أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - التربية والتعليم والبحث العلمي - منوّر نصري - أزمة الهوية المهنية للمتفقدين البيداغوجيين وموقع المتفقدين العامين للتربية فيها















المزيد.....


أزمة الهوية المهنية للمتفقدين البيداغوجيين وموقع المتفقدين العامين للتربية فيها


منوّر نصري

الحوار المتمدن-العدد: 4704 - 2015 / 1 / 29 - 00:34
المحور: التربية والتعليم والبحث العلمي
    


في الوقت الذي يشهد فيه التفقد البيداغوجي عودة أهمّية في العديد من دول العالم باعتباره من أهمّ آليات قيادة الجودة في المؤسسات التربوية التي أصبحت من أولويات أصحاب القرار السياسي (Organisation des Nations Unies pour l’éducation, la science et la culture UNESCO, 2007, La réforme de l’inspection scolaire pour améliorer la qualité, module 1, L’inspection : une composante clé d’un système de pilotage de la qualité, p.5. ) يعيش قطاع التفقد في تونس أزمة هويّة مهنيّة سوف أحدّد أبعادها وأوضّح مؤشراتها وملامحها بالنسبة إلى كلّ بعد بالاستناد إلى ما يعيشه المتفقدون في عملهم اليومي منذ سنوات قليلة وخاصّة بعد ثورة 14 جانفي 2011 وكذلك بالاستناد إلى ما يكتبه المتفقدون في صفحات التواصل الاجتماعي وما يصرّحون به في مناسبات وأماكن رسمية وغير رسمية وبمقارنة الوضع الراهن للمتفقد بما كان عليه وضع المتفقد في الماضي وإلى غاية العشرية الأولى من القرن الحالي.
والمقصود بالهوية المهنية للمتفقد التصوّر الذي يبنيه عن نفسه في إطار علاقته بعمله وبمسؤولياته المهنية وبالمتفقدين الآخرين وبالمدرّسين والتلاميذ والأولياء وبكلّ المتدخّلين في الشأن التربوي. ويُعتبر تكوين الهوية المهنية عملية بنائية متواصلة تتفاعل فيها العوامل الذاتية التي تهدف إلى التميز والاختلاف عن الآخرين المنتمين إلى نفس المهنة لتحقيق الفرديّة مع العوامل الاجتماعية التي تهدف إلى تشرّب ثقافة القطاع في مختلف أبعادها المعرفية والقيمية والمعيارية بهدف التشبه بالمتفقدين الآخرين لتحقيق الانتماء إلى المجموعة المهنيّة. وبذلك يتواصل بناء الهوية المهنية للمتفقد في إطار التفاعل بين البعد النفسي والبعد الاجتماعي لديه. (D’après : GOHIER, Ch. et ALIN, Ch. (2000), (sous -dir-.), Enseignant-formateur : la construction de l’identité professionnelle. Paris, Montréal, Budapest, Torino, l’Harmattan, p.27.)
وما دام المحيط التربوي الذي يتحرّك فيه المتفقد متغيّرا فإنّ الهوية المهنية للمتفقد في سعي متواصل لاستيعاب المتغيرات الجديدة والتلاؤم معها. لكن عندما يصبح التفاعل مع المعطيات الجديدة عسيرا أو غير ممكن لأنّها تتعارض مع تصوّراته عن المهنة وعن أفكاره ومعتقداته وقيمه وممارساته التي دأب عليها، فإنّ ذلك يخلق أزمة هويّة مهنية لدى المتفقدين. فالأزمة تنشأ نتيجة انقطاع منظومة من القيم والمعايير والممارسات المهنية التي يشترك فيها المتفقدون وتنظّم تعاملهم المهني والاجتماعي مع مختلف الأطراف الذين تربطهم بهم علاقة مهنيّة. وتتسبّب الأزمة في حالة من الاضطراب والتخبّط والغموض مترتّبة عن ضياع المرجعيات السابقة. (D’après : DUBAR, C., (2003), La crise des identités, Paris, Presses universitaires de France, p.4. ). فما هي ملامح أزمة هوية المتفقدين البيداغوجيين في تونس وما هو موقع المتفقدين العامين للتربية فيها ؟ وما هي أسباب الأزمة ؟ وما هي ملامح إصلاح منظومة التفقد للخروج من الأزمة ؟
أبعاد أزمة الهوية المهنية للمتفقدين البيداغوجيين ومؤشراتها
تندرج أزمة الهوية المهنية للمتفقدين البيداغوجيين ضمن أزمة عامّة تعيشها البلاد منذ ثورة 14 جانفي2011 وتعاني منها الهويات المهنية للعديد من القطاعات إن لم تكن كلّها. وفي هذا الإطار، تنطبق التحاليل التي يقدّمها Georges A. Legault استنادا إلى الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني Jürgen Habermas الذي يؤلّف بين الماركسية والبراقماتية الأمريكية والذي كتب في سبعينات القرن الماضي موضحا علاقة أزمة الهويات الفردية والهويات الاجتماعية التي تشمل الهويات المهنية بأزمة الدّولة. فهو يعتقد أنّ هذه الأخيرة تنشأ عندما تختلّ عوامل الاستقرار والتوازن المادية والثقافية والقيمية في المجتمع وتصبح الدولة عاجزة على المحافظة على أسباب التوازن المجتمعي فيتسبّب ذلك في خلق عوامل تأزّم هويّات الأفراد والمجموعات. فالنزوع نحو الأزمة يتسرّب حسب Habermas من الاقتصادي إلى السياسي ثمّ إلى الثقافي حتّى يصل إلى مكوّنات الشخصية بحيث أنّ ما يظهر كأزمة نظام بأكمله ترتبط به ارتباطا وثيقا أزمة هويات. (D’après : LEGAULT, G. A., (sous -dir-.), 2003, Crise d’identité professionnelle et professionnalisme, Presses de l’Université du Québec, p.7.)
وتشمل أزمة الهوية المهنية للمتفقدين البيداغوجيين عدّة أبعاد منها العلاقة مع المدرّسين، العلاقة مع مديري المؤسسات التربوية، العلاقة مع المندوبيات الجهوية للتربية، العلاقة مع الوزارة، العلاقة مع العمل، العلاقة مع التفقد، العلاقة مع التكوين، العلاقة مع التجديد البيداغوجي...
1. العلاقة مع المدرّسين
بدأت علاقة متفقدي المدارس الابتدائية مع المعلّمين تتغيّر سلبا منذ أن حذفت الجوانب الإدارية من مهامّ المتفقدين وأصبح دورهم مقتصرا على الجوانب البيداغوجية حتّى أنّ الوزارة صارت تطلق عليهم تسمية المتفقدين البيداغوجيين ليقع التمييز بينهم وبين المتفقدين الإداريين والماليين. كانت المهام الإدارية تمثّل جزءا كبيرا من عمل المتفقد حسب الأمر عدد 110 لسنة 1973 المؤرّخ في 17 مارس 1973 والمنشور بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية الصادر في 20-23 مارس1973 والمتعلّق بالقانون الأساسي الخاص بأعضاء هيئة التفقد البيداغوجي بوزارة التربية القومية. ويكفي أن نتصفّح الفصل 23 من العنوان التاسع في القانون الأساسي المذكور والخاص بمشمولات متفقد التعليم الابتدائي لنتبيّن نسبة المهامّ الإدارية من حجم العمل الجُملي. فباستثناء المهمّة الواردة في مفتتح قائمة المشمولات والتي جاء فيها ما يلي: "يُعيَّن متفقدو التعليم الابتدائي ضمن تفقدية جهوية على رأس دائرة ويُكلَّفون بصفة عامّة بإرشاد وتفقد مديري المدارس الابتدائية بدوائرهم ورجال التعليم العاملين بها " نجد أنّ بقيّة المهامّ وعددها أربع يغلب عليها الجانب الإداري. أمّا الخامسة فتتعلّق بالتكوين ولا تهمّ إلاّ بعض المتفقدين. وقد وردت المهام المذكورة في الأمر عدد 110 لسنة 1973 كما يلي: "ويكلّف متفقدو التعليم الابتدائي بالخصوص تحت سلطة المتفقد الجهوي
o بالسهرعلى حسن تنظيم المدارس وبتطبيق التعليمات الرسمية وحسن تعهّد المحلاّت والأثاث المدرسي وحسن صيانة المعدّات والمحفوظات بالمدارس
o بمراقبة سير المشاريع المضافة إلى التعليم المدرسي والتي تلي التعليم المدرسي
o بأن يقترحوا فتح أو إغلاق مدارس أو فصول
o بالقيام بكلّ تحقيق ذي صبغة إدارية أو تأديبية كما يمكن تكليفهم لدى مدرسة ترشيح بالتكوين البيداغوجي للتلامذة المعلّمين والتلميذات المعلّمات أثناء التربّص.
وقد حذفت في الأمر عدد 2348 لسنة 2001 المؤرّخ في 2 أكتوبر 2001 الصادر في الرائد الرسمي للجمهورية التونسية بتاريخ 9 اكتوبر 2001 والمتعلّق بضبط النظام الأساسي الخاص بسلك التفقد البيداغوجي بوزارة التربية جميع هذه المهام باستثناء المهمّة المتعلّقة بالإرشاد والتفقد مع استبدال كلمة "تفقد" بكلمة "تقييم" وفي ذلك دلالة تستحقّ الدرس.
ومنذ صدور الأمر عدد 2348 لسنة 2001 المتعلّق بضبط النظام الأساسي لسلك التفقد، انحصر عمل المتفقد في الجانب البيداغوجي بعدما كان يتّسع لكلّ جوانب تسيير العمل التربوي بالمدارس. وأصبح المتفقد يحمل تسمية متفقد بيداغوجي. ونتج عن ذلك تقلّص سلطته الإدارية. وانعكس ذلك سلبا على علاقة المعلّين به. وأصبحتْ ممارسات بعض المعلّمين الذين لا يعترفون إلاّ بالسلطة الإدارية المفقودة لدى المتفقد تتميّز بتحرّر مبالغ فيه أحيانا، يؤثّر سلبا في الإعداد للعمل بالفصل وإنجازه. وأصبح المتفقد يتعرّض أحيانا لمواقف تدلّ على قلّة احترام لمؤسسة التفقد وحتّى لشخصه. وعندما يتقدّم إلى المندوبية الجهوية للتربية يطلب ردع المعنيّ بالأمر، تتحوّل الوضعية إلى قضية نقابية ويصبح المذنبُ صاحبَ حقّ وتنتج عن ذلك متاعب كبيرة للمتفقد.
وقد ازدادت هذه الأوضاع سوءا بعد ثورة 14 جانفي واتسعت دائرة التمرّد على القانون لتشمل كلّ المؤسسات بما في ذلك المدارس وأصبح عامل الحضائر قادرا على غلق المؤسسة مطالبا بالقوّة بانتدابه ضمن عملة وزارة التربية. وفي هذه المناخات، صار عمل المتفقد عسيرا أكثر من السابق. وصار يعوّل خاصّة على العلاقات الطيّبة والمعاملة الحسنة للمعلّمين والمديرين والمساعدين البيداغوجيين ويتعمّد مجاملة عملة الحضائر عندما يستدرجونه للحديث. ولم تعد المساعدة على تحقيق جودة الفعل التربوي في صدارة اهتمامات المتفقد، لأنّ تحقيق الأهداف المتعلّقة بأمنه وسلامته الشخصية أكثر أولوية.
2. العلاقة مع مديري المؤسسات التربوية
منذ أن أصبح التفقد الإداري والمالي لمديري المدارس من مشمولات المتفقد الإداري والمالي تقلّصت سلطة المتفقد الإدارية على مدير المدرسة، وانعكس ذلك سلبا على عمل العديد من المديرين الذين لا يجتهدون في عملهم في غياب السلطة الإدارية للمتفقد البيداغوجي ولا يتعاونون معه بالقدر الكافي عندما يطلب منهم ذلك في إطار وضعية تربوية تهمّ المدرسة. وكتعبير على عدم الاهتمام بما ينظمه المتفقد البيداغوجي من أنشطة لتحسين نوعية العمل، يتعمّد بعضهم التغيّب على اجتماعات المديرين واللقاءات التكوينية وأشغال اللجان التي يُستدعوْن إليها. وخلال زيارات التفقد والمرافقة والمتابعة التي يقوم بها المتفقد للمدارس، يتعمّد بعض المديرين الانشغال بأمور جانبية حتّى لا يرافق المتفقد إلى القسم المعني بالزيارة وحتّى لا يحضر ولو جزءا من الزيارة رفقة المتفقد ليكون مطّلعا على عمل ذلك المعلّم، وحتّى لا يحضر النقاش الذي يلي الزيارة ويدوّن الملاحظات ليتابعها مع المدرّس.
3. العلاقة مع المندوبيات الجهوية للتربية
علاقة المتفقدين البيداغوجيين مع المندوبية الجهوية للتربية تقوم على المجاملة لكن تيسيرظروف العمل كثيرا ما يبقى مطلبا بدون تحقيق. فالظروف التي يعمل فيها المتفقدون صعبة ولا تليق بهم، لكن عندما يطرحون مسألة صيانة مكتب متفقد أو بناء مقرّ تفقدية تمّ إحداثها أو تجهيز مكتب ببعض الأثاث اللائق أو بسخّان للتدفئة أو بمكيّف هوائي فإنّ الإجابة غالبا ما تكون عائمة يلجأ فيها المسؤول الإداري إلى سرد صعوبات الإدارة وعدم قدرتها على توفير المطلوب في المدى القريب وضرورة انتظار توفّر الإمكانية. وحتّى عندما يحتاج المتفقد الذي ليست له سيارة إلى سيارة لزيارة مدرسة نائية قصد إنجاز عمل متأكّد، فكثيرا ما لا تتمّ الاستجابة لطلبه رغم توفّر السيارات الإدارية.
4. العلاقة مع التكوين
منذ صدور النظام الأساسي لسلك التفقد لسنة 2001 الذي حذفت بمقتضاه المهام الإدارية للمتفقد وما تتضمّنه من سلطة في خدمة العمل التربوي، ضَعُفَ اهتمام العديد من المعلّمين بالتكوين وأصبحت الغيابات في اللقاءات التكوينية التي ينظمها المتفقد أمرا عاديّا. وقد تبلغ أحيانا نسب الغيابات أرقاما مرتفعة يمكن أن تصل إلى 20 أو 30 أو حتّى 40% ويقع إعلام الإدارة بذلك عن طريق قائمات في الغيابات يرسلها المتفقد إلى المندوب الجهوي للتربية. لكن لا شيء يحدث ويتمادى العديد من المعلّمين في الغيابات دون أن تتّخذ الإدارة ضدّهم إجراءات.
وعند إعداد روزنامة اللقاءات التكوينية يتمّ التشاور مع بعض المعلّمين ليعدّوا دروسا شاهدة تكون منطلقا لنقاش مع المعلّمين المدعوّين للتكوين، لكن العديد منهم يرفضون القيام بهذا العمل ويأتون بتبريرات مختلفة لرفضهم القيام بالعمل المطلوب.
وفي اللقاءات التكوينية، يأتي بعضهم فارغ اليدين حتّى من محفظة أو كرّاس للكتابة. وفي نهاية الحصّة يترك بعضهم فوق الطاولة الوثائق التكوينية التي يوزّعها عليهم المتفقد ويغادر قاعة التكوين فارغ اليدين كما جاء.
موقع المتفقد العام للتربية من أزمة الهوية المهنيّة للمتفقدين البيداغوجيين
ينظّم عمل المتفقد العام للتربية حاليّا الأمر عدد 2348 لسنة 2001 المؤرّخ في 2 أكتوبر 2001 والمتعلّق بضبط النظام الأساسي الخاص بسلك التفقد البيداغوجي بوزارة التربية. ويشمل هذا الأمر بالنسبة إلى المتفقدين العامين للتربية عدّة مشمولات وردت في الفصل 7 من الباب الأوّل في العنوان الثاني وموزّعة كما يلي: ثلاث مشمولات عامة وستّ مشمولات في مجال التقييم وثلاث مشمولات في مجال التأطير وثلاث مشمولات في مجال التجديد بالإضافة إلى إمكانية تكليفهم بكلّ مهمّة أخرى يعهد بها إليهم وزير التربية.
ورغم كثرة المشمولات في ظاهرها، فإنّ الغموض يكتنفها لعدم تحديد مكان العمل والجهات التي يتعامل معها المتفقد العام للتربية والمسؤولين الإداريين الذين يمكن أن ينسّق معهم ويطلب منهم الدّعم عند الضرورة على الصعيديّن الوطني والجهوي ونوع العلاقة التي تربطه بالمتفقدين والمتفقدين الأوّلين...
وبالإضافة إلى الغموض في مشمولات المتفقد العام للتربية، فإنّ البعض منها يتقاطع مع مشمولات المتفقد والمتفقد الأوّل. وقد يتسبّب هذا التقاطع في بعض الإشكالات على الميدان. فقد وردت مثلا "متابعة تجريب التجديدات على الميدان وتقييمها" في مشمولات كلّ من المتفقد العام والمتفقد الأوّل للمدارس الابتداية وتغيّرتْ قليلا في مشمولات متفقد المدارس الابتدائية لتصبح "متابعة تطبيق التجديدات التربوية التي يقع إقرارها". وورد "تأطير المتفقدين المبتدئين وتكوينهم مهنيّا" في مشمولات المتفقد العام للتربية. وتغيّر قليلا في مهامّ المتفقد الأوّل للمدارس الابتدائية ليصبح "تأطير متفقدي المدارس الابتدائية قبل ترسيمهم في رتبتهم".
ومن أهمّ عوامل أزمة الهوية المهنية للمتفقد العام للتربية اصطدامه بمنظومة قيم جديدة ومعايير مختلفة عمّا تعامل به في مسيرته المهنيّة الطويلة وإحساسه بأنّ الارتقاء إلى هذه الرّتبة التي هي مطمح كلّ المتفقدين والتي بذل للحصول عليها جهدا مضنيا تواصل سنين طويلة بين العمل الميداني والبحث التربوي والدراسة الجامعية الطويلة بالنسبة إلى البعض لإحراز شهادات مشرّفة ولتحسين الكفايات العلمية خدمة للتربية عموما ولميدان التفقد على وجه الخصوص لا يحقّق له ما كان يطمح إليه لأنّه يجد نفسه في وضعية مهنيّة يكتسيها الغموض ولا يعرف حتّى مع من يتعامل ليجد المعلومة التي يحتاجها وليطّلع على المناشير والمذكّرات الوزارية التي لا تفكّر أيّ جهة إدارية في إرسالها إليه ليكون على علم بما يجدّ في الساحة التربوية.
في القانون الأساسي لهيئة التفقد البيداغوجي الصادر سنة 1973، كان المتفقد الجهوي يُعيّن آليّا على رأس تفقدية جهوية لها معظم صلاحيات المندوبية الجهوية للتربية حاليّا ولكن بالنسبة إلى الابتدائي فقط. وقد ورد هذا في الفصل 20 من القانون المذكور : "يوضعُ المتفقدون الجهويون للتعليم الابتدائي بصفة عامّة على رأس منطقة تشتمل على عدّة دوائر تفقدية." والآن صار المتفقد العام للتربية يبحث عن مكانه في المنظومة التربوية ويتساءل من يمكنه أن يوفّر له مكتبا ومستلزمات عمل ليشعر أنّه مازال ينتمي إلى المنظومة التربوية وما هي الجهات التي ينسّق معها للاتّفاق حول برنامج عمل وما هي الخطوات الإجرائية التي لابدّ من ضبطها ليمكن الشروع في العمل بعد توفير الظروف المساعدة على إنجازه.
كيف يمكن تجاوز أزمة الهوية المهنية للمتفقدين البيداغوجيين بما في ذلك المتفقدين العامّين للتربية ؟
يبدو أنّ الاطلاع على ما كتبته منظمة اليونسكو للتربية والعلم والثقافة مفيد للبحث عن حلّ وطني لأزمة قطاع التفقد، في إطار إصلاح شامل لمنظومة التربية وجعل المتفقد، من ناحية، يساهم بأكثر نجاعة في تحسين مردود المؤسسات التربوية، ومن ناحية ثانية يشعر بالرضا عن ظروف أدائه لعمله وعن مكانته بين مختلف الفاعلين في المجال التربوي، لأنّه كلّما ازدادتْ درجة رضاه عن ظروف العمل والعلاقات مع مختلف الذين يعملون في التربية كالمدرّسين والإداريين ومع المستفيدين منها كالتلاميذ وأوليائهم والمدعّمين لها كالسلط المحلّية والجهوية والمنظمات والجمعيات، ضاعف من مجهوده وارتفعتْ حظوظه في تحقيق نتائج حسنة.
جاء في كتاب رقمي يتكوّن من ثمانية أجزاء صادر سنة 2007 عن منظمة اليونسكو للتربية والعلم والثقافة حول إصلاح التفقد المدرسي لتحسين الجودة أنّ الغايات الأولى لكلّ نظام تفقد مدرسي تتمثّل في قيادة الجودة في التربية، أي جودة المدارس والمدرّسين. ويُفترَضُ أنّ هذه القيادة لها تأثير إيجابي على الجودة. ويُعتبَرُ التّفقّد مكوّنا من منظومة شاملة لقيادة وتحسين الجودة تشمل آليات أخرى مثل الامتحانات وروائز قيس المكتسبات وممارسات التقييم الذاتي للمؤسسات والمدرّسين. Organisation des Nations Unies pour l’éducation, la science et la culture UNESCO, 2007, La réforme de l’inspection scolaire pour améliorer la qualité, module 1, L’inspection : une composante clé d’un système de pilotage de la qualité, p.3.
منذ عشرين عام، نلاحظ عودة اهتمام بالتفقد المدرسي وقيادة الجودة في التربية. وتعتبَرُ ظاهرة ترتيب المدارس حسب الأداء والمكانة المتزايدة التي توليها وسائل الإعلام للدراسات العالمية التي تهتمّ بمقارنة نتائج التلاميذ من المظاهر الدالّة بأكثر وضوحا على هذا الاهتمام. وتتنوّع عبارات السياسيين الدّالّة على الاهتمام بالجودة على النحو التالي: مراقبة الجودة، ضمان الجودة، التصرّف في الجودة الكاملة، تطوير الجودة، قيادة الجودة... ونظرا إلى أنّ مختلف التسميات تغطّي نفس الحقيقة فقد اختارت اليونسكو عبارة قيادة الجودة Pilotage de la qualité. وتفسّر اليونسكو عودة الاهتمام بالتفقد المدرسي بالاستناد إلى العوامل التالية:
• لقد أدّى التطوّر السريع لأعداد المتمدرسين إلى تدهور في الجودة. لذلك أصبح تطوير الجودة من أوْكد أولويات أصحاب القرار السياسي. وقد تمّ التعبير عن ذلك في المحاضرات العالمية حول التربية للجميع سنتيْ 1990 و 2000.
• اتّسع تطبيق القاعدة الاقتصادية التي تهمّ العلاقة الجيّدة بين الجودة والسعر في مختلف قطاعات المجتمع ووصل إلى التربية. وقد أدّى ذلك مزيد تحميل المؤسسات العمومية المسؤولية وتطوّر الاهتمام بالنجاعة efficacité التي تعني القدرة على تحقيق الأهداف إلى اهتمام بالفاعلية efficienceالتي تعني تحقيق الأهداف بأقلّ التكاليف. ويتطلّب ذلك تركيز آليات مراقبة صلبة.
• بيّنتْ العديد من الدراسات أنّ من الأسباب الرئيسية لتدهور الجودة في المدارس ضُعف أجهزة قيادة الجودة بما في ذلك إطار التفقد والدّعم. لذلك أرجعتْ عدّة دول مصالح التفقد التي حذفتها منذ سبعينات القرن الماضي. ولذلك أيضا نرى اهتماما متزايدا بإجراءات التفقد الجيّد.
• تجد عودة الاهتمام بالتفقد المدرسي ومراقبة الجودة أيضا تبريرا لها في التوجّه الحالي لفائدة استقلالية المدارس والمدرّسين. لكن هذه الاستقلالية تحتاج إلى مراقبة ودعم لضمان احترام معايير الجودة والعدالة في المنظومة التربوية كاملة.
يتبيّن ممّا سبق أنّ عمل المتفقدين يقدّم دعما هامّا للمنظومة التربوية ويساهم في تطوير الجودة بالمدارس. لكن الأزمة التي يعيشها حاليا تحتاج إلى إصلاح في إطار وظيفته كآلية لقيادة الجودة في التربية.
ولتطويع عمل المتفقدين البيداغوجيين لحاجيات المنظومة التربوية في بلادنا في ضوء مبادئ الثورة وقيمها وفي إطار الالتزام بمبادئ دستور تونس الجديد، لا بدّ من إجراء بعض الدراسات المقارنة لما يقوم به المتفقدون في العديد من دول العالم وخاصّة منها التي لها أنظمة تربوية ناجحة ومعرفة مختلف الممارسات التي تجري في إطار قيادة الجودة لتحديد موقعنا الحالي منها وتحديد النماذج التي يمكن أن نستلهم منها للقيام بإصلاح منظومة التفقد.
وقد ميّزتْ اليونسكو في المرجع المذكور سابقا بين أربعة نماذج لقيادة الجودة تتوافق مع أنماط من التقييم المدرسي:
1. نموذج المراقبة العمومية Le modèle du contrôle public ou étatique وهو النموذج المستعمل في معظم الدول ويتميّز بالهرمية البيروقراطية الشكلية.
2. نموذج تحميل المسؤولية المهنية Le modèle de la responsabilisation professionnelle تقوم القيادة فيه أساسا على الإجراءات الداخلية مثل التقييم الذاتي من قبل المدرسين والامتحانات من قبل الأقران. وتُعتبَرَ فنلندا التي حذفت مصالح التفقد سنة 1991 من بين الدول التي ناضلتْ من أجل إدخال نظام خاص بتحميل المسؤولية المهنية.
3. النموذج الاستهلاكي Le modèle consumériste يكون فيه الفاعلون الهامّون الذين يتولّوْن مهمّة القيادة هم المستهلكون أو المستفيدون من النظام التربوي وهم التلاميذ وأولياؤهم ومجموعة المتساكنين.
- أ) نموذج الشراكة Le modèle partenarial : يعتمد أهمّ جهاز للقيادة فيه على التقييم الذاتي ولكنه تقييم ذاتي يكون فيه الأولياء وممثلوهم فاعلين.
- ب) النموذج الليبرالي Le modèle libéral: يتمثّل أهمّ جهاز للقيادة في نشر دوريّ لمؤشرات الأداء الجيّد Les indicateurs de performance وجداول لترتيب النتائج. D’après : UNESCO, 2007, Ibid., p.p.15-17.
الخاتمة
يعيش المتفقدون البيداغوجيون أزمة هوية مهنيّة تندرج ضمن أزمة عامّة تعيشها البلاد منذ ثورة 14 جانفي 2011. ولئن كانت أزمة المتفقدين البيداغوجيين تعود إلى عدّة سنوات مضتْ، فقد تفاقمتْ بعد الثورة والانفلات العام الذي مرّتْ به البلاد ولا تزال تعاني منه على جميع الأصعدة. ومن أسبابها القانون الأساسي لإطار التفقد الصادر سنة 2001 الذي حصر عمل المتفقدين في الجوانب البيداغوجية وحذف المشمولات الإدارية التي يحتاجها المتفقد لتكون كلمته مسموعة وليستطيع ممارسة صلاحياته بأكثر ارتياح وبأكبر قدر من الفاعلية في إطار قيادة الجودة.
ولمعالجة أسباب الأزمة، تحتاج منظومة التفقد البيداغوجي إلى إصلاح جوهريّ في ضوء مبادئ الثورة وقيمها وأهدافها وفي إطار احترام الدستور الجديد لجعل التفقد أداة فاعلة في قيادة الجودة. ويمكن أن يستلهم الإصلاح المنشود من نماذج قيادة الجودة المعمول بها في العديد من الدول وخاصّة منها التي لها أنظمة تربوية ناجحة لكن مع الالتزام بخصوصيات بلادنا.



#منوّر_نصري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- فيديو غريب يظهر جنوح 160 حوتا على شواطىء أستراليا.. شاهد رد ...
- الدفاع الروسية تعلن القضاء على 1000 عسكري أوكراني خلال 24 سا ...
- أطعمة تجعلك أكثر ذكاء!
- مصر.. ذعر كبير وغموض بعد عثور المارّة على جثة
- المصريون يوجهون ضربة قوية للتجار بعد حملة مقاطعة
- زاخاروفا: اتهام روسيا بـ-اختطاف أطفال أوكرانيين- هدفه تشويه ...
- تحذيرات من أمراض -مهددة للحياة- قد تطال نصف سكان العالم بحلو ...
- -نيويورك تايمز-: واشنطن سلمت كييف سرّا أكثر من 100 صاروخ ATA ...
- مواد في متناول اليد تهدد حياتنا بسموم قاتلة!
- الجيش الأمريكي لا يستطيع مواجهة الطائرات دون طيار


المزيد.....

- اللغة والطبقة والانتماء الاجتماعي: رؤية نقديَّة في طروحات با ... / علي أسعد وطفة
- خطوات البحث العلمى / د/ سامح سعيد عبد العزيز
- إصلاح وتطوير وزارة التربية خطوة للارتقاء بمستوى التعليم في ا ... / سوسن شاكر مجيد
- بصدد مسألة مراحل النمو الذهني للطفل / مالك ابوعليا
- التوثيق فى البحث العلمى / د/ سامح سعيد عبد العزيز
- الصعوبات النمطية التعليمية في استيعاب المواد التاريخية والمو ... / مالك ابوعليا
- وسائل دراسة وتشكيل العلاقات الشخصية بين الطلاب / مالك ابوعليا
- مفهوم النشاط التعليمي لأطفال المدارس / مالك ابوعليا
- خصائص المنهجية التقليدية في تشكيل مفهوم الطفل حول العدد / مالك ابوعليا
- مدخل إلى الديدكتيك / محمد الفهري


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - التربية والتعليم والبحث العلمي - منوّر نصري - أزمة الهوية المهنية للمتفقدين البيداغوجيين وموقع المتفقدين العامين للتربية فيها