أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - محنة المثقفين السوريين بين أهل التخوين وأهل الاعتقال















المزيد.....


محنة المثقفين السوريين بين أهل التخوين وأهل الاعتقال


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 1604 - 2006 / 7 / 7 - 11:11
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


واكب حملة اعتقال موقعين سوريين على إعلان بيروت- دمشق / دمشق – بيروت هجوم إيديولوجي وإعلامي كاسح ضد المثقفين والناشطين الموقعين عليه. طوال قرابة شهر، عمل طيف مكون من أجهزة الإعلام الرسمية وأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية ومشتغلين بالثقافة على واحد من محورين: التنديد بالمثقفين وتخوينهم والدعوة إلى محاسبتهم، أو "مناشدة" السلطات الإفراج عنهم مع الإقرار بأنهم مخطئون أو متورطون. يمكن أن نضرب صفحا عن تقصي الفروق بين مكونات الطيف الثلاثة المذكورة. في أحسن أحوالها فروق في الدرجة: بعضها أبوي وبعضها أبوي أكثر، الأكثر أبوية هو الأكثر بدائية (الخطاب الإعلامي وكلام البعثيين والقوميين السوريين)؛ حاول مشتغلو الثقافة بالمقابل أن يتحدثوا بلغة مثقفين: بدلا من التخوين وضعوا مرتكبي كبيرة الاعتراض على الشكل الحالي للعلاقة السورية اللبنانية في منزلة بين منزلتي الخيانة والوطنية، منزلة المغالطين. نذكر الطيف هذا، مع ذلك، لنشير إلى حجم التعبئة التي مورست ضد الإعلان وموقعيه، وتبريرا لاعتقال عدد منهم.
قد نضيف مكونا رابعا، تمثل في مثقفين عرب، وجدوا من المناسب أن يدلوا بدلوهم في أمر "إعلان مشبوه وكريه"، قد تكون "بروفته الأولى مدفوعة الثمن في السفارة الأميركية في بيروت" (موفق محادين، "أخبار الشرق"، 12 حزيران). ولا يفتقر المكون هذا إلى الأبوية، بل يضيف إليها في حالة منذر سليمان ("كلنا شركاء"، 31/5) عدوانية وفظاظة تقاربان الشماتة، دون أن ينسى الإشارة إلى "الإعلانات المدفوعة الجر".
سيكون ممضا وعقيما في الوقت نفسه تقديم رد مفصل على تعليقات الطيف الواسع هذا التي استمرت قرابة شهر. سنحاول تجنب السجالية التي تواجه حقائقنا بضلالات الآخرين، والعمل بدلا منها على توسيع أفق النقاش بما يتيح مساءلة أكثر جدية للعلاقة بين السلطة والثقافة في سوريا. ومن باب تنظيم التفكير سنرتب نقاشنا على ثلاثة محاور:
1 بنية الخطاب الرسمي كما عبر نفسه في الهجوم على الإعلان.
2 موقع الرأي في نظام السلطة السورية؛
3 العلاقة بين المثقف والسلطة.
وسنرى أن التخوين سمة جوهرية ومتأصلة لخطاب السلطة السورية، وأن اعتقال المثقفين والناشطين الموقعين على البيان والخطاب التخويني مكونان عميقا الترابط لنظام السلطة القائم، ما يعني أن إلغاء أو تقييد "المؤسسة الاعتقالية" غير ممكن دون قطيعة مع الخطاب ذاك، معاني وأجهزة ومنابر ووسائط، الأمر الذي نظن أن الفترة الأولى من العهد الحالي تثبته.

بنية الخطاب
لم يتعفف أحد من المنددين بالإعلان عن اعتبار أن سوريا هي المستهدفة به وليس النظام أو سياساته، يستوي في ذلك إعلان مضاد أصدره مثقفون ("الحياة"، 1/6) أو افتتاحية المحرر السياسي لـ"تشرين" في 17/5، أو مقالة لوزير الصناعة السابق في نشرة "كلنا شركاء" الإلكترونية (28/5)، أو بيانات بعض أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، بالخصوص الحزب القومي الاجتماعي الذي كان أشد عدوانية من السلطة وأشد استعداء لها على المثقفين ("كلنا شركاء" 29/5)، لكن كذلك الحزب الشيوعي (افتتاحية جريدته "النور" في 31/5)، وإن حاول "إمساك العصا من المنتصف"، كما كتب صوت هادئ ونيّر، الأستاذ حسن صفدي ("كلنا شركاء"، 6/6).
التطابق بين سوريا ونظامها افتراض مشترك لم يشعر أحد من الفريق المهاجم بالحاجة إلى إثباته. ولما كان متعذرا على أي منهم استخلاص المطابقة من انتخابات حرة مشهود بنزاهتها، فسيعمد القائلون بها إلى نصب لوائها في أرض العقيدة: وفاء النظام المفترض لأهداف وطنية وقومية مثل الصمود في مواجهة المخطط الأميركي الصهيوني و"الموقف الوطني من الابتزازات الأميركية" (محادين) ودعم المقاومة اللبنانية. سيوصف المثقفون بأنهم يريدون "النيل من سوريا" أو "يتهمون سوريا" أو يشاركون في "الهجمة العاتية" التي يفترض أن سوريا تتعرض لها.
لا شيء نوعيا في هذا الخطاب. فالمراحل كلها حرجة كما هو معلوم، والبلاد دوما في خطر، و"الهجمات العاتية" لا تكف. يثير هذا المنوال الثابت، غير المبالي بتبدل الأزمنة وتقلبات التاريخ، شبهات مشروعة في أن هناك "صناعة أخطار" تتصل بنمط ممارسة السلطة في البلاد، وتستفيد من المخاطر المحتملة التي لا ريب في وجودها في "الشرق الأوسط"، لكنها تلبي حاجة هياكل سلطة استثنائية ومغلقة إلى بيئة مثلى لدوامها وتجددها. ويساورنا الظن بأن هدف الصناعة هذه هو إنتاج المطابقة بين النظام والبلاد، والحد من فرص الانشقاق ورفع سيف التجريم ضد الأصوات المستقلة والمعارضة. وبالطبع لا تُساءل هياكل السلطة عن مسؤوليتها المحتملة عن تلك المخاطر (حين تكون حقيقية)، ولا عن نوعية ردودها عليها، بل إن المخاطر المحتملة تغدو ذريعة لإسقاط مبدأ المسؤولية من أساسه. الأخطار داهمة، إذاً اخرسوا؛ بدلا من: إذاً لنتكاتف!
ولا تترك المطابقة مجالا لموقف مستقل أو معارض، ولا لرأي حر. معارضة النظام خيانة للوطن. والتخوين نتاج بديهي لاحتكار الوطنية (كما التكفير نتاج احتكار الإيمان) ووظيفة أساسية من وظائف خطابها وآلية ضرورية من آليات استقراره. فبالتخوين ينقذ الخطاب وحدته وطهره، ويسهم في المحافظة على وحدة النظام وتماسكه.
وللخطاب هذا بنية خطاب ديني، إن من حيث وجدانيته ومخاطبته لنوازع الإيمان وليس العقل الشكاك، أو من حيث اعتماده المطلق على التكرار، أو من حيث ما يحيط به ذاته من قداسة وتعال على النقد، أو من حيث اعتماده تكفيرا خاصا به، هو الإخراج من الوطنية أو التخوين. لعله لذلك لا يستطيع هذا الخطاب منافسة الخطاب التقديسي الديني، بل لذلك هو يمهد له الطريق. وعند التروي في الأمر قد يبدو لنا أن الخطابين معا ينبعان من أصل مختلف عنهما معا: تطلّب السلطة المطلقة. يشهد على ذلك أن الخطاب الديني الإسلامي لم يكن دوما تكفيريا، وأنه جنح نحو التكفير بالتوازي مع احتداد طلبه للسلطة وصراعه العنيف من أجلها.
على أن أهم ما يترتب على مطابقة النظام والبلد، والتخوين النابع منها، هو إضفاء الشرعية على اعتقال وقمع أولئك المعارضين والمستقلين الذين يثبتون، بوجودهم وحده، زيف عقيدة المطابقة هذه. فالتخوين فعل تطهير خطابي يندغم بنيويا وعمليا في الاعتقال كفعل تطهير سياسي. واعتقال المثقفين والنشطاء ليس خروجا على "المعرفة" الوطنية هذه، بل هو عمل بمقتضياتها والتزام بها. وعلى ضوء الترابط الخطابي الاعتقالي (إن صح التعبير المستمد من مناخات ميشيل فوكو في "المراقبة والعقاب") يظهر النظام أكثر انسجاما من مرهفي المشاعر هؤلاء الذين طالبوا بالإفراج عن المثقفين دون نقد الخطاب التخويني، والاعتراض على تهافت الوطنية المبنية عليه. ولكانوا أكثر انسجاما مع أنفسهم لو وقفوا إلى جانب الاعتقال لا لو اعترضوا عليه. ولكان منذر سليمان الذي لم يجد غضاضة في الإعلان أنه، خلافا للرئيس سليم الحص، ليس مفجوعا باعتقال ميشيل كيلو، ولم يجد بأسا في تقديم درس في الوطنية للمثقفين السوريين "المتورطين"، لكان أكثر انسجاما مع مبادئه لو لم "يضعف" في نهاية مقاله ذي النبرة الثأرية والصادحة ("كلنا شركاء"، 31/5)، ويعتبر الإفراج عنهم، "ومعهم ميشيل كيلو خطوة حكيمة"! يدعو المحلل الاستراتيجي المقيم في أميركا إلى "التواصل والحوار الهادئ الجدي الناضج بين كل العقلاء في سوريا". وينشد أن يفضي الحوار إلى "انفراج داخلي يخفف الاحتقان ويعزز الثقة بين مختلف الأطراف الوطنية". لكنه لسبب ما لا يتذكر أن دعوات للحوار والمصالحة الوطنية رفضت مرارا وتكرارا في السنوات الخمس الأولى من العهد من قبل النظام، وأن المثقفين المعتقلين كانوا دوما من دعاتها. وليس لنا أن نتوقع منه بديلا يقترحه على المثقفين إن امتنع النظام عن الاستجابة لدعوته (وسيمتنع دون أدنى شك)، أو تحديد كم من الوقت ينبغي أن يمر قبل أن يفتي لهم بجواز نفض أيديهم من الحوار معه، أو قبل أن يكف هو عن تقديم اقتراحات لن يصغي إليها أحد.
كان من شأن سجل نتائج التخوينية القومية حيال المثقفين العراقيين أن يردع "العقلاء" من المثقفين القوميين عن السير في الدرب ذاته مرة أخرى. لكن تغييرا أساسيا في بنية التفكير القومي السائد هو فقط ما يمكن أن يسمح بالاستفادة من الدرس: إن مقر الأمة هو الشعب المنثور أمامنا وليس نظم الحكم التي تجعل من الوطنية سلاحا لحرمانه من حقوقه ومواطنته؛ وإن مقر الوطنية هو المواطنين، وربما المثقفين، وليس أجهزة أمن تُمتحن وطنية هؤلاء أمامها؛ هذا حتى لو أن الشعب والمواطنين والمثقفين قلما يتصرفون وفقا لما تقضي به العقيدة القومية القويمة.
إن ارتداد الخطاب القومي إلى ما لا يكاد يفيض على تخوين محض، نقيض مقصده الأصلي المفترض تماما، مؤشر على خلوه اليوم من أي مضمون تحرري إيجابي. وشعوره بوحدة الحال مع صدام وإخوانه هو شهادته لنفسه، إن شاء، أو عليها. بالمناسبة، وصف أحد الصداميين المتقاعدين المثقفين الديمقراطيين السوريين بـ"الأنذال"، واستطاع أن يأخذ عليهم أنهم "لم يصدروا بيانا واحدا أو مجرد تصريح يدين الاحتلال الأميركي الصهيوني للعراق، وممارسات الصهيونية في فلسطين"، ومضى يشهد بأنه قرأ لمعارضين سوريين في الداخل "كتابات سيئة ومشبوهة ضد البعث في العراق" (من هو المثقف الجدير بهذه الصفة الذي يمكن أن تكون له "كتابات جيدة وغير مشبوهة" بحق "البعث في العراق"؟!)؛ وأنهم "يختارون الوقت الأسوأ لمعارضة الحكم في سورية وهويته البعثية"، فكأنهم "ينادون العدو لاحتلال سورية"؛ على أنه اكتفى بالدعوة إلى معاقبتهم وليس اجتثاثهم ("كلنا شركاء"، 13/6).
ينبثق الخطاب التخويني من هياكل السلطة المغلقة، وليس من متن نصي أصلي، كائنا ما يكون. التخوين سياج لتحصين السلطة هذه، لا يختلف في وظيفته عن مركب أجهزتها الأمنية. هذا ما يزيد الشعور بالفجيعة حيال مثقفين قوميين مستقلين، يفترض أنهم قادرون على الدفاع عن "المبادئ القومية" في وجه هياكل السلطة التي أقيمت باسمها. لكن في انحيازهم إلى أنظمة وسياسات ألحقت الكوارث بشعوبها وبالعرب الملموسين ما يشير إلى أنهم لا يستطيعون فصل دين القومية التحرري عن دولتها السفاحة. والحال يبدو لنا أن الفكر القومي العربي ما انفك يقيم حاجزا عاليا بين مقاومات الناس دفاعا عن حياتهم ومن اجل حرياتهم وحقهم في أن يعاملوا باحترام وبين مقاومة "الأعداء الخارجيين". تحظى الأخيرة بالتشريف والاحترام فيما لا تكاد الأولى تنال اعترافا قوميا. الاعتقال والتعذيب ليس قضية قومية، أما البلاغة المعادية للاستعمار والصهيونية من قبل أنظمة لم تهزم إلا شعوبها فهو كفاح قومي. قبل سنوات كتب عزمي بشارة إن الحركة القومية نجحت في جعل فلسطين والوحدة والاستقلال قضايا يومية للعرب، لكنها أخفقت في جعل القضايا اليومية للمواطنين قضية قومية. اليوم تخسر نجاحها ذاك كل يوم بفضل مثابرتها على الفصل بين "القضايا القومية العليا" والقضايا اليومية للناس، بل تكاد تشارك الأنظمة التهويش عليهم إن تمردوا على كونهم مجرد حملة مؤبدين لقضايا كبرى (يتلاعب بها وبهم رافعو راياتها)، أو حتى فكروا في "القضايا القومية" ذاتها بطريقة مختلفة.
حيال الترابط الخطابي الجهازي يبرز معنى للنقد الجذري لا شأن له بالعنف اللفظي ضد السلطة، وهو المعنى الشائع في أوساط سورية معارضة، بقدر ما يحيل إلى تعرية ترابط الخطاب والسلطة: كشف ما في الخطاب من تجريد ومجانسة قسرية وعنف، وما في السلطة من معرفة ومبادئ وقيم. وغرضنا العملي هنا يتمثل في محاولة تأسيس الاعتراض على اعتقال مثقفين وناشطين سوريين على نقد الخطاب التخويني ومنابعه الجهازية. وليس من النافل التذكير أن وجها أساسيا من تاريخ الوطنية التخوينية هو تاريخ الاعتقال السياسي، مع ما يصاحبه روتينيا من توقيف عرفي وتعذيب ومحاكم استثنائية وحرمان من الحقوق المدنية وتنكيد عيش المعتقلين المفرج عنهم. من النافل، بالمقابل، القول أن الوطنية المعافاة هي تلك التي تعترف بحرية وذاتية واستقلال الرعايا جميعا، حيث الجميع مواطنون مستقلون، وحيث الخيانة نادرة. حالنا معاكس تماما: الوطنية نادرة، والخيانة احتمال مبدئي لا يدحضها إلا الولاء للنظام. إن السخاء في التخوين وندرة الوطنية هما مؤشران صادقان على شدة انغلاق النظم السياسية. وبالعكس: ندرة الخونة وعمومية الوطنية يؤشران على الانفتاح السياسي وحرية المواطنين.

عن الرأي والحقيقة
"حرية الرأي حق لكل مواطن في وطنه وفي العالم، وهي "مسلمة" وطنية وقومية وإنسانية وتحت هذه "المسلمة"، وباسمها ترتكب جرائم وطنية وقومية وإنسانية ووراء هذه "المسلمة" يتلطى أعظم واكبر أصحاب المشاريع الاستعمارية المتخصصة بقهر الشعوب والتحكم بمصيرها، وبمساعدة العداون على حقوقها". بهذه السطور "البليغة" صدّر المحامي بشير موصللي، الذي عرف نفسه بأنه "أمين في الحزب القومي السوري" مقالة له يثبت عنوانها: "إعلان دمشروت"، أنه لا يخشى في سقم الذوق لومة لائم (كلنا شركاء، 2/6). أمثال هذا المقال الذي ينحاز لحرية الرأي نظريا كي ينكرها عمليا وفيرة في الردود على الإعلان السوري اللبناني. "نحن" مع حرية الرأي، ولكن "الحرية المنضبطة بمعايير"، كما أمكن لرئيس اتحاد الكتاب العرب أن يقول (الثورة، 11/6). وفي مقالة لها في الجريدة السورية الرسمية نفسها (30/5)، تذكر ماريا معلوف، المذيعة في تلفزيون الجديد اللبناني، قولا نسبته لمدام رولان عن "الجرائم التي ترتكب باسمك أيتها الحرية"، قبل أن "تبرهن" أن إعلان بيروت –دمشق هو "قفز فوق الحقائق إرضاء لواشنطن وتل أبيب"! الجميع مع حرية الرأي العامة، لكنهم ضد أن يكون هذا الرأي الخاص حرا. ما أصل هذا الواقع؟
اشرنا فوق إلى أن الخطاب الرسمي ينبثق من بنيان السلطة ويشاكله. وأنه مبني على مطابقة تامة بين النظام البعثي وسوريا، لا تترك مجالا مستقلا لرأي مختلف. والحقيقة التي يحتكرها هذا الخطاب هي في آن مطلقة لا تقبل اسئنافا واعتباطية لا تخضع لقاعدة. ولها معادلات جهازية تكرس هاتين الصفتين، هما حالة الطوارئ، التجسيد الأمثل للاعتباط، والمحاكم الاستثنائية التي تجسد الإطلاق. على أن التطابق بين الخطاب والجهاز قلما يكون كاملا في الواقع. فالحقيقة التي يحوزها الخطاب أشد إطلاقا وتطرفا من أن يكون ممكنا تجسدها في أي جهاز. وهذا وحده يفسر أنه لم يكن يفرج عن سجناء حتى بعد انتهاء أحكام أصدرتها بحقهم محاكم استثنائية. لكن وراء الخطاب والأجهزة ثمة سياسة يشعر مقرروها بأن كل ما دون الأمن المطلق تهديد جذري لأمنهم، وبالتالي يجعلون من إعدام السياسية (أصلها تحويل القنوط من أمن مطلق لطرف بعينه إلى استثمار في أمن نسبي للجميع) جوهر سياستهم.
سياسة الحقيقة المطلقة هي محو الرأي. هذا هو الشيء الصحيح والعادل، وليس الشيء الطبيعي فقط. إذا كانت الحقيقة ملك يميني فلماذا أتقبل آراء لا تخفي نسبيتها وقيامها على التقدير والاجتهاد المعرض للوهم والخطأ؟ إفساح المجال للرأي بالمقابل غير ممكن إلا على حساب الحقيقة المطلقة، دينية كانت هذه أم دنيوية. الرأي بطبيعته، وبما هو يحيل إلى ذات لا تقبل الاختزال في مخطط جليل يعلو عليها، مشاغب ومتمرد ومعاد "للحقيقة". سمته الهدامة أنه لا يستمد شرعيته من شيء متعال عليه. فالرأي شرعي بما هو رأي، أي بما هو نسبي واجتهادي ومتغير وغير متكتم على ملابساته الذاتية. يمكن سحقه، ويمكن حبسه، لكن لا يمكن نزع الشرعية عنه (إلا بإخراج المجتمع كله من الحداثة). لا بل إن الشرعية أمر خاص بالرأي لا بالحقيقة. والاهتمام بالشرعيات العقلية والسياسية هو ابن الحداثة وسمة عالم غير مكفول يقوم على النسبي والجزئي والمختلف ويحترم الخطأ. الشرعية هي القواعد الاجتماعية لتنظيم الخطأ والنقص والجزئي والمخالف. وليس الرأي شرعيا إلا لأن الشرعية ذاتها مرتبطة بميلاد الرأي وبلا قابليته الجذرية للاختزال. بينما تنتمي الشرعية والحقيقة إلى عالمين مختلفين. ولا تحتاج الحقيقة إلى شرعية لأن الشرعية تنتمي إلى مجال النسبي والمتغير، فيما الحقيقة تنتسب إلى عالم المطلق والثابت. أما الرأي فشرعي لأنه ليس حقيقيا، بل لأنه خاطئ بالضرورة، إن من وجهة نظر "الحقيقة الموضوعية" وهي نسبية دوما ومتبدلة، أو الحقيقة الاعتقادية وهي مطلقة لكنها ذاتية دوما.
يمكن أن يتكون المثقف فقط على أرضية الرأي والشرعية وضد الحقيقة المطلقة. وهذا غير ممكن في "ثقافة السلطة" التي لا تقوم دون مطابقة ذاتها مع الحقيقة. والأحكام التي اطلعنا على عينة منها في مطلع هذه الفقرة لا تنكر شرعية الرأي المخالف إلا لأنها تقيم في عالم لا فسحة فيه للرأي والشرعية، عالم من الحقائق الخالدة التي لا تتبدل. على أن الحقائق المطلقة كانت دوما ختم السلطة المغلقة.

عن المثقف والسلطة
في الأول من حزيران الفائت نشرت جريدة "الحياة" بيانا لمثقفين سوريين، أراده أصحابه "تعقيبا" على إعلان دمشق – بيروت الذي "تضمن جملة من المغالطات التي تجانب حقيقة العلاقات السورية اللبنانية خلال عقود من الزمن". ورصف البيان "حقائقه" الثابتة ضد "مغالطات" إعلان المثقفين السوريين واللبنانيين، قبل أن يختم بالسطور التالية: "إن الموقعين على هذا البيان، إذ يؤكدون ثقتهم في عدالة قضية أمتهم وصلابة موقف بلادهم، ومن منطق شعورهم بمسؤوليتهم الوطنية والقومية، يناشدون السيد الرئيس بشار الأسد أن يتكرم بإصدار أوامره بالإفراج عن المعتقلين الموقوفين على خلفية "إعلان دمشق – بيروت"، وأن يأخذهم في عين الرعاية والعفو كونه يمثل القوة الأخلاقية لجميع أبناء الوطن".
يندرج البيان ضمن الحملة الأمنية والإيديولوجية ضد المثقفين المعارضين لشكل العلاقة السورية اللبنانية الراهن. لا يغير من ذلك "مناشدتهم" الإفراج عن "المعتقلين الموقوفين". فالأرجح أن البيان كان وقت صدروه مؤشرا على بحث النظام عن "طريقة الإخراج المناسبة لإنهاء هذه القضية بشكل يساهم في تقوية أصدقاء النظام في الداخل والخارج حيث خسرت سوريا [إقرأ: النظام] الكثير من المتعاطفين معها والكثير ممن عمل النظام سنوات على استيعابهم أو على الأقل تحييدهم" ("كلنا شركاء"، 8/6/2006، من مادة لمحررها بعنوان: كيلو .. بعد طريقة المعالجة أصبح طن!!). يقترح المحرر ذاته واحدا من مخرجين: إما "صياغة بيان ينتقد بيان بيروت – دمشق ولكنه يطلب من سيادة رئيس الجمهورية إطلاق سراح الموقوفين"، على أن توقع عليه "شخصيات ثقافية وأدبية لها وزنها في الشارعين السوري واللبناني". على هذه الخلفية، من المحتمل أن بيان 1/6 كان "بروفة" على هذا المخرج، لكن موقعيه كانوا أخف وزنا من أن يلبوا حاجة النظام إلى "إخراج مناسب لإنهاء القضية" دون المساس بهيبته. ومعلوم أن هذه اقتضت هيبة النظام على الدوام حرمان عموم الرعايا من أية هيبة أو حرمة أو حماية قانونية وأخلاقية، وكذلك حرمان الثقافة من أي استقلال. ومن الأسماء "الوازنة" التي اقترحها محرر "كلنا شركاء" جوزف حرب وحسين جمعة (!) ود. أحمد برقاوي وحنا مينة وسليمان العيسى. لكن يبدو أن "الجهود لم تفلح حتى الآن بإقناع هؤلاء بالتوقيع" (هذا يشرفهم حقا!). إلى ذلك يبدو أن مشروع بيان أعده بعض هؤلاء المثقفين اكتفى بالمطالبة بإطلاق سراح المعتقلين، ولم يمض إلى حد "مناشدة الرئيس العفو" عنهم.
المخرج الثاني هو محاكمة المعتقلين على أن "يقوم القاضي بإطلاق سراحهم لأسباب يتم الاتفاق عليها ويتم إعلانها". وتوازن "كلنا شركاء" التي يحررها بعثي "إصلاحي" بين المخرجين، فتجد أن الأول "يعطي رئيس الجمهورية مكرمة العفو عن هؤلاء "المخطئين""، لكنه يدخل "مقام رئاسة الجمهورية في كل قضية". فيما ميزة المخرج الثاني "إعطاء دفعة مصداقية كبيرة للنظام القضائي السوري"، غير أنه قد يجعل "المثقفين وكذلك القضاة يعتبرونها سابقة يبنون عليها لاحقا".
أسهبنا في نقل أفكار محرر "كلنا شركاء" من أجل إعطاء فكرة عن السينيكية المدهشة المتأصلة في تفكير أهل النظام، بمن فيهم "إصلاحيوه". فلا يطرح اعتقال مثقفين ونشطاء أبداً كمسألة عدالة وقانون وحقوق مواطنين. يطرح فقط لإخراج النظام من مأزق دون خسارة شيء من هيبته. ينبغي أن يدفع أحد غير النظام ثمن قرارات تعتبرها أطراف من النظام ذاته خطأ.
والحال إن من المحتمل أن يكون الجمود ودوام الحال على ما هو عليه هو المخرج الذي سيستقر عليه النظام. هذا يتوافق مع غرائزه، ومراهنته الدائمة على فعل الزمن في النسيان. وما كان لبيان يصدره مثقفون "لهم وزن" أن يغير في الأمر شيئا على أرجح تقدير. وستتعزز احتمالات بقاء المعتقلين في سجنهم بقدر ما تخفت الاحتجاجات والمطالبات بالإفراج عنهم.
يكشف المخرج الأول الذي اقترحته "كلنا شركاء" عن مفارقة أساسية في علاقة المثقف والسلطة في سوريا. يحتاج النظام إلى مثقفين متمتعين بالصدقية والوزن لتأييد سياساته، بيد أن مثقفين ذوي صدقية ووزن لا يمكن أن يرتضوا اختزالهم إلى قيمة استعمالية تتلاشى بعد الانتفاع بها. ولا يحترم هو ذاته مثقفين تابعين، لكن سياساته وموقع الثقافة في بنيانه لا تنتج غيرهم!
والواقع أن النظام يحصد هنا ثمار سياسة ثقافية عمرها أكثر من ثلاثين عاما. فمنذ أواسط السبعينات عمل على إلحاق الثقافة بالإعلام وإنتاج "مثقفين ثوريين" بالجملة. وكان المحرض المباشر على ذلك هو بيان أصدره مثقفون سوريون عام 1976 ضد التدخل السوري في لبنان. بالنتيجة، أنتجت "الثورة" مثقفين يبذلون لها ولاء غير منقوص، لكن تكشف هؤلاء دوما عن انعدام وزن يمنع الاستناد إليهم بثقة عند الحاجة.
بالمجمل يشير اعتقال مثقفين مستقلين، ومحاولة تسخير مثقفين لإدانتهم أو تأمين مخرج مناسب من الضجة التي نجمت عن اعتقالهم، إلى أن المثقف الجيد من وجهة نظر النظام هو المثقف القابل للاستخدام إذا اقتضى الأمر. أصل محنة المثقفين في سوريا هو الطبيعة "العقائدية" للنظام. على غرار ما كان الاتحاد السوفييتي النظام هنا كله ثقافة وكله حقيقة. فما نفع المثقفين وأهل الرأي؟

خراب أقل!
نختم بالإشارة إلى مفارقة أخيرة: "إعلان دمشروت" هو أبرز مبادرة اعتراضية على الراهن المتدهور للعلاقة السورية اللبنانية. هي نشاط مشترك نادر لمثقفين من بلدين جارين. لو كنا في عالم أقل خرابا لقيل إنها مبادرة "قومية" و"وحدوية"، أو إنها التعبير الأكيد عن فاعلية الثقافة وتصديها لإصلاح ما تخربه السياسة. لكن من شأن ذلك أن لا يترك لوكلاء الخراب ما يفعلونه!



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بين ليبراليتين في سوريا: -ليبرالية موضوعية- بلا وعي ذاتي، و- ...
- في صدد خصائص ثلاثة لليبرالية الجديدة العربية
- الليبرالية والديمقراطية والحداثة السياسية
- في أن الغرب طائفي، وأن موقع العقل الكوني شاغر
- إطلاق سراح الماضي لقطع الطريق على ثمانينات جديدة...
- احتلال الجولان وانتقاص مقومات الوطنية السورية
- تحت ظلال العار..!
- ميشيل كيلو وولادة المثقف السوري
- من -العروبة أولا- و-سوريا أولا- إلى الوطنية الدستورية
- -انغماس في العيب- حقاً!
- أوربا ومخاطر انفجار قيامي للشرق الأوسط
- خارج السلطة: تحول موقع الماركسية الثقافي
- تساؤلات بصدد الحرب الأهلية والحرب الطائفية
- في أية شروط تغدو الطوائف فاعلين سياسيين؟
- من سلطة غير دستورية إلى أخرى
- إعادة تنشيط التمركز الأمني للسياسة السورية
- هل يمكن للمقاومة الانتحارية أن تكون شرعية؟
- مقاربتان حولاوان في التفكير السياسي العربي
- العدو ذات تنقذ نفسها، ونحن ينقذنا التاريخ، لكن بأن نغدو موضو ...
- ماذا يفعل السلاح في الشارع؟


المزيد.....




- بايدن يرد على سؤال حول عزمه إجراء مناظرة مع ترامب قبل انتخاب ...
- نذر حرب ووعيد لأمريكا وإسرائيل.. شاهد ما رصده فريق CNN في شو ...
- ليتوانيا تدعو حلفاء أوكرانيا إلى الاستعداد: حزمة المساعدات ا ...
- الشرطة تفصل بين مظاهرة طلابية مؤيدة للفلسطينيين وأخرى لإسرائ ...
- أوكرانيا - دعم عسكري غربي جديد وروسيا تستهدف شبكة القطارات
- -لا استطيع التنفس-.. لقطات تظهر لحظة وفاة رجل من أصول إفريقي ...
- الشرطة تعتقل حاخامات إسرائيليين وأمريكيين طالبوا بوقف إطلاق ...
- وزير الدفاع الأمريكي يؤكد تخصيص ستة مليارات دولار لأسلحة جدي ...
- السفير الروسي يعتبر الاتهامات البريطانية بتورط روسيا في أعما ...
- وزير الدفاع الأمريكي: تحسن وضع قوات كييف يحتاج وقتا بعد المس ...


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - محنة المثقفين السوريين بين أهل التخوين وأهل الاعتقال