أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - شادي كسحو - دهاليز الخراب: تعليق حول سيوران















المزيد.....



دهاليز الخراب: تعليق حول سيوران


شادي كسحو

الحوار المتمدن-العدد: 6636 - 2020 / 8 / 4 - 23:24
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    



“Before everything, there was chaos”
Hesiod
“Chaos is rejecting all you have learned”
Cioran

أن نجرّد الوجود من كل أسمائه الحسنى. أن نضعه في قفص إتهام أبدي. أن نتخلى عن ذاك الدعم الساذج للنهار. أن ننحاز للعتمة. أن نصبوا إلى الكاوس. أن نتمرد على آلاف السنين من تقريظ الولادة ومحاباتها. أن نبحث عن غواية الوجود والمعنى في فرح وسعادة غياب الوجود والمعنى. أن نحتفل بالموت. بالضجر. بالملل. بالهلع. بالكآبة. بالحزن. بالفراغ. أن نحلم بعالم نموت فيه من أجل فاصلة. أن نكتب بشكل جذري. بشكل خاطىء. بشكل معكوس. بشكل سالب. كل تاريخ الفكر هو دروس سمجة تدور في فلك الوجود. من يقتص للعدم من هذا النسيان الحزين؟. من ينصف الجثث والأشلاء والأرق والتعفن؟. من يعيد الاعتبار للعدم والفراغ والمعاناة والألم واليأس؟. مشدوداً إلى كتابة يدافع بكل قوته ليحفظها من السقوط في الاسم. في الزمن. يجازف سيوران بالإجابة عن هذه الأسئلة بالصعود بنا إلى ذرى اليأس هناك حيث تشتغل الكلمات في أقصى السواد. في الليل تحديداً. في العماء الذي يهدد رتابتنا. في الأحراش التي كنا نسكنها. الأحراش التس ستبقى تذكرنا بنفسها طالما ما زلنا معنيين بالوجود. يحدث أن العدم قيامة طارئة. يحدث أن الكاوس وطن. يحدث أيضاً أن الكاوس حياة لم تدّون. أزمنة ترسبت خلف الزمان من قطرات ماء دائخة. من غبار مبحوح في بيت مهجور. يحدث أخيراَ أن يصبح الفكر علاقة كثيفة مع الموت. أن تصبح الكتابة رعب من الوجود. مصطبة على حافة العدم نطل منها على لا شيء هائل.
لا ينتمي سيوران إلى عائلة الفلاسفة الرسميين1. كاتب غير عادي، ويجوز أن نقول: استثنائي. الكتابة لديه نقطة هروب. شكل شعري أو وسواسي للتفكير في العالم. معه تهرب الكتابة من أحابيل البرهان لتكون ضرباً من العواء النهلستي في أقصى أشكاله. فيلسوف بلا فلسفة، وأديب بلا أدب، وعدمي بلا عدمية. فلسفته لا ينتظمها مركز تدور عليه، وإنما هي مركز نفسها ذاته. حدوس وخربشات خالصة تسترسل في وصف عالم بلا معنى. نمط شذري ومتقطع وجذموري يشبه شواهد القبور. تنمو كلماته في المسافة الفاصلة بين الموت والحياة. في نقطة العطالة. في المنطقة القاحلة أو المحايدة أو البرزخ الذي تتكسر فوقه كل المسافات. يحسد الجثث على تحررها من الوجود. يشيح بوجهه عن امرأة تحمل في أحشائها جثة. يسقط في الزمن كما لو أنه كائن غريب عن هذا الوجود. يتكلم عن التاريخ كما لو أنه مجرى بلا معنى. كما لو أنه مجرد موكب لـ مطلقات زائفة؛ مجرد حجارة لا تملك من أمرها سوى أن تنزلق على سطح الفراغ. على زخات العدم. كتابة محمولة على اللا كتابة. على ضدها الملتصق بها أبداً حيث التفكير يتجاوز الإحاطة ويتوسل بالإطاحة. كتابة يتواجه فيها الوجود بالعدم تماماً كما يتواجه الشاطىء بالرمل. بالمحو التدريجي لكل أثر لم يكن سوى النتوء الوجودي لعدم معلّق أو مؤقت. غارق هو الوجود في العدم. غارقة هي الولادة في الاحتضار. غارق هو الأثر بالزوال. غارق هو الحضور بالغياب. غارقة هي الحياة بالموت. لن يكون الوجود من الآن فصاعداً سوى كينونة معطلة لصيرورة متقاعدة. نصال من العدم على جسد وجود نَدي ومهجور. كم من العدم الحي في الوجود الميت. كم من الحيوات المأهولة بالأسئلة ها هو العدم يخضعها للموت والتفكك ويملؤها بصمت الفراغ. بأصوات بعيدة وغريبة ورقيقة.
كل نصوص سيوران هي محاولات في كتابة اللا وجود، أو في تدوين الوجود المحروم من الوجود. البراءة الأولى. الحياد. الكاوس. الآدمية الناصعة. الحالة الأصلية. الحاضر الأبدي. زمن غياب الزمن. كل هذه التنويعات المفهومية تنم عن كتابة لا هم لها سوى التخلص من عبىء الكينونة، والتنصل من كارثة الولادة، والتملص من دكتاتورية الذات. والتفلت في نهاية المطاف، من ورطة الوعي. كتابة غنوصية لا تتجرد من المعنى، وإنما تعق المعنى عن عمد، كتابة لا تبدأ، ولا تنتهي، ومع ذلك فهي نهمة، صاخبة، أبدا لن تتوقف، ولا نحن بقادرين على ايقافها. " لماذا نخاف العدم الذي ينتظرنا عندما لا يختلف في شيء عن العدم الذي سبق وجودنا "2. كل الكتاب يهربون من العدم سيوران واحد من القلائل الذين يستمتعون به. سيكون على الكتابة من الآن فصاعداً أن تحتفل بالعدم. أن تطالب به. سيكون عليها أن تجعلنا نواجه الاكتشاف المريع، العدم كما لو أنه أصل الأشياء وفصلها. العدم أو الحاضر الأبدي لا فرق. مستحمين بهذا الصمت. مغمورين بهذا الفراغ. مستغرقين بهذه الهاوية. لكي نفهم سيوران يجب العودة دائماً إلى هذه النقطة. إلى هذا الكيان اللا كياني. صمت الكائن. صمت الكلمة. تلك الشساعة المهجورة التي تمتد وراءنا بلا نهاية. في أقاصي الأزمنة السحيقة كان الانسان. وكانت الكلمات مطفأة. ميتة. مهجورة. كان الكاوس جد شاسع وغير مسكون. وكان العدم يوجد في عمق ودخيلة كل وجود.
يضعنا سيوران أمام مهمة عويصة وهي كشف الحجاب عن هاوية سحيقة لا تقع أمامنا، بل تقع وراءنا بالتحديد. أن نقبض على الكائن قبل الوقوع في فخ الأسماء. كتابة مشحونة بالانفعال. مشبوكة ومصكوكة من الأرق. لا تبحث عن الشمس وراء الضباب الصباحي الذي يحجبها، بل تخاطر عبر كثافتها باستكناه الحركة اللا مرئية للفراغ حيث ينطفىء صدى الوعي ويأفل إشراق الوجود. كتابة المحو بدلاً عن كتابة الأثر. التصدع بدلاً عن التجمّع. الانفصال بدلاً عن الاتصال. السلب بدلاً عن الإيجاب. التراجع بدلاً عن التقدم. كتابة هي أكثر قسوة من الموت ذاته لأنها لا تسمح بالأمل. كتابة تتميز بجسارة متفردة، صلبة. ساخرة. ماكرة. فاخرة. فاجرة. فائرة. ثائرة. هادرة. جائرة في أكثر لحظاتها سرية، لكن قسوتها كلاسيكية تميزها نبرة كلبية مع لكنة بوذية عذبة وغريبة. أن تكتب على الطريقة السيورانية سيكون ربما هو ذاك الاقتران اللا متوقع بين النص والفراغ حيث الخواء هو الذخيرة غير المعترف بها. همس في العدم. همهمة في العماء. تمتمة في العراء. رهان يتعذر وصفه. يحدث أنه تم تلطيخ الخواء الأصلي ببقع مستعصية من الوعي. لكن كيف نهرب من ذلك؟ كيف نستعيد تلك البراءة والنصاعة؟ كيف نغتسل من كل هذه الشكوك؟ كيف نزيل أدران الفكر والأنا؟ لا حل إلا بـ إيقاظ الفراغ. بمقاومة الوجود عبر الإمّحاء. بمحاسبة بروميثيوس على فعلته الشائنة. بمد الصمت والعتمة أكثر. بالاغتسال الكوني بماء العدم الكبير.
ثمة رجل منشغل بالطرق المعتمة أبداً. بممرات الفراغ. بمسالك الخواء. على النقيض من خبيث كـ نيتشه3، سيضع سيوران كامل ثقته في الخواء. سيمنح صوته للشكوكية والارتياب. لـ عالم كل شيء فيه بلا معنى. " كل شيئ كابوس. كل شيء لعب. كل شيء وهم "4. أن تكتب بالتمزق تلك طريقة أخرى لرؤية العالم عبر شطب وتمزيق مرتكزاته ومقوماته الأساسية. إنها كتابة أخرى ينشدها سيوران. الكتابة-التمزق حيث كل أثر هو انفصال عن الوجود وتواصل سالب معه. لا نقول شيئاً البتة إذا تابع الزمن مجراه المهين. سيكون هدف الكتابة آنئذٍ هو بلبلة الزمن. تعطيله. إيقافه. إلغاءه. تعتيمه. تعديمه. نفيه. سلبه. الكتابة التمزق هي كتابة بلا عزاء. إلغاء العقد هو العقد كما كان يقول الكاتب الفرنسي جاك دريدا. الكتابة التمزق أو الكتابة المضادة، الكتابة التي تنهض من الجانب المعاكس. مدلدلة كلماتها في ذات يائسة ومحبطة وخائرة الأمل. ترتبط هذه الكتابة بالكاوس والعدم فتُرجم وتُتهم بالسوء والتناقض وتُطرد من جنة الوجود الرسمي. تسير طويلًا على الدروب المهجورة والبعيدة والمعتمة. تتأمل فردوسها/جحيمها الخاص. لكن فردوس الكتابة التمزق لا يشبه إلا نفسه. لا ينتمي إلا لنفسه. هناك حيث تورق شجرة العدم وتتبرعم أغصانها اللا مرئية. إنها حركة اعتراض تخترق التاريخ كلّه، لكنها تارة تعترض على النظام، وطوراً تعترض على العالم، وتارة تعترض على الذات، وتارة تعترض على الزمن وتمضي لتنتهي في ما وراء الزمن حيث يركن الإنسان في نهاية المطاف إلى غاية سائلة: الفجر، الكائن، الكاوس، الأبدية، العدم. ويتنكر لذاته في جميع الأحوال. ليست ابنة النهار. ابنة الليل هي الكتابة التمزق. رفيقة الذوات الكسيرة والوجودات الرهيفة التي تكبّلها الآلام وتحاصرها المآسي. لن تسمع أكاديمية كـ نانسي هيوستن أنينها. من يسمع هجيج وأجيج وحسيس القلوب المشتعلة؟. مثل جناح شيطان يرف في رحاب الكاوس. مثل فكرة شاردة. مثل فراشة تحط على تابوت. سيدشن سيوران عبر كتابته النافية أفقاً نهلستياً يجعل من الوجود برمته نصاً وتابوتاً وجثة في وقت واحد.
يصف سيوران بإلحاح تدميري كبير الوعي أو الأنا كـ منفى. " الوعي منفى، اللاوعي وطن "5. مثل لازمة موسيقية تدور كل فلسفة الرجل حول هذا الحدس البوذي العتيق. ما الفائدة من الوجود؟ من التاريخ؟ من المعنى؟ من الأنا؟ طالما أنها ليست مقر الكينونة الأصلي؟. على النقيض من الزمن الملطخ بالصيرورة والمدنس بـ الأنا لو أتيح لنا الانخراط في الكاوس. في زمن ما قبل الزمن، لتعذر على التاريخ أن يحدث، ولتعذر على الأنا أن تنال من سعادة الوجود قبل الاسم. هناك في نقطة العطالة. في تلك المساحة المهجورة المتنازع عليها بين الوجود والعدم. النور والظلام. السطح والعمق. العنب والنبيذ. يكمن سر الكينونة وعصرها الذهبي. " لقد كان البشر يبصرون لكن دون بصيرة، كانوا يسمعون لكن دون فهم، كانوا يفعلون لكن دائما دون تفكير"6. يتسلل سيوران إلى الزمن الميت الذي ليس بوقته ولا بأي بوقت آخر ليكشف عن زيف الوعي، وورطة الاسم، وكارثة الأنا. الكاوس أو الحاضر الأبدي كما يسميه أحياناً كـ مكان آمن يتنصل من كل تمركز، ويتملص من كل لوغوس. ملجأ صامت، أو فسحة انطولوجية منزوعة الأنا. هناك كان البشر موجودين عندما لم يكن يوجد أحد. مكان خفي. خبيء. مشع. متحرر من كل سطوة بما فيها سطوة الزمن والصيرورة. هناك كان البشر ينعمون بـ أنا أصلية. أنا ما قبل الأنا، أو أنا الأنا، تلك الأنا التي كانت تسبح مع الوجود قبل أن تسقط في التاريخ وتتوسخ بالزمن.
بعيداً عن الصيرورة، هناك فيما وراء الزمن، يقبع كيان صغير مجهول يعج بوجودات حية وحرة وناصعة. كيان مليء بكلمات سرية بلا ماض ولا قدر. الصخب يرعى الصخب. الماء يحاصر الماء. لحظة حلم ملتهبة. أضواء هاربة. خلوة زرقاء. فسحة مضاءة بما لا ينتمي للصيرورة. رتل طويل من الكائنات بلا أسماء. كانت الأرض خربة وخالية كما جاء في سفر التكوين. كان مسكن الكائن سهاد طويل. كانت الأشجار في الفاكهة. السواد في الطبشور. الطبيعة في الحبر. هناك كان من الجائز أن نرى نجمة تستريح على كتف الطريق. أن نشاهد الزهور تثرثر حول موت الموت. هناك كانت السماء صافية، وكانت الأرض تستحم في عقم ميتافيزيقي. والأيادي تمتد بلا حدود. كان الله جوهراً محضاً لم تتعين أسماؤه بعد. كانت الساعات ساكنة حيث يسيطر صمت الرمال على أحداق فرحة لا حصر لها. هناك لم يكن الأسود نقيض الأبيض، بل الأسود المبيض المنحدر من اللا لون. يقال أن الوجود كان يومها كياناً عاشقاً لنفسه حتى جاء الزمن وبث فيه الحركة وجعله يدور. أي لعنة حلت على الكائن وجعلته يسقط في الزمن؟ أي نذر مشؤوم كان علينا أن نفي به للدخول في التاريخ؟ هل هو انتقام الزمن من الجمال الفطري للكاوس؟ أي أياد عابثة استرعت انتباه الصيرورة وجعلتها تدمر ذاك البيت الأصلي للكائن؟.
يكتب سيوران: " لم أجد في عمارة الفكر درجة أريح عليها جبيني. في المقابل، أي وسادة هو الكاوس "7. الكاوس هو مسقط رأسنا جميعاً. الكاوس، أو ذاك الذي لا يعطي إلا منسحباً .حياد الحياد .باب نسي اسمه. ما يربطنا هو ما يفصلنا. خاوٍ هو قلب الخواء. يصمد الكاوس أمام الصيرورة..الذهاب نحوه لا يكون إلا به. كل اللا شيء، لا شيء الكل هما روح الكاوس. فتنة اللا اسم. الكاوس أو مرايا نرسيس الملئى بالنرجس. لا مبالاة فاترة في سلبيتها المعطلة. `الخدر اللذيذ الخالي من كل معنى. الصوت الذي يوشوش بتمائم على شكل كلمات غامضة. آه نسيت. أن نستذكر دائماً أن نواة الشمس مظلمة. أن نمحو كل الأيقونات. أن لا نرسم شيئاً. أن نكتب لاسترجاع حياة لا نتذكرها. أن نعود لمواجهة كل الأمكنة .الهواء، السديم، الغبار، السراب، البخار، أليست هذه هي قلاعنا الأكثر تماسكاً؟. الكاوس أو حياد الكل إزاء اللا وجود8. الكاوس أو عندما يكون مفتاح الوجود هو غياب المفتاح. أيها العدم كم مرة علينا أن نودعك؟ بل، كم مرة علينا إنقاذك من النسيان؟ كم مرة علينا أن نسأل: ما هي الكلمة بدون الصمت الذي يسبقها ويفضحها.
إذا كان ثمة متهم وحيد يمكن أن نعزو له المسؤولية الكاملة عن كل لحظة من لحظات عذاباتنا وآلامنا فلن يكون سوى ذاك " الثعبان المتهور قليل الفطنة "9 المسمى بروميثيوس. النار، تلك الهدية المشؤومة التي سرقها من الآلهة لأجلنا هي مصدر كل شرور العالم. لقد كانت نار بروميثيوس هي البداية الفعلية لتدمير نهائي لن يتوقف. لقد كان البشر يسمعون وينصتون فما حاجتهم للفهم؟ على النقيض من متملقي بروميثيوس. من عبيد المعرفة، فإن سيوران لا يرى في فعلة بروميثيوس ما يستحق التقدير، بل على العكس، إن بروميثيوس لم يهب البشر " السعادة بل اللعنة وعذاب العملقة، حين أيقظهم على العقل، وحين فصلهم عن منابع الحياة تلك التي كانوا يستمتعون بها دون أن يهتموا بتلمس أسرارها أو أعماقها. كانوا في غنى تام عن الوعي فإذا هو يرميهم به ويضطرهم إليه"10 . لقد كانت هدية بروميثيوس بمثابة الشرارة أو اللعنة التي تمخض عنها الوجود وتناسل منها التاريخ والصيرورة والوعي. لقد كانت نار بروميثيوس بمثابة نقطة اللا عودة. لقد كانت الجرح العميق والعريق الذي لن ينفك ينخزنا وينخرنا في كل آن وإلى الأبد. يالغباء بشرية تمتدح موتها وعذاباتها. تمتدح مهووساً كـ بروميثيوس جعلها تسير بعجالة نحو نهايتها.
ما إن أعي أو أفكر حتى أتبين على الفور أنني كمن تم طرده للتو من الفردوس. " لو كانت الحشرة واعية، لكان عليها أن تتصدى للصعوبات نفسها، لذلك الضرب من المعضل نفسه الذي يتصدى له البشر"11. ينتزع الوعي غبطة الأبدية من الذات ويلقي بها في دوامة الزمن. ثمة ضرب من الكوجيتو المضاد سيضعه سيوران في مقابل الكوجيتو الديكارتي. إذا فكرت، فلن أكون أبداً. نحن مقيدون بالوعي. معتقلون إلى الصيرورة، ملوثون بالأنا. يفككنا الوعي ويطيح بنا بعيداً عن الأبدية الحقة. يضاعف الوعي حجم الهوة التي تفصلنا عن العالم. ويزيد من عمق المسافة التي تفصلنا عن الآخر. هكذا سيكون من الضروري أن نستبدل الأنا بنوع خاص جداً من اللا-أنا. اللا-أنا كما لو أنها كيان شبحي، أو صمت أصلي. اللا وعي أو اللا أنا هي شفافية صقيلة تعبر كل أفكار سيوران. نوع من الفهم الخام، أو الفهم اليائس. شكل من أشكال اللا معرفة حيث تبدأ المعرفة بغياب الوعي بدلاً من حضوره. بإقصاء الأنا بدلاً من الاستناد إليها. هناك حيث يعزى إلى المنسحب من كل شيء كل صفات الموجود الحقيقي، وحيث بالجهل وحده نقف عند سطوعات واندلاعات الكينونة.
انطلاقاً من إيمانه بالجذرية السالبة للوعي ،سيشتغل مجمل النص الشذري لدى سيوران، وفق منحى يوتوبيا مقلوبة. فلسفة مضادة وقعت تحت تأثير علامة السلب والنفي. يريد سيوران خلق نص مستحيل يعيد مساءلة كل شيء. " علينا أن نراجع كل شيء حتى النحيب "12. لذلك فهو مضطر إلى تخليق وابتداع زمن خاص يكون بمثابة ضامن لحركة السلوبات المتوترة والمتواترة التي يفترعها النص بلا هوادة. زمن يصير تعريفياً، محض زمن متخيل. زمن عجائبي، يفهم بطريقة مغايرة، لأنه في الآن ذاته: معتم، شفاف، خرافي، وغير مألوف. سيكون زمن سيوران، زمن ما قبل الزمن، في العمق، وبكل بساطة عالم أحلامنا الأصلية. أو العالم الذي يظهر فيه الوعي كـ مرض أو اعتلال. إن ما يطمح إليه سيوران في نهاية المطاف، هو تحويل الكاوس أو الحاضر الأبدي إلى عالم ثان يكون سلباً كاملاً للعالم المعروف، و يشكل دحضاً وتحويراً للوجود الرسمي المرتكز إلى الأنا والوعي.
لنقل بشكل مؤقت: إن سيوران سيقوم بـ تعميد مفهوم الكاوس أو الحاضر الأبدي في الفلسفة المعاصرة من جديد. من أجل ذلك علينا أن نفهم إلحاح سيوران الدائم على هذه النقطة كـ دعوة إلى تغيير قبلة الفلسفة برمتها. أن نكف عن اعتبار الوجود هو قبلتنا الوحيدة. على الفلسفة أن تغير موضوعها باستدعاء مكبوتاتها واسترجاع موضوعاتها الحارة والنشيطة. ما زالت الفلسفة تلتزم الصمت أمام تلك الغزارة الانطولوجية القابعة فيما وراء الزمن. أمام ذاك الفضاء المهجور. لن تتحرر الفلسفة من هذا الحقد الانطولوجي الذي بنت عليه تاريخها بدون التخلص من مخلفات الذات الواعية. وحدها فلسفة غاضبة ومضادة كهذه يمكن أن تستعيد بهجة الفلسفة وحيويتها. هكذا فـ الكاوس عند سيوران ليس مجرد موقف عدمي، بل موقف انطولوجي في غاية الخطورة. إنه إمكانية انطولوجية عميقة قائمة على امتحان قدرة الفلسفة على التضحية بمكتسباتها الرسمية وتفكيك نفسها من الداخل. إن الكاوس الذي يقيم سيوران كل تشقيقاته فوقه هو ضرب من الشجاعة النهلستية. شجاعة الانتماء إلى ظلمات أو أنوار عالم لم يوجد، أو لم ينتبه إليه أحد. عالم منزوع الوعي ومسلوب الإرادة وغير ملوث بالصيرورة. كيان غير خاضع لحماية الأنا وسلطانها. بل كل ما فيه ينم عن رغبة بتدمير انطولوجي للأنا بوصفها قبلة خبيثة للوجود.
ما يراهن عليه سيوران – على الرغم من كل القراءات الخفيفة التي تسربت إلى نصوصه – هو تحرير مفهوم الكاوس من النسيان أو بالأحرى، من الجحود الجذري الذي لحق به. إن النسيان الفعلي الذي قامت به الفلسفة ليس نسيان الكينونة، بل نسيان ما قبل الكينونة. في كل مكان يلهج الفلاسفة بذكر الوجود والتذكير به. لكم يبدو مخيباً للآمال أن كل تاريخ الفلسفة منذ طاليس إلى هيدغر لم يبحث إلا عن الوجود والحقيقة. في حين أنك لن تجد في كل تاريخ الفلسفة نصاً عن الكاوس سوى بضع صفحات بالكاد. الكاوس.. يالها من خسارة أن تكون هذه الكلمة قد اختفت تحت أقلام الفلاسفة الكبار. قضى البروفيسورهيدغر كل حياته بحثاً عن كلمات جديدة لكي يذكرنا بالوجود. المؤسف أن هذا الكرم الفلسفي الطريف جاء ليذكرنا بما صار من الضروري نسيانه. بعبارة أخرى: لقد ُأُفرط في استخدام كلمة الوجود إلى الحد الذي بات من الضروري العبور منه إلى الجهة الأخرى. الجهة التي لا يتم الوصول إليها إلا عن طريق الالتفاف على الوجود ذاته. أيها الفلاسفة المحترمون: أمهمتكم إنقاذنا من الهلاك أم إنقاذ الوجود من النسيان!.
تتغذى الفلسفة من ذاتها. من قدرتها اللولبية على تدوير أفكارها حول الوجود، لذلك لن يكون في وسعها أن تتجدد أو توسّع مداراتها دون الانفتاح على طباقها الكامل. سيكون على الفكر وقتئذ أن يقوم بهجرة داخلية في الاتجاه المعاكس. إننا نظلم الكاوس حين نمنحه منزلة ثانوية أدنى بكثير من منزلة الوجود. الحق أن الكاوس أكثر فتنة، وأكثر حدة، وأكثر سطوعاً، لكنه يربأ بنفسه عن الاستعراض الشمسي الذي يشغف به الوجود. إنه أكثر تواضعاً وأكثر سيولة وإن كان أكثر هشاشة وأكثر خراباً وأكثر إظلاماً وقابلاً للانبثاق في كل لحظة. إن الكاوس هو خبيئة فلسفية على درجة عالية من الغنى والعمق. إنه ضرب من التفكير فيم لم نعاينه أو نجربه أو نراه من قبل. إنه وجود قبل ذاتي يعمل دائماً في صيغة وجود معطل أو مخبىء. " لنحاول ابتكار شيء أفضل من الكينونة "13. رب دعوة سيورانية مفتوحة لمزاولة تفكير فلسفي جديد حيث تتم معاملة الكاوس والعماء وما قبل الزمن كـ موضوعات لقاء، لقاء ما قبل انطولوجي حيث يتم التفكير في أفق مفتوح ومنزاح دوماً عن مركزه السادي المتمثل في الأنا. يفتح الكاوس الباب واسعاً لمشاركة الغريب والمقصي والمعتم والحاّفي والكارثي والضبابي والسديمي والسرابي واللا متوقع. إنه يفتح الباب لأكثر المفاهيم جنوناً وعمقاً. يستدعي الفاجعة والخديعة والكارثة والوهم واللا يقيين. يكشف لنا عن الجانب الآخر. عن الظل الداخلي والمتواري للكينونة. الوجود يؤذي الجميع بينما لا يؤذي الكاوس أو العدم أحداً. تخيب الكينونة أمل الجميع، أما اللا كينونة فهي عاجزة عن التخييب أصلاً. ألا يكفي هذا الإقرار المتعذر تفنيده إلى تشويه سمعة الفلسفة الرسمية؟ ثمة حضور طاغ ومؤذ للكينونة بات يشكل عائقاً فعلياً أمامنا نحو الخلاص. رب فكر ها هو يضعنا في مواجهة حاسمة مع الوجود ذاته. الوجود أو تلك النقيصة الخطرة التي ما زالنا عاجزين عن الاعتراف بأنها باتت بؤرة ملوثة بـ الأنا والوعي إلى الحد الذي يجعلها بلا قيمة ولا وظيفة ولا معنى.
يقول البوذا: " أيها الرهبان لا أرى نظرية في الذات لا يحدث اعتناقها الحزن والأسف والمعاناة والشقاء والكرب لمعتنقها "14. على هذا الحدس البوذي العتيق تتكور وتتحلق كل تصورات سيوران الفلسفية. الفلاسفة يتحدثون دائماً عن الذات. عن الأنا. عن هذه الكوميديا الانطولوجية التي تنخرنا وتفزعنا عوضاً عن دفعنا إلى الأمام. ما العمل؟. كل ذات مهما كان شكلها هي مأزق. كيف الخروج أو الهروب منها للحاق بالممكن؟. ربما كان لا بد من الهبوط بمستوى الجدل. منح الوجود ظلاً من اللا أنا، التقليص من هيمنة الوعي. التجرؤ على الزعم أن كل ما يبدو أنوياً هو وهم بلا طائل. أليس من الجدير تغيير نقطة استنادنا بعد كل هذا الإعياء من الذات؟. ألا يفترض بنا أن نبحث عن هاوية رحيمة نستبدل بها جحيم الأنا؟. بالنسبة لسيوران، فإن الوقت قد حان لكي نعيد التفكير في الأنا، لكي نتخيل إفلاساً انطولوجياً أقل بشاعة. أن نتحرر أكثر فأكثر من تلك العتمة التي تتسكع فيها عصابات الفلاسفة. " ما إن أخرج من أنا حتى أنام "15. هكذا سينظر سيوران إلى الأنا كما لو أنها عياء انطولوجي مزمن حيث لا يمكن لأي راحة أن تتحقق، ولا لأي قيلولة أن تتم قبل الانتصار عليه. يغمض التعبان عينيه نسياناً للنور ربما صار من الأجدى إغماض الأنا نسياناً للكينونة برمتها. أن نفكر ولو لرمشة عين في أن نكون فريسة لقاتل آخر.
نلح على أمراض الأنا، ننسى أن الأنا مشبوهة في ماهيتها. لا بد من رؤية بديل. لا بد من الاستسلام لدوار من نوع آخر نكون فيه كما كنا قبل أن نسقط في هذه الأنا اللعينة. علينا التملص من هذا الورم بأي طريقة كانت. كلما ابتعد البشر عن الأنا تقدموا في معرفة الوجود. " تأمل لساعة واحدة في عدم وجود الأنا ولن تلبث أن تشعر بأنك إنسان آخر "16. ثمة رغبة سيورانية ملحة تعتمد على تعطيل جذري للأنا. لاستحضار المبادرات الأولى للكائن قبل أن يتورط في ذاته. رغبة في التدحرج إلى الخلف. إلى التقهقر ربما وصولاً إلى البدايات. كل هذه الفلسفات التي لا تعنى إلا بالذات. كل هذا التاريخ الذي لا مادة له سوى الأنا. لا تغدو الأنا أن تكون إحدى حماسات الفلاسفة واندفاعاتهم المملة. لا بد أن سيوران يفهم مدى خطورة تفكير أو تدمير كهذا فالبحث عن سند لا ذاتي، ولا يقع تحت منصة التمثل الأنوي للعالم ليس مجرد وسواس فلسفي أو مجرد حدس بوذي قديم، بل ضرورة تمليها رغبة سيورانية في إعادة الاعتبار للكاوس، أو للا الفكر. علينا أن ننتبه – أكرر بعيدا عن القراءات السريعة – أن القصد البعيد لسيوران هو بمعنى ما، إقحام ضرب من ضروب الإيقاف أو التعطيل على الأنا بما هي مصدر كل معرفة. أن نجر الوجود المستند إلى حائط الأنا إلى حافة اللا فكر تحديداً. أن نمنع الفكر من التماهي الكسول مع مصدره. أن نربك فيه اطمئنانه المزيف إلى ماهيته. أن نفند ركونه المطلق إلى مصدر فنائه. هل ثمة بالفعل وجود بلا أنا؟. فكر لا يؤذي أحداً؟. بالنسبة لسيوران ستكون الإجابة بـ نعم كبيرة. الوجود المغمور بالأنا هو ضرب من الإيذاء الملوث بالصيرورة والوعي والإرادة. ولذلك على الفلسفة أن تستعد لمغادرة هذا البيت المتصدع. أن تتتخلى عن تلك الأنا الهرمة. لا، ليست الأنا كياناً صافي النية ولا بأي واحدة من معانيها. هكذا يدعو سيوران الفلسفة إلى موعد جديد برفقة الكاوس. مع زمن ما قبل الزمن. ضرب من التدرب على احتراف كينونة لا كيانية، أو أنا ما قبل انطولوجي يعمل دائماً بصيغة ضبابية. أن نمتلىء بلا مضمون. أن نصل إلى حالة اللا فكر. أن نستريح خارج الإنية. أن ننطفىء في الأبدية. أن ننزلق نحو الخدر. أن ننخمد في اللا ذات. أن نندفن في اللا اسم. أن نلعب فوق نقطة العطالة. أن نمارس اللا معرفة. أن ننخرط في الوجود انخراط النباتات فيه. أن نتمرن على اختزال وجودنا إلى الدرجة صفر من الوعي. أن نستمتع بالجهل الشجاع فوق هاوية القيلولة وبراءة الكسل. أن نشعر بـ الظمأ نحو اللا وجود، أن تتملكنا الرغبة - بلغة سيوران الفاتنة هذه المرة – " في مراجعة حماساتنا، في تغيير معبوداتنا، في الصلاة إلى مكان آخر "17.
على أن الزمن السيوراني، زمن " ما قبل الزمن " ، زمن الكاوس. زمن الوعي الذي ُأُخلي من الأنا يستعصي على الفهم السريع والمباشر. حاضر أبدي بدون حضور ، ماض سحيق أكثر حضوراً من الحاضر ذاته. زمن خام يدور حول نفسه بلا صيرورة تجره نحو الحاضر أو المستقبل. إنه ماضي كل ماضي. ليس من العسير أن نقول: إنه في المدونة السيورانية أكثر من زمن. زمن الوجود الملوث بالوعي، الزمن الذي نسقط فيه في الكينونة والاسم. وزمن غياب الزمن بما هو استراحة خارج الكينونة والاسم. أو الزمن الخالي من الشوائب التي تلوثه وتوهنه. بالنسبة لسيوران، إننا نمعن في التقدم نحو الجحيم. نستعجل في صيرورة الهلاك بقدر ما نبتعد عن زمن ما قبل الزمن. تلك الأبدية الموجبة الممتدة في ما وراء أو ما قبل الزمن ذاته. لقد حرمنا أنفسنا من هذه الأبدية إلى الأبد. خسرنا فصاحتها الصامتة. لقد كانت الأبدية الموجبة في حوزتنا. نوع من الجهل في مستوى أعلى من المعرفة. لا مبالاة ما قبل انطولوجية مفتخرة بـ اللا فكر كمبدأ تماسك. من أجل المتلصصين، ها نحن نسقط " بلا رجعة في الأبدية السالبة، هذا الزمن المبعثر الذي لا يؤكد نفسه إلا حين يلغيها، هذه الماهية المختزلة في سلسلة من الدمارات وحصيلة من الالتباسات، هذا التمام الذي لا مبدأ له إلا في العدم "18. يدل اسم الوجود على فزع بشري من اللا وجود. من الفراغ الذي يحيل عليه الكاوس دون أن يسميه. ولكن أليس الكاوس هو اعتراف بالسر الذي يعتقد الوجود أنه حجبه إلى الأبد؟ يمكن القول: إن زمن الكاوس الذي سيفتتحه سيوران يعمل كجهاز إلحاد لإفراغ الوجود من مدخراته المقدسة. جهاز إلحاد دون أي جذر طوطمي. إنه بكلمة واحدة: نسيان معند أو نسيان طاله النسيان. ثغرة غير قابلة للردم. إنه انتشار وتدفق لا متناه من البدايات. انتشار ليس فيه نمو ولا استئناف ولا امتداد، بل مجرد احتمالات وانبلاجات تنذر ولاداتها الفريدة بنهاياتها الفريدة. عالم لا يغمره التكرار أو الوحدة طالما أنه مفتقر للنفوذ الميتافيزيقي للزمن. أو طالما أنه مفتقر لتلك الهيمنة الميتافيزيقية لفكرة البدء الأصلي.
نعم إن الزمن السيوراني هو زمن اليوتوبيا المضادة أو المقلوبة. إنسية معكوسة. زمن تراجعي، زمن ما لا يُتَصوَّر. زمن المُبهم الذي لا يعدُ بأي نور أو انكشاف. على النقيض المطلق من أقنوم التقدم19 - الذي لا يرى فيه سيوران أي معنى – يقودنا الزمن السيوراني، أكثر فأكثر، إلى ليل بهيم. إلى الكاوس تحديداً، إلى تلك الوفرة الكبيرة والناقصة للزمن، ذلك النقص الفائض للزمن، تلك الجهة النقية والشفيفة والمعقّمة من الزمن التي تعدنا بكل شيء بحرماننا من كل شيء. كان ينبغي وفقا لما يفترعه سيوران أن نكتفي " بوضع اليرقة، الاستغناء عن التطور، البقاء في حالة غير اكتمال، التنعم بقيلولة العناصر، والفناء في نشوة جنينية "20. ثمة زمن، من الواضح كلياً، أنه يستعصي على التمثل، ولا يمكنه أن يشكل موضوعاً لوصف، ولا حتى موضوعاً لبحث. زمن افتتاني. انفجاري. ضجري. نزقي. هذياني. حلمي. شبحي. عياء أو ربما أرق لا زماني مستقل عن كل كينونة. عياء من نوع خاص جداً تحمله ذات تعبت - بالمعنى الحرفي - من البحث عن الوجود فوجدت في الكاوس لقيتها وضالتها الكبرى. يود سيوران على نحو ساخط أن ينسى كل شيء. " أن يستيقظ قبالة النور السابق للحظات "21.
على أن الكاوس الذي يغذيه النص السيوراني لا ينفتح على اللا معنى. ولكن على قول متعذر يجب إعادة صياغته أبدا بالكلمات. يوجد الكاوس في الكل. يوجد في التفكك الحتمي لكل كينونة. في اللا ديمومة. في الأسماء الحسنى للآلهة. في الموت. في الحرب. في الصيرورة. في الجنس. في اللعب. في اكداس الجماجم لمقبرة جماعية. في تلال الحجارة لبناء متهدم. هل ثمة ما يبقى أبدياً في النهاية؟ يحيى الكاوس في خط متواز مع الوجود. يحيى من قابليتنا الدائمة على التفكك. من انعدام قدرتنا على إيقاف التعفن. لا يوجد موجود أسمى من الغبش الأصلي للكاوس. يبقى الوصول إلى هذا الليل هو مهمتنا الوحيدة. لا تبحث عن الواحة وراء السراب الرمادي الذي يعتقلها. خاطر بما هو أكثر قسوة. وحده الكاوس من يتحالف مع اللغز. مع الأمل. مع السر. ليس الكاوس شيئاً. إنه لا شيء مزمن. لكن هذا اللا شيء هو كل ما يقع في حوزتنا. أن نفهم أخيراً أننا كائنات تفرز الأسرار. تراكم المجهولات. تطارد الفراغات. كائنات فاجرة وملتوية. قردة مغرورة، تبتغي مطاردة الوجود في أكثر لحظاته سرية. هناك حيث تنطفىء نيران الصيرورة ويصبح الوجود في العالم تحليقاً لاوراق ميتة. همساً في الهواء. يقظة في الفراغ. صفيراً في الليل. هناك حيث تزول كل الأشياء المجيدة ويستمر الوجود في الانوجاد كـ غبار أبدي لحروف ضائعة في ملكوت هائم بلا أسماء.
لن نفهم الأهمية الجذرية لمفهوم الكاوس إلا عندما نفهم رغبة سيوران الدفينة فيما أسميه: تصفير الوجود. رؤية الوجود في درجة صفر تحديداً. إن أهمية الكتابة- التمزق ليست ناجمة عن فرادتها، بل عن الحركة التي توصل إليها ولا تنفصل عنها. لذلك يمكن تكرار القول: إن الكاوس هو موقف انطولوجي بريء وليس احتمالاً عدميا للعالم. إن الكاوس هو في واحد من أهم معانيه ضرب من النسيان. نسيان ما تقوله الأنا ويخترعه الوعي عن الوجود. إنه بكلمات أخرى: الشرط ما قبل الانطولوجي الوحيد تقريباً لتحرير الوجود من التبعية التراجيدية للذات في كل مراحل المعرفة. إن ما فعله سيوران فلسفياً – دون أن ينتبه إلى ذلك – هو تنشيط براديغم قديم يتم عبره نقل الانطولوجيا برمتها من حقل الكوجيتو البائت، إلى أفق المساءلة الحيوية التي تعيش في مواجهة الكائن وليس في مواجهة الذهن. مساءلة حيوية تعيش - مع الوجود، ولا تعيش - في، أو قبل، أو فوق. ولذلك فالتعويل الكلبي والنهلستي على الكاوس، والحاضر الأبدي، وزمن ما قبل الزمن، ليس تحريضاً سائباً عن اللا معنى كما يذهب الكثير من قراء سيوران، بل قرار انطولوجي بمنتهى الخطورة. انطولوجي لأنه يتحرى عن منابع وجودنا في مكان آخر لا ينتمي لـ براديغم الذات. هذا ما ينبغي إعادة قوله مراراً: إن "تعطيل الأنا" والحنين المحموم إلى ما قبل الوعي ليس سوى الاعتراض الجذري للكتابة – التمزق، الذي لن يكون بدوره، سوى التقاط الوجود نفسه في ذرورة الانسحاب والتخلّي. الذات ليست هي المخرج. الوعي ليس هو المفتاح. إن حركة الكتابة هنا، الكتابة المستندة إلى الكاوس لا ترضى بأي حل مهما كان نوعه، وحسبها أن تُفرغ كل شيء من معناه بأتم معاني الكلمة. تفريغ وتعديم وتعتيم وتصفير لكل ذات وكل معرفة وكل وعي وكل عقل وكل كينونة وكل بداية وكل نهاية وكل قدرة وكل تاريخ وكل ولادة وحتى تلك القدرة على الموت التي نستمد منها آخر حقائقنا. " أنا ضد كل ما أنجز منذ آدم "22. إن اللا معرفة التي يقول عنها سيوران: " إنها أقدم من كل الآلهة "23 لا تجوز إلحاق فلسفة الرجل بـ الأهواء اللا عقلانية، كما لا تجوز للبعض مقارنتها بفلسفات عبثية كفلسفة صموئيل بيكت. إن حركة النص السيوراني لا تتنافى مع المعرفة، مثلما أن اللا معنى واللا يقيين الطائف فوق كل النصوص لا يبتعد عن تلك الرغبة في المعنى التي يريد أي نص أن يخلعها على نفسه. بالعكس، سأشدّد على ذلك مجدداً: إنه فقط فيما وراء المعرفة المركونة إلى الأنا، - تلك التي أكّدها ويؤكدها الفكر الغربي بإعلانه أن الأنا أفكر هي بيت كل وجود وموجود - تعتبر اللا معرفة الشرط الأساسي الذي ينبغي الوصول إليه. ليست اللا معرفة إذ ذاك عدماً ولا بأي معنى، بل المعرفة المعلّقة والمعطلة من قبل المعرفة نفسها. إنها بكلمات أخرى: الطريقة التي يفك عبرها الارتباط مع الأنوية والوعي والمنهج كأشكال وحيدة لفهم الوجود في العالم.
يبقى أن تدمير الأنا، الأنا بما هي العجل الذهبي للفكر هو أهم إسهام سيوراني في الفكر المعاصر. الكتابة-التمزق، أو كتابة الكاوس. تمثّل بالنسبة للفكر شيئاً شبيهاً بمصدر جديد. مصدر نشيط تتعين غوايته الأساسية في كونه يمنح معتنقه القدرة على الإسراف في النفي والسلب. سلب يبدو شبيها - لأول مرة في تاريخ الفكر- بعملية اختلال واحتضار داخلي لا يتوقف. إن أدنى تلكؤ للروح يجعل من السلب الانطولوجي يقع في الإيجاب24. لكن السلب السيوراني هنا ينجو من كل حركات وتعارضات وتوترات السلب الانطولوجي الذي ليس بوسعه أن يبتعد عن مداره بما أنه ملحق بالكينونة ومرادف لصيرورتها. إن السلب السيوراني حدث تصعب الإحاطة به. فـ الكاوس سلب، إنه سلب محض، ولا يعني شيئاً سوى السلب. لكنه سلب أعمى لا يمكن سلبه من ذاته، لأنه سيخضع حينئذٍ للصفات الانطولوجية التي قام على سلبها أساساً. وطالما أن الأمر كذلك فهو سلب السلب. أو سلب مفتوح. إنه ضرب من الإبطال المتعمد لصلاحية كل الأشياء. إبطال واعتراض وانكار وافناء وإعدام وإخماد وإغماد يقوم بتصفير وحل كل الأفكار والمواضعات الانطولوجية بما فيها فكرة الوجود ذاتها. يبدو السلب السيوراني عند هذه النقطة من التحليل كما لو أنه " ليس مفتوحة ". حضور دون حاضر. مكان دون مكين. وجود يضيف إلى الوجود إنعدام الوجود. مطرقة ثور تدور في كل الاتجاهات لهدم كل ما حولها. لربما كان السلب السيوراني – أنا أغامر بهذا الفهم – ضرب من النفي المحرر من كل إيجاب. آلة تدمير ما قبل انطولوجية تمكث قبل الكينونة وخارجها وفوقها، ولا تخضع تالياً لأي مركز. وقاحة مسمومة بفناء مزمن. شهقة كائن بلا كينونة في صيرورة بلا نهاية لموت يستحيل أن يموت. يبدو السلب أخيراً كما لو أنه عياء مستقل. تحالف مع الهلاك كعنصر تماسك. إنه، " الحلم بمؤسسة تدمير لا تغفل عن أي أثر من آثار الانفجار الأصلي "25. الفكر يفكر في ذاك الذي لا يفكَر فيه. الفكر يفكر أكثر مما يستطيع التفكير، الفكر يسلب أكثر مما يمكن سلبه. هذا الأكثر هو الكاوس، الذي - ويالها من مفارقة فريدة – لا نتراجع نحوه إلا صعوداً. لا نتصل معه إلا انفصالاً. لا نؤكد وجوده إلا إنكاراً. لا نفهمه إلا سلباً. سلباً لا يوجب شيئاً. سلب مثقوب من كل الجهات ولا يضمر شيئاً. الكاوس أو ما هو أكثر سلباً من السلب. إنه العري الخالص من كل حضور. العري الذي ينجو فيه كل شيء لأنه خلا من كل شيء. " إذا كانت كل الأشياء فارغة فمن يعبد من؟"26. بات من الضروري أن نسلم أمرنا على ذمة سيوران إلى السيد صفر. أن نباشر بـ " الصعود ثانية إلى الصفر السيد الذي نجم عنه هذا الصفر الخادم الذي يكوننا "27. لربما كان عملنا الوحيد هو الكشف التدريجي لظل وجوداتنا تحت ذاك الصفر الأصلي. تحت ذاك الصفر نعيش. نحب. نتألم. نفرح. ثم نموت. تحت ذاك الصفر نرقد. أيها الصفر الممتد قبل كل الأسماء. أيها الصفر اللا نهائي. أيها الصفر السيد. فيك ترقد كل الأزمنة البعيدة والحاضر.
سوف أذكّر بما قاله سيوران ذات شذرتين: " لو كان بمقدوري لاخترت كل يوم شكلاً جديداً. نبتة أو حيواناً، سأكون الورود كافة واحدةً تلو أخرى: تبغاً أو شوكاً أو جورياً، شجرةً استوائية ذات غصون متشابكة، عشباً بحرياً على جانب الشاطئ أو جبلاً تضربه الرياح، طيراً جارحاً أو طيراً ناعباً أو طيراً ذا تغريد شجيّ، وحش غابة أو حيواناً أليفاً. دعني أَعش حياة كل نوع، بوحشية ودونما وعي ذاتي"28. يقول أيضاً: " أن تكون حيواناً أفضل من أن تكون إنساناً، أن تكون حشرة أفضل من أن تكون حيواناً، أن تكون نباتاً أفضل من أن تكون حشرة، وهكذا دواليك. الخلاص؟ كل ما يوهن سلطان الوعي ويطيح بهيمنته "29. يبدو الكاوس هنا كما لو أنه الطريقة التي يتجلى من خلالها السلب الجذري الذي لا يعود له ما يسلبه. هذا ما أريد توضيحه بالضبط. الكاوس لا يتميز عن السلب. لكن هذا النوع من السلب حر ومفتوح لدرجة أنه ينحل في نهاية التراجع الانطولوجي لما قبل الوعي في ذاته. يتعطل كلياً عن العمل. يتحول إلى سلب لا يسلب شيئاً. لا يكشف شيئاً. لا يمنح شيئاً. لا يدمر شيئاً. بحيث يتم تنصيب مفهوم الخلاص المرن والمخاتل كما لو أنه نهاية سعيدة. في هذه الحالة، يوشك سيوران أن يجوّهر الكاوس. أن يجعله ينوب مناب الوعي والوجود التي ثار ضدها في الأصل. أي أن يحل الكاوس محل الذات. وهكذا يتحول الكاوس فوراً إلى وجود ويتجمَّع بدوره كـ كينونة أو ذات بلا ماهية. سأعيد ترتيب الفكرة كالتالي: إن سيوران يرفض الإقرار بالوعي كشكل وحيد لمعنى الوجود، وبرفضه لهذا المقوم الأساسي يقوض مفهوم الوجود ذاته. وهكذا يكتسي الكاوس عنده معنىً مضاعفاً: إنه فكر يستمد من السلب الحر مزيداً من النور، فكر متقطع30 تارة، ومتصدع31 تارة، وسالب تارة أخرى، لكنه في كل أشكاله يضيف حقيقة عارية وحيدة: الوجود هو اتلاف الوجود. الوعي هو اتلاف الوعي. الذات هي اتلاف الذات. صحيح أننا أمام فكر يمعن في المغالاة لكن استتباعاته النهائية في منتهى النبل: إنها ذروة المحو والحد الأقصى للغياب حيث تتلاشى كثافة الوجود المزهو بامتلائه، ويتقهقر الوعي في أبدية عقمه الذي يغيب عن ذاته في شروخ وتصدعات وفناءات الكينونة لتصير الذات التي تحمله وهماً، والأثر شطباً، ويصير الوجود سلباً. والسلب هلاكاً. والهلاك تعفناً، وينبثق الكاوس كـ صمت لا نهائي لم يعد معه الوعي ممكناً طالما أن الوجود انحل في ذاته، وتحول في نهاية المطاف، إلى نذير داكن أو مرآة عمائية لم تعد تعكس شيئاً. مرآة نقية أبداً. بلا ذات أبداً.
لا تتعارض الكتابة الشذرية عند سيوران مع الكاوس. ليست الشذرة أكثر من " نتف. خواطر هاربة "32. هاربة ممّن؟ من ماذا؟. إن الشذرة، بالنسبة لـ سيوران ليست ومضات، ولا بروق، ولا إلماعات، ولا خطفات، ولا " معارضة رومانسية للفكر بالغريزة "33، ولا مجرد بقايا أو أثر حطامي لوجود متشظٍ. إن الشذرة السيورانية هي تمرين مضاد للمنهج. إنها " كتابة مضادة "، وفي ذلك فهي تعتبر ضرباً من ضروب المقاومة. مقاومة أو قوة تتخذ طابعاً سلبياً وتدميرياً واتلافياً. إن التشذير السيوراني هو بكلمات أخرى: جهد للتفكير في تلك الكتابة التي لا تخشى الوقوع في التناقض من فرط حريتها وسخريتها وتهكميتها. كتابة لا تمتدح الحقيقة، بل الخطأ. لا ترتكن إلى الوجود، بل إلى الكاوس. لا تبحث عن الانسجام، بل تتعطش إلى التناقض. تمنحنا الشذرة بكثافتها المهيبة هبة الاحتفال بالتناقض وفرصة معايشة الشواش واللا اكتمال. من ذا الذي ما زال يبحث عن سستامات أو أبنية عملاقة لاستدراج المعاني واستعباد الدلالات؟. بل أخطر من ذلك: تضع الشذرة السيورانية نفسها في مقاومة شرسة مع العقل نفسه. العقل الذي لن يكون من الآن فصاعداً أكثر من قاطع طريق ما دام أنه لا يعمل أو لا يتحرك " حتى يقوم مقام الإله. إنه فضول، وتعد، وتدنيس "34. يالبؤس أن نكون عاجزين عن بلوغ ذاك الفردوس. فردوس التناقض. هبة اللا حسم. نعمة الحيرة والشواش. تلك المناطق القصية التي تقرّها الشذرة ويقف العقل والنسق إزاءها كـ متفرج مذهول وكسول.
نقطة أخرى مهمة، ترتبط الشذرة السيورانية بفهم معين للزمن، ألا وهو زمن الكاوس، أو زمن ما قبل الزمن. يقول الكاوس الزمن مثل تكرار أبدي للصور، وتكرر الشذرة ذلك التكرار مجردة إياه من كل أبدية أو تعال. ربما بربط الشذرة بالكاوس يمكن للشذرة أن تفهم بعيداً عن كل وعي أو منهج أو سستام . تفتح الشذرة الكلام على زمنية أخرى، تعطل هدير الصيرورة. تخرق قانون التتابع. تنخر بنية السستام. تفند أوهام التقدم. تحط من تعالي الذات. تقد من كبرياء الوعي. ينكمش الزمن في الشذرة على شكل تخثرات وندوب. " في مدرسة ضعاف النفوس نتكون، نحن عبدة الشذرة والندبة "35. آه، الشذرة هي ما يجعل الندوب تتكلم. ماذا يعني هذا؟. لن تكون الشذرة هذه المرة، سوى الكتابة التمزق نفسها. الكتابة الجرح. الكاوس ذاته مبثوثاً في الكلمات. أليست الندوب هي تعطل الزمن؟. أليست هي مقبرة الزمن ولحد العلامات؟. على أن الكاوس الذي تقوله الشذرة، ليس قولاً، ولا عملاً، لا ذاتاً، ولا موضوعاً، لا نفياً، ولا إثباتاً، لا حضوراً، ولا غياباً.. قد يكون الكاوس المقول شذرياً هو أقصر وأشرس عمل سلبي في كل شيء، شريطة ألا يصمم هذا السلب على أي شيء، ألا يثبت أي شيء. سيكون الكاوس إلى حد بعيد، خبرة غنوصية متعذرة على التصور. خبرة تنتمي للغة للوصول إلى ما قبل اللغة. تنتمي للمفهوم وتحنّ إلى ما قبل المفهوم. تنتمي للزمن وترنو نحو ما قبل الزمن. لن تكون الكتابة الشذرية بعدئذٍ، إنجازية ولا بأي معنى. ستكون كما لو أنها ضرب من ضروب الإيقاظ. تغييب الغائب. أو تبعيد البعيد. أو توهيم الوهمي. أو تعديم المعدوم. ستكون كتابة بلا مركز. كتابة لا تفي بوعودها وأوهامها وأحلامها لأحد لأنها مؤسسة على خلخلة كل الوعود والأوهام والأحلام.
أحياناً يتم وضع الكتابة الشذرية سيورانياً تحت بند الكسل والضجر. " لماذا الشذرات؟ بسبب الكسل، بسبب الاستهتار. بسبب القرف "36. تلهث البشرية الهائجة نحو الوجود. سيوران من القلائل الذين ينتابهم عطش مختلف. أن لا نكون. هذا الكون ليس سوى عطالة مزمنة. كينونة غير قابلة للتنفيذ. هكذا ستكون الكتابة الشذرية كما لو أنها نوع من الاعتراف بالطاعة المطلقة للتفكك كمبدأ وحيد لا حتمال العالم. هل هناك مجنون يريد معرفة العالم؟ بل أي متسكع هذا الذي لديه من الوقت ما يكفي لمعرفة العالم؟. " اعتراض على العالم: هذا العالم لا يستحق أن نعرفه "37. وماذا بعد! أن لا نذهب نحو أي مكان. أن نستمتع بـ نعمة الجهل والكسل. " لننسحب إلى داخلنا لوقت غير محدد "38. لكن الكسل السيوراني - على عكس ما يعتقد الكثيرين - هو أيضاً أحد أجنحة الكتابة، إنه الشكل الأقصى للانسحاب من الوجود. في كتابة الكسل، لا أمسك بالعالم، العالم يأتي إليَّ، أستقبل هديره، بعيداً عن الصخب المزيف للـ أنا النشيط، وبعيداً عن الاهتياج المرضي للجماهير، وبعيداً عن الاندفاع المفرط للفلاسفة. يعترف سيوران في إحدى شذراته بأن كل الفلاسفة الذين عرفهم " كانوا بلا استثناء اندفاعيين "39. لم لا نجرب الكسل؟. يضع سيوران الكسل في نفس المرتبة التي يمنحها هيدغر للـ القلق. يقول في إحدى لقاءاته: " العمل لا يعني أيّ شيء، وهو شيء زائد. فالمهم فقط تعليق suspension الزمن. فنحن حين نفكر بأيّ شيء كان، علينا أن نكف عن النشاط والحركة، والمفروض أن نرتمي على الأرض ونجهش بالبكاء "40. سيكون الكسل من الآن فصاعداً، إدراكا لما هو كائن. فمن خلال الكسل نرى الأشياء وندركها ونشعر بأننا نحيا بالفعل. ففي الكسل تتورم اللحظات ولا يمكن الإنتقال من لحظة الى أخرى بسهولة. يضعنا الكسل في إنفصال جذري عن الأشياء وهذه هي غوايته الفريدة.
على النقيض من الحركة المزمنة التي يمضي فيها الوجود مع الزمن جنباً إلى جنب فإن الرتابة والكسل تفصلان الزمن عن الوجود وتجعلانه إزاءنا خارجياً. يمكن القول بكلمات أخرى، في الكسل ينسلخ الزمن عن الوجود. إن ما نسميه حركة ليس سوى التئامنا الكامل بالزمن. وحده الكسل ما يفصلنا عنه ويطردنا خارجاً. نعم الكسل، أو تلك الشجاعة السلبية المشحونة بانهيار القوى وإنهاك الأجساد. إننا أمام تجربة انطولوجية فريدة حقاً. تجربة تحفظنا من التضخم الذي يقع في شراكه الكثيرون بسبب الإفراط في الحركة والنشاط. لقد حان وقت القيلولة. لقد حان وقت العناية بـ فراغ الفراغ. يقول في إحدى شذراته: " السكون إلهي وعلى الرغم من ذلك فإن الانسان لم يتمرد إلا عليه "41. يا إلهي: لقد تم رفع الكسل والسكون إلى مرتبة الرؤيا. الكسل هذه الكلمة المشحونة بكل ما هو سلبي ستغدو شكلاً أصيلاً لرؤية العالم وانبعاث الكتابة. إذا كان نيتشه يصرخ دائماً كونوا بقراً، فإن سيوران سيصرخ كونوا غوريلا: اقضوا الساعات تلو الساعات دون أن تفعلوا شيئاً على الإطلاق. ياله من درس غريب ومثير. الكسل أو تلك البطالة المزمنة.. أن نستقبل همس الخارج قبل مجيء وحضور الضجيج الملازم لكل حركة. أن نستدرج الوجود إلى حيث نكون. أن نتمعن في العالم تحت طائلة السكون والعطالة الفائقة. أن نستريح مع الوجود خارج الوجود ذاته.
أقول: الكتابة من أجل الجموع هي محاولة طريفة. كتابة تكتبها الجموع ذاتها عبر فعل الكتابة. من يكتب من أجل الجموع لا يكتب شيئاً. إنه يخون الهدف الأصلي الذي وكلته الجموع به، وهو بالتحديد، ألا يكتب لها، بل يكتب ربما " من خلالها " ما يجعلها قادرة على تجاوز ماهيتها كجموع. عندما يطلب مني صديق كتاباً للقراءة فهو لا يطلب كتاباً يتحدث عنه، بل كتاباً يشعره بعمق المسافة بينه وبين الكتاب الذي يريد قراءته. لكم أن تتخيلوا مقدار تعسف ودناءة الكتب التي تريد أن تكون صوتا للجموع. إنها كتب تحكم على نفسها بأن لا تقرأ أبدا. من يكتب عن الجموع ولها، فإنه يحرم هذه الجموع لذة اكتشاف ذاك الصوت الخافت القادم من بعيد. إنه يحرمها إمكانية اكتشاف نفسها. لذة الابتعاد عن صوتها الخاص. أسوق هذه الكلمات للتأكيد مرة أخرى، أن الكتابة السيورانية، الكتابة-التمزق لا تروم المحاججة، أو البرهنة، أو الإقناع، أو إبقاء القراء مستمعين. مثل ميشيل دي مونتين قبل عدة قرون فإن الكتابة السيورانية ليست مهنة ولا تخصص. أن تكتب يعني أن تعمل على ذاتك. أن تكون قادراً على لملمة وجودك بعد كارثة شخصية. أن تنجو بنفسك من حالة كآبة أو أرق مزمنة. أن تكتب أيضاً، يعني أن تتصالح مع مرض عضال، أو شيخوخة قاسية، أو حرب طاحنة، أو حداد على فقدان صديق عزيز. في حوار مع الكاتب الإسباني فرناندو سافاتر، يقول سيوران: لو لم أكتب وأسوّد هذه الأوراق لكان من الممكن أن أصبح قاتلاً42. الكتابة هي مسألة حياة وموت. إنها مسألة خلاص فردي. الوجود البشري، في جوهره، هو الكرب والألم واليأس اللامحدود، وحدها الكتابة يمكن أن تجعل الأشياء أكثر احتمالاً. هل قال أحدكم أن نفهم العالم؟. رب سؤال سيجعل سيوران يموت من الضحك، فمهمتنا القصوى في تواجدنا المؤقت ها هنا، ليست فهم العالم، بل تحمله. وهذا هو السبب في منح الكتاب امتياز فريد من نوعه. امتياز يجعل من كل كتاب بمثابة انتحار مُؤجل.
مثل أي نص خالد وغضبي فإن المهمة الكلية التي أناطها سيوران بفلسفته ترتكز على تفكيك اللغز الجوهري للوجود ثم منح الدلالة المطلقة لـ نقيضه الكامل. مثل نصوص ديوجين، ونيتشه، وكافكا، وكارل كراوس، وهنري ميشو، ومالكوم دو شوزال، فإن نصوص سيوران تعيش إخفاقا أزلياً يشهد على تعذر تشييد الوجود الانساني على مبدأ متماسك. مثلما أخفقت بومة هيغل بالتحليق فوق التاريخ، ومثلما أخفقت تقدمية كوندرسيه، وشيوعية ماركس، وطبقة لوكاتش، وإرادة شوبنهور، وكينونة هيدغر، ومثلما أخفقت إرادة القوة بتخليق سوبر مان نيتشه سيخفق الكاوس في خلق يوتوبيا مضادة أو تراجعية. ثمة تراجيديا مشعة في كل فكر مبدع تجعله مسكون بعقمه ومشدود بثبات نحو نقطة تفككه وانهياره الذاتي. لكن المهم بعد كل معراج جديد للروح أن نسأل أنفسنا ماذا بقي من أحلام؟. ماذا ظل من أوهام؟.
ليست أحلام سيوران في نهاية المطاف، - مرة حلم أن يموت من أجل فاصلة – ولا حتى ضرباً من الخيال. ربما كانت استدراجنا استدراجاً كلبياً نحو العالم الذي تفنده وتفككه. مثل كل أحلام الفلاسفة. مثل مدينة الشمس عند كامبيلا. مثل أحلام أبطال دستوفيسكي. مثل جنة التوحيديين. مثل إغريق نيتشه الطيبين أكثر من اللازم. لا يعدو زمن سيوران: زمن ما قبل الزمن. الحاضر الأبدي. الكاوس. أكثر من شكل مقعر لغياب مزمن وكامل. موت، ألم، عدم، فراغ، ضياع، خواء، وهن، خوف، هلع، ضجر، أرق، عبث، قرف، قلق. كل هذه الكلمات المتصدعة في بناء سيوران المتصدع أصلاً، تعود إلى الإسراف في لعب دور في لعبة؛ لعبة مفصلة بشكل محكم، إنها لعبة التفكك والتعفن، لعبة الموت التي لا يبقى منها سوى ركام من الجثث والأشلاء والذكريات الباهتة. تأتي لحظة يشعر فيها قارىء سيوران بأنه لا شيء على هذه الأرض يستحق الحياة. ليشعر في اللحظة التي تليها بنشوة تعادل الانتصار على العالم ذاته. هكذا هي كل النصوص الخالدة تدمر كل شيء، كل شيء، كل شيء، تأخذ الأفكار والبداهات والمفاهيم وتحطمها كلياً وبعدها يلمع ضوء ما.
وبعد..
ما الغاية من فلسفة سيوران؟. وما هو معناها الأخير؟. هل يمكن لـ دو بوتون أن يكتب على غرار نصه الطريف عن بروست كيف يغير سيوران حياتك؟. أو هل يستطيع بيتر سلوتردايك أن يطلق عبارات سريعة وسطحية عن هذا البوذي الباريسي43؟ ربما علينا أن نطلق ابتسامات عريضة حول أسئلة وأطروحات كهذه. نبتسم لأنه ما من جواب قابل للاعتراف والتعميم. نبتسم لأن الجواب سيكون أسخف من السؤال ذاته. تحت إلحاح الجمهور نبحث عن إجابات غالباً ما تكون بلا معنى. نريد دائماً أن ننظر إلى ما قبل الكاتب أو ما وراءه. ما تحته، أو ما فوقه. ولكن ماذا لو لم يكن هناك ما قبل ولا ما بعد؟. ماذا لو لم يكن حضور النص سوى غيابه الجذري؟. عندما قرأت ما كتبته نانسي هيوستن عن سيوران شعرت بامتعاض شديد مع بعض السخرية. ماذا لو قمنا بعزل كل المعلومات الشخصية التي أوردتها هيوستن في مقالتها عن سيوران؟. لا أنصح أحداً بهذا، لأن نص السيدة هيوستن44 سيصبح بلا معنى كلياً. هكذا يتم في المكاتب المغلقة تعريض نصوص حية ومتفجرة ولا منهجية، لتدخلات تقنية أو بروكوستية بالأحرى، تتجاوز كل أقوالها الهادرة والمنفلتة وتبحث عن فضلات تعطي الانطباع بأننا نعرف الكاتب جيداً في حين أن كل ما قمنا به هو إفقار ممنهج للنص. مجرد قراءة استقصائية بحماسة جاسوس.
ليس من برهان على ما بلغته السيورانية من مكانة، أفضل من إعادة الاعتبار للكاوس ومروحته الدلالية. يملأ الكاوس حفر سيوران وتحليلاته. إنه لا يملؤها بالأحرى، بل يفرّغها، لأن الكاوس ليس كياناً مادياً، لكنه غياب. ليس عشق سيوران للكاوس، من يحثه على الهوس به. لكنه ببساطة، يثابر لـ منحه موقعاً تطهيرياً في غاية الرهافة. ما يريده سيوران هو إعادة الفلسفة إلى وظيفة الخلاص45. لا يسعى سيوران إلى اكتشاف قارة انطولوجية جديدة في سباق محموم مع الفلاسفة، بل يشعر بأن لعنة ما تطاردنا وتجعلنا نهوي في سبيل دمارنا الذاتي وأن علينا أن نتحرر منها. الكاوس أيها السادة: هو تحرير الفكر من نفسه. إنه سَفَر في دهاليز أنفسنا القديمة. ثمة منطقة بريئة في وجود أو لا وجود آخر وعلى الفكر أن يجد الطريق نحوها. هنا يبوح سيوران بكامل سره الذي أقام عليه كل نصوصه وتصوراته العدمية يقول: " الكاوس، إنه الفراغ كشيء إيجابي. إنه يأخذ من الوجود كل ملكية وبعدها بدل الشعور بالفقدان، أي الفراغ، نملك الشعور بالإمتلاء - من خلال الإفتقاد. إن الفراغ هو أداة الخلاص. طريق، سراط مؤد الى الخلاص "46. سمّى عمال الفلسفة المحدثون نداء الفكر المعاصر في أن نتوقف عن التأليه في أفق الانسانية الجديدة. لكن فرادة سيوران ستتوجه نحو نداء مختلف: أن نعيش في علاقة وديّة مع التناقضات. ينبغي قبول التناقضات.
الفريد حقاً في تجربة سيوران أخيراً، ليس تفكيك أوهام الوجود والفلسفة والولادة والوعي والنجاح والتاريخ والصيرورة والأنا، بل الإلحاح الذى حل محلها. توجد أشكال من الحكمة لا يمكننا فهم عمقها، ولا تحويلها إلى مسطحات قيلولة، و لا حتى حصرها في تدفق واحد. هكذا يعمل الكاوس في متن سيوران كآلة حرب ضد مركز الوجود ذاته. يسلبه. ينفيه. يفككه. ويهزمه ليصبح ما هو خارج عن نفسه، ويجعله في نهاية المطاف وجوداً بلا اسم. وجوداً شفيفاً صقيلاً أو وجوداً بلا وجود. العودة إلى طفولة ما. أو ربما العودة إلى طفولة العالم ذاتها. هناك حيث لم يكن بمقدور الوجود أن يحيا أو يموت، أن يبدأ أو يتوقف، السديم الفارغ أو السلام الثاوي في قيعان العناصر. تشكل الرغبة في العودة إلى الكاوس47 جوهر فلسفة سيوران. هل هناك من يخاف الكاوس؟. أن تكون في رهبة من الكاوس يعني أن تخاف هذه العودة، أن تفرّ من صمت واتزان الخامل. أن تهرب من شساعة وبهاء المحايد. أن ترتعش جزعاً من ذاك الصوت الفارغ بلا صدى. كل ما يطلبه سيوران هو مجرد قيلولة بلا ذات. سعادة جنينية محرومة من الوعي. الوعي الذي يمكن القول بلا وجل: إنه آخر فعل طائش قامت به أمنا الطبيعة.
أبدا، سيستمر الكاوس مشتغلاً/ مشتعلاً بين صفحات سيوران. بيد أنه سرمدياً في اللا مكان واللا زمان عينه سيبقى يدور. ربما لم يكن الوجود سوى صيرورة مدهونة بالزيت جيداً. لاشيء يتطور أو يتقهقر تدور دواليب الكينونة ثم تدور. هل ثمة ما بوسع الكينونة فعله غير هذا؟. هل ثمة بمقدورها غير متابعة الدوران والمثابرة باللحاق أو التخلف عن الكاوس. وجدت في الماضي دوامات ضعيفة لتقودنا إلى الكينونة. هل سنجد دوامات قوية لتقودنا إلى اللا كينونة؟. ثمة الكثير من القيلولة في اختفاء الضجيج. والكثير من الفوضى في اختفاء النظام. والكثير من السكون في اختفاء الصيرورة. والكثير من الليل في اختفاء النهار ولكن: أليس الليل، في الوقت عينه، بداية ونهاية لكل حديث؟. هناك زمن للكاوس، مثلما هناك زمن للوجود والصيرورة. الكاوس مستقبل مدفون خلفنا. حنين إلى ما قبل الجرح. الكاوس أو عندما تكون الكينونة مضمومة ومركونة على فراغها وخوائها الأبديين.
خائفين من الموت. جزعين من الهلاك والتعفن والسقوط نتحلق ككائنات فانية حول وهم الأبدية والخلود. ولكن ماذا لو لم يكن الحل سوى بممارسة النسيان في أقصى أشكاله؟. ماذا لو لم يكن بمقدورنا سوى الاسترخاء في كينونة محرومة من المعنى. في تاريخ محروم من التقدم. في جسد محروم من الدلالة. في وجود محروم من الأفق. في زمن محروم من المستقبل. في رعشة بلا سبب. إنها الدروس الأكثر عسراً على الفهم في شعاب سيوران تلك التي سأطلق عليها من الآن فصاعداً اسم: الوعي الأخير. الوعي الأخير، أو، أن نتقبل فكرة قيلولة بلا إله. أن نتحمل فكرة أن هذا العالم ليس أكثر من عربدة في الفراغ والفوضى. وأن مهمتنا (على عقمها وعمقها) ليست أن نسعى نحو الأبدية بل أن نعود أدراجنا نحوها. الوعي الأخير: أو أن نستلقي في أغوار الصمت الأصلي، في الغبطة الممتنعة على التعبير، في الذهول المفرط حيث استلقت الخليقة دهراً قبل أن تتلوث بـ صخب الكلمة ورعب الوعي وعياء الذات وبلاهة اليوتوبيا.
على أن الوعي الأخير ليس تشاؤماً، بل تفكيراً ذو طبيعة جذرية. شبيه بالشيطان يعمل الوعي الأخير تحت قلم سيوران كسلب حيوي. فكر حساس48، نافٍ ، يدمر الأشياء. الوعي الأخير حمّال أزمنة. ينتبه إلى فناء اللحظات. ينتبه إلى عقم المسافة بين الوجود والعدم. يعمل الوعي الأخير من دون أوهام. إنه يريد فقط أن يربط نفسه إلى ذاك الاتساع الهائل. بكلمات مثقلة بغبار الوجود يريد أن يسجل انحناءة صغيرة نحو تلك الشساعة التس سبقت كل حيز. الوعي الأخير أو الكتابة الأخيرة كـ مهبط حلم. الكتابة التي لا شكل لها، أو الكتابة التي لا نتعلمها إلا على ضفاف الكاوس. الكتابة التي تشيح بوجها عن العالم لتعيد تهيئة الحضور إلى العالم. لا تتقيد الكتابة الأخيرة بحدود حديقة كانديد لذلك تسكن فلسفة خالدة كفلسفة سيوران في ما وراء الحدود هناك حيث المعنى هو قرين اللا معنى إنها الرؤية المضاعفة أو الثلاثية الأبعاد من دون إرهاق ولا تكلف. رؤيا تقوم على التشتت والانحراف و الإختلاف والزوغان و اللاتجانس و الضياع و التيه و اللاهنا و اللا هناك ، واللا المركز و اللا الطرف.
ليس الكاوس السيوراني أخيراً لعبة في يد الوهم أو ضرباً من اللهو العبثي والمجاني فعكس عقارب الوجود نحو الخلف ليس غاية في حد ذاته، بل غاية من أجل خلق إمكانية لبداية جديدة. إنه نمو انطولوجي نحو الوراء. رغبة في ابتداع واندلاع الذات من قلب الظلام. إنه بكلمات أخرى: نزول يبتغي الصعود. وانفصال يبتغي إعادة التجّمع. إن الكاوس هو نقطة انخماد الوجود في ذاته وبعودة الوجود إلى أصله تعبر الذات شجرة العالم من جديد. يصرخ غوتفريد بن: آه لو كنت حجراً. وكذلك يصرخ محمود درويش. أما سيوران فيردد على طريقته الخاصة: لكأنني أفتتح كينونة ثانية على كوكب آخر. إن المبدع سواء كان هولدرلن، أو نيتشه، أو مونتاني، أو هيدغر أو باسكال أو سيوران أو هنري ميشو هو ذاك الذي يساكن العناصر الباطنية للأشياء نزولاً إلى أكثر مواطن الكينونة انزواء، وصولاً إلى النتوء الأصلي الذي انبلج عنه الوجود لأول مرة. هي ذي فتنة الكاوس عند سيوران. أن نشهد على الحب الفائق للشواش الأصلي الذي يمتص الكينونة نحوه. على الفرح السابق لكل اللحظات. من يدري فقد تؤدي بنا هذه الطريق السرية نحو مهبط حلم نرى عبره الوجود والعدم يتبادلان القبل.
ثمة فكر يطمس الذات وآخر يوقظ الذات ومع ذلك يبقى السؤال: هل ينقذ الانسان نفسه بالوعي أم ينقذ نفسه من الوعي؟. قد تكون الإجابة عن هذا السؤال أكثر إلغازاً من السؤال نفسه فالطريق السرية نحو مركز الكيان قد تكون مجرد نقطة استطاعت التمدد على الكون بأسره. ثمة فلاسفة يتألمون في أنواتهم وثمة آخرون يتألمون في كل الأشياء. مثله مثل الاسكندر المقدوني الذي كان يشكو لضباطه من عدم وجود عوالم آخرى خارج عالمنا ليقوم بغزوها استطاع سيوران أن يشير باصبعه نحو محل انبثاق جديد. الكاوس. موطن النزول إلى الجحيم وموسم الغرق في الليل. ربما كان كل ما يريد سيوران فعله أن يمنحنا طريقاً نحو كينونة أعلى. أن يهبنا إمكانية إزالة الحيازة. أن يمرننا على وهم الكيان. أن يوصينا بنبرات خافتة أن الاكثر خلوداً بيننا ليس الأكثر حضوراً، بل الأكثر غياباً. الاكثر عبوراً وشرودًا. ذاك المتخلي عن حضوره. المنتشي بشغور مكانه. المحتفل بنسيانه الكامل. السعيد بتلاشيه المؤكد.









المراجع والحواشي
1- ثمة إجماع بين كل الباحثين في المتن السيوراني على صعوبة إدراجه ضمن نسق أو سستام فلسفي محدد حيث تميل كل المقاربات التي تتخذه موضوعا لها لإلحاقه بالمحاولات الرامية لاستعادة الفكر ما قبل السقراطي الذي دفعت به التقاليد المسيحية والعقلانية والوضعانية إلى نطاق المضاربة الفلسفية وقد كان للسيدة سوزان سونتاج بالفعل قصب السبق في تنسيب سيوران إلى زمرة الفلاسفة من وزن نيتشه وكيركجارد وفتجنشتين إذ تعتقد سونتاج على سبيل المثال أن سيوران هو واحد من أكثر العقول حساسية في الكتابة الشذرية إلى الدرجة التي يبدو فيه التفكير عنده كما لو أنه فعالية متطرفة. وتذهب إلى أبعد من ذلك إذ تصفه بأنه يشبه: عقل متلصص. وعلى هذا المنوال نسج الكثير من الكتاب شرقا وغربا طريقة فهمهم لسيوران فمنهم من يعتبره بمثابة رامبو جديد لكنه يحمل فلسفة أعمق. وقد ذهبت مترجمته إلى الانكليزية وكاتبة سيرته الرومانية ايلنكا جونستون إلى القول: بأن السمة الأساسية لتفكير سيوران هو غياب المنهجية وباستثناء بضع إشارات عابرة إلى نيتشه وريلكه و شوبنهور يمكن للمرء أن يتخيل أن سيوران قد كتب كتبه قبل عدة قرون من الزمان. للمزيد من الاطلاع على آراء هؤلاء الكتاب انظر:
Susan Sontag. Thinking against Oneself: Reflections on Cioran. In E.M. Cioran, The Temptation to Exist, Trans by: Richard Howard, The University of Chicago Press, Chicago: 1998, p: 11.
Kimball, roger. The anguishes of E. M .Cioran. The New Criterion, Volume 6, Number 7, on page 37.
Ilinca Zarifopol, Johnston. Searching for Cioran, edit by: Kenneth R. Johnston, Indiana University Press, Indianapolis: 2009, p: 124.
2- سيوران. مثالب الولادة. تر: آدم فتحي، منشورات الجمل، بيروت: 2015، ص: 119.
3- علينا أن ننبه بإلحاح أن الإهاب العام لكل شذرات سيوران ذو مزاج سوداوي ومدمر ومهدم ويغصّ بالسلوبات بل والسلوبات المفرطة واللا متناهية لذلك فإننا لا نساير البتة ما ذهبت إليه السيدة سونتاج على اعتبار أن نيتشه قد وضع تقريبا كل مواقف سيوران قبل قرن تقريبا. فمثل هذه القراءات العجولة التي تضع عدمية سيوران إلى جوار عدمية نيتشه تتعامى عن الجهود البطولية التي بذلها نيتشه للتغلب على العدمية وذاك على النقيض من سيوران الذي جعل من العدم صنو الوجود ذاته. يقول نيتشه في كتابه العلم المرح: أحب أن أفعل شيئا من شأنه أن يجعل فكرة الحياة أكثر جاذبية بمئات المرات من فكرة الموت. ربما يقودنا هذا الإلحاح لفهم النعوت القاسية التي وردت على لسان سيوران بخصوص نيتشه على غرار: نيتشه يرهقني. هناك شيء مثير للاشمئزاز في مثالي يدعي الضعف والعدمية. لم يدرس الوجود سوى عن بعد. الإنسان الأعلى وهم أو نزوة لا يمكن أن تظهر إلا في عقل شخص لم يجد الوقت كي يكبر. للاطلاع على رأي نيتشه الممجد للحياة انظر الشذرة 278 من كتاب:
Nietzsche, friedrich. The gay science .trans by: Josephine auckhoff, Cambridge university press, Cambridge: 2001, p: 158.
4- سيوران. مثالب الولادة، مرجع مذكور، ص: 17-20
5- المرجع نفسه، ص: 150.
6- سيوران. تاريخ ويوتوبيا. تر: آدم فتحي، منشورات الجمل، بيروت: 2010، ص: 145.
7- سيوران، إميل. المياه كلها بلون الغرق. تر: آدم فتحي، منشورات الجمل، بيروت: 2003، ص: 50.
8- في واحد من أمتع الحوارات على الإطلاق يؤكد الكاتب الفرنسي جيل دولوز أن الكاوس هو شواش كلي مليء بالإمكانات وأن سمته الأساسية هي غياب الكليات كما لو أنه مجرد تجميع للتفرادات. انظر بهذا الصدد:
بارنت، كلير. ألف باء دولوز. تر: أحمد حسان، مركز المحروسة للنشر، القاهرة: 2018، ص: 186.
9- سيوران. تاريخ ويوتوبيا. مرجع مذكور، ص: 145.
10- المرجع نفسه، ص: 145.
11- سيوران. مثالب الولادة، مرجع مذكور، ص: 40.
12- سيوران: المياه كلها بلون الغرق. تر: آدم فتحي، منشورات الجمل، بيروت: 2003، ص: 172.
13- سيوران. مثالب الولادة، مرجع مذكور، ص: 142.
14- أقوال بوذا. سوتات مختارة من النيكايات البالية. تر: روبرت غيثيتن، تع: وفيق فائق كريشات، دار الفرقد، دمشق: 2017، ص: 255.
15- سيوران. اعترافات ولعنات. تر: آدم فتحي، منشورات الجمل، بيروت: 2018، ص: 110.
16- سيوران. مثالب الولادة، مرجع مذكور، ص: 26.
17- المرجع نفسه، ص: 56.
18- سيوران. تاريخ ويوتوبيا. مرجع مذكور، ص: 148.
19- يقول سيوران في واحدة من أعمق شذراته انتقاداً لمفهوم التقدم: كل خطوة نحو الأمام، كل شكل من الدينامية، يستتبع شيئاً شيطانياً: التقدم هو المكافئ الحداثي للسقوط، النسخة الدنيوية للَّعن. ويقول أيضاً: نحن لا نتقدم دون دفع ثمن ذلك. الحركة -كما نعلم- هرطقة: وهي لهذه الأسباب تحديداً تغوينا، وتجعلنا ننغمس فيها ونفضّلها، على نحو سالب لا سبيل إلى إصلاحه، على أرثوذكسية السكون. للمزيد من الاطلاع على انتقادات سيوران الجذرية لمفهوم التقدم. انظر:
E. M. cioran. The fall into the time. Trans by: Richard Howard, quadrangle books, Chicago: 1970, p: 61.

20- سيوران. مثالب الولادة، مرجع مذكور، ص: 133.
21- سيوران. اعترافات ولعنات. مرجع مذكور، ص: 85.
22- سيوران. مثالب الولادة، مرجع مذكور، ص: 170.
23- المرجع نفسه، ص: 24.
24- في واحدة من ألمع شذراته يوجه سيوران انتقاداً لاذعا للسلب الكسول الذي يمارسه بعض عمال الفلسفة يقول: تأتي لحظة يفقد فيها النفي نفسه كل بريق ويفسد فإذا مصيره مصير الإثبات. انظر سيوران. اعترافات ولعنات. مرجع مذكور، ص: 104.
25- سيوران. اعترافات ولعنات. مرجع مذكور، ص: 100.
26- المرجع نفسه، ص: 83.
27- المرجع نفسه، ص: 90.
28- E. M. cioran. On the heights of despair. Trans by: ilinca zarifopol-johnston, the university of Chicago press, Chicago: 1992, p: 34.
29- سيوران. مثالب الولادة، مرجع مذكور، ص: 41.
30- ما دمنا لا نعرف إلى أين نتجه فلنختر التفكير المتقطع. انظر: اعترافات ولعنات. ص: 141.
31- وحده الفكر المتصدع يملك نوافذ على الما وراء. انظر: المياه كلها بلون الغرق. ص: 171.
32- سيوران. اعترافات ولعنات. مرجع مذكور، ص: 18.
33- هذا ما تذهب إليه القراءة المتحاملة التي دبجها الأكاديمي روجر كيمبول تحت عنوان طريف: أوجاع سيوران. انظر:
Kimball, roger. The anguishes of E. M .Cioran. The New Criterion, Volume 6, Number 7.
الدراسة متاحة وفقاً للإحداثيات التالية: https://www.newcriterion.com/issues/1988/3/the-anguishes-of-em-cioran
34- سيوران. مثالب الولادة، مرجع مذكور، ص: 139.
35- سيوران: المياه كلها بلون الغرق. مرجع مذكور، ص: 25.
36- سيوران. اعترافات ولعنات. مرجع مذكور، ص: 149.
37- المياه كلها بلون الغرق. ص: 55.
38- اعترافات ولعنات. ص: 58.
39- المرجع نفسه، ص: 22.
40- جييه، ليو. حوار مع سيوران. تر: عدنان المبارك، جرى هذا الحديث في ما يسمى "بيت ديكارت Maison Descartes “ في امستردام ، في الاول من شباط عام 1982. انظر الإحدائيات: http://www.iraqstory.com/
41- سيوران. مثالب الولادة، مرجع مذكور، ص: 237.
42- سافاتير، فرناندو. حوار مع سيوران. تر: عدنان المبارك، نشر هذا الحوار الذي أجراه فرناندو سافاتير F. Savater ، في صحيفة ألباييس “El Pais" الإسبانية في الثالث والعشرين من تشرين أول عام 1977 .للاطلاع على الحوار انظر الإحداثيات:
http://www.iraqstory.com/
43- يتعلق الأمر بمقال رديء كان الكاتب الألماني بيتر سلوتلردايك قد دفع به إلى أحد كتبه ليعيد نفس الاسطوانة المشروخة التي لا تستطيع رؤية سيوران سوى في عباءة نيتشوية كان سيوران قد أكد مرارا وتكرارا عن براءته منها. لا يضيف مقال العجوز سلوتردايك أي فهم لسيوران. كلمات سريعة لا تعني شيئا. بوذي في باريس. أصبحت الكلمة الصادقة قوة هجومية عند سيوران. قَبِل سيوران كل حجج نيتشه الرافضة للميتافيزيقا دون أي حجج خاصة. كرس سيوران نفسه لاختراع نفسه ككاتب مستخدما رأسماله النفسي المرضي الذي اكتشفه في شبابه. كل فكره عبارة عن شكوى وتململ وطلب للخلاص. كلام غريب وغير مطبوخ جيدا، ممل وممجوج وكأنه لا يصدر عن فيلسوف، وإنما عن صحفي في مجلة مغمورة كانت أفكار سيوران قد أغاظته ودفعته للكتابة على عجل. للاطلاع على ما دبجه سلوتردايك حول سيوران، انظر:
Sloterdijk, peter. You must change your life on anthropotechnics. Trans by: Wieland Hoban, polity press, Cambridge: 2013, p: 73- 82.
44- يتعلق الأمر بنص غريب وعجيب طالعتنا به الأكاديمية الكندية نانسي هيوستن تحت عنوان: أساتذة اليأس. وقد خصصت السيدة هيوستن فصلاً عن سيوران أقل ما يقال عنه أنه رديء. نص يغص بالانتقادات الانفعالية والصبيانية السريعة حول كيف كان يأكل سيوران. وكيف كان يرتاد مطاعم الطلاب الجامعية لتوفير بعض المال. وكيف أقام علاقة مع صديقته سيمون بويه بلا جنس على منوال العدميين الآخرين. تمني السيدة هيوستن النفس لو أن سيوران قد رافق الأطفال الصغار ليتعلم منهم كيف تنبثق الأنا. وتلومه على مراسلته لأمه فقط عبر الرسائل كما يفعل المراهقون، بل وتذهب هيوستن إلى حد اعتبار سيوران رجلا غير ناضج مما يستدعي توبيخه لا سيما أنه كنب في وداع أمه: كما لو أنها لم توجد. تستفظع السيدة هيوستن جملة سيوران وتذكره بأن أمه قد غسلت له سراويله القذرة وغسلت له مؤخرته أيضاً " تقول هذا حرفياً ". نمط غريب من القراءة السائبة والهزيلة المدعومة بآلة ميديائية ضخمة كما لو أني بهيوستن تعمل كـ " بباراتزي فلسفي" عند أحد دور النشر. للاطلاع على هذا النص انظر:
هيوستن، نانسي. أساتذة اليأس. تر: وليد السويركي، مشروع كلمة: هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، أبو ظبي: 2010، ص: 95-122.
45- يقول سيوران: الفلسفة الهندوسية تبحث عن الخلاص. أما اليونانية باستثناء بيرون وأبيقور وبعض الذين يصعب تصنيفهم فإنها لا تبحث إلا عن الحقيقة. انظر: سيوران. اعترافات ولعنات. مرجع مذكور، ص: 7.
46- جييه، ليو. حوار مع سيوران. مرجع مذكور.
47- تحت عنوان " العودة إلى الكاوس " يكتب سيوران: دعونا نعود إلى الكاوس الأصلي. لنتخيل ذاك الضجيج البدائي. تلك الدوامة الأولية. لنلقي بأنفسنا في تلك الزوبعة التي سبقت اختراع الشكل. لنشارك في هذا الهذيان العام مستعيدين طريقنا من الكون إلى الكاوس. كم هو عظيم رعبي وفرحي بفكرة الانجرار إلى دوامة الفوضى الأولية. اسمحوا لي أن أملك عددًا لا حصر له من الأشكال المحتملة غير المحققة!. إنني لا أستطيع أن أعيش سوى في بداية أو نهاية العالم. للاطلاع على هذا النص الفاتن انظر:
E. M. cioran. On the heights of despair. Trans by: ilinca zarifopol-johnston, the university of Chicago press, Chicago: 1992, p: 42.
48- لم أخترع شيئاً ، لقد كنت مجرد سكرتير لـ أحاسيسي. انظر:
E.M. Cioran, Drawn and Quartered. Trans by: Richard Howard, Arcade Publishing, New York: 2012, p. 148.



#شادي_كسحو (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تأملات فلسفية 15
- تأملات فلسفية 14
- تأملات فلسفية 12: اعترافات
- تأملات فلسفية 13
- تأملات فلسفية 12
- تأملات فلسفية - 11 -
- تأملات فلسفية - 10 -
- تأملات فلسفية - 9 -
- تأملات فلسفية - 8 -
- تأملات فلسفية - 7 -
- تأملات فلسفية - 6 -
- تأملات فلسفية - 5 -
- تأملات فلسفية - 4 -
- تأملات فلسفية -3-
- تأملات فلسفية -2-
- بحثاً عن ديونيسيوس
- سطوح ونواتىء: الصحافة العربية مراسم مرعبة وكليشيهات فارغة
- جينالوجيا الحقيقة الدينية
- تأملات فلسفية -1-
- ضد الذات أو في مديح المواطنة


المزيد.....




- قدمت نصائح وإرشادات للمسافرين.. -فلاي دبي-: إلغاء وتأخير بعض ...
- -شرطة الموضة-.. من يضع القواعد بشأن ما يُسمح بإرتدائه على مت ...
- رئيسي لبوتين: إيران لا تسعى للتصعيد في الشرق الأوسط
- إسرائيل.. إصابات جراء سقوط مسيّرتين أطلقتا من لبنان (فيديو + ...
- إسرائيل تغلق الطريق رقم 10 على الحدود المصرية
- 4 أسباب تستدعي تحذير الرجال من تناول الفياغرا دون الحاجة إلي ...
- لواء روسي: الحرب الإلكترونية الروسية تعتمد الذكاء الاصطناعي ...
- -سنتكوم-: تفجير مطار كابل عام 2021 استحال تفاديه
- الأمن الروسي يعتقل مشبوها خطط بتوجيه من كييف لأعمال تخريبية ...
- أوكرانيا تتسبب بنقص أنظمة الدفاع الجوي في الغرب


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - شادي كسحو - دهاليز الخراب: تعليق حول سيوران