أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد السعد - عندما امطرت داخل روحي















المزيد.....

عندما امطرت داخل روحي


أحمد السعد

الحوار المتمدن-العدد: 6780 - 2021 / 1 / 6 - 15:58
المحور: الادب والفن
    


الساعات الآولى للصباح كانت هادئة والآجواء كانت مسالمة ووادعه ، نسائم خفيفه كانت تهب على اعالي الشجر فتتحرك الآغصان العاليه يمينا ويسارا بينما كانت الآمواج هادئة مستكينه ، ثمة سحب متفرقه ظهرت ثم ما لبثت ان تجمعت وأستحال بياضها الناصع عتمة وتلاشت الشمس خلف ستار قاتم من غيوم تكاثفت سريعا ثم ما لبثت الريح ان سكنت تماما . كل شيء اضحى هادئا وكأنما تترقب الكائنات حدثا ما ، ثم بدأت قطرات المطر الخفيف تتساقط محدثة صوتا متقطعا على السقف القصديري ، كنت وحيدا انصت لوقع ضربات القطرات على الصفيح ، الليل لما يزل في اوله فأقوم لافتح النافذه فيهاجمني المطر القادم من جهة النهر يغسل نافذة الغرفة بسيل دافق من القطرات التي تقرع النافذه وكأنها تريدني ان ابقى اراقبها وهي تغير على السكون الذي غلف المكان وأحاله الى حالة من الضباب الرخو الرطب ، الآشجار بدأت تغتسل حتى اسفل سيقانها ، والمطر اتخذ اخاديدا في الآرض بمسارات متلاقية عند حدود النهر والجرف . مذهولا احدق في هذه الكينونة الهائلة لتمازج الذرات ببعضها في موائمة غريبه ، روحي تسبح مع قطرات المطر الثقيله وتضرب على كل الآرصفة بصخب وعنف ، امد بصري حيثما يمكنه فيصطدم بنهايات يغلفها الضباب المتشكل من موجات متلاحقه من الهبات المطرية الغزيره والسماء ابتدأت تميل الى العتمة اكثر فأكثر ، الجو يزداد رطوبة ولكن رائحة الآرض تصعد الآن ، الآرض تشرب ماء السماء فينتعش الشجر والعشب وتغتسل الشوارع بفيض هذا الهطول الغزير .لم اشعر يوما بأني احب المطر مثلما شعرت به وأنا احدق من نافذة فندقي في منطقة (كرابي) في تايلند . للمرة الآولى في حياتي أحس باني جزء من هذا الكون وأني اشهد في هذه اللحظة ولادة حالة كونيه حدثت ملايين المرات وتحدث ملايين المرات ولكن لااحد يشعر بأن يكون جزءا منها او يتوحد بمكوناتها ويستغرف في تفاصيلها حتى الذوبان . المشهد تملكني وتغلغل الى ذاتي وغمرني بفيض من التماهي مع الآجزاء الصغيره جدا والمتناهية الصغر التي تشكل عالمنا وكوننا الواسع الهائل والذي رأيته مختصرا في مشهد اتحدت فيه كل عناصر الكون ، كان البحر حاضرا والسماء والآشجار والآشياء والطيور والحيوانات وربما البشر او بعضهم على الآقل شهدوا ذلك الآتحاد . المطر يهطل في كل زمان ومكان ، انه يهطل في بلدي ويهطل في بلاد اخرى لكنه في تلك اللحظة لم يكن مطرا كما الفته وعرفته طوال حياتي ، كان شيئا مختلفا ، لم اكن يوما ما على ضفة نهر مشجرة وأشاهد سقوط قطرات المطر على صفحة الماء وكأني وسط اوركسترا تدخل جوقة الآلات في هارموني شديد الصخب وشديد العذوبه ثم يذوب الصخب ويختفي وتبقى العذوبة وتلك الرائحة المميزه التي لن انساها ابدا – رائحة العناق ، عناق الآرض والماء رسول السماء القادم ليمنح الآرض البركة . هنا تنزل جنيات السماء وملائكة الله لتستحم في عذوبة القطرات المتساقطه على صفحة الماء فتهلل النوارس فاردة اجنحتها البيضاء مطلقة صيحات الفرح هاهو الوليد القادم من اعماق السماء ينزل اللحظة ليبارك الآرض وهي تنحنى مصغية للصوت القادم فارشة روحها لتقبل القطرات وتتشرب عذوبتها فتشهق الى السماء منتعشة مرتوية . الآشجار التي تستعيد خضرتها الفاقعه تستحم بهذا الفيض الناعم فتفتح اغصانها للطيور التي لجأت تحتمي من البلل . وأنا المذهول المأخوذ بهذا الجمال الآسطوري أقف مفتونا منتشيا مأخوذا بالآيقاع السماوي لهذه الجوقة الهائلة من الآلات الربانيه وهي تستغرق في عزفها بينما ترقص الجنيات على ايقاعات الرشقات المنسابة برشاقة .. الزمن يتوقف او يكاد ، اللحظات تنتظر او تعيد نفسها مرات ومرات ، اشعر بأن المشهد امامي يتكرر او لايتغير او هو سرمدي وأحب ذلك ، لم اكن اريد الزمن ان يمضي ويأتي المساء ليقتل تلك البهجة التي احسست بها في تلك اللحظات من عمري التي شعرت فيها بأنسانيتي وبأني شئ في هذا الكون ، ذرة ما او عنصر ما لايتفاعل بل يتفرج ويذوب وينصهرويأنس ويبتهج ويسعد ويفرح كطفل صغير امام مشهد غرائبي . يا امنا الطبيعة ، ايتها الرؤوم ، ايتها المؤتلفة العناصر والقوى تتجمع التناقضات فيك ثم تستحيل انسجاما كهارمونيا موسيقيه لايدركها غير القلة من البشر. وددت في تلك اللحظة ان انزل من غرفتي الى الشارع لآتحد مع الكائنات هناك عند الشاطئ حيث تستحم الجنيات بقطرات المطر وتحتفي النوارس بالرسول السماوي ولكنني ترددت ، وفضلت ان ابقى متفرجا – كشأني دائما – سلبيا وضعيفا . كان المشهدخليطا من الخيال والفنتازيا والواقع ، الطبيعة في اعذب انصهار لعناصرها في بوتقة الولادة اليسيره ، الأخضرار الشديد والزرقة الشديده والفرح الطفولي الذي ولد في نفسي في تلك اللحظة من التجلي حتى احسست بأني اولد من كل هذه التلاقحات مجتمعة وأذوب كقطرة مطر على اسفلت الشارع او على جناح نورس ، الصوت والرائحه تمنحان المشهد عذوبة بالغة فانصت للقطرات تحاور الأرض والشجر وصفحة الماء المسافرة بأتجاه البحر . ايتها اللحظات لاتتوقفي فلا اريد العودة للقفر والجفاف ، هناك في مدينتي التي انتحرت يأسا من الحياة ، لااريد ان اعود ، ليتني اتحول الى شجرة هنا ، الى نورس او سمكة او اي كائن يعيش هذا العالم الرائع ...اي شعور ينتابك عندما تدخل الى عالم سحري يتكامل مع جموح خيالك وسعة امانيك لتتحرر روحك من سجن الجسد وتنطلق الى فضاءات اوسع من الجغرافيا والزمان ، انت تتحرر رويدا رويدا من التصاقك بالمكان والناس والموجودات المحسوسة حولك لتخرج من جلدك الأنساني ومن جسدك وتصير روحا محلقه لايمسكها شيء في رحلتها نحو اللانهائي والكوني والهيولي ، أنت في مواجهة نفسك وتفكيرك بكل ماعلق فيه من شوائب وتراكمت فيه من خيبات وأحزان وفشل وعلاقات متهالكه ، بكل من التقيت ومن فارقت ، كل الوجوه التي عرفتها تختفي ، لم يتبق في الذاكرة وجوه ولا اسماء ولا اماكن ، هو مكان واحد فقط وزمان واحد فقط تتجمع فيه كل الظواهر وتتكشف فيه كل الحقائق وتختفي المسافات والأرقام . هنا يلتحم الماضي بالحاضر وبالمستقبل ، هنا لازمان فالوقت ينتهي والساعة تتوقف وكأنك في مكان آخر غير ما الفت من الأماكن ، الكائن البشري الوحيد في هذا التناغم الوجودي هو انت ، انت القيمة المطلقة السرمديه ، لاتوقفك حدود مكانيه ، تختفي ذرات جسدك وتتضاءل طاقتك الجسديه فتتحول الى ذرة صغيره ، او تتماهى مع قطرات المطر لكنك الآن شاهد على مايجري في لحظة الأتحاد الفريده ، انت وسط تجربة لم يعشها احد قبلك ، او ربما عاشها البحارة في عمق البحار عندما ينطبق المديان مع بعضهما مدى السماء ومدى البحر ويلتقيان هناك حيث اللامكان . لم يكن للزمن من وجود ، ذاب كل شيء في القطرات ، ذاب كل شيء في المشهد ، امتزج الخيال بالواقع والحكاية بالخرافة وأنطلق الخيال يحلق بأجنحته فوق السحب المتراكمه البيضاء المائلة الى الرمادي ، زرقة السماء تتلصص لتظهر للناس غير ان كثافة الغيوم تكبح رغبتها في الظهور ، الشمس لم تعد موجوده ، استأذنت بالرحيل مبكرا هذا اليوم فهو يوم خارج التاريخ وخارج الزمن ! أنا هنا واقف عند النافذه ، ساكنا دون حراك مشدوها احلق في المشهد ، لم ابرح مكاني منذ ساعات ، نسيت كل شيء ، أهملت كل شيء ، لم اعد أبالي بأي شخص . رفيقي في الغرفة المجاوره أخلد الى القيلولة بعد ما يأس من امكانية الخروج في هذا الجو الممطر وأنا غارق في طقوسي اتأمل في محراب الطبيعة الهائل وهي تخرج مكنوناتها أمامي وكأنها تمطر من اجلي ، من اجل البدوي القادم من صحراء اليباس والجفاف والقحط . قد تبدو هذه فذلكات او هذيانات لرجل في لحظات جنون او تجل او انغماس في حالة لاشعوريه او ربما يتصورها البعض محض مبالغات وتصورات جنونيه او اعتلالات عقليه محضه ولكنها بالفعل لحظات او دقائق مرت بي وتلبسني شعور لم اشعر به طيلة حياتي ، عشقت المطر من حينها فقد سحرني بمايخلق من اجواء وبما يتيحه للخيال من جموح وخروج على المالوف من التعابير الوصفيه فأنا لم اكن اصف المشهد بل كنت اعيشه ! كنت جزءا منه ، نقطة من المطر ، عنصر ما من عناصر الطبيعه ولكنني كنت عنصرا سلبيا غير فاعل او مؤثر ، كنت متأثرا فقط ، مندمجا في المشهد الى درجة الأنصهار – مما وصفته سابقا –
قد يكون مجرد مطر بالنسبة للآخرين ، ولكنه لم يكن كذلك بالنسبة لي خصوصا في تلك اللحظات ، لا لم يكن مجرد مطر ، كان لحظة ولاده يسيره لكائن غير مرئي خرج من احشاء الكون وولد من عناصر الماء والهواء والحجارة والأشجار ، بعيدا عن البشر وقذاراتهم وقرفهم ، كائن طاهر نقي شفاف فيه روح الأمل والمحبة ، فيه من الموسيقى ما يفوق الوصف وفيه من الجمال ما يصعب على المرء التعبير عنه وفيه من السكون والنقاء ما لم تألفه الطبيعة من قبل – على الأقل بالنسبة لي – ولعل بيئتي الصحراويه المقفره هي التي اوحت لي بهذه التصورات ولعلي كنت في نشوة أو امتزاج بالمكان والحدث أو ربما هي ومضات سعادة سريعه مرت أنطبعت في وجداني فجمح خيالي وحلق في فضاءات المكان والواقعه والمشهد فخلق هذه البانوراما الملونه بالوان المطر والشجر والنهر والطيور وأنا كنت الشاهد ولم اكن الوحيد لكنني بألتأكيد كنت الوحيد الذي استغرق في انشداده للمشهد وتماهيه مع مفاصله وجزيئاته وألوانه وأصواته . كانت لحظات لا تمحى من الذاكره فعشقت المكان وليتني لم اغادره ابدا .



#أحمد_السعد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رحلة الفقر والموت – قراءة في شعر صلاح شلوان
- شاعرية اللغة في مجموعة ( غصن يزقزق في رماد ) للشاعر ثامر سعي ...
- ديوان (سدرة الغروب) للشاعر مجبل المالكي وأشكالية القصيدة الق ...
- قراءة لديوان (نثار الياقوت) للشاعر الدكتور مجبل المالكي
- الولد البلوري- قراءه متأنيه في مجموعة الشاعر احمد جاسم محمد
- الضياع بين دجلة والدانوب - قراءة فى قصائد مجموعة ( أطياف حال ...
- لماذا يهولون حجم حزب البعث ؟
- الشعارات والهتافات التى رددتها الجماهير يوم عاشوراء
- دور المثقف فى عملية التغيير
- خمس قصص قصيره جدا
- الحراك السياسى العراقى والولادات الجديده
- رسالة مفتوحه أسرة وكتاب وقراء الحوار المتمدن
- هل انتهى شهر عسل حكومة المالكى والأدارة الأمريكيه
- غرامة 400 الف دولار لصحفية سودانيه بسبب مقال حول لبنى الحسين
- هل تستبعد الأيادى الأمريكيه عن أنقلاب هندوراس ؟
- عن(أشرف) مرة أخرى
- يا ترانه الجميله ....أمك ما زالت تبحث عنك
- دفاعا عن حركة الجماهير الشعبيه من أجل الحقوق الديمقراطيه وال ...
- عن اشرف مرة أخرى
- بيان استغاثه


المزيد.....




- رفع درجة الاستعداد للامتحانات التحريرية الخاصة بالدبلومات ال ...
- رواية -كايروس- للألمانية جيني إربنبك تنال جائزة -بوكر- الدول ...
- الحب… بين الطب والأدب في أمسية ثقافية
- عباس 36- يختتم فعاليات -النكبة سردية سينمائية-
- مهرجان الفنون الدولي في موسكو يقيم معرضا للفن الإفريقي
- اغنية دبدوبة التخينة على تردد تردد قناة بطوط كيدز الجديد 202 ...
- الشعر في أفغانستان.. ما تريده طالبان
- أكثر من 300 لوحة.. ليس معرضا بل شهادة على فنانين من غزة رحلو ...
- RT العربية توقع اتفاقات تعاون مع وكالتي -بترا- و-عمون- في ال ...
- جامع دجينغاربير.. تحفة تمبكتو ذات السبعة قرون


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد السعد - عندما امطرت داخل روحي