أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ابراهيم سبتي - آخر الغروب / قصة قصيرة















المزيد.....

آخر الغروب / قصة قصيرة


ابراهيم سبتي

الحوار المتمدن-العدد: 1565 - 2006 / 5 / 29 - 09:16
المحور: الادب والفن
    


وسط ظلمة الميدان.. كل الأشياء تتحرك فوق الأرض الملتصقة بسواد السماء.. الميدان الذي يضم حدائق مسورة بسياج حديدي مشبك.. في الليل تنتشر العربات لنقل الراغبين بالتجوال في ذلك الشارع الطويل المتفرع من قلب الميدان.. الليل ورهبته تمتد إلى كل الأجزاء الذائبة في أنحاء المدينة النائمة.. هذا المساء كانت حدائق الميدان قد خربت واقتلعت سيقان الورد عنوة ورميت في جوف الشارع المظلم ثم أضرمت النار ببعض العربات المركونة على جانبي الرصيف وبعض المخازن المملوءة بالمواد.. امتدت النيران إلى كل المدينة التي فزت من غفوتها فتدافعت الأجساد المذعورة وبكى المقعدون وكبار السن العاجزون عن مغادرة منازلهم في تلك الساعة.. صاح رجل ساكن في أحد البيوت القريبة من فوق سطح داره.. الميدان يحترق.. فرمقه أحد المتدافعين بنظرة أطرق بعدها الرجل إلى الأسفل واختفى.. عمت الفوضى جموع الناس فراح البعض يخلع أكفان النوم ويلقي بها في لهيب النيران التي ازدادت سعيراً، وركض آخرون إلى الشط القريب وأتوا بظهور السلاحف الممتلئة بالماء وسكبوه على النار الصاعدة إلى عنان السماء، لكن الرجل الذي صاح من فوق داره ذهب مع ثلاثة آخرين يستقلون عربة يجرها حصانان تحت أنظار الناس المفزوعين ليأتوا بالإمدادات اللازمة لإطفاء الحريق، غير أنهم نزلوا وفضلوا الجري بأقصى سرعة لمغادرة المدينة التي ودعتهم بعيون دامعة حالمة.. خرجت بعض النسوة يولولن ويلوحن بعباءاتهن السود الممزوجة بظلمة الميدان فيما راقبت مجموعة من الفتيان الوضع من بعيد ثم ارتدوا دروعاً واقية للنيران.. كان منظر الجثث الملقاة في الشارع قد دفع بعض مرتدي القلانس من الطباخين الماهرين لتشريح تلك الجثث وخاصة تلك التي لم تحترق كلياً وسرقة أحشائها لتقديمها في أطباق شهية غالية الثمن، فسبح الشارع في بحيرات من الدم اختلطت بسواد المكان، غير أن الناس فوجئوا بانهيار السدود الترابية الحصينة المانعة للفيضان، حيث تبعثرت وتناثرت أكياس التراب وتدفقت السيول العارمة وتراقصت الجثث الممزقة، صعد بعض الرجال الهاربين على أعمدة الكهرباء المزروعة في كل الأرجاء كعاصم ينجيهم من الغرق.. لم يعد الرجل وجماعته من غيبتهم رغم أن الماء أطفأ كل النيران وساد ظلام أسطوري فوق المكان النازف فركب الفتيان بعض العربات وسط بحيرات المياه يتفقدون الغرقى.. بينما ملئت السطوح بالناس الذين راحوا يصفقون ويضربون بالدفوف والطبول احتفالاً بنجاتهم من الحرق والغرق.. بعد ساعة انحسرت موجات الماء وتناقص جريانه وامتصت البالوعات العملاقة كل السيول وسط الشارع والميدان والبيوت فنزل الناس من سطوحهم وتراجع الفتيان بعرباتهم، لكن صرخة مدوية شقت جدار الترقب أطلقتها امرأة باكية وسط الميدان عند جثة البستاني الذبيح فوق وروده المقلوعة، فبكى الرجال العراة وهم يسيرون وسط الظلمة لا ينظر أحدهم إلى الأخر، لكن أربعة طباخين يرتدون قلانس بيضاً شاهقة وقمصاناً حمراً قصيرة أوقفوهم وراحوا يؤشرون بما يحملونه من فؤوس وسكاكين على أجسادهم العارية، فحاول أولئك الرجال الهرب لكن فريق الطباخين المهرة منعوهم غير أن صهيل حصان قادم أحدث بعض الفوضى في المكان فهرب الناس واختبأ الطباخون خلف البيوت، مما جنب المدينة حمام دم في الشوارع والأزقة إذ يحتاج الناس لفيضان آخر كي يزيل أثارها.. تحرك الرجال المفزوعون ينظرون إلى الأفق المظلم ضاربين كفا بكف يائسين، لأن الرجل ورفاقه لم يعودوا بعد في هذا الليل الذي ينشر أشرعته فوق المدينة النائمة، لا شيء يخترقه غير وقع أقدام الناس ذوي الأجساد الهزيلة وهم يجتازون الشارع الضيق الطويل بحثاً عن مناقذ للوصول إلى جهة النهر الأخرى البعيدة عن الفيضان والنار رغم رفض بعضهم مغادرة منازلهم حتى لو حدث طارئ آخر، نبحت بعض الكلاب السائبة نباحاً خفيفاً متثاقلاً بفعل التخمة بعد عشاء لذيذ، حيث انتصبت واقفة فوق أشلاء الأجساد المرمية منذ أول الليل، لكن الفتيان الذين استطاعوا طرد تلك الكلاب عبؤوا الأشلاء في أكياس النايلون الكبيرة ونقلوها بعربة إلى البر الموحش البعيد، بينما نقل الناس البستاني الذبيح داخل عربة يجرها حصان تتدلى رقبته نحو الأرض، وساروا خلفه مطرقي الرؤوس، نزل الرجال من أعمدة الكهرباء وجلسوا ينظرون إلى حاو ينفخ بمزماره وأمامه سلة كبيرة لم تخرج منها الأفعى لأكثر من ساعة، ضحك الرجال الذين رموا بسنارات صيد السمك في جوف الشارع الذي غاص بالمياه المتجمعة، فعلقت بها الأفاعي الطويلة الضخمة، فهب الحاوي مذعوراً تاركاً سلته لهم وأفرغوا فيها صيدهم الذي أطلقوه قرب الميدان فدخلت الأفاعي البيوت والأزقة وتصاعد الصراخ مدوياً، دبت الحركة ثانية وارتدى الفتيان القفازات السميكة ونظموا صفوفهم لاقتحام تلك الأماكن، ثم شنوا هجومهم الواسع وأنزلوا بالأفاعي هزيمة منكرة فسلخوا جلودها وعلقوها على الأعمدة ليراها الناس في الصباح، لكن النيران التي كانت خامدة اخترقت فرحة الناس فتصاعد دخانها الأسود وسرعان ما شقت جدار الأمان وانتشرت في كل مكان لم تصله من قبل.. أطلق الرجال مطافئ الحريق بكثافة فغاصت البيوت تحت سحب الدخان الذي امتزج بأصوات آلات موسيقية تتقدم نحو الشارع الطويل فضاعت قرقعة الأشياء المحترقة تحت وابل المعزوفات المحلقة في الفضاء، تقدمت الجوقة المرتدية حلتها المزركشة بكل الألوان بكرنفال غريب ملأ الساحات والبيوت بالبهجة، وقف الرجال حاملو المطافئ في استقبال الجوقة الماشية التي اختفت وراء الخرائب، فهرول الأطفال وزغردت النسوة حتى ضاع عزفها في لجة اللهب والليل.. وصل الرجل الذي وعدهم بجلب الإمدادات ورفاقه أخيراً، فتقدمت المدينة نحوهم مهللة ومكبرة لكنه استمر بالمسير راجلاً يتحلق حوله رجاله، ينظر إلى النيران الواصلة إلى كبد السماء ثم أطلق ضحكة قوية اهتزت لها الأجساد الواقفة المرعوبة وضحك معه رجاله، وصعد فوق رابية صغيرة طالباً من الناس العودة إلى منازلهم ونسيان كل شيء وترك النيران تخمد لوحدها.. حضر بعض الرجال الغاضبين ومنعوا الناس من الرجوع فتطاير الشرر من عينيه وهو يحاول جاهداً إقناعهم بالعودة، لكنهم هجموا عليه وأنزلوه من الرابية وركلوه بعد أن صفعه أحد الفتيان ورماه الأطفال بالحجارة وبصقت عليه النسوة.. اصطفت المدينة في مواجهة الحريق في ذلك الليل الموحش الذائب في الدخان، وراح الناس يستمتعون بالمعزوفات البعيدة المقتربة ثانية من المدينة المستقيظة حتى الصباح..



#ابراهيم_سبتي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ملحمة جلجامش .. النص من فكرة الخلود الى محنة الموت
- موت المؤلف وخلود الاثر
- محنة القصة القصيرة جدا
- قصص قصيرة جدا
- قصتان قصيرتان جدا
- عين الذاكرة
- الشاعر شهيدا : وهل كان الشاعر سوى موت على وشك الانبعاث ؟
- قريبا .. كمال سبتي .. المراثي
- كمال شاعر المدن


المزيد.....




- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ابراهيم سبتي - آخر الغروب / قصة قصيرة