أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسن مدن - المشي الحر















المزيد.....

المشي الحر


حسن مدن

الحوار المتمدن-العدد: 6672 - 2020 / 9 / 9 - 23:38
المحور: الادب والفن
    


يحدث أحيانا أن تصادفك في يوم واحد كمية هائلة من سوء الحظ تكون فوق طاقتك أو قدرتك على التحمل. في مثل هذه الحال عليك بالذهاب للمشي وحيدا، ففي هذا التوحد مع الذات فرصة للتأمل والتفكير وإعادة تقييم الأمور بعقل بارد، ففي المشي بالذات "تكمن قوة شافية" بتعبير باتريك زوسكيد مؤلف رواية "العطر".
وارتباط المشي بالتفكير عادة موغلة في القدم، وليس مصادفة أن واحدة من أهم المدارس في الفلسفة اليونانية القديمة كانت تسمى بالمشاءين، لأن مريديها كانوا يشكلون أفكارهم ويصوغون خلاصاتهم الفلسفية وهم يمشون، ويقال أنهم كانوا يمشون مثنى أو ثلاثا في ساحة داخلية ليست كبيرة يقطعونها ذهابا وإيابا، وهم يتجاذبون الأفكار التي تشغل بالهم، بيد أن المشي المنفرد ينطوي على مغزى عميق، ذلك انه يقترح عليك مزاجا منعشا بالحرية، الحرية الداخلية في المقام الأول، التي هي عصب التفكير الحر. إن المشي في الفضاء المفتوح الممتد بجوار البحر أو في إحدى الحدائق أو الغابات هو ما يهب الماشي الشعور بجمالية ذلك الفضاء المتناهي في الكبر، إذا ما إستخدمنا تعبير باشلار ويستحث الحواس كلها على التنبه الشديد واليقظة .
أذكر أن مدرس الفيزياء في المرحلة الثانوية وكان فلسطينيا واسمه على ما أذكر الأستاذ ايميل شرح لنا مرةً في درس عن البصريات أن العين ترتاح حين تحدق بعيدا، كلما اتسع مدى الرؤية استرخت أعصاب العين، وأذكر أن فصلنا الدراسي كان واحدا من عدة فصول في المدرسة تطل مباشرة على البحر، ومن النوافذ الزجاجية كنا نرى هذا البحر من وراء حاجز من الأسلاك المفتوحة، وكأني به كان يحرضنا على التحديق في هذا البحر المتناهي في الكبر. لكن حين يقترن هذا التحديق بالمشي فان مجموعة حواس، وليس حاسة البصر وحدها، تستنفر مجتمعة لتهبك تلك القدرة الهائلة على التفكير وإعادة تقييم الأمور.
كان "زوسكيند" قد شرح ذلك في روايته "الحمامة" ملاحظا أن الرتابة في تحريك قدم بعد الأخرى بإيقاع متزن من التلويح بالذراعين على الجانبين، والتسارع في تردد النفس والنشاط الخفيف في النبض، والتوظيف الضروري للعينيين لتحديد الاتجاه والمحافظة على التوازن، كلها أشياء تضطر الروح والجسد للتوحد بطريقة حتمية، "وتترك الروح حتى لو كانت في أشد حالاتها غيابا وتثاقلا تنمو وتتسع"، والمشي الذي نحن بصدد الحديث عنه هنا هو مشي الهوينى، وليس المشي السريع الذي يمارسه هواة الرياضة، فهذا الأخير وظيفة قائمة بذاتها ، المشي من أجل المشي، أما مشي "المشائين" فهو ذاك الذي يحقق
متعة استنفار الحواس كافة.
هذا النوع من المشي إذا ما كان منتظما وفي مكان بعينه يخلق بينك وبين "الممشى" اليومي علاقة جديرة هي الأخرى بالملاحظة، لأن العادة تقيم صلة بينك وبين الأشياء القائمة
في المكان الذي اخترته ساحة لمشيك، وبدون سابق تخطيط تقوم كل يوم بفحص هذه الأشياء وملاحظة ما طرأ عليها من تغير، ثم أن هذا المشي في المكان ذاته، سيستدرجك مع الوقت حتى من دون أن تكون راغبا في ذلك لمراقبة من يأتون كل يوم إلى المكان نفسه وفي الميعاد نفسه مثلك للمشي، وستكتشف دونما سابق تخطيط أنكم جميعا أعضاء في جمعية اختيارية اسمها جمعية المشائين.
وأذكر أني لاحظت أن احد المناضلين القدامى حين يريد أن يتحدث في أمر مهم، يقف على رجليه ويذرع الغرفة ذهاباً وإياباً، وهو يوجه كلامه للجالسين أمامه، ولما إسترعى سلوكه هذا إهتمامي مرات، سألته عن سبب هذه العادة، فأجاب أنها تشكلت لديه في سنوات سجنه الطويل، فكان إذا إستغرق في تفكير في مسألة من المسائل، شعر بالرغبة في أن يذرع أرجاء زنزانته مشياً، حيث كان المشي، ولو في مساحة أمتار معدودة، هي مساحة الزنزانة الصغيرة، يخلق لديه شعوراً بالراحة، يساعده على هدوء التفكير، ولم يستطع التخلص من هذه العادة رغم مضي عقود على خروجه من السجن آخر مرة، فاقترن التفكير العميق عنده بالمشي.
وعلى صلة بهذا، لاحظ الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي، من خلال تجربته الشخصية المعروفة، حيث انه هو الآخر قضى سنوات طويلة في المعتقل، أن البشر ليسوا ضحايا السجون المادية والموضوعية التي قد يعرفونها أو لا يعرفونها فحسب، بل إنهم ضحايا سجون وأسوار يشيدونها داخل ذواتهم على شكل مركبات من الأنانية وحب التملك والارتكاسات القمعية المكتسبة. ويشير اللعبي عن حق الى أن كل مشروع تحرر لا يستهدف إلا كسر القيود الخارجية محكوم عليه بإعادة تشييد سلسلة جديدة من السجون، لأن الأسوار الداخلية أكثر مناعة وتأثيراً من الأولى.
شاعر الهند وحكيمها الكبير طاغور يرى أن كل ما فعلته حضارة الحجر أنها دمرت الإنسان، وكي "تتأنسن" البشرية من جديد عليها التحرر من جملة المصادرات التي نفذتها هذه الحضارة لحريات الإنسان. هذه العودة إلى "داخل" الإنسان أو إلى ذاته أضحت مظهراً من مظاهر الاتجاهات الفكرية والفلسفية الجديدة التي تنبهت إلى أن العقلانية الفجة بكافة مظاهرها إذا انصرفت إلى الخارجي أو الموضوعي، فإنها صادرت قسطاً كبيراً من قدرات الإنسان وحرياته.
من هنا التأكيد على قدرة الحضور الداخلي، على تحرير الذات من القيود المنيعة التي نسجت حولها، وليست هناك مفارقة في أن تجري العودة للفلسفات الشرقية التي كانت أولت العالم الروحي، الداخلي، للإنسان اهتمامها الأكبر.
وحتى مفهوم الاغتراب، الذي هو إحدى ثمار الفلسفة العقلانية منذ هيغل ركز على اغتراب الإنسان عن الأشياء من حوله، عن العمل وعن السلعة وسواها، ولم يكترث، كما يليق، باغتراب الإنسان عن الذات، على النحو الذي تصورته بعض اتجاهات علم النفس كافتقاد الشعور بالذات وبالعفوية والفردية. ولو تأمل المرء في حياته للاحظ أن القمع الداخلي للذات يضاهي القمع الخارجي لها، فبينما تتحول الأشياء من حولنا وتتراخى صرامة القيود الموضوعية، تزداد القيود التي سبكناها نحن داخل ذواتنا قوة وتماسكا، فتعيقنا من الانعتاق، من الجرأة ليس فقط في السلوك الشخصي، وإنما عن تفهم سلوك الآخرين والتسامح مع رغباتهم، التي هي بالمناسبة رغبات مكبوتة في دواخلنا نكابر إذ نتجاهلها.
لو تساوق الإنسان مع حريته التي جبل عليها، لو ولج ملكوت الحرية الجميل بتفاصيله المدهشة، لرأى ما رآه شاعر الهند وحكيمها طاغور حين طفا بعيدا إلى مكان قصيّ، ودفع الباب الموصد في ذهنه فانفتح على دار خرافية.
ما من قيمة في الحياة في محل تقريض وإشادة كقيمة الحرية، ولكن ما من قيمة مكبلة بالقيود وبالمحاذير وبالمحظورات مثلما هي الحرية. إننا جميعاً نمشي بمحاذاة الحائط لأننا اعتدنا الاتكاء عليه ولم نتعلم بعد المشي الحر في الشوارع الفسيحة برجلين طليقتين، ونحن نمشي مطأطئي الرؤوس لأننا اعتدنا أن تكون السقوف واطئة، بحيث لا تحتمل قاماتنا القصيرة، وأن رؤؤسنا دقت بما فيه الكفاية بهذه السقوف حتى أصبنا بالدوار فلم نعد نعي مواقع الجهات الأربع. ومع الوقت نشأت في دواخلنا سيكولوجيا العبد نحن الذين ولدتنا أمهاتنا أحراراً، وحين نتذكر تلك النصيحة الذهبية التي أطلقها أحد الكتاب "احذر الإنسان الذي يشعر أنه عبد، فلسوف يريد أن يجعل منك عبداً" حتى نشعر بأن ماءً بارداً صُب على رؤؤسنا، لأننا إذ ندرك في قرارات أنفسنا أننا لسنا أحراراً نمارس التسلط على من نظنهم أدنى مكانة منا. أنظر إلى الرجل المستلب في عمله أمام مديره أو مسؤوله المباشر، وتأمل كيف يتصرف في بيته كطاغية فتعجب كيف تجمع الناس بين شخصية الطاغية وشخصية الخَنوع، في أشبه ما يكون بسيكولوجيا التعويض عن القهر الواقع علينا، بالشكل الذي فصله الدكتور مصطفى حجازي في كتابه القيم عن "سيكولوجيا الإنسان المقهور".
وفي كتابه الطريف "المستطرف الجديد" ينقل الباحث الراحل هادي العلوي أقوالاً وحكماً من التراث العربي – الإسلامي تدلل على أن الوعي بهذا الأمر يمتد بعيداً وعميقاً، فينسب للخليفة الراشد عمر بن الخطاب قوله "ما وجد أحد في نفسه كبراً إلا من مهانة يجدها في نفسه" أما أبو حيان التوحيدي فيقول "ما تعاظم أحد على من دونه، إلا بقدر ما تصاغر لمن فوقه".
افتقادنا إلى الحرية كشعور بالانطلاق ينسل عميقاً إلى أدق تفاصيل حياتنا، إنه يمس على سبيل المثال قيمة نبيلة كقيمة الحب، من يقول إن عواطفنا حرة، أو أننا نعبر عن مشاعرنا حيال الآخرين بشكل حرٍ ومجرد وخالٍ من الحسابات والاعتبارات؟!. يذهب ميلان كونديرا إلى أنه ليس في استطاعة المرء أن يحدد يقيناً إلى أي مدى تكون علاقاتنا بالغير نتيجة للعواطف، لحبنا أو للاحبنا، لعطفنا أو كرهنا، وإلى أي مدى هي محكومة سلفاً بموازين القوى بين الأفراد.
وهذه الملاحظة الدقيقة إذا كانت تصح على البشر جميعاً بصرف النظر عن انتماءاتهم وجنسياتهم، فإنها تصح بمقدار مضاعف على مجتمعات مثل مجتمعاتنا العربية "تُشيء" فيها حتى العواطف. "إن طيب الإنسان الحقيقي لا يمكن أن يتجلى بكل صفاء وحرية إلا حيال أولئك الذين لا يمثلون أية قوة"، والقوة هنا مأخوذة بمعناها الشامل وتجلياتها المختلفة التي تتوغل في أصغر الخلايا وتندس في أدق الشرايين!



#حسن_مدن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- غواية الشحرور الأبيض
- ذبابة سقراط
- ما القضية التي تشغلنا
- في قلوب الناس باقٍ - الفنان سلمان زيمان: أشعل ذاكرة لن تنطفى ...
- الأطباء الحفاة
- «كورونا » يكشف عاهات العالم
- محنة المثقف
- سمير أمين
- فيلتسيا لانغر.. وداعاً
- هكذا تكلّم أحمد سند في الأول من مايو
- معاقبة موسكو أم ترامب؟
- بين البحرين وتونس
- الروس والعرب
- إرهاب عابر للقارات
- ترامب الأوروبي
- المهم وغير المهم
- المرأة الحديدية
- سعيد العويناتي .. رجل ضد النسيان
- مقدمة كتاب علي دويغر
- بين القيصر والسلطان .. بندقية


المزيد.....




- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام
- السعودية تتصدر جوائز مهرجان هوليوود للفيلم العربي
- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسن مدن - المشي الحر