أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - عبدالرزاق دحنون - نزهة الأنام في محاسن الشام















المزيد.....

نزهة الأنام في محاسن الشام


عبدالرزاق دحنون
كاتب وباحث سوري


الحوار المتمدن-العدد: 6654 - 2020 / 8 / 22 - 14:21
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


وهل ما زال في الشام محاسن؟ يا سيدي دعك من حاضر الشام الآن، والتفت إلى الوراء قليلاً. نعم، ستجد في الشام الكثير من الحُسن والمحاسن. وتسأل: وما المفيد في النظر إلى الوراء، والعادة أن ينظر الإنسان إلى الأمام ليرى مستقبله جيداً ويدرك منه ولو شيئاً بسيطاً. ولكن في هذا الزمن الأغبر الذي تنضح من جنباته الشدائد والمحن يظهر بأن المستقبل يرتاح في غموضه بل ويغيب في ضباب كثيف حتى عن عيون زرقاء اليمامة، فتنعدم الرؤية ويصيب الناس الإحباط والسأم، لذلك نلتفت إلى ماض نظنه كان جميلاً، صحيح أنه مضى وانقضى، ولكن لعل تذكر تلك الأيام الخوالي أن تعيد لنا الأمل الضائع وتشد من عضدنا وعزيمتنا وتقوي أزرنا. والعرب تقول: "أشدد يديك بغرزه" يُضرب المثل في حثّ المرء على إتقان عمله والتفاني فيه. وقد استعيرت كلمات هذا المثل من رفيقنا الإسكافي الذي كان يصنع النعال ويشدُد يديه بغرزها.

رُميتُ بالغربة عن بلادي كأني أذنبتُ في حالة القرب فأدَّبتي بهجرها وبعدها. أستغفر الله هي مسقط رأسي، ومجمع أهلي وناسي، وملعب أخواني وخلاني. والشاعر يقول: شكوت وما الشكوى لمثلي عادة/ ولكن تفيض العين عند امتلائها. وعلمي أن محاسن الأوطان كثيرة لا تُستقصى، وأوصاف صفاته تتضاعف أعدادها ولا تُحصى.

وها أنا من بعيد أُطلُّ عليك يا وطني. وأحن إليك. أي والله. وكيف أُخفي ذلك، وقد سبقنا الأوائل في القول: حبُّ الأوطان من الإيمان. وأقول مع الشاعر: وما عن رضى كانت سُليمى بديلةً/بليلى، ولكن للضرورات أحكام. وأبو الطيب يُنشد: لا خَيْلَ عندكَ تُهديها ولا مالُ/ فليُسْعِدِ النطقُ إن لم بُسعِدِ الحالُ. وكُلنا يعلم بأن آراء الناس تختلف من زمن لآخر، وهذا من حقهم، ولكنهم يحتاجون إلى التعاون من أجل نهضة الأوطان، وأساس التعاون والعيش المشترك هو التفاهم الذي يزيل الخلاف بين الأطراف ذات العلاقة في عالم متنوع. وكُلنا يعلم أيضاً بأن الوطنية هي هذا الشعور العميق الذي يحدو صاحبه إلى مؤاخاة جميع الناس لأنهم يشاركونه في مُثُلٍ عليا يُقدسها وهي تستلزم حقوقاً وواجبات.

تعود بي الذاكرة إلى كتاب" نزهة الأنام في محاسن الشام" تأليف أبي البقاء عبد الله البدري المصري الدمشقي من علماء القرن التاسع الهجري، وهو أديب عارف بالتاريخ والشعر، حيث رسم في كتابه صورة الشام حين كانت بأزهى حللها وأنضر ألوانها. وهي صورة واقعية عن الشام وغوطتها التي أحبها وكتب عنها في زمنه قبل يومنا هذا بخمسمئة عام. يسرد لنا في سطور قليلة سبب تأليف هذا الكتاب في حكاية أخالها حزينة، كأنها حكاية ملتاع جنى عليه الزمان فأبعده عن حبيبته المشتهاة. فقد طلب منه أحد أكابر الرجال وصف دمشق وغوطتها التي سمع عنها ولم يرها في حياته، فأجابه إلى ما طلب بهذه التحفة الأدبية النادرة.

يقول: "لقد سألتني أيها الأخ الأمجد، والحبيب الأسعد العاشق في محاسن الشام على السماع، والمتشوق المتوق لبديع مرآها، أن أعللك بخبرها لعدم العيان، وأن أقربها إليك بوصف يلده قلب الهائم الولهان. وهل أنا إلا قسيمك في الشوق والهيام، وحليفك في الحب والغرام. غير أني رُميت منها بعد الوصل بقطيعة صدها، كأني أذنبت في حالة القرب فأدبتني بهجرها وبعدها"

هذه الكلمات تؤكد أن مؤلف كتاب "نزهة الأنام في محاسن الشام" كان بعيداً عن دمشق وغوطتها حين ألف كتابه. وتقول المرويات أنه كان بمصر بلد أجداده وهو المولود في الشام عاش طفولته وشبابه فيها، متنقلاً في حاراتها، متمتعاً بجمال غوطتها، فلانت كلماته ورقَّت أشعاره وصفت كأنها خصل عنب رازقي. والعنب صنوف في دمشق. فمنها البلدي، خناصري، عاصمي، زيني، بيت موني، قناديلي، افرنجي، مكاحلي، بيض الحمام، حلواني، بوارشي، جبلي، قصيف، ابزاز الكلبة، قشلميش، كوتاني، عبيدي، شحماني، جوزاني، دراقني، مخ العصفور، عرايشي، رومي، شبيهي، نيطاني، عصيري، رناطي، ورق الطير، سماقي، حرصي، مجزع، شعراوي، دربلي، قاري، علوي، عينوني، مورق، مشعر، مسمط، مرصص، محضر، مقوص، حمادي، تفاحي، رهباني، زردي، مبرد، مخصل، مغاربي، شحمة القرط.

ولابد أن تسأل كل هذه أصناف عنب، هل نحن في غوطة دمشق أم في الجنة؟ رحم الله جدي عثمان دحنون حين زار دمشق في منتصف سبعينيات القرن العشرين وكنتُ معه وكان "سلام من صبا بردى" ما يزال ونسمات هواء الغوطة وخيراتها تعبق بالمكان. وفيروز تُغني "يا شام يا بوابة التاريخ". كان يلح في إقامته القصيرة تلك أن نشتري له كل يوم أحد أصناف العنب الدمشقي وكان أوان العنب يومها. كم أسعده عنب الشام فأثنى عليه وهو الفلاح المُجد الذي ظلً مُرابعاً بلا أرض حيث رفض أخذ حصته أيام التأميم والإصلاح الزراعي في ستينات القرن العشرين مُدعياً بأن هذه الأرض مَكْس، فهي حرام، في الحديث "لا يدخل صاحب مَكْسٍ الجنَّة". أعجبه عنب الشام أيما اعجاب مع أن كروم مدينة إدلب في الشمال السوري تمتاز بأصناف العنب: بلدي، فوعي ناعم، فوعي خشن، بيض الحمام، حفرزلي، حرصوني، هرمشيني، مجيز، أصبع زينب، كوسا خليل، ضراط العرب، وهذا الصنف الأخير على غرابة اسمه أحد أفضل أنواع العنب في العالم لصنع النبيذ الأحمر، تتوارثه إدلب من عشرات القرون قبل ميلاد السيد المسيح، وانتقلت داليته إلى المزارعين في أوروبا مع صعود الإمبراطورية الرومانية واجتياحها المشرق حتى بلاد فارس. وهو اليوم من أفضل الأصناف التي يُصنع منها النبيذ الأحمر في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا وألمانيا.

والعنب يبدأ حصرماً. والحصرم ثمر الكرم قبل الحلاوة والميم فيه زائدة مأخوذ من الحصر وهو العجز عن النطق. والحصير الملك سمي بذلك لامتناعه عن الأعين، قال الشاعر: وقماقم غلب الرقاب كأنهم/ جند لدى باب الحصير قيام. وسميت جهنم "للكافرين حصيرا" لمنعها من فيها من الخروج. وفي القرآن: "وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا".

ومن محاسن الشام الزبيب وهو جفيف العنب خاصة، ثمَّ قيل لما جُفف من سائر الثمر زبب إلا التمر فإنه يقال تمر الرطب ولا يقال زبب والزبيب هو العنجر. وأفضل أنواع الزبيب أكثره لحماً وأرقه قشراً وبعض الناس يميل إلى الزبيب الكبار الحلو فيخرج عنه عجمه قبل أن يأكله والفاعل لذلك محسن في فعله والكشمش هو الزبيب الصغير الذي لا عجم له وهو أجود. وقال صاحب كتاب "لقط المنافع" الزبيب صديق المعدة والكبد ينفع الكلي والمثانة ووجع الأمعاء ويحد الذهن. ويعمل في الشام من عصر العنب النبيذ والدبس والملبن.

ومن محاسن الشام سفرجل دمشق ومن الفوائد أن أزهار الفواكه لم يؤكل منها سوى زهر السفرجل لحلاوته وعطريته. وهو أصناف بدمشق: برزي، قصبي، سالمي، صيني، رقي، عباسي، تفاحي، أبو فروة، مجهول. وفي الشام يشوى السفرجل بأن يقور ويخرج حبه-بزره- ويجعل فيه العسل ويطين خرمه ويودع الرماد لينضج. ومن لطيف ما قاله ابن تميم في السفرجل وأحسن في قوله:

حاز السفرجل أوصاف الورى فغدا
على الفواكه بالتفضيل مشكورا
كالراح طعماً وشم المسك رائحة
والتبر لوناً وشكل البدر تدويرا

وأهل دمشق يُعاملون السفرجل معاملة الفاكهة، ولكن في الشمال السوري في حلب وإدلب يطبخون السفرجل ويأكلونه مع الرز مثل البامية والفاصولياء والبازلاء والبطاط والكمأة. نعم، يبطخون السفرجل. تتفنن سيدات حلب في طبخه، فعندهم أكلة تسمى "كبة بسفرجلية" مشهورة، نعم، يأكلون الكبة والسفرجل المطبوخ مع دبس البندورة والثوم والكزبرة أو النعناع. وهذه من عجائب أهل حلب وابداعهم ولن تجد ذلك في أي مكان آخر في العالم.

ومن عجائب الشام الصالحية، وبالصالحية نهران، بها يجريان، تورا ويزيد. ويُحكى عن ابن الصائغ الحنفي أنه لما قدم من القاهرة إلى دمشق المحروسة نزل في الجسر الأبيض عند الأمير مجير الدين بن تميم ونهر تورا يمر بداره المأنوسة فأجلسه على ضفة النهر لأجل برد الهواء، فرأي شمس الدين بن الصائغ ما يمر من فواكه على وجه الماء وصار يتناول ويأكل ما استطاب ويضع قدامه منه ما أعجبه ثمَّ التفت لابن تميم وقال له أنت يُغنيك هذا النهر عن شراء الفاكهة بفيض فضله العميم. وقال ابن الصائغ: وهذه الفاكهة أليس يرميها في النهر أرباب الغيطان. قال له ابن تميم إنما هذه من اشتباك الأشجار وانحنائها عليه فيلقيها النسيم عندما تشتمل الأغصان وأما البساتنة فإنهم يضعون فواكه مجموعة على أبواب البساتين كالزكاة لمن يمرّ بها ويحتاج إلى شيء فيأخذه من الفقراء والمساكين.

وتحكى بنت الصالحية الكاتبة السورية ألفة الإدلبي في حديث الذكريات، وألفة الإدلبي دمشقية كرست معظم كتاباتها لمدينتها. ومدينتها دمشق مش إدلب وإنما تأدلبت تبعاً لزوجها على حسب العادة الغربية. ولدت في حي الصالحية الدمشقي العريق عام 1912 تذكر أنه في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين شاهدت الأولاد في الصالحية على ضفة نهر يزيد وبأيدهم شبك معلق بعود طويل يصطادوا به ما يمر على سطح الماء من فواكه تسقط عن الأشجار. وفي خبر نقله صاحب كتاب "نزهة الأنام في محاسن الشام" يقول: أخبرني بعض الثقاة أن بعض الفقراء يضع مكتله على رأسه- قفة مصنوعة من ورق النخل يُحمل فيها التمر أو نحوه-ويسرح فيها في طرق البساتين فيعود وقد امتلأ مكتله مما يسقط من الأثمار من غير أن يتناول بيده شيئاً. وفي البساتين من يزرع أشجاراً للفقراء يعرفونها بالتكرار، وغالباً ما يزرع من ذلك على الطرقات ليقرب تناولها. وفي الختام آمل أن تعود محاسن الشام إلى أهلها وتعود غوطتها إلى سابق عهدها حيث كانت الشجرة الواحدة تحمل عدة أصناف من الفاكهة وقد عاين مؤلف كتاب "نزهة الأنام في محاسن الشام" أشجاراً في غوطة دمشق تحمل الواحدة منها أربع فواكه وأكثر كالمشمش والخوخ والتفاح والأجاص. وهذا من صنعة الفلاحة ويسمى التطعيم. أُطعمنا وأياكم من هذا الخير العميم، آمين.



#عبدالرزاق_دحنون (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المكتوب
- مع الأديب السوري حسيب كيالي في رحلته الجدارية
- هل مازلتَ شيوعياً يا صديقي؟
- تكسير صحون
- حكاية من التراث
- على خُطى ناظم حكمت
- كراكيب فكرية
- ليس أمراً هيناً أن تكون شقيق تشي جيفارا
- زجاجة أنطون تشيخوف
- مع رسول حمزاتوف في داغستان
- أناديكم
- مع مصطفى أمين في سجنه
- المستطرف في أفكار علماء الفيزياء الفلكية
- يحرق حريشك
- النساء في حياة فرانز كافكا
- فنجان قهوة مع كارل ماركس
- في ذكرى ميلاد لينين
- لماذا يحكم الأوباش العالم يا أفلاطون؟
- الفيروسات
- جريدة الكلب


المزيد.....




- كيف تمكنّت -الجدة جوي- ذات الـ 94 عامًا من السفر حول العالم ...
- طالب ينقذ حافلة مدرسية من حادث مروري بعد تعرض السائقة لوعكة ...
- مصر.. اللواء عباس كامل في إسرائيل ومسؤول يوضح لـCNN السبب
- الرئيس الصيني يدعو الولايات المتحدة للشراكة لا الخصومة
- ألمانيا: -الكشف عن حالات التجسس الأخيرة بفضل تعزيز الحماية ا ...
- بلينكن: الولايات المتحدة لا تدعم استقلال تايوان
- انفجار هائل يكشف عن نوع نادر من النجوم لم يسبق له مثيل خارج ...
- مجموعة قوات -شمال- الروسية ستحرّر خاركوف. ما الخطة؟
- غضب الشباب المناهض لإسرائيل يعصف بجامعات أميركا
- ما مصير الجولة الثانية من اللعبة البريطانية الكبيرة؟


المزيد.....

- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي
- فريديريك لوردون مع ثوماس بيكيتي وكتابه -رأس المال والآيديولو ... / طلال الربيعي
- دستور العراق / محمد سلمان حسن


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - عبدالرزاق دحنون - نزهة الأنام في محاسن الشام