أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - داود السلمان - ذكريات بطعم التعاسة(2)














المزيد.....

ذكريات بطعم التعاسة(2)


داود السلمان

الحوار المتمدن-العدد: 6569 - 2020 / 5 / 20 - 15:35
المحور: سيرة ذاتية
    


واتذكر في يوم من الايام أخذت معي قرصة حافية من الخبز، وكنت قد وضعتها في جيب بنطالي، ولما قرع الجرس معلنا بدأ الفرصة، أخرجت قرص الخبز ذاك، واتخذت لي مكانا قصيا، ملتفتاً يميناً وشمالاً، كأنني لص محترف، ورحت أقضم القرص بنهم، كي لا يراني أحد الطلاب، وكيلا اصبح حديث سخرية بينهم. بعدها لم اكرر تلك الحادثة، وأخذت الوم نفسي: كان يجب عليّ إن لا افعل ذلك حتى لو تمزقت احشائي بسكاكين الجوع.
المدرسة كانت تقع ليست قريبة عن منزلنا، بل كانت المسافة التي اقطها سيرًا على الاقدام، حوالي ميلين أو اكثر، وكانت الجادة ترابية غير مبلطة، ففي الصيف يصعد لهيب التراب الساخن الى جمجمتي، فيتصبب العرق من كل انحاء جسمي كوابل في حالة غصب. وأما في الشتاء، فلم أصل الى ابواب المدرسة الا وأنا قطعة من الطين، وانا احتذي حذاءً بلاستيكيًا طريًا لكن من دون جواريب.
وعند العودة الى المنزل فتلك هي الطامة الكبرى، حيث يخيم الظلام ويصبح الطريق موحشا فالشوارع خالية من الاضاءة قد هجرها النور، او قُل بالأحرى انها لم تعرف النور مذ ولادتها.
وكم من مرة يداعب مخيلتي الخوف، فاشغل نفسي بقراءة المعوذتين واكرر الصلوات على النبي، أذ اتخايل أن يقفز جني من بين ثقوب الظلام ويمسك بناصيتي أو يهب الى عنقي، أو يدخل في رأسي فاصبح مجنونا، ومجنون رسمي، فقد سمعت جدتي كثيرًا وهي تحدث أمي عن العفاريت والشياطين وعن الجن المارد، وعدة مرات حلمتُ بالجن، فأفز مرعوبًا، وعندما اتذكر ذلك الحلم وانا أسير في الظلام متجها الى المنزل، واكاد أن أصرخ من شدة الظلام الدامس، خصوصًا ايام الشتاء. وحينما أصل المنزل اتنفس الصعداء، فاجد أمي الحنون بانتظاري لتقدم لي العشاء، وهو عبارة عن قرص من الخبز وقليلا من العسل الاسود (دبس التمر) أو بيضة مسلوقة، فأتناولها واذهب الى الجيران كي اتفرّج على التلفزيون، وتأتي أيام لا أجد لدى أمي غير قرصة من الخبز وكوب من الشاي تقدمه لي عشاءً فاخر- تقدمه أمي وهي تتنهد وتتحسر بحركة الم تهز الجبال الراسيات. ومن يدرك تحسر الام حينما تشعر بقسوة الحياة، الام التي وهبها الله أحن قلبا، واعظم صبرًا، واشد تحملا لمدلهمات الاسى والشجن؟.
وفي يوم من الايام ذهب والدي الى أحد اقربائنا، وكان يعمل نجارًا لصب سقوف المنازل، فرجاه وتوسل اليه أن يتفضل عليه كي أعمل معه كصانع.. فاستجاب الرجل.
وهكذا اخذت اعمل مع قريبنا، وكان يعطيني في اليوم دينارًا عراقي، والذي بحساب اليوم ليس له أي قيمة، ولكن في تلك الفترة أي فترة الثمانينيات، فله قيمة لابأس بها.
وكان يسمح لي بالانصراف قبل الدوام في المدرسة بساعة واحدة. وكنت اكثر الاحيان لا ادخل الحمام لأستحم بل أفضّل الذهاب مباشرة الى المدرسة وادخل الصف بكامل زينة العمل، اليس الشعار كان مرفوعاً (عملك شرفك). وحينما يراني المدرس وانا بملابس العمل كان يُكن لي بعض الاحترام والتقدير، كذلك بعض الطلاب ايضا يعملون بأعمال مختلفة واحيانا يأتون الى المدرسة ويدخلون الصف وهم بهذه الهيئة (شرف العمل).
وأتذكر في يوم من الايام كان أحد أصدقائي يعمل صباغ أحذية في منطقة (الباب الشرقي) ودائمًا يأتي متأخرًا الى الدرس.
وفي مرة من المرات كان لدينا امتحان شهري فدخل زميلي هذا الى الصف وهو بعدة العمل، وكانت العدة عبارة عن صندوق خشب لصبغ الاحذية مع كامل محتوياته، وحينما دخل وهو في هذا المنظر ذُهل بعض الطلاب الذين لا يعلمون بعمله، فضحك بعضهم، لكن المدرس زجرهم ونهرهم بشدة، وأما هو فكانت الدمعة تتلجلج في مآقيه لكنها أبت السقوط.
وبعد الامتحان الشهري اعطاه المدرس أعلى درجة، أراد بذلك أن يعيد له الاعتبار، ويوصل لهم رسالة بأن العمل شرف، بل هو الشرف العظيم، وذلك لأن المدرس ذاك كان طيب القلب رقيق الفؤاد، يتقطر نبّلا ويفيض اخلاقا، ويحمل روحًا انسانية قلّ نظيرها.
كان يحترم الذين يعملون نهارًا ويدرسون عصرًا. فيعتبر هؤلاء الكادحين يستحقون العون والمساعدة والاحترام. لأنهم جذوة المستقبل التي ستُنير طريق البناء وتعمّر الاوطان، وتشيّد الجسد الانساني.
كان هذا المدرس يمتحنا من ثمانين بالمئة ويعطي عشرون درجة على الاخلاق والسلوك الحسن داخل الصف، وكنا نحن الذين نعمل يعطينا درجة الاخلاق والسلوك كاملة بهدف التشجيع والمساعدة.
وبعد ذلك أصبح لدي نقود اضعها في حافظة جلدية، حيث أأتي الى المدرسة وحافظتي لا تخلُ من النقود، حتى صرت أشتري الصمون والعنبة من الحانوت، بعض الحلويات والمشروبات الغازية، وفي اليوم الذي يأتي صديقي صباغ الاحذية بدون نقود، لأنه عادة ما يعطي كل ما يربحه الى والدته، لأن ظرفه المادي اصعب من ظرفنا جميعًا. فكنت بعض المرات اشتري له الصمون والعنبة، حتى صار من اصدقائي الحميميين، وفي يوم الجُمع وهي عطلة الاسبوع كنت اذهب الى زيارته في المنزل واسلم على والدته، تلك المرأة الطيبة التي كانت تناديني بـ(خالة) وتوصيني بولدها عادل صديقي. وبعد أن تخرجنا من مرحلة المتوسطة، تفرقنا، وابعدتنا الايام ففقدت صديقي هذا الى الابد حيث لا اعلم اين حلت به ركاب الحياة.
وفي تلك الفترة كنا نذهب الى السينما في عطلة الاسبوع، ولا نكاد نترك اسبوعا لم نشاهد فيه فلمًا من الافلام الهندية، أو فلما من الافلام العربية. كانت معظم دور السينما تقع في شارع السعدون ببغداد (والسعدون هذا له قصة طويلة، اذ كان، محسن السعدون، هو رئيس وزراء العراق في العهد الملكي، ويا ليته بقى ذلك العهد، فقتل نفسه منتحرًا في ظروف غامضة) كانت السينمات هي: سينما بابل، وسينما النصر وسيمنا النجوم، وسينما اطلس، وسينما الميامي والخيام وشهرزاد وغيرها، وكنا نحب الافلام الهندية، حتى كنا بعض الافلام لأكثر من مرة.



#داود_السلمان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الشيخ عبد الرازق والقول بتفلسف ابن تيمية2/ 2
- الشيخ عبد الرازق والقول بتفلسف ابن تيمية1/ 2
- الختان كما يراه فرويد
- فلسفة الفن عند زكي نجيب محمود2/ 2
- فلسفة الفن عند زكي نجيب محمود1/ 2
- جريمة الاغتصاب: تحليل سيكولوجي2/ 2
- جريمة الاغتصاب: تحليل سيكولوجي 1 /2
- أبن خلدون ونبذ الفلسفة(1)
- (فجر الاسلام) وموضوع الزرادشتية(2)
- (فجر الاسلام) وموضوع الزرادشتية(1)
- التصوّف في نظر العقاد
- هل مكيافيللي يؤمن بالحظ؟
- علي الوردي وحديث المتصوّفة
- ظاهرة الانتحار: تحليل ترانسندنتالي
- كورونا الفتاوى تقتُل فيلسوف الاشراق
- تائهون بأحلامٍ منفية
- كوفيد - 19 : تحليل ترانسنتدالي
- السعداوي: الأنثى هي الأصل 1/ 2
- السعداوي: الأنثى هي الأصل 2/ 2
- صراع الدين والعلم 2 / 2


المزيد.....




- مراهق اعتقلته الشرطة بعد مطاردة خطيرة.. كاميرا من الجو توثق ...
- فيكتوريا بيكهام في الخمسين من عمرها.. لحظات الموضة الأكثر تم ...
- مسؤول أمريكي: فيديو رهينة حماس وصل لبايدن قبل يومين من نشره ...
- السعودية.. محتوى -مسيء للذات الإلهية- يثير تفاعلا والداخلية ...
- جريح في غارة إسرائيلية استهدفت شاحنة في بعلبك شرق لبنان
- الجيش الأمريكي: إسقاط صاروخ مضاد للسفن وأربع مسيرات للحوثيين ...
- الوحدة الشعبية ينعي الرفيق المؤسس المناضل “محمد شكري عبد الر ...
- كاميرات المراقبة ترصد انهيار المباني أثناء زلازل تايوان
- الصين تعرض على مصر إنشاء مدينة ضخمة
- الأهلي المصري يرد على الهجوم عليه بسبب فلسطين


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - داود السلمان - ذكريات بطعم التعاسة(2)