أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - محمود الصباغ - حدث ذات صيف في دير الزور














المزيد.....

حدث ذات صيف في دير الزور


محمود الصباغ
كاتب ومترجم

(Mahmoud Al Sabbagh)


الحوار المتمدن-العدد: 6527 - 2020 / 4 / 2 - 05:13
المحور: سيرة ذاتية
    


مازلت أذكره حيث كنت أتعمد زيارته في شارع حسن الّطه المزدحم دائماً بسبب أم بدون سبب. كان يجلس على الرصيف أمام دكانه المغلقة, بالأحرى مكتبته المغلقة بالشمع الأحمر*, ويمكن للمرء أن يميز حبلاً يمتد بعرض الواجهة معلق عليه بملاقط غسيل أعمال ناجي العلي وعلي فرزات و غيرها من الرسومات السياسية الساخرة
هل عرفتموه؟
أتعرفون ذلك النوع من البشر الذي لا يخشّ أن تُسرقُ منه بضاعته بحضوره, إذ سوف يمنحها من تلقاء نفسه عاجلاً أم آجلاً كما يقال
نعم إنه هو, فلن يتوه عنه أحد, إنه جاك جرجس عبد الله أو أبو عبد الله كما يحلو للديرين أن يطلقوا عليه .. إنه جاك العبدالله الذي ورث عن أبيه محلاً لتجارة و بيع الأقمشة وسط سوق " ستة إلا ربع" الشهير, لكنه هجره ليتاجر بما يخفف وجع الناس فكانت مكتبه الشهيرة في دير الزور و كان شعاره " لا يهم إن لم يكن معك ثمن الكتاب, خذه و اقرأه فهذا هو المهم وادفع لاحقاً أو حتى لا تدفع "
عندما كنت أتردد على دير الزور وعندما أنتهي من عملي كان أختار المشي في شارع التكايا, ثم انحدر يميناً صوب شارع " حسن الطّه ", وفي كل مرة أصل هناك لابد أن أتأمل تلك المكتبة المغلقة المختومة بالشمع الأحمر.
أذكر إني سألته في آخر مرة زرت فيها دير الزور مَ هي فوضى و قايمة, ليش ما تفتح المكتبة يا عم عبد الله " وهذه الجملة الأخيرة نطقتها بلهجة مصرية تقريباً كنوع من التحبب مثلما ينطق الشيخ إمام كلمة ( يا عم حمزة في أغنيته الشهيرة) " , فضحك وسألني كم عمرك " يا شب" نظرت إلى نفسي مستطلعاً ثم أجبته فيك تقول نصف قرن.. هز رأسه و قال ( أجزم أنه قالها بخبث) ..عد لأهلك يا وليدي.. عد بسرعة, وتذكّر جلستنا هذه لأنها لن تتكرر ثم قام ينفض الغبار عن حنظلة وهو يردد:" مثل ما أنا شايفك والله لن يبق حجر على أخوه من تحت راس القواد ابن القواد اللي بالشام... لا حجر و لا بشر... ولا شجر بعد ", ثم ركّز نظره نحوي من جديد وقال نصف قرن و لم تحتج؟ إلى متى أيها اللاجئ العزيز؟ سقط الصمت بيننا وبلعت ريقي و ترتكه و مشيت نحو شارع سينما فؤاد إذا من غير الممكن أن لا أتذوق الكليجة الديرية قبل أن أغادر إلى دمشق, وقبل أن أنعطف مغادراً الشارع التفت نحوه فكان مازال ينفض الغبار عن حنظلة غبر مبالٍ بما حوله.
في الفندق, في الليل تذكرت عبارته " إن لم تحتج الآن متى ستحتج ؟" على وقع زخات الرصاص القادمة من مكان قريب, قلّبت عبارته تلك, دلقتها أمامي فمع اقتراب صوت الرصاص والصراخ من الخارج بين الحين و الآخر وغرق المدينة في الظلام لانقطاع الكهرباء يفقد المرء الرغبة في استعراض مهاراته وتجاربه الذهنية, وحين ينهمر الصمت ثقيلاً فجأة يسلك العقل ممرات ذهنية مراوغة للتغلب على هذا المثلث المخيف الجديد " الصمت والليل والرعب" أعلم في قرارة نفسي أن هذا الصمت مؤقت وهذا ما يجعلني متوتراً, ولكن هل حقاً بسبب الصمت فقط؟ أم بسبب الليل أو الرعب؟ هل هذا هو الترتيب الصحيح لهم؟ اختلاف الترتيب بينهم يجعل التنفس أكثر صعوبة ويصبح عبء ثقيلٌ مثل أمراض الشتاء. يختلُّ المثلث بفقدان أحد عناصره إذ يعود الرصاص من جديد... رشقات كلاشينكوف بعيدة, ويقترب الصوت أكثر دون انقطاع وبغزارة هذه المرة, لابد أن هناك أكثر كلاشينكوف لتداخل زمن نغمات الرصاص واختلاف الرمي, ويعوّض الصمت الآن ضلع جديد .. الخوف, فاقترب بحذر من النافذة, أحدّق عبر الزجاج في الشارع وفي الأفق فلا أميز شيء, المدينة غارقة في الظلام تماماً( فعلاً وليس مجازاً)..أكاد استشعر أن لا حركة في الشارع تحت نافذتي, فاستجمع بقايا شجاعة قديمة لم أختبرها منذ زمن وأفتح النافذة وأطل برأسي (وبقولو لك ليش العالم بتموت قنص بدون ما تنبته) لا يوجد أحد, فأمدُّ رأسي أكثر نحو الخارج وألتف يميناً ويساراً, ليأتي فجأة صوت من مكان لم أستطع أن أحدده لكنه كان قريب.. قريب حتى خُيّلَ لي أن صاحبه يقف بجانبي" سَكّر الشبّاك يا ابن القحبة وفوت انقبر نام.. أبْتِفهَمْ هِنْتْ" وبسرعة تكاد تتجاوز سرعة الكواكب وبأقل من ثلاث عدّات كنت قد أغلقت النافذة وارتميت على السرير دفعة واحدة ليسقط الصمت من جديد ولم أعد سمع نبضات قلبي ولا حتى صوت نفسي وحين هدأت قليلاً تحسست مكان البصلة السيسائية هل أصابها عطب؟ ثم أطلَّ وجه جاك العبدالله يصرخ بحدة ونزق دون أن يسمعه أحد -مثل حلم- يَولّْ متى ستحتج يَولّْ...
تعقيب:
بعد ثلاث سنين أو قل بقليل و في الرابع من تشرين الثاني - نوفمبر 2014 سوف تعتقل عناصر فرع الأمن العسكري جاك عبد الله للمرة الثالثة ( كان قد اعتقل مرتين منذ بداية الثورة السورية), وسوف يصاب بالشلل بعد شهر من اعتقاله وسوف لن يتحمل جسده عتبة ألم فاشيّة وساديّة عناصر الأمن العسكري ليتم الإعلان عن مقتله تحت التعذيب في الثالث عشر من أيار-مايو 2015
......................
* يقال- حسب تقاطع الروايات المختلفة أن المكتبة أغلقت في أواسط تسعينيات القرن الماضي بسبب احتجاجه على فاتورة استهلاك الكهرباء البالغة 6400 ليرة سورية عن شهرين ( حوالي 125 دولار في حسب صرف الدولار حينها وهو ما يعادل الراتب الشهري لأي موظف في تلك الفترة) رغم أن مكتبته لم يكن يوجد بها سوى مصباحين " نيون" فقط فتوجه نحو مديرية الكهرباء للاستفسار لكنهم أبلغوه أن عليه أن يدفع الفاتورة أولاً ثم يقدم شكوى وبعد ذلك يمكنهم إصلاح الخطأ- إن وُجدْ-. و بعد عدة مراجعات و شكاوي, لم يصل جاك إلى نتيجة و أصرت المديرية على أن " عدّاد الكهرباء سليم و الفاتورة صحيحة", فأعلن جاك تمرده و نزع " عدّاد المديرية " و استبدله بالشموع, الأمر الذي أثار مخاوف فروع الأمن في المدينة فاحتجاجه - دون ردع منهم - سوف يحرض السكان على التمرد فتكررت زيارات عناصر الأمن له تطالبه بإعادة " عداد الكهرباء" وهو يصر على الرفض, إلى أن تم إغلاق المكتبة و ختمها بالشمع الأحمر.



#محمود_الصباغ (هاشتاغ)       Mahmoud_Al_Sabbagh#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كورونا. ماذا سنفعل؟ هل انتهت الحلول؟
- كورونا و -مناعة القطيع- و نحن
- الطوق والأسورة: عن الغلابة... عن مصر الأخرى التي لا نعرفها
- سقوط الديمقراطية في سوريا في الفترة ما بعد الاستقلال حتى الو ...
- حافة الوجود, حافة الموت: عبد يغوث بن صلاءة مثالاً
- إسرائيل القديمة والاستعمار الاستيطاني
- البنى الآثارية للاستيطان الإسرءيلي في فلسطين(2)
- البنى الآثارية للاستيطان الإسرءيلي في فلسطين(1)
- تحية إلى ديستويفسكي (2) : ديستويفسكي و لينين
- فيودور دوستويفسكي: ما له وما عليه مذكرات زوجة الكاتب: آنا غر ...
- الصراع السوري وأزمة اللاجئين في الاتحاد الأوروبي - وجهة نظر ...
- ديستويفسكي وجريمة قتل الأب
- تفاهة الشر: القمع البريطاني لثورة 1936 في فلسطين -2
- تفاهة الشر: القمع البريطاني لثورة 1936 في فلسطين -1
- القذافي والأسد والشرعية السياسية و إدارة أوباما
- الإرهاب اليهودي -الصهيوني و قيام دولة إسرائيل -5
- الإرهاب اليهودي -الصهيوني و قيام دولة إسرائيل -4
- الإرهاب اليهودي -الصهيوني و قيام دولة إسرائيل -3
- يوم أيوب؛أربعاء العطاء و الشفاء
- - الحاج- : حكاية الاستعمار و -دولة الحدود- 1


المزيد.....




- مصدر يعلق لـCNNعلى تحطم مسيرة أمريكية في اليمن
- هل ستفكر أمريكا في عدم تزويد إسرائيل بالسلاح بعد احتجاجات ال ...
- مقتل عراقية مشهورة على -تيك توك- بالرصاص في بغداد
- الصين تستضيف -حماس- و-فتح- لعقد محادثات مصالحة
- -حماس- تعلن تلقيها رد إسرائيل على مقترح لوقف إطلاق النار .. ...
- اعتصامات الطلاب في جامعة جورج واشنطن
- مقتل 4 يمنيين في هجوم بمسيرة على حقل للغاز بكردستان العراق
- 4 قتلى يمنيين بقصف على حقل للغاز بكردستان العراق
- سنتكوم: الحوثيون أطلقوا صواريخ باليستية على سفينتين بالبحر ا ...
- ما هي نسبة الحرب والتسوية بين إسرائيل وحزب الله؟


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - محمود الصباغ - حدث ذات صيف في دير الزور