أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدالرزاق دحنون - تكسير صحون














المزيد.....

تكسير صحون


عبدالرزاق دحنون
كاتب وباحث سوري


الحوار المتمدن-العدد: 6629 - 2020 / 7 / 27 - 16:54
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


الصورة الأخيرة الباقية في ذاكرتي عن أبي يجلس في حديقة منزلي في "حي البيطرة" في مدينة إدلب في الشمال الغربي من سورية قبل ساعات من رحلة الرحيل عن مدينة إدلب في الشمال الغربي من سورية في خريف عام 2016. كان يتعكَّز علينا وعلى عكَّازه، برحيلنا عن ديارنا صار وحيداً مع عكَّازه الخشبي. فكَّرنا في أن يُرافقنا في رحلة الرحيل تلك-لأنه كان يرتعب من قصف الطائرات- ولكن المهرِّب استهجن الأمر ورفض بشدة أن يُرافقنا هذا "الختيار" إذ كان في السادسة والثمانين من عمره، وخيراً فعلنا، لأنها كانت بالفعل رحلة شاقة لا يمكنه الصمود أمام عثرات طريقها ووعورة مسالكها وطول دربها، كان يوماً أطول من قرن على حدِّ تعبير الكاتب القرغيزي جنكيز أيتماتوف في روايته "ويطول اليوم أكثر من قرن" لذلك بقي في منزله مع من بقي من أخوتي وأخواتي. في ذلك المساء الخريفي الحزين قبل الرحيل بيوم واحد قلتُ لأبي:

اليوم أنهيت قراءة رواية "زمن الخيول البيضاء" للشاعر والروائي الفلسطيني إبراهيم نصر الله وفيها تحدث عن واحدة من عادات مؤدبة ولكنها مكلفة والتي يُعلن فيها الشباب، في كثير من قرى منطقة بحيرة طبريا في شمال فلسطين زمن الخيول البيضاء، أنهم لم يعودوا قادرين على احتمال العزوبية أكثر مما احتملوها فيلجؤون إلى حيلة تكسير صحون البلور الصيني في مطابخ أمهاتهم، حيث نُصادف بطل الرواية عمر في مطبخ البيت يمسك أحد الصحون ويكسره، تسمع أمه تهشُّم الصحن فتقول: انكسر الشر. أمسك بالثاني وكسره. فقالت أمه: انكسر الشر كمان مرة. والتفت إليه تسأله: ما بك هذا اليوم؟ وقبل أن تتم سؤالها كان واحدٌ آخر من عدة صحون صينية مُورَّدة يتناثر شظايا على الأرض. رأته يرفع صحناً جديداً فصرخت: الحق يا حاج إبنك قبل أن يُكسِّر لنا البيت.

قال أبي:

سأحكي لك عن واقعة حدثت أمامي عندما كنتُ شاباً في شتاء عام 1948 وفيها الكثير من صحون البلور المكسَّرة. كنا أمام البيدر الذي يقع غرب القشلة العسكرية التي تركتها فرنسية لنا بعد رحيلها من المدينة، ثمً أُزيلت في نهاية سبعينات القرن العشرين وبني مكانها مبنى محافظة إدلب. كنا نتصيد شمس الشتاء في المدخل القبلي لزقاق حمام الميري وأهلنا من الرجال يجلسون على سطح معصرة الزيتون يتشمسون تحت شمس عصر ذلك اليوم، فجأة سمعنا هدير محركات ثلاث شاحنات تسير خلف بعضها وتدخل ساحة البيدر الفسيحة وتصطف عل نسق واحد، وحين توقفت محركاتها عن الهدير بدأ الرجال يتساقطون من صناديق تلك الشاحنات إلى الأرض والنساء ينزلن على مهل من سلالم حديد معلقة في خواصر الشاحنات. كنا نتفرج من بعيد على هذه المشهد الغريب والجديد على بلدة إدلب الصغيرة تلك الأيام. من هؤلاء، هل هم غجر، ومن أين جاءوا، وهل سيحطون رحالهم على بيدرنا؟ أسئلة كثيرة راودتنا، وزاد فضولنا حين سمعناهم يتخاطبون بلهجة غريبة لم نسمعها من قبل. هؤلاء عرب ولكن لهجتهم غير مألوفة. ثمَّ راحوا يفرغون الشاحنات من أغراض غريبة هي الأخرى، فرش صوف، لحف، صناديق خشبية مغلقة، مواعين طبيخ، جرر ماء. رمى أحد الرجال صندوقاً خشبياً على الأرض فسمعنا صوت تكسير صحون البلور؛ ومن ثمً سمعنا عويل امرأة شابة، فهمنا أن الأمر حدث بالخطأ، فقد ظنَّ الرجل أن في الصندوق برتقالاً أحضروه معهم من يافا.

بعد فترة قصيرة من دخول الشاحنات ساحة بيدرنا صاح أهلنا من الرجال: يا شباب ليذهب أحدكم ويستطلع الأمر. ذهبنا إليهم، وكانت المفاجأة الكبرى، تبيَّن أن هؤلاء عائلات عربية من أهل فلسطين هجَّرهم اليهود من ديارهم وها هم هُنا في بلدة إدلب الصغيرة في الشمال السوري لا يعرفون أحداً ولا يعرفهم أحد. كانت مفاتيح بيوتهم في فلسطين معهم، وها هي معهم إلى اليوم، بعد أكثر من سبعين عاماً من تشردهم في بلاد الله الواسعة. قالوا لنا يومها نحن ضيوف عندكم، كم يوم، ونعود إلى بيوتنا وبيارات برتقالنا في فلسطين. ستعود هذه الشاحنات عمَّا قريب لتعيدنا إلى بيوتنا. ولكنهم لم يعودوا أبداً إلى فلسطين. عاشوا بيننا، تزوج شبابهم، خلفوا، ثمَّ تزوج أحفادهم، وبقيت مفاتيح بيوتهم في فلسطين معهم ذكرى لأولادهم. وما زال أولادهم في انتظار تلك الشاحنات الفلسطينية التي ستعود عمَّا قريب وتأخذهم إلى ديارهم.



#عبدالرزاق_دحنون (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حكاية من التراث
- على خُطى ناظم حكمت
- كراكيب فكرية
- ليس أمراً هيناً أن تكون شقيق تشي جيفارا
- زجاجة أنطون تشيخوف
- مع رسول حمزاتوف في داغستان
- أناديكم
- مع مصطفى أمين في سجنه
- المستطرف في أفكار علماء الفيزياء الفلكية
- يحرق حريشك
- النساء في حياة فرانز كافكا
- فنجان قهوة مع كارل ماركس
- في ذكرى ميلاد لينين
- لماذا يحكم الأوباش العالم يا أفلاطون؟
- الفيروسات
- جريدة الكلب
- هل أنت ممن يحبون قراءة الروايات؟
- الخشن اليد والناعم اليد
- الصورة والمرأة وشوارب ستالين
- المستطرف السياسي في كتاب الفلسطيني عارف حجاوي


المزيد.....




- جبريل في بلا قيود:الغرب تجاهل السودان بسبب تسيسه للوضع الإنس ...
- العلاقات بين إيران وإسرائيل: من -السر المعلن- في زمن الشاه إ ...
- إيرانيون يملأون شوارع طهران ويرددون -الموت لإسرائيل- بعد ساع ...
- شاهد: الإسرائيليون خائفون من نشوب حرب كبرى في المنطقة
- هل تلقيح السحب هو سبب فيضانات دبي؟ DW تتحقق
- الخارجية الروسية: انهيار الولايات المتحدة لم يعد أمرا مستحيل ...
- لأول مرة .. يريفان وباكو تتفقان على ترسيم الحدود في شمال شرق ...
- ستولتنبرغ: أوكرانيا تمتلك الحق بضرب أهداف خارج أراضيها
- فضائح متتالية في البرلمان البريطاني تهز ثقة الناخبين في المم ...
- قتيلان في اقتحام القوات الإسرائيلية مخيم نور شمس في طولكرم ش ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدالرزاق دحنون - تكسير صحون