نضال الربضي
الحوار المتمدن-العدد: 6505 - 2020 / 3 / 3 - 08:50
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
العلمانية ترجمة ً هي المُرادف للكلمة الإنجليزية Secularism و هي تعريفا ً: الفصل بين الدين و الدولة، و من جهة التداول و القصد تكاد تكون الكلمةَ المفتاح في دعوات الحداثة و التطوير. لكن سؤالاً جوهريَّاً و ملحَّاً يُمليه واقعُ الحال في دول العالم الأول يفرضُ نفسه بقوة على طروحات داعي الحداثة في البلاد الناطقة بالعربية، هذا السؤال هو: يا تُرى هل يُعتبر الفصل بين الدين و الدولة هو الحل؟ أم هو بالأحرى المُنطلق و البداية نحو الحل؟ و إذا كان الجواب أنَّه المُنطلق و الركيزة، فما هو الحلُّ إذاً؟
دعونا في مقالنا المُقتضبِ هذا نُحدِّدُ الأُطرَ العامَّة للحل، على اعتبار ِ أن دعوات الحداثة و التَّطوير تنطلق ُ من قناعات ٍ إنسانية ٍ راسخة، لا ترتبط ُ بطموحات ِ الربح الرأسمالي و مُراكمة الثروات الفردية، أي بمعنى ً أخر: على اعتبارِ أن الهدف الأسمى هو: تحقيق الكرامة الإنسانية واقعا ً إنسانيا ً مُعاشا ً في جميع دول العالم. و دعونا كذلك نؤكِّدُ على أنَّنا نُدركُ أهمية بناء اقتصاديات ِ كفاية ٍ قوية، لكنَّنا نفهمها في إطار ٍ إنسانيٍّ شامل لتكفلَ الخيرَ العام لجميع البشر، و تضمن َ الكفاية َ الكريمة للمجموع البشريِّ العام، لا بشكلها الرأسمالي المتوحِّش الفردي الحالي، الذي يُسمَّى "حُرَّاً"، و الذي يخضعُ فقط لما هو "مُمكنٌ" من جهة التطبيق، بانفصال ٍ تامٍّ عما هو في مصلحة المجموع العام من سكَّان ِ دولة ٍ ما، و كنتيجة ٍ منطقية ٍ بتناءٍ بشع عن خير المجموع البشري العام.
إن َّ المشكلة الأساسيَّة َ في البُلدان الناطقة بالعربية هي إخضاعُها الفرد و المُجتمع لبرمجتين دينيتين شموليتين: فكرية ٍ و سلوكيَّةٍ، تجعلان منه كائنا ً ينتمي إلى عصور ٍ ماضية، يرى فيها النموذج الأمثل من حيثُ التكوين و المحيا و الهدف و النتيجة، و تمنعانه من إدراك واقع الحياة بموضوعية، و المشاركة في المنتوج الحضاري العام، و الاندماج مع الثقافات الأخرى، و الإفادة منها، و رفدها من جهته بما يملك. و عليه يبقى هذا الفردُ عاجزا ً عن تنمية ِ عقلة و وُجدانه العاطفي، أي كيانِه الإنساني، فلا يُدرك ماهيَّته الفطرية َ كإنسان، و يظلُّ عقيما ً عاجِزاً يدورُ في أفلاك برمجتيه، جاهلا ً حقيقة َ حاله، و أعمى ً عن مقدرتهِ الكامنة.
لكنَّنا لا نستطيع ُ بالمقابِل أدَّعاء الوصول ِ إلى كرامة ِ الإنسان بمجرَّد تخليص المجتمعات من الأدلجة الدينية و ضمان ِ فصل الدِّين عن الدولة، لأنَّ واقع الحال في دول العالم الأول التي تخضعُ لرأسمالية ٍ متوحِّشة يُعلِّمنا أن تحدي مفاهيم التجارة ِ الحرَّة و قوانين السوق المفتوح، غير الخاضع لسيطرة ِ الدولة بأيِّ درجة ٍ حتى لو كانت بسيطةً و محدودةً، يُماثِلُ في أثره ِ العميق و المأساوي تحدِّي الأدلجة الدينية و نتائجها الكارثية.
في هذا الصدد علينا أن نُراقب أنماط اقتصاد السوق للدول التي فصلت الدين عن الدولة، لنتبيَّن حالة العامل و الموظف، على اعتبار أنَّنا انطلقنا في مُطالبتنا بفصل الدين عن الدولة أوَّلاً و أخيراً من مبدأٍ مهم هو: إعاقةُ ربطهما لنموِّ الإنسان عاطفيا ً و وجدانيا ً و عقلياً، أي إعاقةُ تحقُّقِ كيانه و تمظهُرِ كرامته و انطلاق طاقاته ِ الكامنة. و لهذا يكون ُ المُكتسبُ الحضاري الحالي بفصل الدين ِ عن الدولة مفتاحا ً للانطلاق ِ نحو التحقُّق ِ و التمظهُر الانطلاق ِ المنشوْدِيْن.
سوف نتبيَّنُ بالمُراقبة ِ التي قدَّمنا لها في الفقرة ِ السابقة أن َّ أنماط السوق و الأنظمة َالاقتصادية َ الحالية أبعدُ ما تكون عن تحقيق ِ كرامة ِ الإنسان، على الرغم ِ من تحقُّقِ العلمانية واقعا ً في الدُّول التي تتبنَّى هذه الأنظمة. لا بدَّ لنا هُنا من أن نعترف بما نُدركه من كون ِ العلمانية مِنصَّة الانطلاق نحو الحل، لا الحلُّ نفسُه.
نعم العلمانية هي المُنطلق، و بدونها لا يمكن أن نصل َ للحل، و لا حتَّى أن نُحدِّده، ناهيك َ عن خط ِّ الطريق إليه، و تعين ِ مراحله و آليات عملها. و صحيحٌ أن العلمانية َ هي مُبتدأ ُ انكسارِ قشورِ كلسِ الجهل ِ و التغيبِ و الأدلجة ِ الدينية ِ اللواتي يُغلِّفنَ الوعيَيْن الفردي و الجماعي. لكن َ الخطأ كل َّ الخطأ هو في العجز ِ عن إدراك ِ أن مفتاح َ الكرامة الإنسانية ِ هو مُثلَّثٌ لا ينفصم، أحد أضلاعِهِ العلمانية و ثانيها الاقتصاد و ثالثها التشريعُ الحقوقي، و هذا الأخيرُ موضوعٌ لن نعالجهُ في هذه المقالة، إنَّما تنبغي الإشارة ُ إليه لأنَنا نضعُ أُطرا ً و نرسمُ حدودا ً و نخطُّ طُرقاً، أي بمعنى ً أخر: ننظر من الأعلى إلى الصورة ِ العامّة أكثر مما نتحدَّث في تفاصيل.
العلمانية كفصل ِ الدين ِ عن الدولة بداية، لكنَّ إطلاق َ يدِ الاستثمارِ الحر غير المقيد و غير الخاضع لسلطة ِ الدولة و لو جزئيَّاً، يجعل من السوق و ما يطلبه من توظيفٍ للعمال بمثابة ِ عبودية ٍ جديدة ٍ ترتدي ثوبا ً جميلاً، يكونُ فيه العبدُ مالكا ً لسيَّارته و بيته الذين اشتراهما بقروض ٍ باهظةٍ، تحيا معهُ و تعاصرُ سنيَّ عمره، و تستنفذُ دخله، و تفرضُ عليه خوفا ً شديدا ً يجعله يقبلُ بشروط ِ عمل ٍ لا تُلبِّي أدنى طموحاته الإنسانية، و تتعارضُ بشكل ٍ مُباشر ٍ مع كرامته الإنسانية.
العلمانية كفصل ِ الدين ِ عن الدولة مِنصَّة ٌ للوثبة ِ الأولى نحو الكرامة ِ الإنسانية، لكنَّ قوانين التجارة الحرة تكبحُ بشكل ٍ مُباشر ٍ الطاقات البشرية َ الكامنة التي تنشدُ تحطيم َ الطبقية العامودية، و استواء المجموع البشري على طبقة ٍ واحدة ٍ أفقية، ثمَّ تحقيقَ العدالة و المساواة بينهم.
إنَّ صاحب َ رأس المال يهدفُ بالدرجة ِ الأولى إلى مُراكمة ِ الأرباح، و هي غريزة ٌ إنسانيَّةٌ فطرية، مصدرها الجوهري بيولوجيٌّ بحت هو: غريزةُ البقاء. لكن َّ خطرها يكمنُ في توحُّشها دون كوابح ٍ بل بِمُباركة ٍ من الدولة و بحماية ٍ من قوانينها. صاحب ُ رأس المال يرى الأرقام لا الإنسان، و يخطِّط في راحة ِ مكتبه لا في أروقة ِ المكاتب ِ و الأقسام التي تحيا بنفسِ العمَّال و نبضات قلوب الموظَّفين.
لسنا هنا في مقام ٍ رومانسي حين نتكلَّم ُ عن نَفَس ِ العامل و دقَّات ِ قلبه، إنَّما نحنُ واقعيِّونَ أشدَّ ما تكون ُ الواقعية، لأن َّ هذا العامل َ إنَّما يكدح ُ من أجل تغطية ِ نفقاتِه، و تأمين محيا عائلته، و تحقيق ِ السَّعادة ِ لأفرادِ أسرته، و تأمين مستقبل ٍ كريم ٍ لنفسه و لهم. هذا بالضبط هو منشأ ُ الصدع ِ بين الموظَّف ِ و صاحب ِ المال، فالأوَّل ُ ينطلقُ من إنسانيَّته و إملاءاتها، و الثاني من غريزة ِ التملُّك الحيوانية التي ارتدت ثوبا ً حضاريَّاً بِمباركة الدولة و القانون.
إن تأسيس َ النقابات ِ المهنيِّة كمبدأ، كفيل ٌ بأن يُولِّد الضغوط َ الكافية على الأجهزة ِ الحكومية لكي تستجيب َ لدورها الذي أهملتهُ حينما رضخت َ لإملاءات أصحاب رأس المال، فتخلت عن حماية العامل، و انسحبت من التخطيط الاقتصادي للدولة، تاركة َ المجال للتفاعل الديناميكي لقوانين السوق، و كأنّ تلك َ الأخيرة َ كائنات ٌ سحرية أسطورية لها شروطها الوجودية ُ الثابتة التي تكفلُ نفسها، و تضمنُ صِحَّة نتائجها و خير منتوجاتها، لا على ما هي في حقيقتها من كونها ابتكارات دوافع غريزة تملُّك ٍ مُنفلتة لطموح ِ أفراد ٍ لا يعنيهم المجموع البشري العام في شيءٍ سوى في أمرين: توظيفه لتحقيق أهدافهم التجارية، و قدرته الشرائية.
على الدولة أن تعود َ لاسترداد دورها في مراقبة السوق و الشركات، و تحديد القطاعات التي يجب ُ أن يتم َّ الاستثمارُ فيها، و التخطيط للاقتصاد، و فرض القوانين التي تضمن ُ حقوق العمَّال من جهة رواتبهم و تأمينهم الصحي و تعليم أبنائهم و بناتهم و معقولية ساعات عملهم و المسؤوليات المُناطة بهم، و قدرة أجورهم على سد احتياجاتهم من جهتين: كلفة المعيشة و تأمين الرفاهية الكريمة المعقولة، و منع استغلالهم، و تدريب كوادرها على محاكاة نماذج الشركات الخاص من حيث قدرة هذه الأخيرة على الابتكار و الإبداع. كما و عليها بشكل ٍ خاص ٍّ أن تقوم بمراقبة عمليات الهيكلة و التسريح، و تحدِّد سقوفا ً لرواتب و مكافآت منتسبي الإدارة في الشركات الخاصَّة لكي تبقى ضمن الحدود المنطقية التي لا تُشكِّلُ عِبئا ً على ميزانيات تلك الشركات يؤدِّي بشكل ٍ مباشر ٍ إلى التسريع في عمليات الهيكلة التي يدفع ُ ثمنها صغار العمَّال و الموظفين بينما يبقى كبار المنتفعين في وظائفهم عبئا ً على الشركة يحميه القانون و لا تتدخل فيه الدولة، و يخلقُ طبقات ٍ عامودية ٍ جديدةٍ في المجتمع بمقدار ِ ما تتفاوت الرواتب و المكافآت الخيالية. و إنَّنا هنا نشدِّدُ بشكل خاص على دور ٍ نراه للدَّولة ِ تخلَّت عنه و هو كفالتُها لتجانس المجتمع في طبقة واحدة أفقية هي: الشعب. هذا الدور الذي ذهب ليترك لصاحب رأس المال حُرِّية ً ليست له، دفع ثمنها: العامل، من حياته و إنسانيته.
لا معنى للعلمانية إذا بقيت في طورها البدئي الأوَّل كفصل ِ الدين ِ عن الدولة، فهذا يُشبهُ أن يولد َ طفل ٌ في مكان ٍ ما من العالم، فقط أن يولد. ثم َّ ماذا؟َ! العِبرة و النتيجة تكمُنان ِ في ما يحدث ُ بعد الولادة، في كيفية تربية الطفل، في ما يُعطى، في الخيرِ الذي يحصلُ له، في احترام ِ إنسانيته، في تعرُّضه لكل ما يبني كيانه، في رفده بكل ما يُنمِي شخصيته، في حمايته مما ينتهك إنسانيته، في تعبيد ِ الطريق ِ السهل و الجميل و الرائع نحو ارتفاعه لتحقيق الوعي الأسمى.
من هنا ننطلق نحو الإنسان، من الاقتصاد، و من دور الدولة، و من دور التشريع الحقوقي.
#نضال_الربضي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟