ويتراءى ممتدّا إلى جُلِّ دُوَلِ العالَمِ، لماذا أراكِ ولا أراكِ؟ لماذا تتخفّيْنَ وتترُكينني في عُزلتي أواجِهُ الحُزْنَ وحْدي؟ لماذا تظلّين فكرةً هائمةً في ذهني ولا أعرِفُ هلْ أنتِ حقيقةٌ أمْ وهمٌ من صنْعِ خيالي؟ أنتِ امرأةٌ موْجودةٌ دونَ شكٍّ ما دامتْ لكِ صفْحَةٌ على الفايسْبوك، ولكن الأفكار التي في راسي قدْ تكونُ لا علاقةَ لها بالواقِعِ. فهَلْ أنتِ موجودةٌ حقًا؟ وهلْ أنتِ بالملامِحِ التي أتصوّرُها فيكِ؟ هَلْ أنتِ في مُقْتَبَلِ الشّبابِ أم في الكهولةِ مثلي؟ أمْ أنّكِ أكْثرُ شبابًا وَوَلَعًا بالنّفْسِ؟ لمْ أجِدْ في صفْحتِكِ معلوماتٍ كثيرةٍ عنْكِ. حيْرَتي كبيرةٌ وكُلّي أمَلٌ أنْ تكوني كَمَا أتوقَّعُكِ، ملاذي مِنَ الْوَجَعِ الذي تَنُوءُ بهِ المدينة وكلُّ البلادِ، والوجْهَ الذي أسْكُنُ لَهُ.
في البداية كانت دعوة للصداقة عبر الفايسبوك. منذ ذلك الوقت وأنتَ مهوس بصورتها. صرْتَ مشدودًا إليها رغم أنك تعلم جيّدًا أن الصورة التي استعملَتْها على صفحتها ليستْ صُورتَها. لكنك منجذب إلى ما وراء الصورة. تصنّعْتَ في البداية تَجَاهُلَ الدّعوة. لكن صبْرَكَ نفَدَ وأردْتَ أن تواجهَ الموقِفَ بواقعيةٍ. هذه الصورة تناديكَ وتُلِحُّ عليكَ أنْ تتأمّلَهَا وتَفْتَحَ صفحَتها وتقرأَ آخِرَ ما نشرَتْهُ. صاحبة هذا الاسم كتبتْ منذ أيام قليلة كلمات علّقتْ بها على تدْوِينَتَيْنِ صدَرَتا لكَ على فايسبوك ولفتتْ انتباهَكَ لأنها كانت وَدُودَةً وَمَلْأَى بالإحساس. وقد توسّمْتَ في التّعليق الذي يتعلّق بابنك فيْضًا من الأمومة ميّزَهُ عن بقيّة التعليقات.
عندما فتحْتَ "مسنجر" لكتابة بعض كلمات المجاملة والترحيب بِفُتُونَ كصديقة على "الفايسبوك"، اندهشْتَ وأنتَ تتصفَّحُ الإِرْساليّاتِ القديمة التي تَعُودُ إلى ديسمبر 2013 وجانفي 2014. كانتْ آنذاك قدْ أرْسلتها لكَ امرأةٌ مجهولةٌ بالنسبة إليكَ ولكنّها عبَّرتْ فيها عن لَوَاعِجِ مَشَاعِرَ لاَ يُمْكِنُ تجاهُلُها. سافرْتَ بوِجْدانكَ عبْرَ السنواتِ، وتجوّلْتَ بينَ أحْداثٍ كثيرةٍ. تساءلْتَ عنْ هُوِيّةِ تلك المرأةِ التي عادتْ بعْدَ عدّةِ سنواتٍ لتُرْسِلَ إليْكَ دعْوةً للصّداقة على الفايسبوك. إحساسٌ بالبهْجةِ تسرَّبَ إلى نفْسِكَ وأشْعَلَ نورًا داخلَكَ ونشَرَ ألْوانًا رائقةً منْ حَوْلِكَ وَتبادَرَ لَكَ أنَّكَ تسْمعُ موسيقى حالمةً تُذكّرُكَ بِمقْطوعاتٍ سَمِعْتَها رِفْقَةَ تلْكَ المرأةِ التي لا تُنْسى ولمْ تبْتَعِدْ عنْ قلْبِكَ لحْظةً. وقدْ أحْبَبْتُما كثيرًا تلك الموسيقى. وها أنتَ الآنَ ما زلْتَ مسْكونًا بالمرأةِ والموسيقى.
يبْدُو أنَّ تَوَقُّعاتَكَ كانتْ في محلِّها وأنَّ فُتُونَ هي نفْسُها رفيقَةُ الرّحلةِ التي ما زالتْ صورتُها تُشْقيكَ وتُضْنيكَ وتُنْسيكَ كُلَّ الأَسْبابِ التي بَاعَدَتْ بَيْنَكُما وأنتما كطِفْلَيْنِ يلْعَبانِ كثيرًا ويتخاصمان كثيرًا لكنْ لا يُطيقُ أيٌّ منهما الابْتِعَادَ عنِ الآخَرِ. وإنْ حَدَثَ ذلِكَ لسبَبٍ من الأسْبابِ، فإنَّهما يمْرِضانِ، ويَكْتَئِبَانِ، وتُصْبِحُ كُلُّ الأَشْياءُ التي تُوجَدُ قي مُحيطهِمَا، وكُلُّ الأعْمالِ والأنْشطةِ التي يَقُومَانِ بِها، وتُحقّقُ لهما الحياةَ الخاصَّةَ والتَّشارُكيَّةَ، بِلاَ مَعْنَى وبِلاَ روحٍ. ولكنّ تَسَاؤُلاتٍ عديدةً ما زالتْ تُنَغِّصُ عليْكَ فرْحَتَكَ بهذِهِ البَوَّابَةِ السَّعِيدةِ التي انْفتَحَتْ لَكَ وتَوَقَّعْتَ أنَّها سَتُخْرِجُكَ من أحْزانِكَ التي تَفاقَمَتْ بِسبَبِ الوَضْعِ المُتَردِّي في المدينةِ وفي كلِّ البلادِ وبسبَبِ الحِصَارِ المَضْرُوبِ على جُلِّ دٌوَلِ العالمِ منذُ تَفَشّي وَبَاءِ الكوفيد-19. نَفْسُكَ الحَيْرَى تُلِحُّ عليكَ في السُّؤالِ: هلْ فُتُونُ هيَ المرْأَةُ التي يَهْنَأُ لها بَالِي وأسْتَطيعُ أنْ أكْتُبَ لها دُونَ كُلْفَةٍ، وأسْتَطيعُ أنْ أبُثَّهَا أشْواقِي وَمُعاناةَ الشُّهُورِ التي لَمْ أرَهَا فيها، ولمْ أتحدَّثْ إليها؟ هلْ أسْتَطيعُ أنْ أحدِّثَها عنْ ذلك الطِّفْلِ الذي لمْ يجِد طفْلَتَهُ التي كان يَلْعَبُ معَها، وكانا يتَخاصَمان كثيرًا، وعندما ابْتَعَدَتْ عنْهُ منذُ شُهورٍ، اسْتَبَدَّ به غَمٌّ شديدٌ، وهو الآنَ يَشْعُرُ بالشّقاءِ يُحاصِرُهُ ويُفْسِدُ كُلَّ أوْقاتِهِ ويَجْعَلُهُ يرْنُو إلى وجْهِهَا الحَبِيبِ؟ هَلْ أكْتُبُ لِفُتُونَ كأنّي أعْرِفُها سابِقًا أمْ أكْتُبُ إليْها باعْتِبارِهَا امرأةً لمْ أعْرِفْهَا في الماضِي؟ ماذا سأَكْتُبُ لَكِ يا فُتُونُ والمشاعرُ تخْتَلِطُ في نفْسي وتُرْبِكُنِي إلى الْحَدِّ الذي أجِدٌنِي فيهِ غَيْرَ قَادِرٍ عن التّعْبيرِ عَنْ مضْمُونٍ مُعَيَّنٍ؟ اشْعُرُ برغْبَةٍ عارمةٍ في الكتابةِ لكِ يا فُتُونُ ولكنَّني لا أجِدُ ما أقُولُهُ إليْكِ. الكلماتُ تهْرُبُ منّي. والجُمَلُ لاَ تُطاوِعُنِي، وتبْدُو باهِتَةً وضَعيفَةً في تَرْكِيبِها، ولاَ رُوحَ فيهَا. ما هي المواضيعُ التي يُمْكِنُ أنْ أتحدَّثَ فيها معَكِ يا فُتُونُ دونَ أنْ تشْعُري بأنَّني أكْتُبُ عنْ أشياءَ مُبْتَذَلَةٍ لا تَعْنِيكِ؟ هَلْ أبْدأُ بالتّرْحيبِ بِكِ، ثُمَّ أتْرُكُ الْحِوارَ يَأْخُذُنا إلى حَيْثُ يُريدُ؟
- تُسْعِدُني صَداقَتُكِ سيّدتي رغْمَ أنّنا كنّا صديقَيْنِ في الماضي.
- مساءَ الخيرِ سيدي العزيز. إنه لَمِنْ دواعي سروري الشديد أن أكون ضِمْنَ قائمةِ أصدقائِكَ.
- لقَدْ تأَثَّرْتُ كثِيرًا بالتّعْليقِ الذي كتَبْتِهِ منذُ أيامٍ لفائدةِ ابني. وجَدْتُ أنَّهُ ينْطوي على عباراتِ أمومةٍ صادِقَةٍ.
- شكرا، سيّدي، على إحْساسِكَ المُرْهَفِ. يبْدُو من خلالِ مُلاَحظَتِكَ أنّكَ تَمْتازُ بأُبُوَّةٍ كبيرةٍ.
- بالتَّأْكيدِ، ما دامَ الآن ليْسَ لِي سوى أبْنائي. لكنْ لِلْأَسفِ هُمُ الآنَ مُشتَّتُونَ ولاَ يُمْكِنُ أنْ أراهُمْ مُجْتَمِعِينَ. ولكن يَبْدُو أنّني شَغَلْتُكِ بِمَا فيهِ الكفايَةُ لذلكَ أُسَرِّحُكِ الآنَ مُتَمَنِّيًا لَكِ ليْلَةً هَانِئَةً وأقولُ لكِ إلى المَرّةِ المُقْبِلَةِ.
- ليْلَتُكَ سعيدةٌ.
بَقِيتَ مُتَشوِّقًا إلى التَّحاوُرِ معَها. في الحقيقة، لم تَكُنْ تَرْغَبُ في إِنْهاءِ الحِوارِ. ولكنّكَ فَكَّرْتَ في أنْ لاَ تُثْقِلَ عليْها منذُ أوَّلِ مرّةٍ. وربَّما أيْضًا كنْتَ لاَ تَزَالُ مُتَلَعْثِمًا، تبْحثُ عن الكلمات وعنِ الرُّدُودِ الواضِحَةِ النَّقِيَّةِ التي لا تَقْبَلُ أيَّ تأْويلٍ مُخَالِفٍ لِمَا قَصَدْتَ. المُهِمُّ أنَّكَ استطعْتَ أن تتحاوَرَ معَها وتغلَّبْتَ على تردُّدِكَ ووجدْتَ ما تقولُهُ لها. لمْ تكنْ تتخيَّلُ أنَّ المسْألةَ بِتِلْكَ السهولةِ وذلكَ اللُّطْفِ. فُتُونُ كانتْ في غايَةِ الأَدَبِ ولمْ تُخَيّبْ ظَنَّكَ رغْمَ أنَّها لمْ تقُلْ لَكَ أشْياءَ كثيرَةً. رُبَّمَا فسَّرْتَ ذلكَ بِقِصَرِ الوَقْتِ الذي تحاوَرْتُما فيهِ. بعْدَمَا أنْهَيْتَ الحوارَ معَها، بقيتَ فتْرَةً من الزّمنِ تنْظُرُ في الفَراغِ كَأَنَّ الأشْياءَ تَوَارَتْ من حوْلِكَ وبَقِيتَ وحْدَكَ، مقْذُوفًا بِكَ في الخَلاَءِ، ولاَ شيْءَ يُؤْنِسُكَ سِوَى وَجْهِهَا الذي تتخيّلُه في ذِهْنِكَ باسِمًا، ناعِمًا، حالمًا يُبدِّدُ ظُلْمَةَ النّفْسِ الحزينةِ وينْشُرُ شذَى زهورٍ ريفيَّةٍ قَطَفَتْها تلكَ المرْأةُ التي ستظلُّ صورتُها ترْقُصُ في وِجْدانِكَ عنْدما أخَذْتَها في سيّارتكَ، في بدايةِ حُبِّكُما، وكان الفصْلُ ربيعًا، إلى الرّيفِ الذي أنتَ تنْحَدِرُ منهُ. لمْ يبْقَ في ذهنِكَ بعْدَ ذلكَ الحوار مع فُتُونَ على "مسنجر" سوى وجهِهَا الهادئِ المُبْتسمِ، وبَقايا موسيقى رائقةٍ تنْبَعثُ في أعماقِ نفْسِكَ وتذكِّرُكَ هي أيْضًا بالمرْأةِ التي رافَقَكَ وجْهُهَا وأسْعَدَتْكَ ابْتسامتُها سنواتٍ طويلةً... ويَعُودُ نفْسُ السُّؤالِ يَطْرُقُ ذهْنَكَ: مَنْ هي فُتُونُ؟
- مساءَ الخيْرِ صديقي القديم الجديد. يَظْهَرُ على فايسبوك أنَّكَ الآنَ تسْتعْمل الأنترنت. هلْ أنتَ اليومَ في إجازة؟
- مساءَ الخيْر. أحْيانا يكونُ هاتفي الجوّال متّصلاً بالأنترنت دون أن أستعْملهُ وأحيانا يكون حاسوبي بالمنزل متّصلاً بينما أكون أنا قدْ خرَجْتُ. أمّا عن العمل، فأنا خرَجْتُ للتقاعُدِ منذُ أرْبعِ سنواتٍ. ولكنْ يُسعدُني أنْ أجِدَ إرْساليّتَكِ عندَ أوَّلِ اتِّصالٍ بالحاسوبِ.
- يُسْعِدُني كثيرًا أن أتواصل معَكَ. لُطْفُكَ وكَلاَمُكَ يُدْفِئَانِ القلبَ.
- رأيْتُ تدْوِينَتَكِ عن الكاتِبِ "عبد الرحمان منيف". أُحبُّ كثيرا كتاباتِهِ وقدْ قرأْتُ عددًا منها ولكنْ لمْ أقْرأْ "مدن الملح".
- يُمكنُكَ تحميلُها من الأنترنت. وإنْ شئْتَ أبْعَثُ لكَ الرَّابِطَ.
- أكونُ ممْنونًا لكِ.
- واضِحٌ أنَّكِ تحيّينَ القِراءةَ.
- أعْشَقُ الكُتُبَ كثيرًا. وأُحبُّ قراءةَ الأعمال الأدبية عموما، والروايات على وجهِ الخُصوصِ. أستمتِعُ مُدّةً بعالَمِ كلّ رواية جديدةٍ أشْرَعُ في قراءَتِها وأَغْتَمُّ قليلاً عندما أنْهيها لأنني أودّعُ ذلك العالَمَ بعْدَ أنْ ألِفْتُهُ. أكونُ أيْضًا في غاية الغبطة وأنا أقْرَاُ كتُبَ الدّراساتِ العلمية في مجالِ العلومِ الانسانيّةِ، وأشْعُرُ أنني دائمًا أتعلَّمُ، وانّ حاجتي إلى القراءةِ تزدادُ ويَكْبُرُ معَهَا إحْساسي بالمُتْعةِ.
- لاَ شكَّ أنَّكِ تُفضِّلينَ القراءةَ بالفرنسيّةِ ما دُمْتِ أستاذة في هذه اللغة، حسب ما كتبْتِهِ في صفْحتِكِ.
- أنا فعْلاً مُدرِّسة فرنسية لكنْ أقرأُ الكتابَ الذي يُعْجِبُني سواءً كان بالفرنسية أو العربية أو حتى الإنجليزية.
- ذكَرْتِ اسمَ "قبِلّي" على صفْحَتِكِ. فهلْ أنتِ تعْملين هناك؟
- أعْمَلُ بمدينة "قابس" وفي العُطَلِ المدْرسيّة أعودُ إلى العاصمةِ، مسْقطِ رأسي، وحيْثُ تُقيمُ أسْرَتي.
- لاَ شكَّ أنَّ العملَ بعيدًا عنْ أولادِكِ وزوجِكِ يجْعَلُكِ لاَ تشْعُرينَ بالارْتِياحِ.
- أنا غيرُ متزوّجةٍ ولسْتُ مهتمّةً بهذا الموضوعِ رغمَ أنني في سِنِّ الكُهولة لأنّني أشْغَلُ وقْتي بالعملِ والقراءةِ والمطْبخِ والتمارين الرياضية في المنزل وفي قاعة الرياضة والمشْيِ مسافاتٍ طويلةٍ نسْبيّا والأسْفارِ أحْيانًا خلالَ العُطَلِ.
- ورغْمَ ذلك، قدْ تجدينَ صعوبةً في السُّكنى بِمُفْرَدِكِ والتّنقّلِ داخلَ المدينة أوْ عندَ العوْدةِ إلى العاصِمةِ، خاصّةً بعد أنْ ضَعُفَ الإحْساسُ بالأمْنِ وتَزايَدَتْ نِسَبُ الإجْرام بالبلادِ نتيجةَ الفقْرِ والبطالةِ وانتشارِ المُخدّراتِ في الأوساطِ الشبابيّةِ، وخاصّة لدى أولئكَ الذين لا يجدونَ سندًا مادّيّا وتربويّا يعْتَمِدونَ عليهِ ليَتَجنَّبُوا التّفكيرَ في المُخدّراتِ والجريمةِ والهجرةٍ الممنوعةِ.
- لا أجِدُ صُعُوبةً تُذْكَرُ لأنني أُقيمُ معَ امرأةٍ من أقْرِبائي صديقةٍ لأسْرَتِي.
- وهذا الاسْمُ الجميلُ "فُتُون". أجدُهُ رائعًا ومُثيرًا ولَهُ دِلاَلاَتٌ حالمةٌ تطْغَى عليها الأُنوثةُ. فهلْ هو اسمُكِ الحقيقيُّ أمْ هو اسمٌ مسْتَعارٌ؟
- هوَ اسمي الحقيقيّ.
- يقولونَ أنَّ "لكلِّ امرِئٍ من اسمِهِ نصيبٌ". لا شكَّ أنّ الصِّفاتِ التي يَنْطَوِي عليْها اسمُكِ مُجَسَّمةٌ فيكِ.
أحسّتْ بِقُشعْريرةٍ خفيفةٍ مُنْعِشَةٍ. وارتَبكتْ قليلاً في الرَّدِّ. لكنَّها سرْعانَ مَا التَقَطتْ نَفْسَها وتابعتْ الكتابةَ:
- سأتوقّفُ الآنَ عن الحديثِ عنْ نفْسي لتُحدّثَني أنتَ عنْ بعْضِ جوانِبِ حياتكَ.
- كلُّ ما هوَ موْجودٌ على صفْحتي في الفايسبوك صحيحٌ. لا أكتُبُ باسْمٍ مُسْتَعارٍ ولا أدوِّنُ إلاّ المعْلوماتِ المُطابقةِ للواقِعِ.
كُنْتَ في كلّ مرّةٍ تزدادُ قرْبًا منها. وكلّما اقتربْتَ أكْثرَ، تشْتعلُ نارُ شوقٍ غريبٍ داخلَكَ، تُلحُّ عليْكَ أنْ تقْتَرِبَ أكْثرَ فأكْثرَ إلى أن تلتحمَ روحُكَ بروحِهَا وجسدُكَ بجسَدِها، وتصْفُو الدّنيا من حوْلِكُما وتعود الغيْمَاتُ البيْضاءُ إلى فضاءِ وجْدانِكَ الذي تعبَ منْ انتظارٍ لا يُفْضي إلى شيْءٍ ومن سماءٍ فارغةٍ بِلاَ روحٍ تُعرْبِدُ فيها نسماتُ اليأْسِ الحزينةِ. كنتَ تشْعُرُ بفرحها وهي تكتُبُ لكَ وكانَ يُسْعِدُكَ ذلكَ الإحْساسُ كثيرًا وتُجيبُها بسُرْعةٍ حتّى لا يطُولَ انتظارُها. كنتَ تكْتُبُ أجْوِبَةً رقيقةً لكنّها لا تُعْطي تقريرًا مفصَّلاً عنْكَ وعنْ علاقتكَ بالمرأةِ التي سكنتْ قلْبكَ منذ سنواتٍ. ورغْمَ أنَّ شيْئًا ما بداخلِكَ لا يتوقّفُ عنْ إخْبارِكَ بأنّ فُتُونَ هي نفْسُها المرأةُ التي تعيشُ يوْميًّا وطْأةَ الاكتواءِ بفِراقِها الذي تواصلَ شهورًا، فإنَّكَ لا تُظْهِرُ ذلكَ لها. وتظلُّ تَكْتُبُ لها كأنّكَ حديثُ عهْدٍ بمعْرِفَتِها.
انْتبهتْ فتونُ إلى أنّكَ، من خلال أجوبتِكَ، ومن خلالِ نصٍّ قرأتْهُ لكَ في أحدِ المواقعِ الرّقْميّةِ، تعيشُ حالةَ حزْنٍ. لكنّها لا تعْتقدُ أنّهُ حُزْنٌ على المرْأةِ التي رحلتْ إلى الأبدِ منذُ عَشْرِ سنواتٍ، بلْ هو حزْنٌ على امرأةٍ أخْرى. قالتْ بأنّها قرأتْ النّصَّ جيّدًا واستنتجتْ أنّ المُصرّحَ به لا يعْدُو أنْ يكونَ غِلافًا وَاقِيًا لحقيقةٍ مُغايِرَةٍ تتمثّلُ في تعلّقِك بامرأة أخرى، ما زلْتَ حزينا عليها بعْدما ابتعدتْ عنْكَ منذ مدّة. وحسب تحليلها، ليْسَ من المعقولِ أن يصْمُتَ الانسانُ عَشْرَ سنواتٍ، ثمّ يفيضُ بهِ الحنينُ فجْأةً، ويأخُذُ في نحيبٍ مُرٍّ وكأنَّ الزّمنَ توَقَّفَ طيلةَ تلكَ السنواتِ.
الحقيقةُ في رأيِ فُتُونَ أنّكَ تريد أنْ تقول للمرأة التي تعيشُ ألَمَ فِراقِهَا بأنّكَ لا تسْتطيعُ أنْ تُحِبَّ غيْرَها، وأنّكَ عنْدَما تفكِّرُ في أنْ تتعلَّقَ بامرأةٍ أخرى، فَلَنْ تذْهَبَ إلاّ لامرأةٍ ماتَتْ منذُ سنواتٍ. وتبْقى مرارةُ حُبّكَ للمرأةِ التي تسْكُنُ قلْبَكَ تُلاحقُكَ وتُغشّي سماءَكَ بألوانِ الكآبةِ القاتمةِ. ورغم ذلك لامتْكَ فُتُونُ شديدًا لأنّكَ، حسب رأيِها، كانَ عليْكَ أنْ تراعِيَ مشاعِرَ المرأةِ التي تحِبُّ، وتتحاشى الكتابَةَ في امرأةٍ سواها حتّى وإنْ كانتْ تلكَ المرأةُ هيَ امرأتُكَ السابقةُ. وفسّرتْ لكَ ذلكَ بأنَّ المرأةَ المُحِبَّةَ، تكْرَهُ أنْ تُشَاركَهَا امرأةٌ أخرى، حتّى ميّتةً، في عاطفتها تجاه الرّجلِ الذي تُحبُّ.
وماذا لو لم تكنْ فتونُ هي نفْسُها المرأة التي تحبُّ؟ ستكونُ عندئذٍ في ورْطةٍ عاطفيّةٍ تُعمِّقُ شعورَكَ بالضّياعِ أيّها الضّائعُ الذي أضاعَ المرأةَ التي يحبُّ وأضاعَ أحْلامهُ معَها وأضاعَ الفرَحَ بابتسامتها التي كانتْ تُشْرقُ الشمسُ منها، ويطيرُ الحمامُ ويحطُّ الحمَامُ وتأتي الغيْماتُ البيْضاءُ المبتهجةُ بإطْلالتها البهيّةِ. وجْهُها أمْ وجهُ فتُونَ أمْ كِلاَهُما يَا مَنْ سَكَنَتْهُ المخاوفُ وفقَدَ هُدُوءَ نفْسِهِ. لماذا تريدُ أنْ تؤَسّسَ مع فتون علاقة جديدةً وأنتَ مازلتَ مشدودًا إلى غيرها؟ مَنْ أخْبرَكَ بأنَّها هي نفْسُها المرأةُ التي نفْسُكَ مشدودةٌ إليها؟ أنتَ تريدُ أنْ تُسهِّلَ على نفْسِكَ الدّخولَ في علاقاتٍ عاطفية جديدة. لذلك تَزْعَمُ أنّها هي نفْسُها المرأةُ التي تهْفُو نفْسُكَ لها. هذا تسامُحٌ مُبالَغٌ فيه. ينبغي أنْ تتأكّدَ سريعًا منْ أنّ فتونَ هيَ نفْسُها ساكنَةُ قلْبِكَ، وإلاَّ فالأمْرُ مخْتلفٌ. وعليْكَ الحسْمُ. ولا مجالَ للتّأرْجُحِ أيّها الرّجُلُ الذي يُوشكُ أنْ يُصْبحَ متأرْجِحًا. ولا أودُّ أنْ أقولَ غيْرَ ذلكَ.
أعْجبَكَ مدْخَلُ الصّداقةِ المُحايِدَةُ الذي تسلّلتْ منهُ إليكَ وإلى عالمِكَ المسْكونِ بالأشْواقِ والمخاوِفِ من أنْ يُصْبحَ الذي بيْنَكَ وبيْنَ مَالكَةِ روحكَ مُجرَّدَ ذكرياتٍ باردةٍ لا حياةَ فيها. منذ أنْ أصبحتْ فتُونُ تكتبُ إليكَ على مسنجر كلَّ يومٍ، بدأتْ مكانتُها تزدادُ في نفْسكَ، ولمْ يعدْ يمرُّ يومٌ دونَ أنْ تكتُبَ لها. شدّكَ إليْهَا حديثُها عن المشاعرِ، وقدْرَتُها على تقديم آراءٍ تسْتنِدُ إلى قراءاتٍ كثيرةٍ. سَألتْكَ كثيرًا في البدايةِ عن المرْأةِ التي تُحبُّها وعن الأسباب التي أبْعدَتْ بيْنكُما. وكانتْ تطْلُبُ منكَ صراحةً أنْ تعودَ إليها، وأنْ لا تضيّعَ أيّامًا وشهورًا أخرى من حياتِكُما لأسبابٍ واهيةٍ. المُهِمُّ بالنسبة إليها هو أنْ يكونَ كِلاَكُما مسْكونًا بالآخَرِ، يفكّرُ فيه حتّى في غيابهِ، ويَحْنُو عليْهِ حتى وهو بعيدٌ عنهُ، ويحْزِنُ عندما لا يراه حتّى بصفة افتراضية على يمين صفحة الفايسبوك.
- كلماتك فيها رقّةٌ ولطفٌ كبيرَانِ. أعتقدُ أنّ المرأةَ التي تحبُّها والتي هي الآنَ بعيدةٌ عنْكَ وأنتَ حزينٌ بسبَبِهَا كان يجبُ أنْ تكونَ بجانبِكَ وفي غاية السّعادة، لأنّها منحتْكَ طاقةَ الحُبّ. وبفضْلِ هذه الطاقةِ، أراكَ رقيقًا وجميلاً في كلّ ما تقولُ. وبِدُونِ هذه المرأةِ، تخشى أنْ تفقدَ توازُنَكَ، وتتلاشى الطاقةُ الإيجابية التي بثَّتْها فيكَ، وَتضيعَ كلُّ الأفكارِ التي تخيَّلْتُمَاهَا مَعًا.
- بلْ أنتِ الرِّقَّةُ كُلُّها سيّدة فُتُون. ودون أن أكونَ قدْ شاهدْتُ وجهكِ، لأنّكِ حتّى على الفايسبوك، تضعين صورة مستعارةً، أجزمُ أنّكِ جميلةٌ، روحًا ووجْهًا وجِسْمًا. أنا سعيدٌ أنني أتحدّثُ مع سيّدةٍ جميلة ومثقّفةٍ. وسعادتي أكبَرُ بأنَّ رأْيَكِ فِيَّ إيجابيٌّ. لكنْ منْ أدْراكِ أنَّني أحبُّ امرَأةً غيْرَ زوجَتِي المتوفّاةِ وأنني حزينٌ بسببِ فراق تلْكَ الْمرْأَةِ؟
- أنا متأكّدةٌ من ذلك وأتمنّى لكما كلَّ الخيْرِ. وأرى أنّه من الأفضلِ لكما أنْ تتصالحا ليَعُودَ الفرحُ إلى قلْبَيْكُما وترتسمَ الابْتسامةُ منْ جديدٍ على شفَتيْكُما وتعودَ السّنونو إلى التّحليقِ حولكما وترتسِمَ الغيْماتُ البيضُ في سمَاءَيْكُما. لماذا تَحْرِمَانِ نفْسيْكما من أفراحٍ ممْكِنةٍ وشعورٍ جميلٍ يُضْفي على الدّنيا ألوانَ البهْجةِ؟
- ألا تريْنَ، سيّدة فتون، أنّ وصفَكِ لهذه العلاقةِ فيه شيْءٌ من المثاليّةِ. وقدْ تتوفّرُ في العلاقة بين امرأةٍ ورجلٍ عواملُ تَرابُطٍ وتقارُبٍ وتوادُدٍ، كما قدْ يتوفّرُ العكْسُ، ويحُلُّ التباعُدُ وتَنْشَأُ الفُرْقَةُ. وقدْ تتداخلُ عوامِلُ التقارُبِ وعواملُ التباعُدِ، وتختلط التأثيراتُ، فتصفو الدّنيا أحيانا، وأحيانا تتكدَّرُ النفوسُ ويغْتمُّ القلْبُ.
- رغم أنني لم أعِشْ هذه التجربة، فأنا أعتقدُ أنّها تكون إيجابية مع رَجُلٍ مثقَّفٍ ومتفهِّمٍ مثلكَ.
- هلْ تعتقدينَ أنّ الحُبَّ مُمْكِنٌ بعْدَ سِنِّ التّقاعُدِ؟
- وما المانع من ذلكَ إذا كان القلْبُ مسْكونًا بصورة منْ يُحبُّ. ومن الناحية الصحيّة، تقول الدراسات بأنّ الحُبّ في هذه السّنِّ يُبطِئُ الشيخوخة ويقوّي جهازَ المناعةِ ويُطيلُ في العُمُرِ المتوقّعِ ويقوّي نظام القلب والأوعية الدموية ويعطي شعورا فريدًا بالرفاهية والسعادة. وقد قرأتُ في دراسة عن الحُبِّ والجنسِ في هذه السّنِّ معْلوماتٍ تفيد بأنّهما ضَمَانٌ للرَّفاهيةِ، وأَنَّ لَهُمَا فوائدَ على صحتنا العقلية والجسدية. وهُمَا يتسبَّبَان في انبعاثِ هرموناتِ السّعادةِ مِثْلِ الإندورفين، الدوبامين، الميلاتونين ... التي تُوَفِّرُ الحيويّةَ والامتلاءَ. وَبِفضْلِ هذه الهرموناتِ يتمُّ تقليل التّوتُّرِ والقلقِ من خلال السُّلوكيّاتِ الهادئةِ وتقليلِ خطرِ الإصابةِ بالاكتئاب بالإضافة إلى تقوية جهاز المناعةِ. والوُقُوعُ في الحُبِّ يمنحُ الحياةَ طَعْمًا، ويقوّي احترامَ الذّاتِ وَيمْكِنُ أن يُوَفِّرَ في بعض الأحيان فُرْصَةً جديدةً للحياةِ. أضفْ إلى كلّ هذا مَعْرِفتي أنّكَ ما زلتَ قويًّا في فكرِكَ وجسْمِكَ. وما زالتْ مشاعرُكَ تتسعُ لحُبِّ امرأةٍ جميلةٍ تحبُّكَ وتراكَ في أحلامها، وترى فيكَ غيْمتَها البيْضاءَ.
- هذا كثيرٌ عليَّ يا سيّدتي.
- بلْ هذا من تواضُعِكَ. أعْرفُ أنّك تعرِفُ كيفَ تحبُّ امرأةً تُفكِّرُ دَوْمًا فيكَ وتُحْسنُ الحديثَ إليها وتُمْتِعُها بشَغَفِكَ المُتَواصِلِ بها.
- ومَنْ تكونُ هذه المرأةُ التي أشْغَلُ تفْكيرَها؟
- اِبْحَثْ في وِجْدانِكَ وستَعْرِفُها.
لَمْ يعُدْ يدْري هلْ عليْهِ أنْ يبْتَهج بما كتبتْهُ له فُتُونُ أمْ عليْهِ أنْ يتَّخِذَ موْقفًا مُتأمِّلاً ولاَ يُسلِّمُ مشاعِرَهُ بسرْعةٍ. لكنّ الشّكوكَ تسْتبِدُّ به وتُفْقِدُهُ الهُدُوءَ وَتحْرِمُهُ لذَّةَ اليقينِ. صورةُ المرأةِ التي يحبُّها تُسيْطِرُ عليهِ وتمْلَأُ وجْدانَهُ. يَرَاهَا في كلِّ كلمة وكلِّ سطْرٍ كتبتْهُ له فُتونُ. نفْسُهُ تحدّثهُ أكثرَ من ذي قَبْلِ أنّ فُتونَ ليْستْ سِوَى وَجْهٍ آخَرٍ ابْتدعتْهُ المرأةُ التي ترْنُو نفْسُهُ إليها لتسْتطيعَ أنْ تتحدّثَ إليْهِ بشيْءٍ من الحرّيّة وأنْ تبُثَّهُ لواعجَ شوْقِها بعْدَ انْقطاعِ شُهُورٍ عن التواصُلِ، ودونَ أنْ تُخْبِرَهُ عن هُويَّتها الأصليّةِ... كلامُ فتونَ يُثيرُهُ ولكنّهُ يسْتغْربُهُ ويسْتبْعِدُ أن تكونَ فتونُ شخْصًا آخرَ غيرَ التي تشْغَلُ تفْكيرَهُ ووجدانَهُ على الدّوامِ. كلماتُ فتونَ أجَّجتْ نارَ شوْقِهِ إليها، وصارَ يراها في كلِّ مكانٍ، ويرى ابْتسامتَها وهي قادمةٌ إليْهِ ووجهُها الأبْيضُ الذي يميل إلى الاستدارة يتَّجهُ نحوهُ في حُنُوٍّ، وشعْرُها البُنِّيُّ الفاتِحُ المُنْسابُ يتطايَرُ تحتَ هبوبِ النسماتِ كَحَمَامَاتٍ أليفةٍ وجسْمُها الصّديقُ يناديهِ من بعيدٍ ويهْرعُ إليهِ.
- وددْتُ أنْ أعْرِفَها لأرى حسْنَ اختيارك. لا شكَّ أنها على غاية من الجمال وتُحْسِنُ استمالَتَكَ إليها. وإلاَّ لَمَا بَقيتَ تَحِنُّ إليها بصمْتٍ وتتوهّمُ أنّها موجودة في كلّ مكانٍ وتراقبُ كلَّ ما تكتُبُهُ على الفايسبوك ومسنجر.
- لاَ تشغَلي نفْسَكِ بامرأةٍ لا تعرفينها.
- المرأة الذكيّةُ المُطّلعةُ على احتياجات صفِيِّ روحِها عاطفيًّا وفكْريّا وصِحِّيًّا واجتماعيًّا لاَ تتغيَبُ مدّةً طويلةً على رَجُلٍ مُرْهَفٍ مثْلك.
- لكنّ الغيابَ إنْ حصَلَ، فهْوَ من الجهتَيْنِ. وإنْ حصلَ ضَرَرٌ فللاثْنَيْنِ في آنٍ واحدٍ.
بقيتَ أيّاما تكتُبُ لفُتُونَ وتواصلتْ جَذْوةُ الكتابةِ لها. وفي كلّ مرّةٍ تشْعُرُ أنّكَ تزْدادُ اقترابا منها وتعلُّقًا بها وربّما تكْبُرُ رغْبَتُكَ فيها. لكنَّك في كلِّ مرَّةٍ، تتخيَّلُها امْرأتُكَ التي تعلَّقَتْ روحُكَ بها، وتتخيّلُ أنّها ابتدعتْ فُتُون لتكْسِرَ أشواقها إليكَ وتستطيعَ الحديث معك عبر الكتابة على مسنجر، ولكن أيضا لتُراقبَ مدى وفائكَ لها.
الغريبُ، أنّك عندما تصالحتَ معَ المرأة التي أحْبَبْتَها منذ سنين، حدّثْتَها عنْ فُتُونَ فلمْ تُبْدِ اهتماماً بالأمْرِ. وبقيتَ تكتُبُ لفتون من حين لآخرَ وتعبّرُ لها أحيانا عن أشواقكَ إليها وتكتبُ هي لك كلاما فيه كثيرٌ من الشاعرية والحرارة أحْيانًا.



#منوّر_نصري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أوّل منزل
- هكذا أرسم الفرح - تقديم لمجموعة شفيق الجندوبي الشعرية الموجه ...
- أشواق
- الشهقة أمام الألوان
- سألوّن السحاب - مقاربة تعدّدية لأشعار فريدة صغروني
- دنيا جديدة
- امرأة افتراضية
- نتائج البكالوريا 2015 : الواقع والتأويل - المعاهد العمومية ب ...
- أزمة الهوية المهنية للمتفقدين البيداغوجيين وموقع المتفقدين ا ...


المزيد.....




- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - منوّر نصري - فُتُون