أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عباس علي العلي - في معنى العلم وماهيته كنطاق معرفي؟ ح1















المزيد.....



في معنى العلم وماهيته كنطاق معرفي؟ ح1


عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)


الحوار المتمدن-العدد: 6604 - 2020 / 6 / 28 - 18:39
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


العلم طريق وغاية وأساس مادي بشكله الموضوعي وان أوصلنا إلى ما هو غير وجودي لذاتية العلم نفسه ولو كان ذلك (على سبيل الفرض الممكن) بالدلالة المؤكدة فهو بالأساس أي العلم عبارة عن فرضيات قابلة للبرهان فهو طريق من الفرض إلى البرهان وهذا ما يسمى بالبحث العلمي، فالعلم ينطلق من مفترض قابل للتصديق والتكذيب إلى حقائق بالوجه المثالي غير قابلة للنفي أو على اقل تقدير حصولها على التأكيدية الثابتة نسبيا حتى يقوم الدليل على ما يناقضها أو يعدل من جوهرها.
وبهذا المفهوم الحركي المتبدل والمتطور لا نجد ثباتية خالصة للعلم مع تطور وسائل البحث العلمي وأساليب الممارسة البحثية العلمية التي يحكمها التاريخ، فالعلم البشري ليس علما مطلقا، إن الذي يشتغل بالعلم ـ كما أشار بعض العلماء إلى ذلك ـ لا يشعر بوجود عالم من النظريات المؤكدات تمام التأكيد، ولا بحقائق مؤسسة تأسيسا نهائيا، ولا يرى العلماء أنها تتمتع ببراهين قاطعة مطلقة حتى تبلغ بذلك مبلغ اليقين، فهم يتصورون العلم باعتباره مجموعة من افتراضات لها شيء من الدعائم ، هذه الدعائم متحركة تبعا لحركة الزمن والمكان ولها علاقة إجمالية بنوعية التعقل والفهم الإنساني المتطور(التقدمي) فهو يناقض السكون من جهة كما يناقض القطع النهائي بالمتحصلات العلمية من جهة أخرى.
ولذلك نرى الكثير من العلماء يؤكد انه لا علم مع اليقين بأننا وصلنا إلى نهاية المطاف ، أي انهم يجزمون بحقيقة واحدة هي ان العلم اليوم في أزمة وأزمة حقيقية قادها العلم نفسه بعدما تعرى العلم من القدسية وأصبح كل شئ نسبي تبعا للظروف الزمنية والمكانية حتى وصل الأمر بنا أن نعلن وفاة العلم بمعناه المقدس لدينا وهذا ما جعل المفهوم النسبي للعلم يسود اليوم لدى فلاسفة العلم، وعند العلماء أنفسهم إلى حد أن ادعى أحدهم، وهو بول فرايرابند أن كل شيء في العلم جائز، وصنع لنفسه نظرية الفوضى في نظرية المعرفة ، وأعلن إنكاره لما يسمى بالمنهج في العلم، وكتب كتابا عنوانه "ضد المنهج"، واعتقد بأنه لا يمكن القول بأن العقل يصل في العلم إلى ما هو كلي، كما لا يمكن أن يستبعد اللامعقول من العلم.
ولكي لا نستغرق في أزمة العلم وصراعه مع العقل لا بد لنا من ان نفهم الماهية (ماهية العلم) وننطلق منها لمعرفة شكلية العلم وجوهر التعلم ومن ثم فهم آلية التعلم وعلاقتها بالية التعقل لارتباط العلم بعلته العقل علية الدليل لا علية الإيجاد.
يمكننا فهم العلم حسب الزاوية التي ينظر من خلالها إلى مفصلية العلم كونه نشاط إنساني مرتبط بوجود الإنسان كحدث وكحقيقة فاعلة ومنفعلة بالعلم، فلا يكفي ان يكون الإنسان موجودا حتى يكون عالما أو مستدل على الحقيقة العلمية فالوجود لا يعني بالضرورة ممارسة العلم أو الاشتغال به أو البحث عنه، وكذلك لا يعني بالمطلق وجودية الإنسان فاعلية العلم له أو تفاعله معه، وهذه القطعية هي التي من خلالها تباينت الرؤى واختلفت زوايا النظر الكاشفة لمعنى العلم.
فحسب النظرة الكلية للأشياء النظرة التي لا تترك كل المؤثرات الخارجية التي تلعب دورا في حياة الإنسان ابتداءً من المحصلات الوجودية وانتهاء بالغيبيات المدركة بالعقل وان لم يدركها العلم فهو لا ينكرها حقيقة، ولا ينكر ان العقل كدليل للعلم إنما يعجز في كثير من الأحيان تفسيرها أو تجاوز وجودها، فهو لا ينكر ولا يثبت بعض الغيبيات إلا انه يجعلها في دائرة الشك أو الافتراض وهو أول طريق العلم، فكثير من الفرضيات كانت بالأمس القريب تعد من الغيب إلا ان التاريخ كمجسد وشاهد لفاعلية العلم سجل تحولات كبرى في مسيرة الموجود الكوني على الأرض، نقل من خلالها الغيب الضنى إلى حقيقة العلم ويتعامل اليوم معها على أنها حقائق وان كانت نسبية، بمعنى أنها حقائق بهذا الوقت حتى يقوم الدليل بما ينهض على معاكستها.
كما ان التاريخ شهد على تنقل وسائل العلم وحسب الحاجات البحثية المحضة بين فروع العلم تنقل واع مستوعب للنجاحات التي أحرزتها تلك المفاهيم في علم ما، وأصبح لزاما الاسترشاد بها لتكوين وسائل أكثر شمولية وأتساع في منحى أخر من مناحي العلم وقد يستعمل مفهوم في علم ما، ثم يهاجر إلى علم آخر أو علوم، مثل مفهوم الانتخاب والمنافسة اللذين انتقلا من البيولوجيا إلى الاقتصاد، وهكذا يتم التقدم العلمي بطريق آخر غير التراكم المعرفي المتصل، وإنما يتقدم بقطيعة وثورة يظهر إثرها نموذج جديد للعلم مباين لما قبله.
فالعلم بهذا المنظار يصبح ذا صلة وثيقة بمنطق التاريخ، وبصيرورة الاجتماع البشري، وهذا لا يحط من قيمة العلم، بل يتيح له ذلك أن يتجاوز نفسه باستمرار، وهو سر ديناميكية العلم وحيويته، فالعلم بهذا يكمن تقدمه في مناقشة أخطائه وتفاديها دون توقف، وفي عدم الرضا الكلي عما نزعم أنه علمي يقيني قطعي، فالمناقشة الحرة والنظر النقدي من الوسائل الفعالة في تقدمه، وفي القرب من الحقيقة، فأخطاؤنا هي التي تعلمنا وتجاربنا الفاشلة هي في الحقيقة سر تقدم العلم إذا أريد لها ان تكون المحرك المحفز للإبداع والتطور، فلا رجعية في العلم ولا قطعية بالظن ان العلم له حدود.
الزمن في منظور العلم وعاء يكبر حسب سعة العلم ذاته أي أصبح العلم هو معيار للزمن وليس العكس كما كان المكان محيط بالعلم ومحدد من حركته أصبح اليوم هو الأخر أسير العلم ومناط تحركه، وأضحت خارج المكان بمفهوم المكان كجغرافية وليس المكان كوجود، وهكذا انطلق العلم ليشيد مصطلح خاص به لكي يستوعبه حركة ويستوعبه كمفهوم يطلق عليه اليوم تسمية النطاقية، وهو معنى تتداخل فيه عوامل الزمان والمكان والفعل فهو بالأكيد ليس التاريخ وان اشتمل على معنى منه، ولا هو الوجود لاحتوائه كليا وإنما هو قدرة العلم على تجاوز المحدود بذاتية العلم وبموضوعية التعلم.
بالنتيجة هنا نجد أنفسنا عاجزين ان نحدد معنى خاص للعلم أو نشير بماهية معينة إليه نتيجة عجز الوسائل البشرية عن بلوغ ما هو علم عن ما هو غيره أو جمع العلوم كلها ووصفها كوحدة واحدة لها ملامح عامة وسمات خاصة، بل نجد ان كثيرا ما نُخرج بعض النشاط الفكري الإنساني من دائرة العلم لاعتبارات معينة كالتاريخ أو الأدب أو الفن من نطاقية العلم، إلا أننا نعود لنرى تأثير هذه المفردات وتداخل أصولها مع تشعبات مسبقة صنفت على إنها من دائرة العلم، فنعود لنلتقي مجددا بها في نفس الدائرة التي أخرجناها منها، وليس من المؤكد وجود سمات مشتركة بين معارف مختلفة في موضوعاتها ومناهجها، مثل الفيزياء النظرية، والتاريخ، والأنتروبولوجيا (علم الأجناس) ، والبيولوجي، وعلم النفس، فهل نحن أمام علم واحد أو منظومة علوم؟ وأين يبدأ حد العلم وكيف ينتهي الوصف، هذه الإشكالية لم تبرز قديما عندما كان العلم في الحدود الدنيا من التأثير كموجود عقلي، ولكن مع تمدد نطاقيته بتمدد العلوم خارج المكان والزمان والضرورة برزت حاجة ملحة لتحديد اطر عامة تضبط حدود النطاقية، ولا تضبط حدود العلم بعد ان وضع العلم نفسه في أزمة التوصيف.
ونرى في زماننا أن الابستيمولوجيا الغربية تعالج النشاط العلمي الذي هو أرقى ما وصل إليه الإنسان من معارف، من زاويتين مختلفتين، أو إن شئت في اتجاهين متباينين:
اتجاه سمي بالاتجاه العقلي النقدي الذي يمثله تمثيلا قويا كارل بوبر (1902ـ1944م) الذي يتمسك بالنواة الصلبة للنشاط العلمي بعيدا عن أنواع الخطاب المجاور، مثل الأيديولوجية، والفلسفة، أو شبه العلم.
أما الاتجاه الثاني فهو اتجاه سوسيولوجي وتاريخ للعلوم، يقوم على قراءة مختلفة تماما لقراءة الاتجاه الأول، لأنه يسمح بالأيديولوجي والمسلمات التي لا برهان عليها بأن تدخل في النظام المعرفي أو الجهاز العلمي.
إذن الأزمة تتولد كما قلنا من خلال اختلاف الرؤية والفهم لحقيقة العلم أولا ونطاق عمله ثانيا، وليس الخلاف ينصب على دور العلم فهو معروف ومتفق عليه كضرورة وكحتمية ترتبط بالوجود وبوظائف الإنسان التي تنبع من الحاجة بالدرجة الأولى وللتفرد، في أحيان قليلة وفي نطاقات محددة لها ارتباط بالحاجة.
فالاتجاه العقلي المحافظ والذي شهد تراجعا قويا لمداه في العقود الأخيرة يربط العلم بمحددات ذاتية اقل ما يقال عنها أنها محددات تكوينية ضيقة تحصر العلم بدائرة التجريب ألمخبري المستند في وسائل بحثية محددة سلفا، مؤطرة بقدسية تتناسب مع رؤية العلم على انه وظيفة نخبوية بالتناول والتداول دون ان يكون للعلم هامش التحرك في قواعد أوسع ومشتمل على وظيفة اكبر من أثبات حقيقي لما هو قابل للتجريب الآلي أو التفاعلي بالجزئيات، مرتبط أساسا بالمعادلات الرياضية المحضة فهو عند الاتجاه العقلي ان الرياضيات هي العلم وما لا يثبت رياضيا وبوسائل رياضية معادلاتية ليس بعلم.
ويبدو العلم بهذه النظرة أسير التقييد الفج والغلو في فهم العلم على انه حقيقة وجودية مرتبطة بالعقل وقدرة الأخير على قبلوها وتعقلها وان بطريق لا يستوجب إخضاعها للحساب المبني على المعادلة الرياضية، فكثير من العلوم اليوم ليس لها علاقة بالرياضيات أو بالمعادلات التوازنية كعلم النفس وعلم الابستيمولوجيا مثلا بكافة فروعهما، ومنها الطب النفسي أو السكيلوجيا التجريبية وغيرها مما لا يمكن إخراجه من دائرة العلم الحقيقي، وحتى الفن بأوسع المعاني لم يعد اليوم خارج نطاق دائرة العلم طالما يبنى على قواعد ومحددات تضبط حدود الإبداع والتكوين.
ان نقد هذه النظرية يتأتى من كونها لا تفهم العلم إلا من خلال نظرتها هي للمحددات لا حاجة العلم إلى فضاء أوسع ينطلق به ليلبي حاجات الإنسان والقدرة الكامنة لديه بالتكوين للارتقاء والتطور، وهذا ما يعيب على الكثير من المفاهيم المسبقة التي تحد من أمكانية العلم لتجاوز المألوف والممكن، إلى دغدغة الخيال العلمي لحفزه على الانطلاق لفضاءات قد كانت من المحرمات ان لم نقل من المستحيلات ان يتناولها العلم بالبحث أو التجريب الذي يمتحن الكثير من هذه الخيالات اليوم، لتتحول غدا إلى تجارب معقولة تمهد إلى وضعها موضع التطبيق العملي والعلمي لخدمة الإنسان.
ان العقلانية لا تعني بالضرورة إلى ترك الاحتمال أو التصورية بالشك وهو الخيال طالما انه سوف يخضع لقواعد التجريب العلمي المبني على فهم العلم للحقائق لا لفهم الحقائق للعلم، أي قدرة هذه الغيبيات على إقناع العقل بوجودها من خلال الأثر التي تريده أو تسعى إليه بالوجود، فالايدولوجيا وان كان البعض يعدها من فروع العلم إلا ان الأثر الذي تلعبه في الحياة الإنسانية وهو بالمؤكد اثر افتراضي لأول وهلة، لا لانه قد أحدث الكثير من التغيرات المهمة على الصعيد العملي أو على الصعيد الفكري حمل معه الكثير من المنطلقات التي ساعدت العلم والعقل من التحرر من الجمود والنمطية إلى فضاء الحرية والإبداع، ونحن رأينا في التاريخ كيف أن الحروب الدينية في أوروبا ساعدتهم على المرونة على هذا التفكير النقدي المنافي للتسلط، فذلك الذي جعلهم يتعلمون التسامح مع المعتقدات الأخرى المخالفة لمعتقداتهم، بل علمتهم احترامها، واحترام من آمن بها عن إخلاص كما يقولون هم أنفسهم.
المناقشة الحرة تبين أنه عندما يستمع بعض العلماء إلى بعض، وينتقد يعضهم بعضا آخر، فإن الحظ يسعدهم أن يقتربوا من الحقيقة أكثر، ذلك أن العلم ينبت في أرض ثقافية، والمعارف مرتبط بعضها ببعض، كما يرى أبو حامد الغزالي، والأفكار ترحل وتسير، والعقول تتلاقح، والنظم النظرية مفتوحة، وهذا ما يكفل لها هذا اللون من الغنى الذي ينشأ عن لقائها وتفاعلها وتقاطعها، وعن انتقالها من حدودها إلى حدود معارف أخرى من علوم الطبيعة إلى علوم الإنسان في نسيج الثقافة العلمية الإنسانية، وكل هذا تولد من النظريات الأيدلوجية التي نشأت في أوربا ابتداءَ من الثورة الفرنسية ومرورا بالثورة الصناعية في غرب أوربا حتى عصر الأيدلوجيات في نهاية القرن الثامن عشر وحتى يومنا هذا.
فالفكر الأيدلوجي المتحرر الذي ثار على القيم الكنسية وخروج أوربا أيدلوجيا من عباءة الفكر الكنسي إلى فكر أكثر استشراقية وأكثر إنسانية كان عمليا علما بحد ذاته، لاشك في كونه علميا لأنه رسم طريق وسار على منهج واضح للوصول إلى غاية محددة ألا وهي تحرر الإنسان من الارتباط بالزمن والمكان، ليكون ارتباطه بالحرية والإبداع والتطور، وبذلك عدت الأيدلوجية فرع من فروع العلم وقننت علميا بموجب ضوابط فكرية تقوم على مبدأ تطور الإنسان وضرورة هذا التطور وارتباطه بالعلم والعقل، فلم يكن مثلا للفكر الفوضوي نجاح على الصعيد العملي لتناقضه مع الأسس العلمية للأيدلوجية المعاصرة.
لقد بلغ التوسع في إعادة الاعتبار للعقل بتوسع مساحة العلم المتاحة إلى إعادة ضم الكثير من النشاط الفكري الإنساني الذي أنتجه على مر العصور إلى قائمة العلم، وأغرب من ذلك فإن بول فرايرابند دعا إلى إعادة الاعتبار للسحر والتنجيم والكهانة والأساطير التي عزم العقليون على محوها من الأرض، وربما كان هذا إشارة إلى عرض من أعراض أزمة العقل الغربي، وما عزمت عليه جماعة ما بعد الحداثة من فك الثوابت، وهدم ما تعارف عليه أهل الغرب من العقلانية وصرامة المنهج والتقنية التقليدية ليستوعب العلم كل ما يعقله الإنسان ويتعقله طالما ان لهذا النشاط علاقة بوجود الإنسان وعلاقته مع الكون الواسع، حتى نثبت عدم فاعلية هذه العلاقة أو أنتفاء وجود النشاط الفكري ذاته، وهذا بالفعل أمر في غاية العلمية لان الوقائع التاريخية المعاشة قد أشارت إلى موت الكثير من النشاط الفكري الإنساني الذي عجز هو من مجارات العقل أو إقناعه على اقل تقدير بقبوله، فمن الممكن ان نشير إلى موت الفوضوية والطوطمية تدريجيا بمرور الزمن واختفاء أثارهما عمليا على الصعيد الوجودي للإنسان.
ولا ينفي هذا أن للعلم عموما وللمعرفة منطقا تنظيميا، فالعلم يملك نظاما ما يتكون من ثلاثة عناصر على الأقل ضرورية للوجود أو لنقل لاستمرارية العلم بالعمل لا يمكنه تجاوزها أو ألإفلات من مدارها، فهي إذن محددات وجودية ووجوبية:
1ـ عناصر نظرية (مفاهيم وأسس).
2ـ عناصر اجتماعية (مؤسسات علمية و سياسية علمية).
3ـ عناصر نفعية عملية (تقدم اقتصادي وتقني وتطور وارتقاء.).
وهي بمجملها عبارة عن عناصر ذاتية تتمثل بالمفاهيم العلمية والأسس العملية وهي المقدمة لكل علم، فبدونها لا يمكن تصور وجودية العلم أصلا، وعنصر موضوعي يتمثل بالمؤسسة العلمية التي تهتم بالعلم وتهيء العنصر البشري وهو أهم ركن من العناصر الاجتماعية في المؤسسة العلمية، وأخيرا ما يعرف حديثا بالبَنى التحتية للعلم وربط هذان العنصران بسياسة علمية واضحة تتبنى أهداف وغايات محددة وواضحة يتناول العنصر الثالث ويعتبر هو الغاية من كلية العلم وسر وجوده.
ومن وسائل فهم العلم وتاريخه الاعتماد على دراسة العلاقات بين هذه المكونات الثلاثة، فالعلم لا يلخص في مجرد النظريات والمعطيات والتجارب، لأن الأفكار ينتجها بشر ومؤسسات، ويأخذ بها علماء من البشر وتنتج غايات ومقاصد تتعلق بمصلحة الإنسان، فهي علاقة جدلية إذن بين العناصر الثلاثة علاقة جدلية تكاملية بالضرورة ولضرورات العلم تكوينيا.
هذا المنطق يقودنا إلى التعرف أكثر إلى النظرية السوسيولوجية والتي تعد هي الأكثر فهما واستيعابا لمعاني العلم لما لها من نظرة تقدمية ارتبطت بالفهم التفاعلي للفكر مع العقيدة، ووفق فهم حداثي أوسع من كون العلم شخصية متفردة بل يساوي بين العلم والثقافة، رؤية تتعلق بالحضارة كونها النشاط الأعظم والأكبر للإنسان وارتباط الحضارة بالعقيدة والفكر والوجود تلك مسلمات النظرية في تفسير العلم، فتعتمد على التحليل التاريخي للعلم، تحليلا قائما على علم الاجتماع أو علم النفس، ويرى أصحابه أنه إن كان العلم ثقافة مثل سائر الثقافات، وإذا كانت إرادة الصرامة في العلم والاهتمام بالموضوعية الذي يبديه العلماء أمرا مسلما به، فإنه مع ذلك يختفي وراءه بشعور أو بدونه مسلمات لا برهان عليها، وأيديولوجيات، وأهواء مضمرة، وممنوعات أيضا.
وإذا كانت جماعة العلماء جماعة إنسانية مثل غيرها من الجماعات بما لها من أهواء، واعتقادات، وسلطة، فإن تاريخ الوقائع العلمية، وما يكتنفها من عوامل سوسيولوجية إنما تصف لنا عملا إنسانيا ذا صلة بتاريخه وضغوطه الاجتماعية، ومرتبطا بالعقليات السائدة في المجتمع أو النخبة.
هنا نتلمس الحرية الواسعة للعلم التي منحته إياه النظرية الاجتماعية التاريخية ليشمل الكثير من المفاهيم الفكرية والنشاط الفكري ليكون علما منطويا تحت يافطته، فاسحة المجال لان يلعب العلم دورا أكثر إنسانية بانطلاقه لمديات اشمل موسعا للنطاقية التي تحدثنا عنها سلفا محررا الإنسان من تلك الصرامة والقدسية في المنهج، بحيث يجب على كل أنواع البحث أن تحترم المعايير العلمية، ولو في حدودها الدنيا من الصرامة، مثل التماسك المنطقي الداخلي بين الأفكار، والتطابق بين النظرية والظواهر التي تحكمها مما يزيد تراكم المعرفة وتقدمها، بحيث تضاف معرفة جديدة إلى معارف قبلها باستمرار، فيكون تاريخ العلوم في تطور مستمر مخترقا الخيال لا الوهم فالأخير ليس من العلم لافتراق بالتكوين، فالأول وجودي والثاني لا وجودي محض، كل ذلك لنصل بالأخر إلى نقد العلم أو ما يسمى بنقد الحقائق العلمية المتحصلة وفق المنهج العلمي، فكل علم جدير به أن يراقب خطابه بنقده ومناقشته ومواجهته بالوقائع بالبرهنة على نتائجه، ووضع قاعدة لها موثوق بها مؤقتا على الأقل، وإن كانت هذه النتائج ذات صبغة احتمالية، ومع ذلك فالخطأ يكمن في قلب المنهج العلمي، وفي لب الروح العلمية من الصعب تفاديه دائما، ولهذا فإن وظيفة المنهج العلمي هي الكشف عن الأخطاء التي تعاني منها الحقائق العلمية، فالروح العلمية إن هي إلا مقاومة متواصلة للضلال، ولا يتقدم العلم إلا بالنقد والمعارضة، إذ إنه لا يقوم على أرض مضمونة دائما.
ننتقل من وسائل فهم العلم إلى الاقتراب أكثر نحو الجوهرية المحضة له وعلاقة هذه الجوهرية بتطور مفهوم العلم باعتبارها الحركي لا الذاتي، فنجد أن العلم مثلا ما هو إلا نتاج أنساني عضوي شبيه لحد ما ببقية الضروريات الحياتية اليومية للإنسان، وان كانت تضطرد هذه الضرورية مع حركة التاريخ للأمام، فالإنسان ككائن حي لابد له من يأكل مثلا وله ان يتنعم وجاري عليه المرض والشفاء وكلها أعراض مادية لا تدوم الوجودية الإنسانية بدونها، كذلك كان العلم ضرورة وجودية له ولا نزعم لكل فرد أي لا نسبغ عليها الفردية المطلقة ولكنها فردية للنوع البشري، من ملاحظة ان العلم نشاط جمعي تراكمي تكاملي متسلسل يبدأ من الحاجة وينتهي أحيانا إلى الإفراط في الكمالية النسبية.
ليس المقصود بكلمة العلم هنا معناها المعاصر في العلوم الدقيقة فحسب، وإنما الغرض مفهومه العام الذي يشمل كل معرفة منظمة، عقلية منطقية كانت أو حسية تجريبية، فالعلم من حيث كونه نشاط فكري تعقلي يتخذ من العقل حجة فان مدارج العقل اكبر من أن يستوعبها العلم لوحده، فالجمال كقيمة اعتبارية ومثلها الخوف والأمل والذكريات وهي من المحسوسات بالتجربة تجد في العقل مدرك لها يفسر وجودها حدوثا وتعليلا وهُن بالمؤكد ليست من العلوم، به نظن ان مناط العقل كوعاء لتعقل العلم نجده يتسع أكثر فأكثر من خلال الكشف والملاحظة مولدا انفعالا شعوريا أحينا بالوجود ولا شعوريا أحيانا أخرى بالخيال والتأمل، وحتى تَقَبُل العقل للغيب ينطلق من قدرته لفهم الكثير من المفردات دون الحاجة لإخضاعها للمعادلة الرياضية أما كونها هي غير قابلة للإخضاع كمسألة الحب مثلا، أو لكون المفردة من المسلمات المرتبطة مع العقل وجودا وعدما وهو ما يسمى الفطرة، فهي بالنتيجة غير قابلة للتجربة لان العقل تقبلها كما هي ولا ينكر وجودها أصلا فهي علم متأصل بالعقل، وقد يضن البعض ان هذا العقل سابق على العقل تكوينيا ومستلزم لتكوين العقل بأقل تقدير.
العلم في معناه اللغوي إنما سمي علما لأنه علامة يهتدي بها العالم إلى ما قد جهله الناس، وهو كالعلم المنصوب في الطريق إذن هو نقطة دالة إرشادية ليس إلا بموجب من عرفه هكذا، فمن الجناية ان نفهم العلم بهذه السذاجة الفكرية فالعلم اكبر من ان يكون شاخصة في طريق ذو اتجاهات متعددة، فهو أما ان يكون كلية متكاملة من الموضوعيات والذاتيات التي تفسر ماهيات الوجود وأسباب بقاء هذه الماهيات، بل تساهم في تطوير وتطويع هذه الماهيات لتكون سلاح بيد الإنسان لمواجهة أزمة وجوده وتطوير هذه الأزمة لصالح حساباته هو، أو يكون مضمون النشاط الوجودي المرتبط بالعقل حدوثا وعدما واثر هذا النشاط على مسيرة الإنسان، وأيضا أثره في أزمة الوجود لديه، وفي الحالتين نفهم من معنى العلم الأركان التالية:
• ان العلم نشاط فكري بالدرجة الأولى وان استلزم العملية لاحقا فالفكر والتدبر والملاحظة المجردة هي أول العلم وليس المختبر هو الذي يكتشف العلم، فارتباط العلم بالنشاط الفكري يعني استلزام الحركية للفكر، بل هو من الضروريات المتقدمة له، وبهذا المعنى يستلزم العلم لكي يكون حركيا حرية أو فضاء من الحرية لإثبات الحركية، فالتقيد والتقيد يقلل من الحركة وبالتالي يضعف من النشاط المؤدي للعلم، فلا علم بلا حرية، لذلك نرى مثلا دور الانقلاب التحرري في أوربا نهاية العصور الوسطى وأثره في تسارع الوتيرة نحو الاكتشاف والاختراع مما مهد للثورة الصناعية وما أعقبها من حركية عالمية هزت الواقع الوجودي للإنسان، ليكتشف أخيرا ان ذات الإنسان تتغير بتغير المفاهيم الفيماحولية لديه.
• ان العلم وليد التجربة كما وليد الملاحظة المجردة وان كانت تسبقه من حيث الحدوث وهذا يعني ان أساس العلم قابلية في الإنسان تجعل منه عالما أو مستدلا على العلم، وهذه الميزة مرتبطة بتكوين الإنسان فهي موجودة لدية ابتدأً من خط الشروع وهو الخلق والتكوين، ولكنها تتقدم أو تتراجع تبعا لما أسميناه الفيماحولية التي تؤثر في الإنسان، فالأصل في الإنسان عالم طالما امتلك الصورة الكاملة له، أما التقدم أو التأخر فهو لاحق وليس بالضرورة مرافق.
• كون العلم مؤثر في الوجودية الإنسانية كان لابد له من ان يؤثر ويتأثر في محيط، هذا المحيط لابد للضرورة ان يكون مهيأ لتلقي العلم ومستوعب لرسالته، فلو ولد علم ما في بيئة ما وكان التناقض بينهما حاصل ولد العلم ميتا أو غير قابل للبقاء، فالتوافق ان لم يوجد أصلا كان من المحتم للعلم ان يصنع أو يمكن من صناعة البيئة الملائمة ولو بعد فاصلة زمنية، وهذه الخاصية تعطل أو تطور من الانطلاقة العلمية وهي ضرورية له، على ان تخلف البيئة عن العلم لا يحد من قدرته على الصراع لأجل البقاء طالما امتلك العلم الأصالة في مجالي الفائدة المتحصلة والضرورة المطلوبة.
• ارتباط العلم بالحاجة الإنسانية يستلزم تعدد أوجه العلم لتعدد الحاجات وتنوعها وهي من المسلمات العقلية، فالحاجة ليست متعددة فحسب بل مستجدة باستمرار وغير ثابتة بالوصف فما يعد حاجة كمالية اليوم لابد وان تتحول إلى حاجة ضرورية في الغد والعكس صحيح، لذلك نرى اتساع نطاقية بعض العلوم لاتساع نطاق الحاجة المرتبطة بها كالطب مثلا، ليس اتساعا أفقيا فقط بل واتساع عمودي أيضا تبعا للتطور التراكمي وازدياد الحاجات الطبية للإنسان بفرعيها العلاجي والوقائي، بل امتد إلى فروع جديدة لم تكن معروفة سابقا ولا له تطبيقات ماضية، أما اليوم فإننا نجد كبر المساحة المستغلة لهذه العلوم ومنها علم الهندسة الوراثية وعلم فلسفة الطب الاستشراقي.
• للعلم خاصية التجرد وهذه الخصوصية هي التي منحت العلم القدرة على التكيف مع الوجودية الذاتية له، وبدون هذه الخصوصية لشهدنا انزواء العلم إلى خانة التملك و الشخصنة التي تمنع من تطور وارتقاء ونشر العلم، هذا نراه فيما يسمى بالعلم اللاهوتي الكنسي منه والعرفان في وجه أخر كما هو في جنجلوتيات السحر المغلف بالخصوصية وستار من المتاهات الألغاز التي تتعارض مع التجرد، لذلك انزوت هذه العلوم وكادت ان تندثر لولا بعض المشاهدات التي تدل على حيوية بعض من فروع هذه العلوم وتمسك البعض بها.
• امتناع العلم من قبول الوهم حصنه من اختلاط القيم بين ما هو حقيقي وبين ما هو متوهم مبني على الخرافة، لكن السؤال المثار ما هي حدود الوهم؟ ومن يصنف الوهم على انه وهم؟هل العلم هو الذي يقوم بذلك أم عامل منعزل من يتولى المهمة؟ فان قلنا العلم هو من يتولى التميز أصبح العلم غير حيادي أو على الأقل هو الذي يفرض مواصفاته على ما سواه، وهذه منهجية غير عملية وغير ممكنة.
فلابد إذن من جهة خارجة عن العلم تتميز بالحيادية والمنطقية تتولى إدراك الوهمي من العلمي شريطة ان تكون هذه الجهة اكبر من العلم واصح من الوهم، حينها تتمكن من التفريق ولو عدنا إلى وجودية الإنسان تكوينيا نرى ان العقل هو وحده القادر على التميز بين العلم والوهم كتميزه بين الحسن والقبيح (اعلم أن الطريق إلى معرفة أحكام هذه الأفعال من وجوب وقُبْح وغيرهما هو كالطريق إلى معرفة غير ذلك، ولا يخلو: إما أن يكون ضرورياً، أو مكتسباً، والأصل فيه أن أحكام هذه الأفعال لابد من أن تكون معلومة على طريق الجملة ضرورة، وهو الموضع الذي يقول: إن العلم بأصول المقبحات والواجبات والمحسنات ضروري، وهو من جملة كمال العقل، ولو لم يكن ذلك معلوماً بالعقل لصار غير معلوم أبداً، لأن النظر والاستدلال لا يتأتَّى إلا ممن هو كامل العقل) .
• ارتباط العلم بالأخلاق من أوليات المحددات التي وضعت للعلم فكل علم لابد له من أخلاقية مرتبطة بأخلاقيات العقل ذاته، وهذا ما يفسر اختلاف الموازين العلمية في الحكم على المعرفة بصفتها المجردة كونه متولد من العلم ومولد له بطريق الحث والتطور وبعد ما انقطعت صلة العلم بالأخلاق، في الغرب نرى لدى بعض الفلاسفة اليوم مبدأ الالتزام الخلقي، كما نجد ذلك عند الفيلسوف "رورتي" حيث بين أنه مع جماعة من البرجماتيين الجدد لا يملكون نظرية في الحقيقة، لأنهم من أنصار التضامن، ويقوم تفسيرهم لقيمة العلم والبحث الإنساني على قاعدة أخلاقية، لا على نظرية المعرفة، ولا على الميتافيزيقا، وهذا العنصر الأخلاقي هو الذي فقده العلم الغربي اليوم.
ولذلك نشأت أزمة العقل وأسس المعرفة، فكاد الناس في الغرب ييأسون من العقل، والعلم، والتقدم، لفقدان عنصر آخر يدعم هذا العلم الإنساني ويغذيه، ويربطه بوجود آخر غير الوجود المشاهد المحسوس، وهو الأمر الذي يضمنه الإسلام في احترامه لعقل الإنسان وكرامته، وأشار أبو حامد الغزالي إلى معنى اتفق فيه مع رأي تلازم العلم مع العقل تلازم استصحاب وبالتالي حاكمية الأخلاق على العلم، فالعقل عنده أيضا: غريزة يتهيأ بها إدراك العلوم النظرية ، فنسبة هذه الغريزة إلى العلوم المكتسبة كنسبة العين إلى الرؤية، ونسبة القرآن والشرع إلى هذه الغريزة في سياقها إلى انكشاف العلوم لها كنسبة الشمس إلى البصر .
وسوى الأشعري لم ينفي احد وجود الرابط بين العقل والعلم، ولا فرق عنده بين عقلت وعلمت وعرفت، أما الراغب الأصفهاني (ت503هـ ) فعرفه تعريفا لطيفا وقال إنما: سمي العقل عقلا من حيث إنه مانع لصاحبه أن تقع أفعاله على غير نظام، وسمي علما من حيث إنه علامة على الشيء، ولا يجد الراغب فرقا بين النظام والأخلاق فهو يستوجب الأخلاق للنظام كحاجة الأخلاق للانتظام، وبالتالي فكل ما هو منتظم يرغبه العقل كما يرغب العقل الأخلاق لأنها ناظمة للفكر والسلوك البشري السوي، وهذه الفرضية يتم التعرف عليها حديثا من خلال اكتشاف أزمة العلم الغربي واتجاهه نحو الانفلات من الضوابط الناظمة وهو سر عقلنة العلم، طالما انه مسخر لحاجات البشر وضروراته الوجودية، فالعلم العبثي أو العلم الظاهر ليس بعلم وفق المقاسات الأخلاقية الانضباطية لأنه يؤدي بالنهاية إلى تدمير الوجودية التكوينية للإنسان.
• حاجة العلم إلى العمل حاجة ملحة بها يمكن اختبار جدية العلم وقدرته للفعل المؤثر والمسيطر على مخاوف الإنسان وانشغالاته وهواجسه وهو يحاول تأبيد وجوديته النسبية على الأرض، فحاجة العمل للعلم وهي ضرورية للإتقان ليس بأقل من حاجة العلم للعمل، ويلاحظ الراغب الأصفهاني ما للعلم في الإسلام من صلة وثيقة بالعمل، فيشير إلى تلك العلاقة اللغوية بين "علم " و"عمل "، فالعلم مقلوب العمل، وهذا يومئ إلى هذه العلاقة المتينة في العقلية العربية ذات الوجهة العملية في الحياة، ولذلك فسر المفسرون الحكمة في العربية بأنها إحكام للعلم، وإحكام للعمل معا، فهي تحقيق العلم، وإتقان العمل.
ولكي نستوضح صحة العلم علينا ان نمتحن قدرة العقل على التميز ولا يتم التميز إلا بالعمل المجرد من خلال الحكم على الظاهرة وارتباط هذه الظاهرة بما أوجبه العقل (أن صحة ما أوجبه العقل عرفناه بلا واسطة وبلا زمان، ولم يكن بين أول أوقات فهمنا وبين معرفتنا بذلك مهلة البتة، ففي أول أوقات فهمنا علمنا أن الكل أكثر من الجزء، وأن كل شخص فهو غير الشخص الآخر، وأن الشيء لا يكون قائماً قاعداً في حال واحدة، وأن الطويل أمدُّ من القصير، وبهذه القوة عرفنا صحة ما توجبه الحواس، وكلما لم يكن بين أول أوقات معرفة المرء وبين معرفته به مهلة ولازمان فلا وقت للاستدلال فيه، ولا يدري أحد كيف وقع له ذلك، إلا أنه فِعْل الله عز وجل في النفوس فقط، ثم من هذه المعرفة أنتجنا جميع الدلائل) .
وينبغي هاهنا أن نشير إلى ظاهرة أزمة الأسس، وأزمة الثقة بالعقل والعلم عند الغربيين، حتى ظن بعضهم أنهم سيعلنون عن موت العلم، وفعلا فإنه أعلن بعضهم عن أزمة العلوم الأوروبية، ووضعت العقلانية الأوروبية عامة، ووجهها البارز الميتافيزيقا موضع تساؤل، وأصبح الشعار: كل حقيقة هي خطأ لم يبت فيه بعد، معلنا وأنه لا يتصور مستقبل للعلم إلا في حدود قطيعة ابستمولوجية، وإعادة تنظيمه تنظيما جذريا ففي كل مرحلة من مراحل التاريخ يشكل العلم فيه بناء مستقلا، باعتباره نموذجا جديدا منقطع الصلة بما قبله من النماذج وكل ذلك نابع من تخلف العمل عن العلم وبالعكس مما شكل أزمة ثقة بالعلم والعقل على حد سواء.
• استحالة ربط العلم بالمدى المحدد له يعني لنا ان العلم وان أمكن معرفة حدوده الذاتية إلا إننا عاجزون عن تحديد حدوده الموضوعية أو إعطاء إطارية خاصة به تميزه عن سائر المعارف الإنسانية، لهذا نرى رتشارد فيردمن الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء سنة 1966 يقف موقفا صريحا من غموض مفهوم العلم ومعناه فيقول (اشتغلت بالعلم طوال حياتي عارفا تماما ما هو، ولكن الإجابة عن السؤال: ما هو العلم؟ هو الأمر الذي أشعر أني عاجز عنه!)، تماما هذا القول من رجل خبر العلم خبرة تنفيذية عملية ولكن عند إعطاء الوصف لما اشتغل به وجد عجزا كبيرا في بيان ماهية العلم وحدوده الموضوعية، إلا ان كل ما يقيل لا يمثل لنا عجز بل يمثل قوة العمل مقابل محدودية المصطلح المناسب وهذا ولد أيضا أزمة معرفية أخرى تضاف إلى أزمات الإنسان وهو يحاول بيان المجهول فإذا هو يتيه في معرفة المعلوم .



#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)       Abbas_Ali_Al_Ali#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في معنى العلم وماهيته كنطاق معرفي؟ ح2
- الخلود وسقوط فكرة الزمن
- محاولات فهم الخلود بين الفلسفة والدين
- حتمية الموت وعلاقته بالاستحقاق الحتمي
- نظرية الأنا والأخر _ بحث في معنى التفريق والتميز
- المدنية وضمان الممارسة الديمقراطية
- المدنية والإسلام السياسي
- يوم كنا واحد.....
- العقل في الإنساني بين التعرية أو السؤال
- مفهوم التداولية الفكرية
- موقفنا من الفلسفة بعين الزمن
- كنت أخدع القدر
- في فهم الخطاب الغربي وخلفياته العقيدية ح7
- في فهم الخطاب الغربي وخلفياته العقيدية ح5
- في فهم الخطاب الغربي وخلفياته العقيدية ح6
- في فهم الخطاب الغربي وخلفياته العقيدية ح4
- في فهم الخطاب الغربي وخلفياته العقيدية ح3
- في فهم الخطاب الغربي وخلفياته العقيدية ح2
- في فهم الخطاب الغربي وخلفياته العقيدية ح1
- الوجود في أساطير الخلق الأولى الحلقة السادسة


المزيد.....




- نقل الغنائم العسكرية الغربية إلى موسكو لإظهارها أثناء المعرض ...
- أمنستي: إسرائيل تنتهك القانون الدولي
- الضفة الغربية.. مزيد من القتل والاقتحام
- غالانت يتحدث عن نجاحات -مثيرة- للجيش الإسرائيلي في مواجهة حز ...
- -حزب الله- يعلن تنفيذ 5 عمليات نوعية ضد الجيش الإسرائيلي
- قطاع غزة.. مئات الجثث تحت الأنقاض
- ألاسكا.. طيار يبلغ عن حريق على متن طائرة كانت تحمل وقودا قب ...
- حزب الله: قصفنا مواقع بالمنطقة الحدودية
- إعلام كرواتي: يجب على أوكرانيا أن تستعد للأسوأ
- سوريا.. مرسوم بإحداث وزارة إعلام جديدة


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عباس علي العلي - في معنى العلم وماهيته كنطاق معرفي؟ ح1