كريم الوائلي
كاتب وناقد ادبي وتربوي .
(Karim Alwaili)
الحوار المتمدن-العدد: 6562 - 2020 / 5 / 12 - 10:31
المحور:
الادب والفن
لقد أحدث التمايز الذي أرساه دي سوسير بين اللغة والكلام تغيرا في كيفية النظر إلى عملية الإبداع الشعري ، مما أسهم بشكل فاعل في تغيرات جوهرية تتصل بالمناهج النقدية والنظريات الأدبية ، وكان النظر إلى اللغتين المعيارية والفنية أحد أبرز هذه القضايا التي ساهم في تجليتها وبلورتها انجازات دي سوسير اللغوية .
وتمثل اللغة عند دي سوسير القواعد الذهنية الثابتة التي تصالحت عليها الجماعة البشرية، أو بالتعبير التراثي ما تواضعت عليه الجماعة ،أو هي« نظام من علاقات وصيغ وقواعد ، ينتقل من جيل إلى جيل وليس له تحقق فعلي ، لأن الناس لا يتكلمون القواعد وإنما يتكلمون وفقاً لها » اما الكلام فهو الاستخدام الفردي الذي يمارسه الإنسان العادي ، أو هو «كل ما يلفظه أفراد المجتمع المعيّن ، أي ما يختارونه من مفردات أو تراكيب ، ناتجة عما تقوم به أعضاء النطق من حركات مطلوبة » .
وما يؤديه الإنسان ـ عالما أو أديبا ـ إنما هو الكلام وليس اللغة ، لأن اللغة وجود جماعي مستقر في لا وعي أهل اللغة ، ومن ثم يهدف المرسل إلى توصيل الدلالة إلى المتلقي ، ولا يخترع المرسل ـ في كل مرة يتكلم بها ـ كلمات جديدة ، أو قواعد صرفية ونحوية جديدة ، بل على العكس من ذلك يلتزم التزاما صارما بها جميعا ، ولكنه لا يكرر جملا محفوظة ، وإنما يستخدم إمكانات اللغة ليعبر عن تصوراته الخاصة .
إن التعبير عن التصورات الخاصة يتم بطريقتين ، تتحدد كل واحدة منها من حيث وظيفتها وخصائصها الذاتية ، فالأولى : معيارية ، يراد منها مجرد التوصيل ، وبذلك يتم انتقاء المفردات الدالة لتدل على المعاني التي يروم المتكلم التعبير عنها ، وهذا ما يتحقق غالبا في الدراسات المنهجية علمية وانسانية ، او حتى مجرد الكلام العادي الذي يهدف لمجرد التوصيل فحسب . والثانية :فنية ، لا يقصد منها التوصيل المباشر ، وإن كان الأداء يتضمن توصيلا بطريقة معينة ، بمعنى أن الهدف الأساسي هو التأثير ، ومن ثم ينعكس ذلك على طبيعة الأداء الذي يختلف هو الآخر ، في كيفية اختيار الكلمات ، وكيفية تضامها .
إن كلاً من الأداءين يصدر عن جهد فردي خاص يؤديه المرسل ،ويتوافق مع أنساق اللغة ،وتتداخل اللغتان الفنية والمعيارية في الأداة والوظيفة، ولا تعد اللغة الفنية نوعا من المعيارية ، لأن لكل منهما أدواتها ، وتراكيبها ، ومعجمها الخاص ، فضلاً عن اختلاف وظيفتيهما ، وبقدر ما تستقل اللغة الفنية عن اللغة المعيارية ، وتتمايز عنها ، فإنها تتداخل معها ، وترتبط بها ارتباطاً وثيقاً ، إذ لا يمكن أن يتحقق المستوى الفني للغة دون أصل موجود أو مفترض تنحرف عنه
وهذا ما يفسر حرص النقاد على تبيين أصل الكلام أو أصل المعنى ، لأن أصل الكلام ـ فيما يقول موركافسكي ـ هو « الخلفيّة التي ينعكس عليها التحريف الجمالي المتعمد للمكونات اللغوية للعمل ، أو - بعبارة أخرى -الانتهاك المتعمد لقانون اللغة المعيارية » .
وقد ميّز النقاد اللغة الفنية عن اللغة المعيارية وأدركوا طبيعة العلاقة بينهما ، من حيث الماهية ، والأداة ، والوظيفة ،وفي هذا السياق يعرض الشريف المرتضى موقفه النقدي ، مستخدماً في ذلك الوسائل العقلية التي ورثها عن المعتزلة في مواجهة النص ، ويناقش الحكم النقدي الذي أصدره الآمدي على قول أبي تمام ، وهو يًعزّي نفسه برحيل الشباب ومجيء الشيب :
عَمَّرَتْ مَجْلِسيِ مِنَ الْعُوَّادِ
حيث يعلق الآمدي على هذا النص بقوله : « لا حقيقة لذلك ولا معنى ، لأنا ما رأينا ولا سمعنا أحداً جاءه عواد يعودونه من المشيب ، ولا أن أحداً أمرضه الشيب ، ولا عزّاه المعزّون عن الشباب » ، وواضح من كلام الآمدي أنه يغفل المستوى الفني للنص ويعامله معاملة النص العلمي ، ويعارض الشريف المرتضى هذا الفهم السطحي، ويتجاوزه إلى فهم الأبعاد الجمالية ، كما يهاجم الآمدي بسبب عدم فهمه لأبي تمام ، لأن تعليقه السابق يدل على « قلة نقد للشعر ، وضعف بصيرة بدقيق معانيه التي يغوص عليها حذاق الشعراء » ، وقد حاول الشريف المرتضى أن يقترب من النص ، عندما أدرك أن أبا تمام لا يقصد العيادة الحقيقية ، « وإنما هذه استعارة وتشبيه وإشارة إلى الغرض خفية ... وهذا من أبي تمام كلام في نهاية البلاغة والحسن ، وما العيب إلا من عابه وطعن
عليه »، وإن اللغة الفنية فيما يقول الشريف المرتضى : مبنية « على التجوز ، والتوسع والإشارات الخفية ، والإيماء على المعاني تارة من بُعد ، وأخرى من قُرب » ، وعندما تغفل هذه الخصائص ، وتعامل اللغة الفنية معاملة اللغة المعيارية ، فإن ذلك يفضي إلى نتائج غاية في الخطورة ، تؤدي إلى الضلال والخروج من الشريعة على مستوى النص الشرعي ، وإلى بطلان الشعر كله على مستوى النص الأدبي ، و« إن الشاعر لا يجب أن يؤخذ عليه في كلامه التحقيق والتحديد ، فإن ذلك متى اعتبر في الشعر بطل جميعه » وإذا كانت لغة الفيلسوف أو صاحب المنطق تهدف إلى إيصال المعرفة المجردة من الانفعالات ، وتقدم الجانب التوصيلي على الجانب الجمالي ، فإن لغة الشاعر تهدف إلى إيصال المعرفة الشعرية ، عن طريق إثارة الانفعالات ، وتقدم الجانب الجمالي على الجانب التوصيلي ، ومن ثم فهي تترفع عن لغة الفلسفة والمنطق والقياس ، ولا تحتكم إلى القواعد والمعايير النحوية ، ولذلك فإن اللغويين فيما يرى الحداثيون غير قادرين على نقد الشعر، «إنما يعلم ذلك من دُفِع في مسلك الشعر إلى مضايقه،وانتهى إلى ضروراته » .
وتتجلى الرؤية في وضوحها المنهجي عند قدامة بن جعفر ، لتبصّر اللغويين بضرورة مراعاة هذا المسلك ، وتجنُّبهم الخلط بين مستويات الكلام المختلفة ، وقد نظر قدامة بن جعفر إلى العلوم التي تختص بالشعر فوجدها أقساماً عديدةً ، « فقسم ينسب إلى علم عروضه ووزنه ، وقسم ينسب إلى علم قوافيه ومقاطعه ، وقسم ينسب إلى علم غريبه ولغته ، وقسم ينسب إلى علم معانيه والمقصد به ، وقسم ينسب إلى علم جيده ورديئه » ، فقد وضح قدامة من جملة ما وضح ، أن علم اللغة والغريب الذي عًنِيَ به أصحاب المذهب القديم ، وفرضوه على الشعر ، يختلف عن علم جيد الشعر ورديئه، الذي اعتنى به ، وألّف فيه . ويتفق أبو بكر الصولي مع قدامة بن جعفر في إدراك التمايز بين اللغة الفنية واللغة المعيارية ، وذلك في دفاعه عن أبي تمام ، وقد أصبح شعره يتعرّض للنقد الخاطئ من اللغويين ، حيث يقول : « أتًراهم يظنون أن من فسّر غريب قصيدةٍ ، أو أقام إعرابها ، أحسن أن يختار جيّدها ، ويعرف الوسط والدّون منها ، ويميّز ألفاظها ؟ » ويقف القاضي الجرجاني مع المتنبي الموقف نفسه ، لأن بعض المعترضين على شعره
« نحويٌّ لغويٌّ لا بصر له بصناعة الشعر » .
إن هذه التصورات الحداثية تدعو إلى التفريق بين مستويين من الكلام :
مستوى معياري : يعتمد على العقل ، ويُستخدم في العلوم القياسية كالفلسفة والمنطق والنحو ، وهذا المستوى يجب أن يُستبعد عن الفنون الكلامية .
ومستوى فني : يعتمد على الخيال والعاطفة ، ويُستخدم في اللغة الفنية ، وهذا المستوى ينبغي اعتماده في تقويم الفنون الكلامية ، لأن الشعر فيما يقول القاضي الجرجاني : « لا يًحبّب إلى النفوس بالنظر والمحاجة ، ولا يًحلَّى في الصدور بالجدال والمقايسة ؛ وإنما يعطفها عليه القبول والطلاوة ، ويقرّبه منها الرونق والحلاوة ؛ وقد يكون الشيء متقناً محكماً ، ولا يكون حلواً مقبولاً ، ويكون جيداً وثيقاً ، وإن لم يكن لطيفاً رشيقاً ، وقد يجد الصورة الحسنة والخلقة التامة مقلّية ممقوتة ، وأخرى دونها مستحلاة موموقة ؛ ولكل صناعة أهلٌ يرجع إليهم في خصائصها ، ويستظهر بمعرفتهم عند اشتباه أحوالها » ، ويكشف القاضي الجرجاني في هذا النص عن الأسس النظرية للغة الفنية ، حيث يستبعد كل المعطيات العقلية عن ميدان اللغة الشعرية ، فالنظر والمحاجة والجدل والمقايسة جميعها أدوات عقلية بعيدة عن طبيعة الشعر ، والشعر لا يحبب إلى النفوس بمثل هذه المعطيات ، وإنما يحبب إليها بالإعجاب الشديد المتمثل في القبول والطلاوة والرونق والحلاوة ، التي تدعو إلى الإثارة وتولد الاستجابة للموضوع الشعري معه أو ضده . وعلى الرغم من أن القاضي الجرجاني لم يوضح سمات اللغة الفنية ، وكاد أن يجعلها مسألة ذوقية غير قابلة للتفسير ، فإن قيمة تصوره ترجع إلى إدراك التباين الشديد بين لغة تصدر عن العقل والمنطق ، وأخرى تصدر عن الخيال والانفعال والشعور.
#كريم_الوائلي (هاشتاغ)
Karim_Alwaili#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟