أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نبيل ياسين - اوجاع الوردة















المزيد.....



اوجاع الوردة


نبيل ياسين

الحوار المتمدن-العدد: 1602 - 2006 / 7 / 5 - 10:18
المحور: الادب والفن
    


سيرة قصيدة.. سيرة رأي

الى جعفر وجمعة وجبار وطارق
الى اقبال وامل
( الاخوة ياسين )
الى ندى : ذكرى طقس الزواج المقدس
الى يمام وحنين
انتماء الى تلك السلالة
الى عدد محدود جدا من الاصدقاء الذين تبقوا لي
اليَّ ، بعد كل هذا العناء
نبيل



(الفصل الاول)

امطار الليل


تلك الامطار التي ظلت تهطل طوال الليل . وتنقر على السطح الطيني ، كنت اسمعها تنقر على جدران بطن امي في اللحظات الاخيرة للطلق قبل ان اعلن صرختي الاولى في الفجر . فجر الثامن عشر من آذار عام منتصف القرن العشرين تماما.
قالت امي انها اعدت عجين خبزها في الفجر . تحت ايقاع تلك الامطار الصاخب الذي كان يخيفها وتخشى انهيار السقف المدعم بخشب الاشجار والنخيل ، بينما كانت تسمع صفارة قطار مار على سكة الحديد القريبة ، في ذلك البيت القابع في زاوية من زوايا منطقة كرادة مريم في بغداد . ولكن العجين لم يختمر الا في الضحى ، بعد ولادتي ، ولم يجد من يخبزه في ذلك التنور الذي فار فيه الماء وكأن الطوفان قادم الى المدينة مرة اخرى . ولم ينته الامر عند هذا الحد . فمن مكان عمله البعيد . من سنجار التي على سفح جبلها رست سفينة نوح بعد الطوفان ، عاد ابي مسرحا من عمله لعدم صلاحيته للعمل . كان النهار قد انتصف . والمولود الجديد جاء بالامطار وجاء بابيه معا . الامر الذي سيكرره ابناؤه معه من جديد بعد عدة اعوام.
ظل الاب يذكر سنجار مندهشا ، في حركة كلام ايقاعية وكأنها في آخر العالم . وستكون سنجار هذه قصيدة يكتبها المولود الجديد في منفاه بعد ثلاثين عاما:
مرة قال ياسين : سنجار آخر مايصل الناس
سنجارُ آخرُ عالِمنا
كان ياسين يترك زوجتَه وبنيهِ
يترك عائلة ً صوب سنجار في نفر ٍ من جنود الملك
كان يذهب للحرب كي يأكل الخبز
يذهب للحرب كي لايموت ( سنجار1980 )
وعلى كثرة ماتحدثت امي عن عودة ابي في عام ولادتي, صرت ادعي فيما بعد, انني كنت اعرف واشاهد كل شئ ، فكانت امي تقول : كيف ذلك ولم يكن لك من العمر سوى ايام . وبعد ذلك تحدثت عن وقائع كثيرة كنت شاهدها في ذلك العام والعامين التاليين ، حتى صرت اصدق انا نفسي انني كنت اعي العالم منذ لحظات ولادتي الاولى ، وهذا ماجعل همي يكبر وابدو كهلا في العام الاول من عمري ،بحيث انني كنت اثير دهشة اهلي وانا احدثهم عن اشتراكي مع زوج خالتي في حرب 1948 بين العرب واسرائيل حيث كان زوج خالتي يقاتل في صفوف فوج عبد الكريم قاسم في جنين وطولكرم قبل ولادتي بسنتين . وفي الوقت الذي ظلت فيه لزوج خالتي ذكريات يسردها على شكل آهات وآلام عن تلك الحرب ، في المساءات التي يشرب فيها الشاي ويجلس على بساطه الكثير الالوان ، اقلعت انا عن الحديث عن مشاركتي في الحرب معه ، حالما اصبحت الحرب تسكن قصائدي قبل ان تقع ويتم فيها النصر او الهزيمة:
الجنودُ -
القطاراتُ عُدنَ من الحربِ امس ِ،
القطارات عدن الى الحرب امس ــ
واحلامُهم
الجنودُ واحلامُهم
والشوارع ميتة
والجسور قطيع من البجع التائه ( الشعراء يهجون الملوك1971)
اما ابي فقد عاد من الحرب ولم يذهب اليها مرة اخرى. وظل يلهم مخيلتي بحروب العشائر في الجنوب وحروب البرزانيين في الشمال دون ان يطلق رصاصة واحدة . لم يكن يفهم ، كعادته في عدم فهم الكثير مما يحدث حوله ، لماذا يأخذونه الى حربهم بينما يذهب هو الى حربه . وسيبقى مقدرا شجاعة الشيخ خوام في الجنوب وشجاعة الملا مصطفى في الشمال وهو يسكن بغداد اكثر من ستين عاما من اعوام عمره.
لايعرف ياسين اين ولد . ولايعرف متى. لقد ضرب ابوه احد ضباط الجندرمة الاتراك الذين كانوا ينهبون الممتلكات تعسفا في جباية الضرائب وقتله في اشتباك غير متكافئ ، فحمل اغنامه وبنيه وظل متنقلا من مكان الى آخر
، هاربا من وجه العثمانيين الذين اصبحوا بعد سنوات يقايضون بدلاتهم العسكرية وبنادقهم بثياب الفلاحين وبعض الخبز هاربين امام زحف القوات البريطانية التي اخذت تتوغل في احتلال العراق . كان ياسين آنذاك في عمر يسمح له بامساك عصاه ومطاردة هؤلاء العثمانيين الذين اذاقوهم سياط سلخ الجلد كلما ارادوا انتزاع ضريبة منهم ، حتى دخل والده بغداد ليستقر فيها وينجب ذريته وكأنه كاهن سومري ينتقل بطقوسه الى بابل
لم يعر اهتماما الى اصل . كان يطرد افراد عشيرته حينما يأتون اليه ليشركوه في افراحهم او احزانهم . كان ملكا لم يولد من ابناء الملوك . ساخرا بطريقة او باخرى ممن اتعبوا انفسهم بالتفاخر . لم يكن يقرأ او يكتب . وبسبب هذا كانت تقع علي مسؤولية مرافقته الى كربلاء او النجف او الكاظمية لاقرأ له القرآن او الادعية:
أمَّنْ يجيبُ المضطرَ اذا دعاه ُويكشفُ السوء
امن يجيب المضطر اذا دعاه ويكشف السوء
امن يجيب المضطر اذا دعاه ويكشف السوء
وكان يردد غالبا بلغة ركيكة الكلمات الصعبة الاعراب والصرف في الادعية الكثيرة . وتلك الليلة في منتصف شعبان عام 1965, حيث رافقته لزيارة كربلاء وقراءة الادعية له,ماتزال تتوهج ببدرها الذي رافق باص المرسيدس الازرق ذي الثمانية عشر راكبا في العودة من كربلاء إلى بغداد,مرة ليوكر على نخلة ليضئ سعفاتها , ومرة على برية لبعكس رملها, ومرة اخرى على مياه نهر لتتلألأ فضة مياهه.
لم ينحدر اباؤه من ملوك حمير ولا من سدنة البيت . ولم تكن امه سوى حاملة لاسم سومري من اسماء خادمات معابد اور واريدو والوركاء لايعرف احد كيف ارتقى الى الزمن الذي ولدت فيه . ولم يكن من سادات العرب ولا سلاطين الترك ولا بطارقة الروم ولا اكاسرة العجم . كان مكتفيا بنفسه وبساطته وصدقه الفطري مع نفسه ، ساخرا بحذر من سطوة امي التي يسرها ان تردد ان اباها جاء معه من مكة بعبيد يخدمونه في مراكب تجارة الرز التي يعرف بها . هي ايضا لم تكن تعير ذلك الانتباه الى مثل هذا الامر .هي التي لاتعرف القراءة والكتابة كانت تعد نفسها لان تكون ملكة . كان ينقصها تعلم القراءة والكتابة لكي تتوج نفسها على العالم الذي تراه. وربما هذا هو الذي جعلها ، بشكل خاص ، تحرص بجهد فاق طاقاتها احيانا ، على ان يذهب جميع ابنائها الى الجامعات، من اجل ان تلبس ذلك التاج الذي حلمت به طويلا وتأسفت على فقدانه كثيرا ، ولم تكن تعرف ان هذه المعرفة ستكون سببا لمحنهم وآلامهم وجروحهم وتشردهم.
شخصان متناقضان تماما .كانت امي تقول: هكذا رأيته منذ اول ليلة دخل فيها عليّ . كان يكبرها باكثر من ثلاثين عاما . جاء اخوها مطر ، العابس مثل كهنة مردوخ ، اليها وقال لها ان عليها ان تتزوجه .كانت في الرابعة عشرة من عمرها . ومنذ ذلك اليوم ظلت لجاجتها على انعدام العدالة في الحياة ايقاعية وصاخبة.
انعدام العدالة هو ماميز حياة اولئك البسطاء الذين اورثونا التلازم بين البساطة وانعدام العدالة . والذي سيظل الترتيلة التي نرددها في كل معبد ننزله في الطريق بين بابل وبغداد ، واريدو وبغداد ، وآشور وبغداد ، والكوفة وبغداد ، والبصرة وبغداد ، والموصل وبغداد . وبين بغداد ومدن المنفى التي سقطت واحدة بعد الاخرى في هزائم منكرة من انعدام العدالة والتلازم بينها وبين التاريخ.
لم يبق اكثر من بضعة مشاهد ترقى في الذاكرة من بقاع لم تعد قائمة ابدا . الزقاق ,الذي شهد الطوفان وخروج الحيات والصراصر والخنافس وحيات ام سليمان وابوبريص ,تهدم بعد ان كان عالما يضج بنباح كلاب شمسة العوراء ونكات صبحة المريرة التي تطرد الغجر المتسولين القادمين من البادية الى بغداد بشعورهم الطويلة وعصيهم التي يطردون بها الكلاب النابحة وراءهم بحركة رتيبة الى اليمين واليسار دون ان يلتفتوا اليها ، حتى لتبدو تلك العصي في حركتها وكأنها ذيل كلب يتمسح بصاحبه
تلك الامطار التي تطاردني لم تكف عن تهديم حياتي . هدمت ذلك الزقاق قبل ان تهدمه مرة اخرى البلدوزرات , ذلك الزقاق الذي اوجدته الخليقة قريبا من القصر الملكي الذي لم يكتمل حتى تحول الى قصر جمهوري . واكتشفت آنذاك ، في السابعة من عمري ، ان العالم الواسع الذي كنت اعيشه من سكة الحديد غربا الى الكنيسة شرقا لم تكن مساحته تتجاوز كيلومترا مربعا واحدا بينما كان يضم الخليقة من بعد الطوفان حتى القيامة.
ظلت امي تنتظرني سبع سنوات حتى ولدت. من اجل ذلك وهبتني منذ اليوم الاول لولادتي الى الائمة والاولياء . ذهبت بي وانا ابن ستة شهور الى كربلاء لتربطني بالفاجعة . البستني كفنا ابيض ، واسلمتني الى المطبرين ليشجوا جبهتي بسيوفهم . وحينما كان الدم يسيل مني كانت النساء العاقرات يأتين ليحبلن بدمي ، ويلدن اطفالا من الروح التي شدت اليها ابناء الروح . وبقيت عشر سنوات ارحل كل عاشوراء الى الطف ، الى الغاضرية ، الى كربلاء لالبس كفني، الذي ظل يكفنني الى اليوم كمنذور للعذاب والالم والاوجاع ، واحمل سيفي صائحا بين حشود مأخوذة تماما وبين ايقاع الصناجات والطبول: حيدر ، حيدر ، حيدر ، حيدر ، بينما الدماء تسيل والنسوة يبكين وكاهنات البلاد ينشجن بذلك الايقاع الدامي:
نادى السَبط ْ ... يازينبْ الحزنانه
شعلوا الشموعْ ... للقاسم بصيوانه
وكنت اذهب في ايام عاشوراء مع خالتي الملاية حاملا كتبا مجلدة بقماش اسود ومخطوطة باليد لاشعار فاجعة كربلاء ، وغالبا ما حللت محل القاسم العريس القتيل ، بعد ان البس ملابسه البيضاء بينما رائحة الحناء واوراق الآس تملأ المكان
لقد اقلعت عن التطبير في العاشرة , وتطيرت امي وقالت لايمكنك ذلك, انك منذور.لكني اصبحت احمل دور الشبيه: وحملت فاجعتي ومضيت:
وكان هذا الرأس
يُحمل فوق الرمح
يموت فيه الامس
يطلع منه الصبح
( مرج الدم 1969)
لا اعرف ما اذا كنت اكرر سيرة ابي . وما اذا كنت استنسخ صورة آباء واجداد اعيد سيرتهم . لكن ما اخشاه هو ان يكرر ابنائي سيرتي . ليس لي ما احب ان يكرروه سوى ذلك التمسك بانسانيتي . كان لي ، في عصر طفولتي عدوان لدودان : الطنطل والسعلوة . لقد ملئتئا حكايات الجدات والامهات والآباء . وملأت مخيلة الجميع الذين يتعوذون من شرورهما وفتكهما حتى تجسدا لي في كل طيف ظلمة عشته في طفولتي ، واعيشه الآن . فانا امشي اليوم في شوارع مدن مضاءة ، واتصور في كل منعطف معتم ان سعلوة ستنبثق لي من قلب الظلام ، وان طنطلا سيخرج مكشرا عن انيابه الطويلة ضاحكا ليغويني بمرحه الذي يقود الى الكارثة.
لقد قطعت امي ليالي وحدتها مع ابنائها ، وليالي خوفها بحكايات من اعماق التاريخ . من ميثولوجيا البشر ، ومن خرافة المادة الحية ، اختلط فيها النبل واللؤم ، والانسان والسعلاة والدبة الهائلة والمرأة والمخيلة والخوف والتآمر , والالهة والقرابين والبؤس والسعد, حتى كنت وما ازال اتخيل ان بلاد الرافدين اعطت كل ماتملك للبشرية لكي تظل هي حية في صورة القربان, حتى تحولت البلاد كلها إلى مذبح مقدس.
وفي سياق الحكايات تلك ، المتقطعة بهرولة الكلاب على سطح لين من الطين والتبن وحصير النخيل ، كانت كوى الظلام تجسد هيئات طناطل وسعلوات ودببة ,يقوم ضوء الفانوس الباهت باعطائها ملامح اسطورية
هكذا تشكلت صورة عصر طفولتي من اب غائب في عمل بعيد ، يعود كل شهرين كما يعود مبشر او منتظر, بشعره الاشيب ولحيته القصيرة الحزينة حاملا معه, مثل رجل الثلج, الجوز والعسل القروي ، وام تعيد كل ليل حكاية تنهش فيها لحم الوحدة ، ووجل وقع اقدام الكلاب الراكضة على سطح البيت، واصوات الجرذان التي تقرض خشب اعمدة السقف كما لو انها تواصل تكليفا بتقويضه في منتصف الليل.
حتى العاشرة من عمري ، كان قد تقوض بيتان بفعل الجرذان والطوفان ووقع ارجل الكلاب الراكضة في الليل . انتهت المشاعية الاولى ، وعادت السلطة الى موقعها ، الى القوة والملكية . ولم يعوضنا مالك الارض عن الخوف والطوفان والميثولوجيا والخرافات وقصص الليل والسعال الليلي وعودة خالي مع ثلاثة ابناء : الاول اخرس ، والثاني بعينين حادتين مثبتتين على نقطة بعيدة سيصنع تاريخه الشخصي حتى اليوم على هيئة رجل جالس على صفيحة معدنية حالقا رأسه بيده كل يوم وكأنه احد كهنة بوذا ، صامتا لايفصح عما اذا كان كائن اسطوري قد اجلسه هكذا حتى هذا اليوم . والثالث مات متلهفا اللحاق بامه التي سبقته الى القبر بثلاثة اسابيع . وانا صغير تعرفت على مراسيم الدفن . فقد ذهبت الى المقبرة حاملا جنازة الصغير الذي تعلق بي والذي لا احمل منه حتى الآن سوى صورة مفرق شعره المبلل وانا اسرح له شعره الاسود اللامع بمشط من خشب وابتسامته الوادعة تلوح على محياه بينما البلابل تغرد في الباحة وفوق الاشجار المحيطة بالبيت في ضحى يوم لا اتذكر هل كان من ايام الصيف ام من ايام الشتاء؟
لقد دفنت التراكتورات كل ايامي تلك . لم اعد استطيع رؤية اي حجر او قطعة طين او ذرة تراب منها . ولعل ذلك ماجعلني باستمرار دائم الشعور بالفقدان ، ودائم البحث عما تبقى من قطع الماضي المتكسرة والمتناثرة في زوايا مدينة بغداد ، مغمورة بالتراب والدم المتيبس والصدأ وفخار التاريخ . حتى انني ماازال مندهشا كيف ان امي ترفض كلية تصديق تلك الواقعة التي ماتزال ماثلة بكل تفاصيلها امامي ، في تلك الليلة التي زارنا فيها جدي بثيابه البيضاء ولحيته البيضاء وعمامته البيضاء وجلسته تلك في وسط الحجرة على بساط صوفي ، بينما طرح عصاه الى جانبه . كان يحدثني بعد ان انهى صلاة العشاء في عتمة الحجرة التي يضيئها الفانوس المعلق بمسمار مغروز في العمود الاوسط الذي يرفع السقف . كانت امي تقول لي : ولكن ليس لك جد حي ، فكيف حدث ان زارنا جدك . وكانت تقوض كل فرحي بنفيها قصة زيارة شيخ مثل هذا ، وتعزي القصة كلها الى مخيلتي او الى علاقة صوفية مبكرة بالأئمة والاولياء ، ثم تقول لعله كان احدهم ، فتقبلني لتتبرك بهذا الشرف الطهري الذي لايتسنى لاحد ما ان يناله . ولا ادري من كان ذلك الشيخ المهيب بلحيته وثيابه البيضاء الذي ترك لي صورته جالسا على ارضية الحجرة مثل ملاك عجوز يشع من وجهه فيض النور الذي يتحلق في هالات تزخرف عتمة حجرة لم تعد في الوجود, وكل ماتبقى منها هو صوت حفيف اجنحة ملائكة صغار ما ازال اسمعه دائرا في المكان.
ومثلما بقيت صورة ذلك الشيخ ، بقيت صورة ذلك الباب الذي كانت الطرقات عليه تشبه الطرقات على بوابة الجحيم ، صاخبة ، قوية ، مترددة في الخواء. كان الباب عبارة عن اطار خشبي سميك مرقوم بصفائح علب زيت الراعي الصفراء وعلب زيت زبيدة الحمراء. كان يبدو وكأنه باب لمغارة عفريت . كان من الخارج بمحاذاة الطريق ، لكنه من الداخل ينخفض بمقدار قدم او اكثر، فكانت تقوم دكة طينية واطئة، ولاول مرة في حياتي جمعت من طين الباحة ما صنعت به تماثيل لاسود وفيلة وكلاب وضعتها على الدكة ، فبدت كأنها نصب تحرس معبد مردوخ في بابل.
سيبقى عالم الروح طاغيا في المخيلة، وفي التحديق الليلي بنجوم السماء في ليالي الصيف التي ننام فيها على السطوح . وسيكون الفضاء الكوني والحياة الدنيا والعالم الآخر موضوعا روحانيا يعمق بخوره واسراره وحناؤه وموتاه وملائكته وكهانه وصلواته وخفوت شموعه مسيرة بشرية تتصل طوابيرها منذ الخليقة دون ان يعرف احد , المغزى العبثي لكل هذا العناء الآلهي بتكوين الخليقة . مغزى عبثي يبدو وكأنه نفس المغزى العبثي للخلق والابداع الذي نحاول ان يكون تبريرا من نوع ما لوجودنا الذي لم يستطع جلجامش ان يحتفظ بعشبته:
والطريقُ الى العائلة
طريقي
وآخرُ اغنيةٍ في فمي
وآخرُ عشب ٍستسرقه حية ٌ من ثيابي
( الاخوة ياسين مرة ثانية 1991)
في يوم ما ، في خريف ما ، هوى الخال مطر بمطرقته الحديدية على جهاز الراديو الخشبي الذي اشتراه اخي ليسمع فيه خطب عبد الناصر ، فيما بعد ، عرفت ان ذلك اليوم كان يوم تأميم قناة السويس . كان رجال الزقاق يتجمعون على هذا الصندوق الذي يلمسه بعضهم لاول مرة ليسمعوا فيه اصواتا بشرية تتحدث مثلهم فيتعوذ بعضهم من الشيطان الرجيم . اما خالي فقد كانت له اسبابه الخاصة ليحطم الراديو ويشج رأس اخي . فهو يؤيد الحكومة ولايريد ان يقطع عيشه بسبب ابن اخت طائش . وستكون هذه الثنائية المتناقضة هي المصير الذي يؤول اليه مصير كل الابناء ، ومصير جيل سيجد الثورة تترعرع تحت جلده حتى تسيل وتتصب عرقا في ذلك اليوم الصيفي القائض من ايام شهر تموز عام 1958
فجرا كان الراديو يعلن عن القضاء على النظام الملكي . وبغمرة الانفلات من الايقاع اليومي المتكرر الذي احدثه الانقلاب وجدت نفسي بين جنود المشاة الذين ملأوا الشارع العام مابين قصر الرحاب والمحطة العالمية القريبة من المطار المدني ومعسكر الوشاش الذي سيتحول بعد اكثر من عشر سنوات الى متنزه عام لابعاد شبح العسكر عن وسط المدينة . كان الجنود يطلقون رصاصهم في الفضاء ابتهاجا وهم يرتدون السراويل القصيرة والخوذ التي تنتهي بما يشبه المريلة على رقابهم . انها الخوذ الانجليزية المعتادة في افلام الحرب العالمية الثانية وافلام المستعمرات . لم اكن اعرف من اين اتى هذا الفرح الصبياني لنا ، نحن جمهرة الصبيان الذين تجمعوا بين الجنود . وكصبيان وطلبة مدارس كنا نحب ذلك الملك الذي يبدو صبيا مثلنا في عقده الثالث ووداعته التي تشبه وداعتنا . كل ما كان يميزه عنا اننا نذهب الى مدارسنا مشيا على الاقدام بينما كان يركب هو سيارة الرولز رايز الفخمة حين يذهب الى البلاط . ولقد تسنى لي رؤيته آخر مرة في الايام الاخيرة للسنة الدراسية للصف الثاني الابتدائي حينما مر في ساحة المتحف القريبة من محطة الاذاعة والتلفزيون ولاح وجهه الوديع الذي لايعبر عن ملامح ما، من وراء زجاج السيارة الفارهة. لكني قبل عام كنت رأيته في افتتاح جسر الملكة عالية الذي سيتحول الى جسر الجمهورية. كنت على غصن شجرة في الطريق العام في كرادة مريم حين جاء يفتتح الجسر وسط ضجة النساء والاطفال والحشد الكبير من الناس . كل جسر كان حدثا في تاريخ المدينة . ولعل ذلك يعود الى الاسطورة التي تحققت والقائلة انه حين يكتمل الجسر السابع في بغداد ، فان الدماء ستصل حتى الركب . وهو الجسر ذاته الذي كتبت وانا اسير عليه عابرا من الرصافة إلى الكرخ:
صباحُ المدينة منهمر في المياه
وقفنا على الجسر منبهرين : التعرج في الموج
والظلمة تترك فوق المياه بريق الصباح
رأيت القوارب شاحبة
والشوارع مكتومة النبض نائمة
والجسور زمان تجمد في لحظة .
( نزهة1972)
وهو الجسر الذي انقطع الزمن بانقطاعه وهو ملقى كجثة معبد اسطوري هامدة على النهر في صورة نقلتها تلفزيونات العالم في حرب الخليج:
والطريق الى العائله
لغز ضوء بعيد
واسرار امرأة في نشيج
سنوات من الزمن المتحجر مثل دعائم جسر
- جسور الرصافة والكرخ ازمنة جامدة -
وبغداد آخر امكنة الله حين تقوم القيامة ..
ا( الاخوة ياسين مرة ثانية 1991)
بقينا سنين عديدة نعد جسور بغداد ، واحد ، اثنان ، ثلاثة ، اربعة ، خمسة ، ستة ، وكلما يقوم جسر على الضفتين يبدو دجلة وكأن ماءه قد اصبح اكثر احمرارا وقل تلألؤ الاضواء المنعكسة عليه . لقد كانت جسور بغداد في العصر العباسي مشانق ايضا بقدر ما كانت معابر . حتى الحلاج صلبوه على الجسر قبل ان يذروا رماده في النهر . الكوفة وواسط ايضا كانتا كثيرتي الجسور ، ولم تقتصر جسورهما على الجمع بين فضائين منفلتين للنهر ، بل كانت تجمع شتات فضاءات العقل والفكر المنفلتة من شعراء وفقهاء وثوار وفلاسفة وقراء ومتكلمين وقرامطة وزنج واسماعيليين زعلويين وخوارج وابنلء ائمة وصحابة وتابعين:
شرفات القصر تفتض بكارات الخطابة
صوته ارغن ، والريح الشمالية تبكي
في تلافيف سحابة
ومواويل السبايا
ايقظت من نومه الحجاج
واصطفت حراب الجند في وجه (العتابة(
كيف صلى فوق ارض الشام، والمحراب من خلفه،
والوشم على الكفين
عذراء .. وسيف .. وربابة
( الجلاء عن المواطن السبعة 1969)
وقبل ذاك باعوام . لم يكن الجسر.كان الفيضان ينذر مرة اخرى بعودة نوح ، الذي ظل يأتي بالطوفان بين عام وآخر لهذه البلاد التي شهدت الطوفان واعادت خلق العالم من كل زوجين حملهما معه نوح ليبقى النسل البشري ، والنسل الحيواني ، والنسل النباتي ، ونسل الجمادات مستمرا في عالم وخليقة يدمر احدهما الآخر. اتى الطوفان ذلك العام ، عام 1954 جارفا معه صورة كانها مطبوعة في العالم السفلي ، عالم ارشكيجال الملئ بالكائنات المخيفة . فعلى صفحة النهر المقوسة مثل بطن حبلى ، يجرف الماء ابقارا نافقة ، واشجارا اقتلعها في طغيان وجبروت ، واثاثا خشبية لبيوت قرى على النهر ، وثيابا تبدو.. كرايات ممرغة في الوحل بعد الهزائم ، في عتمة غروب تعطيه لون قتامة العالم السفلي غيوم بنية واطئة ، واللون الاحمر لثياب الاخ الصغير جبار الذي ولد ذلك العام . وحتى تخف عنه حمى الحصباء فان كاهنات البلاد اللواتي ينهلن من سحر بابل وتراتيل اريدو جمعن بين الطوفان والحصباء والثياب الحمراء اللون.
اما نحن, فلثلاث ليال كنا نهجر البيوت القريبة من النهر ، لاجئين الى عربات القطارات الفارغة في الليل في محطة سكة حديد غربي بغداد المرتفعة عن مستوى النهر قليلا.
الدفلى والسيسبان هما ماتبقى لي من نبات عصر طفولتي . الاول بزهرته الحمراء او البيضاء وبطعم اوراقه المر وبزيتها الذي كان يسيل من اوراقه حين نفرك ايدينا بها. لقد كانا يسيجان دور الخبراء البريطانيين الذين يسكنون قرب محطة سكك قطار غربي بغداد ، ويسيج مستشفى السكك القريب الذي زرته لاول مرة حين اضطر ابي للمكوث فيه بضعة ايام لاجراء عملية لا اتذكر سوى انها نتجت عن حادث انقلاب سيارة . كانت المصاطب الخشبية والاسيجة الخشبية البيضاء الواطئة وصفوف نبات الآس هي ما ادهشني في المستشفى الذي بدا بقواويشه العالية والطويلة ومصابيحه الصفراء وكأنه انفصل عن عالم سفلي يرقد فيه المرضى على سرر من حديد.
السيسبان الطري الذي كانت اوراقه النحيلة والطويلة واللينة البهية الخضرة تملأ اوقات فراغنا ايضا في عصر طفولتنا . كنا نكسر غصنا منه ونروح نجرده باصابعنا من الاوراق اللينة بسهولة ومتعة ليتجرد من الغصن سيف طري نظل نتحارب فيه دون ان يتكسر بسهولة . وهو الذي سيخلد في ذاكرتي ساقي امرأة بيضاوين عاجيتين منفرجتين في حقل السيسبان بينما عشيقها يخور فوقها خوار ثور . وهوالذي كان يلوح لي في ظلمة الليالي مثل طنطل فارع الطول نحيلا:
والسيسبان يحيط صمت البيت،
كان رعاة مختار القرى
يتسللون الى الحظائر
خلف اغنام يغطيها الغبار
كانت تعد الشاي عصرا،
او تعد مخاوفا لغد ٍ ...
( ام جعفر 1982)
ماتبقى من مشاهد تلك الطفولة السحيقة في القدم منظر بستان النخيل على دجلة في جانب الكرخ في كرادة مريم . كأن ابا العلاء المعري قصده ذات يوم حين وفد الى بغداد فاتحا عينيه على سعتهما ، محدقا بعيون شيخ جليل بذلك التناسق الذي تمخضت عنه الطبيعة طوال آلاف السنين وهي هائمة لتستقر على ضفاف دجلة وتضع حملها هناك:
وردنا ماء دجلة خير ماءٍ وزرنا اشرف َ الشجر ِ النخيلا
في كرخ بغداد ولدت. وفي كرخ بغداد بقيت اعيش متنقلا من حي الى آخر . وانتقلنا الى حي من احياء بغداد على الطريق الى بابل وكربلاء، وكأن مصادفة قدرية تضعنى دائما على طريق الفاجعة والكاهنات. كانت الليلة الاولى في البيت طويلة كأنها زمن اسود متجمد. بيت قائم وحده وسط الاحراش وسواقي الماء والاشواك مع غيره من البيوت المتناثرة مثله والمتباعدة بعضها عن بعض . فالحي لم يقم الا منذ عام تقريبا ، والبعوض والحشرات الاخرى المنتشرة في ارض ماتزال زراعية لاتنغص النوم فحسب ، انما تجعل من الليل ليلا آخريا محروسا بعقارب آرشكيجال وافاعيها وجرادها وخنافسها وصراصيرها وضجيج لعناتها المتلاحقة. لكن بعد اشهر ستظهر عشتار بالقرب منا . تعطر صباح الصيف الذي حل بالطيوب والعيون النجلاء والشعر المرجّل بمشط الآلهة . كل يوم تخرج صباحا الى جامعتها لتلقي تحية الصباح على الصبي الذي اغرته عشتار بمصاحبتها حتى موقف الباص البعيد فحث نفسه هو على انتظارها عصرا في ذلك الموقف عائدا معها متكسرة في مشيتها مثل موجة بحر او ترجيع غناء بعيد .هكذا بدأت الاشواك تموت تحت تكاثر وقع الاقدام ، وبدأت الافاعي تغور تحت تكاثر قطط وكلاب ودواجن البيوت التي اخذت تتلاصق شيئا فشيئا . وعشتار البتول تلك ستظل صورة المرأة - الإِلاهة لزمن طويل . تلك الصورة التي انعكست على وجوه نساء كثيرات سيدخلن بوابة هذا المعبد المعد لطقوس الحب . لكن ذات يوم رحلت عشتار ولم تعد . ولم يعرف احد من كانت والى اين مضت . لقد مرت مثل طيف الهي عبر من مجرة لاخرى تاركا فيَّ شعاعه الدافئ وصوت عبوره الاليف.



#نبيل_ياسين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قصائد من طقوس الى الابد
- التعددية الثقافية شرط الديمقراطية
- البيت
- احلام واوهام الثقافة العراقية
- مستقبل الثقافة في العراق
- موقف الدول العربية من الارهاب في العراق
- حدثني يا ابتي
- الديمقراطية في الفكر الغربي
- ربع قرن من العزلة
- لكي لانصاب بنكسة دستورية
- صاحب الحكيم ومحاكمة صدام
- اثينا 403 قبل الميلاد - بغداد 2003 دكتاتوريةالثلاثين- دكتاتو ...
- المرأة في الفكر السياسي العراقي


المزيد.....




- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...
- هاجس البقاء.. المؤسسة العلمية الإسرائيلية تئن من المقاطعة وا ...
- فنانة لبنانية شهيرة تكشف عن خسارة منزلها وجميع أموالها التي ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نبيل ياسين - اوجاع الوردة