أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - عبدالرزاق دحنون - بقايا كلام على حائط أم جورج في إدلب















المزيد.....

بقايا كلام على حائط أم جورج في إدلب


عبدالرزاق دحنون
كاتب وباحث سوري


الحوار المتمدن-العدد: 6495 - 2020 / 2 / 20 - 13:30
المحور: سيرة ذاتية
    


نشأتي في بيئة تقليدية تميل في الغالب نحو التسامح في الدين وفرائضه سمح لي بالتعرف مبكراً على المسيحين في إدلب حيث دخلت بيوتهم وأكلت من خبزهم وشربت من خمرهم وسأروي حادثتين مهمتين الأولى تتعلق بأبي والثانية بجدي.

في خمسينات القرن العشرين اشترى أبي قطعة أرض تبلغ مساحتها مئة متر مربع من "أبو حنا" بعقد مكتوب وموقع بالشهود على ورقة دفتر مدرسي ليقيم عليها بيتاً. وقد ولدتُ أنا في هذا البيت الذي كان يتألف من قبو ومربع فوقه ومنتفعات وحديقة صغيرة. وكان جدي قد اشترى قبل ذلك قطعة أرض من "أبو حنا" وبنى عليها أيضاً بيتاً وكان في ضواحي مدينة إدلب بعيداً عن العمران تلك الأيام، فكان أصدقاء جدي من زقاق حمام الميري مكان نشأته يقولون له: يا عثمان خذ حذرك حتى لا تأكلك الضباع.

كان "أبو حنا" يمتلك أرضاً واسعة أمام باب بيتنا وكان تنور خبزنا يقع في أرضه -استملكت الدولة السورية فيما بعد أرضه وبنت فوقها المساكن الشعبية الجنوبية في إدلب- كان فيها أشجار زيتون وتين ورمان وفيها أرض "سليخ" يزرع فيها الفول الأخضر في الشتاء وفي الصيف يزع الحمص وفي بعض السنين البندورة والقرع.

المهم، في سنة من تلك السنين وفي ضحوة النهار جاء "أبو حنا" يتفقد أرضه فوجد فلاحاً لا يعرفه-من آل شاباش- يفلح أرض "السليخ" بالفدان ولم يكن على علم بذلك. فقال للفلاح: ماذا تفعل؟ قال: كما ترى أفلح. فقال له: ومن أمرك بذلك؟ قال: أنا أمرت نفسي وسأزرع الأرض وسأحصد المحصول، عجبك أهلاً وسهلاً ما عجبك بلط البحر. وحصلت مشادة كلامية بينهما صاحب الأرض والفلاح. وفي النهاية ضرب الفلاح المسلم صاحب الأرض المسيحي بالمساس الذي يهش به على فدان من بغلين، فأسقط له الطربوش الأحمر عن رأسه وجرح وجهه وسالت الدماء على لحيته. في هذه اللحظة وصل أبي مصادفة وكان قادماً إلى البيت من دكانه وسط المدينة في شارع شكري القوتلي مقابل دكان الحلاق نافع فرح والد الخوري إبراهيم فرح، ورأى ذلك المشهد، فصاح يا أهل النخوة والمروءة، فاجتمع بعض الشباب والرجال في الحارة. أحضر أبي الماء والدواء من بيتنا وأسعف "أبو حنا " أولاً وهدأ من روعه وأجلسه على كرسي أمام بيتنا. طبعاً ذلك الفلاح الذي أراد اغتصاب الأرض حمل عدته وفدانه ولم يعد إلى الحارة أبداً. شاعت هذه القصة في حارة المسيحين وما فعله راشد دحنون. وقد كان أبي شيوعياً تلك الأيام مع خالد بكداش. وقد زادت هذه الحادثة من روابط العائلات المسيحية مع أبي والظاهر أنها انتقلت إلى أولاده.

جدي عثمان دحنون كان فلاحاً مرابعاً بلا أرض، حيث رفض أخذ حصته أيام التأميم والإصلاح الزراعي في ستينات القرن العشرين مُدعياً بأن هذه الأرض مَكْس، فهي حرام، في الحديث "لا يدخل صاحب مَكْسٍ الجنَّة" وقد كنتُ قريباً منه في تلك الأيام قبل سنّ المدرسة أذهب في أول فصل الصيف لمعاونته في شتل البندورة. ظلَّ جدي فترة طويلة من عمره يعمل في أرض آل أسبر والذي خبرته وتعلمته من علاقتي المبكرة مع جدي أن المصحف الذي كان يجوّد آياته في الفجر كانت تبقى معانيه في صدره إلى فجر اليوم التالي حين يقرأ في المصحف من جديد. جدي لم يقرب الحرام كلّ حياته وكان تفريقه بين الحلال والحرام أمراً غالية في الدقة، وقد أصرَّ عليه إصراراً عجيباً. وأزعم أنَّ هذه الصفة كانت شديدة الوضوح في حياته. لذلك كانت علاقته صادقة ومميزة مع المسيحين. كان أميناً في حساب أرزاقهم فأحبوه ووثقوا به.

معرفتي بالمسيحين كان بداية في الصف العاشر في مدرسة المتنبي الثانوية في مدينة إدلب مع آل قرنوب، ومن ثم تشعبت معرفتي بالعائلات المسيحية آل مرجانه، آل أبرين آل شماس، آل خربوط، آل ضغيم، آل نعمان، آل بطيخة، آل غنّوم، آل حكيم، آل بيطار، آل كباد، آل زيادة، وقد كان طبيب الأطفال المشهور في محافظة إدلب فؤاد زيادة -رحمه الله- صديقي في آخر أيامه يشتري من مكتبتي وطبعاً يعرف عائلتي، أبي وجدي وأعمامي. تعرفت إلى الخوري إبراهيم فرح قبل أن يكون خورياً أثناء دراسته للمعهد التجاري في حلب ولحاجة الكنيسة إلى خوري من إدلب أُرسل لدراسة اللاهوت في بيروت ومن ثمَّ عاد خورياً في كنيسة الروم الأرثدوكس في مدينة إدلب. وفي مدينة إدلب كنيسة انجيلية للبروتستانت بنتها ارسالية إنكليزية في أواخر القرن التاسع عشر.

توثقت علاقتي بالعائلات المسيحية حين استأجرت دكان المكتبة في بناية آل أبري أمام بيت أم جورج الذي كنت أضع على حيطه مسند الجرائد والمجلات. جميع العائلات المسيحية صارت تشتري من مكتبتي صبايا وشباب نساء ورجال. جلس كبار السن عندي، استمعت إلى قصصهم وحكاياتهم وعلمت الكثير عن تفاصيل حياتهم. وشاءت المصادفة أن أتعرف على غسّان غنّوم الذي درس على حساب أبيه المحامي أنطون غنوم المشهور في خمسينات وستينات القرن العشرين في إدلب وكانت في الكتلة الوطنية. تخرَّج غسّان غنّوم مهندساً زراعياً من جمهورية بلغاريا الاشتراكية في بداية السبعينات وتزوج بلغارية تحمل نفس اسم ابنة ستالين سفيتلانا وأنجب منها ثلاثة أبناء صبي وبنتان. وكان والد سفيتلانا عضواً في اللجنة المركزية في الحزب الشيوعي البلغاري. ثمَّ رفضت الجامعة في صوفيا عاصمة بلغاريا الاشتراكية طلب غسّان غنّوم لدراسة الدكتوراه في الزراعة. اكتشفت أنه "رأسمالي" يدرس على حسابه وأفكاره امبريالية. ترك بلغاريا مع أسرته وذهبوا لعند ابن عمه في كندا ودرس الدكتوراه في جامعة "مكغيل" المشهورة في مونتريال والعالم.

غسّان غنّوم كان يُجيد البلغارية والفرنسية والإنكليزية كأهلها ولغته العربية سليمة. ويحفظ الكتاب المقدس "الانجيل والتوراة" بالفرنسية والإنكليزية والعربية ويحفظ الكثير من آيات القرآن. كان يعشق السوالف والحكايات، سمعت منه الكثير وكان صادقاً فيما يقول لا يعرف الكذب أبداً. وفيه ما تزال روح الطفولة.

من الأمور التي تبلبل العقل ما سمعته من بعضهم في التشنيع عليه والتأول عليه دون علم ولا معرفة بشأنه ومكانته وعلمه. وأحسب أنه كان يمتلك معارف وعلوم لا يُجيدها الكثير ممن كنت أعرفهم من المسيحين والمسلمين. عابوا عليه استماعه إلى المغني الشعبي من سراقب أحمد تلاوي "أبو حسين" كان يحبه وحدثني الكثير عنه وأسمعني مواويله التي يحتفظ بها على موبايله فأحببته أنا الآخر وصرت استمع إليه. وكان يقول هؤلاء "جهال" يستمعون إلى موزارت و"بيت هوفن" وتشايكوفسكي في بحيرة بجعه ويأنفون من الاستماع إلى أحمد تلاوي ومن يستمع إليه في نظرهم من الرعاع والعوام. وكان يغيظهم أن يحضر أحمد تلاوي شخصياً ليسهر عند غسّان غنّوم في غرفته الوحيدة على سطح بناية الوقف المسيحي.

كانت المئات من الحوادث في حياة المسيحين تتجمع عندي في المكتبة، وأكتم سرَّها، ولكنها أعطني صورة واضحة عن ثقافتهم الدينية والاجتماعية. وبما أنني مع "الثقافة الكونية" إن صح التعبير-على طريقة هادي العلوي البغدادي- أو دعنا نقول المعرفة الكونية فأنا لا أميل إلى معرفة دين الشخص ولا يهمني هذا الأمر.

أحمد تلاوي أبو حسين مطرب شعبي من سراقب:
https://www.youtube.com/watch?v=x2kiez2foWU



#عبدالرزاق_دحنون (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قصيدة حب سومرية
- مصحف جدي
- حوار في موسكو
- شجار في صحيفة الأخبار
- ثلاثون عاماً على كتاب الرأسمالية تجدد نفسها
- يعجبني ماركس أكثر من سواه
- من يملك الدَّين الأمريكي؟
- قرية سورية منحوتة في الصخر
- حدثنا عن العدالة يا أردَشير
- صورة الشاعر إيمي سيزار
- جهاد محمد...والرقص مع الذئاب
- ماذا سيحدث غداً يا تولستوي؟
- تجدُّد ماركس
- كيف تكون شيوعياً جيداً؟
- على عتبة المؤتمر
- في الحيلة لدفع الأحزان
- منصور الأتاسي وداعاً
- غزة في الوجدان
- براميل متفجرة وطناجر مطبخ
- دقيقتان مع ونستون تشرشل


المزيد.....




- في اليابان.. قطارات بمقصورات خاصة بدءًا من عام 2026
- وانغ يي: لا يوجد علاج معجزة لحل الأزمة الأوكرانية
- مدينة سياحية شهيرة تفرض رسوم دخول للحد من أعداد السياح!
- أيهما أفضل، كثرة الاستحمام، أم التقليل منه؟
- قصف إسرائيلي جوي ومدفعي يؤدي إلى مقتل 9 فلسطينيين في غزة
- عبور أول سفينة شحن بعد انهيار جسر بالتيمور في الولايات المتح ...
- بلغاريا: القضاء يعيد النظر في ملف معارض سعودي مهدد بالترحيل ...
- غضب في لبنان بعد فيديو ضرب وسحل محامية أمام المحكمة
- لوحة كانت مفقودة للرسام غوستاف كليمت تُباع بـ32 مليون دولار ...
- حب بين الغيوم.. طيار يتقدم للزواج من مضيفة طيران أمام الركاب ...


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - عبدالرزاق دحنون - بقايا كلام على حائط أم جورج في إدلب