أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - التربية والتعليم والبحث العلمي - محسن وحي - قيمة التسامح عند جون لوك















المزيد.....

قيمة التسامح عند جون لوك


محسن وحي

الحوار المتمدن-العدد: 6774 - 2020 / 12 / 29 - 23:57
المحور: التربية والتعليم والبحث العلمي
    


إنه لمن المفارقة أن يكتب جون لوك "رسالة في التسامح" دون أن يكتب عليها اسمه. كيف يمكن أن نفهم هذه المفارقة التي تتضمن التسامح ونقيضه ؟
لكي نجيب عن هذا السؤال لابد أن نستحضر السياق التاريخي والاجتماعي الذي كتبت فيه هذه الرسالة، فقد كان الصراع الديني بين المذهب الكاثوليكي والبروتستانتي في أوجه. هذا الأمر دفع لوك إلى الفرار للدولة الهولندية بعد أن تم اتهامه بالتورط في مؤامرة "شافتسبري"(جون لوك، 1997، ص 7).
وفي منفاه كتب لوك "رسالة في التسامح" بدعوى من صديقه "شافتسبري"، وهو أحد رجال الدولة المؤثرين في بلاط الملك تشارلس الثاني. ألف لوك ثلاثة رسائل في التسامح، الأولى سنة 1689، والثانية سنة 1690، والثالثة 1692. سنكتفي في هذا البحث بتحليل الرسالة الأولى.
بدأ لوك في هذه الرسالة بالتساؤل حول ماهية الدين الحق، وهو يرى أن الدين الحقيقي لا ينبني على الطقوس والشعائر الشكلية، ولا يهدف الحصول على السلطة، ولا من أجل ممارسة القهر والغلبة على الناس، كلا، ما كان ذلك من الدين في شيء. إن جوهر الدين حسب لوك هو تربية الناس على الفضيلة الأخلاقية. إذا كان الإنسان المؤمن يسلك طريق القوة والتسلط على الناس باسم الدين، معتقدا أنه يريد خلاصهم، فالأولى حسب لوك أن يخلص نفسه من الشرور والرذائل. في هذا السياق يقول لوك "فكل إنسان يحمل شعار المسيح ينبغي عليه، أولا قبل كل شيئ، أن يشن حربا على شهواته ورذائله، وذلك لأنه من العبث أن تكون مسيحيا دون أن تكون حياتك مقدسة وأن يكون سلوكك طاهرا)...( إن كل من يتبع المسيح ويؤمن بعقيدته ويتحمل ألامه حتى إذا تخلى عن والديه وانفصل عن المجالس العامة والاحتفالات القومية، أو تنازل عن أي شيء أو أي شخص. أقول إن هذا الإنسان لن يتهم بالهرطقة"(جون لوك، 1997، ص19-21). نستشف من هذا القول مسألتين مهمتين وهما:
أولا: إن غاية الدين، كما أشرنا إلى ذلك سابقا، هو الفضيلة الأخلاقية وليس التسلط على الناس.
ثانيا: الخلاص هو شأن متعلق بالفرد وليس بالجماعة الدينية.
يمكن القول بخصوص المسألة الأولى أن هدف جون لوك هو إعادة تعريف الدين وتخليصه من كل الشوائب التي لصقت به. ما كان الدين يوما ما قائما على السلطة والعنف على الناس بدعوى خلاص نفوسهم، ولعل ما يؤكد ذلك هو المسيح نفسه الذي لم يستعمل العنف في حياته، بل كان مسلحا بسلام العهد الجديد والأسوة الحسنة"(جون لوك، 1997، ص22).
أما فيما يخص المسألة الثانية فكان يهدف من خلالها لوك إلى إعادة تعريف الخلاص، على اعتبار أنه أحد الركائز التي يقوم عليها الدين المسيحي. إن تحديد ماهية الخلاص يمكنه أن ينقلنا من الوضعية التراجيدية التي تتسم باللاتسامح إلى وضعية إنسانية تتميز بالتسامح.
ما هو التعريف الذي يقدمه لوك لمفهوم الخلاص؟
إن الشرط الأول للخلاص، حسب لوك، هو تطهير الإنسان لذاته من الشرور والرذائل والتوجه نحو طلب الخير والمحبة. لعل هذا التصور للخلاص نابع من تصور لوك للدين، فجوهر الدين لا يكمن في ممارسة الطقوس الشكلية، ولا في طلب السلطة وفي ممارسة الوصاية والعنف على الآخرين، وإذا كان الدين كذلك فمن التناقض أن يكون الخلاص مؤسسا على العنف، إذ لا ينسجم مع طبيعة الدين نفسه. في هذا الإطار، يمكن القول أن هذا المفهوم الجديد للخلاص يؤسس لقيمة التسامح، لكونه يفرغ الخلاص من كل الشوائب التي علقت به كالتسلط والعنف.
في الحاجة إلى الفصل بين مجال الدين والسياسية:
تأتي أهمية الفصل بين مجال الدين ومجال السياسة، حسب لوك، في اعتباره الطريقة الأنسب لإرساء قيمة التسامح. وهذا لن يتأتى إلا بالتمييز بدقة بين مهام الحاكم المدني وبين الدين"(جون لوك، 1997، ص23). لهذا يحصر لوك مهام الحاكم المدني في إطار تطبيق القوانين على الجميع بالتساوي، وتنمية خيراتهم المدنية. ولا يجب أن يتدخل في خلاص النفوس؛ أي لا يجب أن يتدخل في مجال الدين، لأنه شأن فردي يخص كل إنسان. في هذا المضمار يقول لوك "إن خلاص النفوس ليس من شأن الحاكم المدني أو أي إنسان آخر، ذلك أن الحاكم ليس مفوضا من الله لخلاص نفوس البشر، وأن الله لم يكلف أي إنسان بذلك"(جون لوك، 1997، ص23).
بناء على ما تقدم، يمكن القول أن التزام الحاكم المدني لحدوده المتمثلة في تطبيق القوانين يؤدي بلا شك إلى التسامح الديني والسياسي. وبالمقابل فإن عدم التزام الحاكم بهذه الحدود يؤدي إلى اللاتسامح؛ أي التعصب والعنف. فلا بد أن يلتزم الحاكم بهذه الحدود حتى يجنب المجتمع الصراعات والقتل باسم الدين.
يعد مفهوم الكنيسة ثالث مفهوم يؤسس عليه لوك تصوره لقيمة التسامح، وهو يرى أن الكنيسة هي عبارة عن جماعة حرة من البشر الذين يجتمعون بمحض إرادتهم بهدف عبادة الله وبأسلوب يتصورونه أنه مقبول من الله وكفيل بخلاص نفوسهم(جون لوك، 1997، ص27). إن وظيفة الكنيسة هي وظيفة تعبدية خالصة، ولا يمكن أن يتحقق التسامح إلا إذا التزمت حدودها وتجنبت تعميم سلطتها؛ لأن غايتها هو عبادة الله لنيل الحياة الأبدية. وينشأ العنف واللاتسامح، حسب لوك، عندما تحاول الكنيسة تعميم سلطتها على الحياة الدنيوية للأفراد والتي هي من اختصاص الحاكم المدني.
حدود التسامح عند جون لوك:
يطرح لوك سؤالا مهما يمكننا من فهم تصوره لقيمة التسامح وهو: إلى أي حد يمتد واجب التسامح؟ وما الذي يتطلبه هذا الواجب من كل إنسان؟
يجيب لوك بالقول أن من حق الكنيسة عدم التسامح مع أي إنسان يصر الخروج عن القوانين التي وضعها المجتمع الكنسي، على اعتبار أن هذه القوانين هي ما يحفظ اللحمة الاجتماعية من التفكك. ويؤكد أنه ليس من حق الكنيسة استعمال العنف مع الإنسان الذي يطرد من المجتمع الكنسي، وليس من حقها احتجاز ممتلكاته أو خيراته المدنية، لأن هذا من اختصاص الحاكم وحده.
القضية الثانية التي لا يجب التسامح فيها، في نظر لوك، هي الآراء المضادة للمجتمع الإنساني أو مع القواعد الأخلاقية الضرورية للمحافظة على المجتمع المدني. هذه القضية هي امتداد للقضية الأولى التي أكد فيها لوك أن من حق المجتمع الكنسي، في إطار بنيته الداخلية، عدم التسامح مع كل مخالف للقواعد الأخلاقية المنظمة له، إذ هي بمثابة مجتمع مصغر، ولكن ليس يحق لها نزع الخيرات المدنية التي يتمتع بها الإنسان المخالف لهذه القواعد، لأن هذه الوظيفة من اختصاص الحاكم المدني الذي يمثل السلطة العليا داخل المجتمع. يرى لوك أن من حق الحاكم التدخل عندما تكون هناك أراء تهدد سلامة وأمن الدولة. نتساءل، هنا، ما هي الآراء التي من شأنها أن تقوض أساس المجتمع؟ وهل تصور لوك هذا يحمل في ذاته حجج مقنعة أم أنه يكشف عن محدودية التسامح لديه؟
لعل ما يعاب على تصور جون لوك لمفهوم التسامح، ويكشف بشكل واضح محدودية هذا التصور، هو عندما دعا إلى عدم تسامح الحاكم مع من يقولون بأن الإيمان ينبغي أن يكون مستبعدا من الهراطقة ومن الذين ينكرون وجود الله(جون لوك، 1997، ص56-57). إن القول بأن الإيمان ينبغي أن يكون مستبعدا من الهراطقة معناه فتح الباب أمام اضطهاد كل من ينشق عن الكنيسة بدعوى الهرطقة، والتي يعرفها لوك "بأنها انفصال يحدث في المشاركة الكنسية بين ناس من دين واحد بسبب القول بآراء ليست في القاعدة نفسها. أما الشخص الهرطيق هو "ذلك الذي يشق الكنيسة إلى أقسام، ويبتكر أسماء وعلامات للتمييز، ويتعمد إحداث انفصال بسبب هذه الآراء"(جون لوك، 1997، ص67) . نستشف من ذلك أن المعتقد السائد داخل الملة الدينية هو المعيار الذي يميز به لوك بين الشخص الغير مهرطق والهرطيق، وهذا يعني نفي المبدأ الذي يتأسس عليه الإيمان من عدمه، وهو مبدأ الإرادة الحرة.
أما فيما يخص عدم التسامح مع الذين ينكرون وجود الله، أو مع الملحدين بالتعبير المعاصر، يورد لوك حجة مفادها "أن الوعد والعهد والقسم، من حيث هي روابط المجتمع البشري ليس لها قيمة بالنسبة للملحد، فإنكار الله حتى ولو كان بالفكر فقط يفكك جميع الأشياء"(جون لوك، 1997، ص57). نستنتج من هذا القول أن السبب الرئيسي الذي دفع لوك إلى عدم التسامح مع الملحد هو تهديده للروابط الاجتماعية. إن هذا التصور في نظرنا يخفي مغالطة لا تستقيم مع العقل والمنطق. فإذا كان المجتمع الذي ينظر له لوك ينبني على القانون الذي يتساوى أمامه جميع الناس، فلماذا استثنى الملحد بدعوى أنه لا يحترم الوعد والعهد والقسم؟ أليس هذا تناقضا واضحا؟
إن ما يفسر هذا التناقض المنطقي عند لوك هو وقوعه في تناقض للمبدأ المؤسس للمجتمع، الذي هو الإرادة الحرة في الانتماء، ففي الوقت الذي يؤسس فيه العلاقات الاجتماعية على القانون، على اعتبار أن الناس متساوون جميعا أمامه، بغض النظر عن انتمائهم الديني، نجده يتراجع عن هذا القول ويؤسس هذه العلاقات على أسس دينية، وهذا الأمر يظهر بشكل واضح عندما تسامح مع أولئك الذين يخرجون من الكنيسة لأنهم لم يجدوا فيها خلاصهم الروحي ولم يتسامح مع الملحد الذي خرج من الدين.
نستخلص من كل ما تقدم أن "رسالة في التسامح" لجون لوك شكلت مرحلة مهمة وانتقالية في التنظير لقيمة التسامح في الفكر الغربي، بحكم أن الرجل كان معاصرا للصراع الديني الذي دار بين المذاهب المسيحية، خاصة بين الكاثوليك والبروتستانت. لقد كان يتوخى من هذه الرسالة حل إشكال يعيشه مجتمعه، ولم يكن ينظر للتسامح الكوني، على عكس فولثير الذي كان يدعوا إلى تسامح كوني يشمل جميع الناس. هذا من جهة، ومن جهة ثانية إن التسامح لدى الرجل يتسم بالمحدودية لأنه لم يكن يشمل الأشخاص اللادينيين أو الملحدين. ثم أن التسامح الذي نظر لوك هو تسامح سياسي، على الرغم أن ظاهره تسامح ديني، والسبب في ذلك أنه كان يهدف إلى الحد من سلطة الكنيسة من الناحية التشريعية ومنحها للحاكم المدني، الذي هو الضامن للخيرات المدنية التي يجب أن يتمتع بها الإنسان داخل المتجمع.



#محسن_وحي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مفهوم التربية عند جان جاك روسو
- حرية الضمير عند بيير بايل.
- مفهوم التسامح عند فولثير
- مفهوم التربية عند إميل دوركايم
- فلسفة التربية عند كانط
- العادة السرية والمسألة الجنسية عند - إيمانويل كانط-
- حرية الصحافة بين الشخص الطبيعي والشخص الاعتباري في فكر المفك ...
- المجتمع الاشتراكي في فكر لمنبوذ: - معمر القذافي (1942-2011)-
- كورونا هل هو اصطدام للقوى أم صراع لتوازن المصالح؟
- أخلاق الحداثة عند أندريه كومت سبونفيل
- موريس بلانشو قارئا كافكا
- نيتشه وسؤال التربية والثقافة
- فلسفة التربية وبناء الإنسان


المزيد.....




- بايدن يعلق على ما ذكره كتاب عن إرسال ترامب لبوتين أجهزة اختب ...
- الجيش الإسرائيلي يرد على إعلان حزب الله إصابة جنود إسرائيليي ...
- مسؤولون إسرائيليون: غارة دمشق استهدفت قياديا بحزب الله
- ضربة رمزية أم مدمرة؟ أولمرت ولابيد يختلفان بشأن الرد الإسرائ ...
- السلطات الأميركية تعتقل أفغانيا خطط لهجوم -إرهابي- يوم الانت ...
- نزوح كبير في فلوريدا الأميركية هربا من -ميلتون-
- واشنطن: دعوة حزب الله لوقف إطلاق النار تظهر تراجعه
- الجيش الإسرائيلي يطالب مستشفيات شمال غزة بـ-الإخلاء الفوري- ...
- إعصار ميلتون يبلغ الدرجة القصوى وبايدن يطلق نداء إخلاء بفلور ...
- كلمة نعيم قاسم تثير تساؤلات عن -فصل الربط- بين لبنان وغزة؟


المزيد.....

- اللغة والطبقة والانتماء الاجتماعي: رؤية نقديَّة في طروحات با ... / علي أسعد وطفة
- خطوات البحث العلمى / د/ سامح سعيد عبد العزيز
- إصلاح وتطوير وزارة التربية خطوة للارتقاء بمستوى التعليم في ا ... / سوسن شاكر مجيد
- بصدد مسألة مراحل النمو الذهني للطفل / مالك ابوعليا
- التوثيق فى البحث العلمى / د/ سامح سعيد عبد العزيز
- الصعوبات النمطية التعليمية في استيعاب المواد التاريخية والمو ... / مالك ابوعليا
- وسائل دراسة وتشكيل العلاقات الشخصية بين الطلاب / مالك ابوعليا
- مفهوم النشاط التعليمي لأطفال المدارس / مالك ابوعليا
- خصائص المنهجية التقليدية في تشكيل مفهوم الطفل حول العدد / مالك ابوعليا
- مدخل إلى الديدكتيك / محمد الفهري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - التربية والتعليم والبحث العلمي - محسن وحي - قيمة التسامح عند جون لوك